2015/10/09

الإسلام وموقفه من الأحْزاب السّياسيّة بقلم/د . محمد مبارك البندارى



الإسلام وموقفه من الأحْزاب السّياسيّة
بقلم/د . محمد مبارك البندارى
عضو هيئة التدريس في جامعة الأزهر

كلمةُ " الحزب " من التَّعبيرات البغِيضة التى تُثير التَّحفظ لدَى عامَّة المسلمين ، وربما يرجع ذلك إلى عدة أسباب ، منها : أنَّ القرآن أطلقَ اسم ( الأحزاب ) لأوَّل مرة في التاريخ الإسلامى على أوّل حلف يتفق فيه الكفّار على محاربة الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا يمثّلون نزعات مختلفة ، وقبائل متفرقة لم يجمعها إلا الحقد والطّمع على المسلمين الذين نصرهم الله بالريحِ .
ولأنَّ كلمة " الحزب " وردت مذمومة في  القرآن الكريم  كقوله  : "ألا إنَّ حزبَ الشيطانِ هُم الخَاسِرون "( المجادلة /  19 ) ، وقوله تعالى : " كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"  (المؤمنون/53).
ويعللّ بعض المسلمين بغضهم لمصطلح " الحزبيّة السياسية " بأن العهود الأولى لم تعرف نظام الأحزاب ، ففى عهود الخلفاء الراشدين كان الوازع الدينى وحده كافيًا لضمانِ الحريَّات السياسيَّة والديمقراطيَّة .
وأما عهود الاستبداد التى تلت هذا العهد المبارك فلم تعرف الأحزاب السياسية ؛ لأنَّ كلَّ معارض أو ناقد للحاكم كان يعتبر خارجًا على الحاكم بل خارجًا على الدّين ويهدر دمه .
وفى العصر الحديث ومع مجئ المحتل الغربىّ إلى بلادنا ، ومحاولته القضاء على النظام الإسلامىّ ، حاول أن يطبع هذه الأحزاب التى ظهرت في عالمنا العربى بطابع البُغض والكراهية ، وتبنَّى خلق العداوات بين أعضائها ، حتى يزيد تمزيق الأمَّة من الداخلِ بما يضمن له البقاء والاستمرار في احتلالِ الأرض ِ، وبالطبعِ لم يغب عن بالنا أنَّ هذه الأحزاب - وربما إلى يومنا هذا - قامتْ على أفكارِ أفراد وأشخاص بأعينهِم ، ولم تُمثّل في الغالب ِطبقاتِ المجتمع ، وتراعى مصالحهُ التى من المفترضِ أنَّها قامتْ من أجلِ ذلك .
ربما هذه الأسباب وغيرها هى التى أدَّت إلى كراهيةِ المسلمينَ للأحزابِ ، وتطلّعهم إِلى نظامٍ يخلُو من التعدديَّة الحزبيَّة ، ويجمع أبناء المجتمع الواحد ليسُود فيه الوفاق .
فهل هذا الأمر ممكن في الوقت الحالى ؟ وإذا كان ممكنًا فهل في عدم اختلافنا مصلحة للإسلام وللبلاد ؟
وقبل أن ننظر فى هذه التساؤلات وغيرها نظرة متجردة عن الهوى والميل  دعونا ننظر إلى مفهوم الحزب في القرآن والسنة .
        لقد وردت كلمة حزب في القرآن الكريم (20 ) مرة في ( 13 ) سورة ، وردت (8 ) مرات بصيغة المفرد، ومرة واحدة بصيغة المثنى، و11 مرة بصيغة الجمع ، وهناك سورة كاملة باسم "  الأحزاب " ، ومن خلال استقراء هذه الآيات يتضح أن الـ"حِزْبَ" في القرآن يفيد بشكل عام معنى الترابط المنظم، سواء أكان في الخير أو الشر .
        فقد ورد بمعنى الأنصار والأتباع كما في قوله تعالى: "اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ"  (المجادلة/19)، وقوله تعالى: "أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"  (المجادلة/22). وقد ورد بمعنى الجماعة كما في قوله تعالى: "ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا " (الكهف/12).
      كما أطلق لفظ الأحزاب على الذين تآمروا على الرسول ،  وتجمّعوا لمحاربته كما في قوله تعالى: " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا " (الأحزاب/22).
     إذن  معاني الحزب في القرآن الكريم تأتى تارة بمعنى المدح مثل "حزب الله"، وتارة بمعنى الذم مثل "حزب الشيطان" ، و لا يفيد مصطلح الحزب في القرآن الكريم المعنى الاصطلاحي المعاصر له ، والذي يعني مجموعة من الأفراد اتَّحدت بجهودها الذاتية لترقية المصلحة الوطنية على أساسِ مبدإٍ معيَّن متفق عليه بين المجتمع، أو على أنه مجموعة من الأفراد تسعى للوصول إلى السلطة للاستفادة من ثمارها  .
فالمصطلح يفيد الجماعة والطائفة بشكل عام، ثم يُعرف ماهية هذه الجماعة من خلال ما يضاف للحزب ، فيكون ممدوحًا أو مذمومًا حسب ما يضاف إليه ،  أما المصطلح بحد ذاته فليس بمذموم ولا ممدوح.
وفي السنة النبوية وردت كلمة " حزب  " كما في القرآن الكريم بمعان متعددة  لا تخرج عن دائرة المعنى اللغوى لكلمة الحزب  ( جماعة الناس أو أصحابه وجنده الذين على رأيه أو الوِرْد، أو النصيب والصنف من الناس )  ، فوردت بمعنى الوِرْدِ اليومي للقرآن ومنه قول الرسول-صلى الله عليه وسلم - : "طَرَأ عليّ حِزْب من القرآن فأحبَبْت أن لا أخْرُج حتى أقْضِيه"؛ فالحِزب هنا ما يجعله الرجُل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرْد.. وقد وردت الأحزاب بمعنى الطوائف، ومنه حديث: "اللهم اهْزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزَلْزِلهم" .
    
         وبهذا يتضح أن التحزب أى التجمع يكون مذموما اذا كان هذا التجمع على باطل أو يؤدي إلى باطل ، وأما إذا كان على حقٍّ كتجمع المسلمين للصلوات والجُمع  ، وكذلك تجمعهم على الإمام والجماعة ، ولزوم غرز الجماعة التي تتبع الإمام (إمام المسلمين) أو حاكم الدولة المسلم ( رئيس الجمهورية ) ، فهذا أمر مطلوب شرعاً مرغب به ، فالتحزب والتجمع ليس ذماً لوحده أو بذاته وإنما لما يتجمع عليه ويتحزب عليه ولما يؤدي إليه ، وكأنى بسائل يقول : جلّ دلالة "  حزب وأحزاب " في القران أكثرها للذم ، وإنما جاءت في موضع واحد للمدح " أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " ( المجادلة / 22 ) ،  أما معظم هذا اللفظ وموارده في القران الكريم إنما جاء للذم مما يبين خطورة هذا التحزب المذموم ، وأن يكون الإنسان حريصًا دقيقًا مبتعدًا من أي وسيلة من وسائل الشر والهوى في أى تجمّع .
فالأحزاب في العصر الحديث هي التي تدير عجلة الحياة في أي مجتمع ؛ لما لها  من تنظيم وأهداف يسعى أصحابها  لتحقيقها ، وهم بذلك يتفوقون على  الأفراد من حيث الإمكانيات ، والتنظيم  ، ومن حيث القدرة  على تحقيق الغايات العالية .
وطالما أن الأحزب تقوم على مبدأ الإصلاح ولكنها تختلف من حيث أسلوب التطبيق وروحه  ، فهى لا تتعارض مع تعاليم الإسلام ولا مع التطبيق الإسلامىّ بل ربما يعتبر ضرورة لا بد منها ولا غنى عنها لتطبيق الإسلام وصيانة الحكم من الانحراف أو الشطط ، خاصّة وأن الهدف الحقيقى هو الرقابة  الفعليّة على المسئوليين في المجتمع ، ولا يعارض الإسلام التعددية الحزبيّة ، لما لها من فوائد على المجتمع إذا أصلحت نظامها الداخلىّ ووضعت نصب أعينها  دراسة المشاكل المعقدة وإبداء الرأى فيها ، ولا يوجب  الإسلام  على المجتمعات نظام الحزب الواحد ، فالدولة الإسلامية طالما سمحت بحرية الرأى السياسى ، وطالما سمحت - أيضًا - بالمعارضة داخل النظام .
ونقرر في النهاية أنَّ الإسلام لم يصادر الأحزاب ، ليكتفى المجتمع بحزبٍ واحدٍ يحرم مشاركة غيره المسئولية ، ويقوم على عقيدة عنصرية  تضم جماعته التى تنتهج فكرًا واحدًا ، وربما يكُون ضالًا أو إرهابيًّا في مجتمعه ، وهى بالطبع تتعارض مع روح الإسلام الذى جاء للناس كافة ، ومفهوم الحزبية التى لا تميز بين أبناء الوطن الواحد ؛ لئلا تكرّس الطائفية أو العصبية في المجتمع ، وأن الإسلام بنصوصه قد سبق غيره من الأنظمة والقوانين في تأكيدهِ على وحدةِ الأمَّة وعدم التفرّق والتحزّب المذمُوم في المجتمعِ  ، وعلماءُ المسلمين قديمًا وحديثًا قرَّروا أنَّ  لزومَ الجماعةِ واجب ، وللجميعِ حقّ المواطنة ؛ والتحزيب المنهى عنه هو ما  يُؤدى إلى تخريب منشآت الدولةِ ، وإتلاف الأموالِ المعصُومة ، وإخافةِ الناس ،وترويعهِم ،  والسَّعى في الأرضِ بالفسادِ أمرٌ لا يقرُّه شرعٌ ولا عقلٌ سليم .


ليست هناك تعليقات: