ياسر محمود محمد
الزمن : ( أوائل التسعينات )
كان دكانه بجوار دكاننا
تعلوه اللافتة المألوفة .. (
محل عطارة أبو ضيف ) و بجوارها وبخط صغير ( 1000 صنف ) .. برغم أنه لا يوجد فيه حتى عشر هذا الرقم . كان
يبدو كخزانة عملاقة من الخشب في حائط شارعنا ، و أمامه منضدة قديمة لا تغري سرقتها
بينما عم " أبو ضيف " بظهره المنحني و وجهه النحيل ، وجسده الضئيل يجاهد كل
يوم ليحرك المنضدة ليفتح محله و يخرج أدواته
و يضعها عليها و يسعي في طلب رزقه .
كنا كذلك منذ سنوات و سنوات لا يعكر صفونا شيء ، منذ كنت في السادسة من عمري و أنا أراه في نفس المكان ، و أشاهد الفتيات
الحسان و النساء اللواتي يقضين نصف اليوم في حديث طويل أمام دكانه ..
كأنما جئن للكلام لا للشراء !
كان جدي قد بلغ من العمر أوجه فهو في الخامسة و الستين ، اشتعل رأسه
شيباً .. و وجهه ذو الملامح المصرية الأصيلة ، ينبئ عن رجلٍ مكافح
بدأ بعربة يدفعها بيده و مجموعة من الأكواب ليصل إلي دكاننا الحالي الضخم في تلك
الأيام الصعبة ، كانت كل لمسة من يده لمسة فنان خبير – رغم أميته – فيضع تلك هنا و
هذه هناك و يقول دائماً :- ( إن مظهر الشيء هو نصف قيمته ) .
*
* *
كانت كل أيامنا تمر كذلك علي نفس المنوال ، بيع و شراء و خناقة ضخمة في
قهوة " أبو سريع المجاورة " و معاكسة لبعض الفتيات من اللواتي يخرجن من
مدرسة التجارة المجاورة .
و هكذا كل أيام شارع صدقي الشعبي
إلي أن جاء ذلك اليوم ..
فجأة وجدنا سيارة كنت أعرفها تمام المعرفة ، إذ أنها دائماً تطارد الشباب ،
سيارة زرقاء اللون تحمل ستة من الشرطة مدججين بالسلاح كأنهم في موقعة حربية ،
بينما يجلس علي الكرسي الأمامي ضابط شاب يأمر و ينهي ، و يقابل عربة كارو محملة
بالفاكهة و يأمر بإبعادها و إلقاء صاحبها الرجل المسكين في سيارة الشرطة بينما
يرمقه الضابط بازدراء و بغطرسة
و يتقدم الضابط نحو جدي ..
و جدي يخبر هذه النوعية من البشر و يخبر
كيفية التعامل معهم . و أذكر تلك المناقشة الكبيرة التي دارت منذ شهور ، عندما
عُين ذلك الضابط في شارعنا و حاول أفراد الأمن إلقاء حاجيتنا في الشارع لتعدينا –
علي حد قوله – علي الشارع العمومي .
لكن جدي لم يرهبه !
و دار النقاش طويلاً فقد كان ذلك الضابط يعرف
قيمة جدي في الشارع و قوة أتباعه و تأثيره علي محيطيه و سطوته بين أشياعه فتركنا و
هو لم ينل مراده .
و ها هو الآن يمر بنا مر الكرام و هو يشير
إلي جدي بطرف يديه و أسنانه تكظم من الغيظ .
إلا أن عينيه وقعتا علي عم " أبو ضيف
" الضعيف و إذا به ينفش ريشه ، و يهبط ليأمر عم أبو ضيف المسكين بالابتعاد عن
الشارع ، و عم " أبو ضيف " يقف ناظراً إليه في بلاهة ..
فدكانه لا يمكن أن يصل إلي الشارع ، فدكانه ضيق لدرجة أن ضباط الشرطة لا
يعيرونه أي اهتمام .
إلا أن الضابط لم يصبر علي عم " أبو ضيف
" إذ أسرعت يداه و قدماه تركلانه حتى سقط علي الأرض ، ثم أمر جنوده الذي
أسرعوا كالذئاب فنهشوا الدكان الآمن و فرشوا بمحتوياته الطريق .. ثم
ابتعدوا مسرعين .
و اقتربت بمنديلي من عم " أبو ضيف " ..
أمسح عنه الدم المسال من طرف شفتيه
.. فلم أنس كمية البلح الوفيرة
التي كان يعطيني إياها كلما رآني .
و نادينه بصوتي الخائف .. و
كررت ندائي عدة مرات ..
لكن عم أبو ضيف ..
علي غير عادته ..
لم يرد علي !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق