رائدُ
الإحصاءِ المعجمىّ يودّع الحياة في صَمت
بقلم:د. محمد مبارك
البندارى
ombareko@yahoo.com
لقد ودّع الحياة د . على حلمى موسى عالم الفيزياء ورائد الدراسات الإحصائية
للغة العربية ن وعضو مجمع اللغة العربية ،
يوم السبت العاشر من أكتوبر 2015م ، بعد رحلة طويلة مع المرض ، رحل صاحب شفرة رأفت الهجان ، فقد وضع شفرة
رأفت الهجان بطريقة لا يستطيع العدو الصهيونى فكّها أبدًا .
رحل د . على حلمى موسى الكبير بعلمه ، الضئيل بسمعته وصيته ، فارق الدنيا
فما سمع به أحد ، وراح كما عاش حزينا متواريا تاركا وراءه أروع الدراسات الإحصائية
فى اللغة العربية وألفاظها ، ترك ما لم يتركه مئات المشهورين من رواد المحافل ،
ومتملقى الصحافة وعشّاق الهتاف والضّجيج .
ولد د .على حلمى موسى فى الإسكندرية يوليو 1933م ، ثم انتقل إلى طنطا والتحق كأقرانه بالكتّاب ،
ثم حصل على الثانوية من طنطا وكان ترتيبه
38 على القطر المصرى ( مصر والسودان ) ، ثم حَصَل عامَ ثلاثةٍ وخمسين 1953م ، وهو في
العشرين من عمره، على بكالوريوس العلوم في الرياضيات تقدير" ممتاز مع مرتبة الشرف " من جامعة عين شمس،
ولكنه نال درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام ثمانية وخمسين 1958م في الفيزياء " أو " الفيزيقا الرياضية ، وكان أستاذه " السير هنرى ماسى
" يفتخر به لأنه متقد الذكاء brilliant، وعُيّن عندما عاد من بَعثته مدرسا في قسم
الرياضيات التطبيقية بجامعة عين شمس ، ثم
حُسم هذا التذبذب الطبعيُّ بين الرياضيات والفيزيقا، بانتقال الدكتور علي
حلمي موسى عامَ أربعة وستين 1964م أستاذًا
مساعدًا للفيزياء النظرية بقسم الفيزياء، وأنشأ أوّل وَحدة في الجامعات المصرية في
بحوث الفيزياء الذرية النظرية.
ولعل الوجه المهم فى شخصيّة د . حلمى موسى ، والذى عرف به فى الأوساط
الأكاديمية ، هى الدراسات الإحصائية ، فهذه الثنائية العلميّة أَهَّلَتْ الدكتور علي حلمي، عندما أعير لجامعة
الكويت عام تسعة وستين 1969م ، لأن يدلِفَ
إلى هذا الباب ويعرف بعالم الإحصاء في حياته الفكرية ، وذلك أنه شرع عندئذ في الإفادة من خبراته
السابقة في تسخير الحاسوب في القيام بدراسات إحصائية تحليلية لقضايا لغويّة
وقرآنيّة متعدِّدة .
وإذا أردنا أن نذكر مميزات مؤلفات د . على حلمى والتى تزيد على 80 مؤلفا ،
فقد يكون أهمها ما نلمسه لديه من عمق التحليل وقوة التحليق وجزالة الصياغة ، وتلك
هى الأركان الثلاثة التى ارتفعت بكتبه الإحصائية خاصة ، ومما يزيد فى قيمتها أنها
تطرد فى سياق واحد ، وهو " الإحصاء " المبنى على التحليل ، ولا يختلف
كتاب عن آخر بل تظهر ثلاثتها متجاورات متآخيات .
لقد أدرك – رحمه الله - منذ وقت مبكر أهمية الدّراسات الحاسوبيّة فى خدمة
اللغة العربية ، وكانت له مساهمات رائدة فى توظيف الحاسوب فى خدمة هذه اللغة ن
فتحقق له بذلك فضل الريادة فى هذا المجال ، وصارت أعماله مثالًا يحتذى به منذ
سبعينيات القرن الماضى .
وقد قام أوّلاً بدراسةٍ إحصائية
للجذور الثلاثية لمفردات اللغة العربية، ثم لجذورها غير الثلاثية، ثم لجذور معجم "
لسان العرب " لجمال الدين ابن منظور
ت 711هــ ، ثم لمعجم " تاج
العروس لمرتضى لزبيدى ت 1205هـــ (بالاشتراك
مع د . عبد الصبور شاهين) ، ثم لجذور " معجم الصِّحاح للجوهرى "(
إسماعيل بن حمّاد ت 396هــ ) وهو أكثر الكتب انتشارا فقد طبع فى الهيئة
المصرية للكتاب 1978م ، ونُشرت النتائجُ المفصّلة لهذه الدراسات بين
عامَيْ إحدى وسبعين 1971م وثلاثة وسبعين
1973م ، في خمسة أعدادٍ مستقلة من مطبوعات
جامعة الكويت، يتراوح عددُ صفحاتها بين مئةٍ وستَّ عشْرةَ صفحة وثلاثمائةٍ وإحدى
وعشرين صفحة ، ثمّ عرض الدكتور علي حلمي دراسة مقارنةً لنتائجه عن تحليل معاجم
العربية الثلاثة أمام ندوة المعجم العربيّ التاريخيّ التي عُقدتْ في تونس عام تسعة
وثمانين 1989م .
وهذه الدراسات الإحصائية فتحت بابًا أم الباحثين فى اللغة العربية ، وقد
عمل الدكتور إبراهيم أنيس من الاستفادة من هذه الدراسات الإحصائية ، حتى قيل فى
سبب موت د . إبراهيم أنيس أنه كان يسير فى الشارع يفكر فى هذه الدراسة الإحصائية
للمعجم وقد شرع فيها مع د . حلمى موسى فاصطدم بسيارة فمات ، وهذا يذكرنا برائد
المعجمية العربية الخليل بن أحمد الذى كان يفكر فى مسألة حسابية ليسهّل على جاريته
الحساب فلم ير سارية المسجد فكانت سببا فى موته .
و قدَّم الدكتور علي حلمي موسى
باللغتيْن العربيَّة والإنجليزية
جوانِبَ مختلِفةً من دراساته الإحصائية اللغوية منها : " إنتروبيا اللغة العربية " و
"ضغطُ النصوص العربية باستخدام التشفير الرياضي" و"مكنزٌ للعربية
القياسية الحديثة" و" نموذجٌ رياضي للتنبُّؤِ الآلي لحركات التشكيل فى
اللغة العربية"، و" الحوسبةُ والإحصاءُ اللغويّ"، ولهذا كله كان من الطبيعيّ أن يُختار الدكتور
علي حلمي موسى رئيسًا للاتحاد الدّولي لحوسبة اللغة العربية، الذي أُنشئَ في
هولندا عام ثلاثةِ وتسعين 1993م .
وقد خصّ الدكتور د . على حلمى موسى القرآن الكريم
بعنايته ، وحوّل أبحاثه الإحصائية نحو
ألفاظ القرآن الكريم ، ففي عام خمسة وسبعين 1975م ، فنشر فى مجلة الدَّوحة مقالاً بعنوان"
ماذا قال العقل الإلكتروني عن القرآن؟"، أردفه ببحثٍ باللغة الإنجليزية في
دورية نمساوية عامَ تسعة وسبعين 1979م ، وبآخرَ في عددٍ خَاصّ أصدرته مجلة
"عالم الفكر" الكويتية عام اثنين وثمانين 1982م عن القرآن والسيرة
النبوية، بعنوان: "استخدام الآلات الحاسبة الإلكترونية في دراسة ألفاظ القرآن
الكريم".
وقد أحسن الدكتور علي حلمي موسى صُنعًا إذْ جمع دراساتِه الحاسوبيَّةَ عن
القرآن الكريم في كتاب أصدره في مطلع القرن الحادي والعشرين 2001م ، بعنوان
"ألفاظ القرآن الكريم: دراسة علميَّة تكنولوجيّة، في ما يَقرب من مائتيْ
صفحة، راجيًا" أنْ يكون علمًا نافعًا لكل قارئ حريص على الاستزادة من كنوز
القرآن الكريم ، والكتاب مفعم بالأرقام
والجداول والإحصاءات، منها: إحصاءٌ لألفاظ القرآن وَفقًا للحرف الأول منها، ولعدد
حروفها، وإحصاءاتٌ مختلِفة لأسماء الأعلام والأقوام والأماكن، وإحصاءاتٌ للألفاظ
المشتقة من جذور ثلاثية وأخرى للألفاظ المشتقة من جذور غير ثلاثية ، ويلاحِظ الدكتور علي حلمي أن القرآن الكريم يحوي
ثُلُثَ الجذور الثلاثية في معجم الصِّحاح، وهذه - في رأيه - " نسبة كبيرة جدًّا لا يوجد وجهٌ للمقارنة
بينها وبين ألفاظ أيّ كتاب على وجه الأرض" ، وأن هذا في حدِّ ذاته "
إعجاز كبير ينفرد به كتاب الله".
ويلاحظ الدكتور علي حلمى موسى – أيضًا
- أنّ ما يقرب من ربع الجذور الثلاثية في
لغة القرآن قد ورد مرة واحدة فقط في القرآن الكريم، وهو يرى أن ذلك- أيضًا- " إعجاز بلاغيّ فذّ" ، وهذه
تعد من الانفرادات القرآنية ، وثمَّةَ
إحصاءاتٌ للفظ الجلالة وأسماء الله الحسنى، وغيرُها كثير، وأفرد د . على حلمى موسى
الفصل الثامن من كتابه لدراسة " العلاقة بين الحروف والحركات في لغة القرآن
الكريم " ، ومعتمدًا طبعًا على التمثيل الصوتي للألفاظ وَفقًا لقراءة حفص،
ومُجْريًا دراسته على عيِّنة مكيّة، تتألف من " سورة الأعراف " وبعض
قصار السور، وأخرى مدنية تتألف من" سورة البقرة " .
وقد فتحت هذه الأبحاث أبوابا من البحث العلمى فى أقسام وكليات اللغة
العربية فى جامعاتنا المصرية ، بل والعربية ، وقد
كتب د . على حلمى موسى عام 1982يقول: "وإن المشتغلين بالبحوث اللغوية
وتأصيل الكلمات العربية، وكذلك علماءَ الأصوات وأساتذة البلاغة والنقد، سيجِدون في
هذه النتائج ما يعينهم على تقويم آرائهم ونظراتهم الخاصة، كما تسعفهم في تقويم
آراء القدماء ونظراتهم".
لقد كُرّم د . على حلمى موسى فى مصر والعالم العربى ففاز عام أربعة وستين
1964م بجائزة أمين لطفي في الفيزياء، التي
مكَّنَتْه من زيارة جامعة لندن عامًا كاملاً، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في
الفيزياء عام أربعة وسبعين (1974)، ثم جائزة البنك الأهلي للإبداع العلمي عامَ
ألفيْن. وهو حائز - أيضًا - على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى ، وأخيرا
جائزة الملك فيصل العالمية 1433هـ=2012م .
وأخيرا : إنّ د .على حلمى موسى لم يكن فقيد أهله ولا بلده فقط ، ولكنه كان فقيد
اللغة والعلم ،فقيد الوطن فهو صاحب شفرة رأفت الهجان ، أمطر الله جدثه شآبيب الرحمة والرضوان ، وغفر
الله ما شاء أن يغفر لعباده المؤمنين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق