( مفهوم المصطلح بين الشرق والغرب )
بقلم د
. محمد مبارك البندارى
عضو
هيئة التدريس في جامعة الأزهر
إنَّ الأصَالة
العربية لا تُحارب الحَداثةَ بقدر ما تُحارب التَّشويه ، ولا تُحارب التَّجديدَ
بقدر مَا تُحارب التَّـــشويه – أيضًا - ، ولا تُحارب التَّجديدَ بقدرِ ما تُحارب
التَّزييف ، فالتَّزييف والتَّشويه غير التَّجديدِ وَالحَداثة ، فما قيمةُ الحَداثة ، وما
قيمة التّجديد والحَداثة إذا ضَاعت منهما الأصَالة العربيَّة ! .
لا معنَى
للدَّعوة إلى التَّجديد وإلى الحَداثةِ إذا كان المقصُود منهما تخريب الأصَالة
العربيّة ، وتأويل النصوص الشَّرعيّة على غير أساليب العربيَّة المعروفة ، وهذا يعنى إلباسنا لباسًا آخر لا يتناسب ولباسنا
العربىّ ؟
والنّص
الشريعى نص عربيّ لا يصلح تأويله إلا في ضوء النظريات العربية ، ويبقى – أيضًا –
عامل الذوق ، ومن المسخ تطبيق النظريات الغربيِّة دون تشذيبها وتهذيبها على النصوص
العربية ( الشرعيّة – اللغوية ) .
ففى معنى
ذلك طبعًا مسخ أَصالتنَا العربيّة ، وإلباسنا ملابس لا تُناسب طابعنَا العربىّ ، سَواء
كانت واردة من الشرقِ أو كانت واردة من الغربِ ، إنَّ هذا هو التَّقليدُ الأعمَى ،
والتَّقليد الأعمى يُؤدِّى إلى الجُمُود ، والجُمُود يَقتل الإبداع ويُؤدى إلى
الموتِ ؛ وإذا جاز ذلك لأمَّة من الأممِ فإنَّه لا يَجوزُ لأمتنا العربيَّة ؛ لأنَّ
لها منَ التُّراثِ الضَّخمِ ما يمدُّها بكل المقوماتِ التى تقومُ عليها أرَقَى الحَضَارات
الإنسَانيَّة ، ومثل هؤلاءِ أولئك الذين يتخبّطونَ في متهاتٍ فلسفيَّةِ ، ونظريات
يستوردونهَا من الخَارجِ ، ويروحون يتلمسون منها طريقًا بتقليدها أو تشويههَا ،
الأمر الذى يُؤدِّى بهم إلى تشويه أنفسهم وإلى ضيَاعهَا في هذه المتهاتِ الفلسفيَّة
؛ لأنَّهم يَسطُون على هذه النَّظريّات قبل أن يستوعبُوهَا ، أو يتخبَّطون فيها خَبْط
عشْواء ، فيُضيّعونَ أنفسَهم ، ويبلبلونَ أفكار الآخَرين ، وما عَلمُوا أنّ لديهم
معينًا لا يَنضب في تُراثهِم وفى حضَارتهم وفى تاريخِهم ، لكنّهم إمَّا أن يكُونوا
قد وصَلوا إلى حَافة الضَّياع بالابتعادِ عن أصُولهم وجذُورهم ، وإمَّاَّ أن يكونُوا
قد فقدوا المقدرة على التَّفكير العميقِ والإبداعِ واستنباطِ المعانى من تُراثهم
وتُراث آباءهم وأجدادهم ، أو أن يكونوا مقودينَ دون إرادتهم فأصبحُوا مسخَّرين لا
يمتون بصلة إلى هذه الأمَّة وإلى أصَالتها وتُراثهَا .
وإذا أمعنا النظر إلى مدلول الحداثة
في المعاجم اللغويّة ، فنجد أنَّها لا تتعارض مع العربية أو أصول الدّين الإسلام ،
بيد أن مفهومها المصطلحى ، والنّقل الحرفى للمفهوم الغربىّ هو الذى أدّى إلى هذا
التّعارض البيّن .
فتدور مادة
(ح . د . ث) – كما في مقاييس اللغة لابن فارس - حول نقيض القديم، والحديث: الخبر يأتي على القليل
والكثير، ويجمع على أحاديث على غير قياس. والحدوث: كون الشيء بعد أن لم يكن...
واستحدثتُ
خبرًاً: أي وجدتُ خبرًا جديدًا، وتقول: افعل هذا الأمر بحدثانه وبحداثته أي: في
أوله وطراوته.
ومستحدثات:
مولدات .
وفي اللغاتِ الأجنبيّة " الإنجليزية
والفرنسية " نجدُ أنَّ كلمةَ حداثة
لفظ أوربيّ المنشأ ، ففي الإنجليزية
لفظان: Modernism وmodernity
ومثلهما في الفرنسية ، والتّرجمة العربيَّة لهذين المصطلحين تختلف من حداثة إلى
عصرية إلى معاصرة.
ولعلّ ترجمتنا لهذا المصطلح من اللغة الأجنبية " إنجليزية أو فرنسية " نجد اللبس والغموض والاضطراب والتفاوت
واقعا ظاهرا، ويرى البحث أن هذا هو السبب الرئيس
في الاضطراب والتفاوت في التعريف الاصطلاحي كما
سنرى بإذن الله .
وإذَا أردنَا أن نُحدِّد مفهومَ الحداثةِ
عن طريق الاصطلاح ؛ فإنَّنا نجدُ أنفسنَا أمَام كمّ هائلٍ من التَّعريفاتِ ، بل تعريفهَا
بلسانِ أصحابهَا يحُوطهُ الغمُوضُ واللبس ُ والاضطرابُ .
ونَجدُ أنَّ للحَداثةِ تعريفات عند
أهلها الأصليين التي نَشَأ المصطلح بينهم وفي بيئتهم، ولها تعريفات عند دعاتِها في
المشرقِ ، الذين هم أبواق الغرب في بلادِنا
العربيَّة ، ونجدُ - أيضًا - بعض التَّعريفات
للرافضين لها من المسلمين وغيرهم .
وأما مفهوم الحداثة عند الغرب فإنها تَعني: "تجسد صورة نسق اجتماعيّ متكامل،
وملامح نسق صِناعي منظم وآمن ، وكلاهما
يقوم على أساسِ العقلانيَّة في مختلفِ المستويات والاتجاهاتِ" ، وهذا التعريفُ
نجدهُ عند ماركس وإميل دور كايم، وماكس فيبر .
بيدَ أنَّ
مفهومها عند "جيدن": تتمثَّل في
نسقٍ من الانقطاعات ِالتَّاريخيَّة عن المراحلِ السّابقة ؛ حيث تهيمنُ التَّقاليد
والعقائد ذَات الطَّابع الشُّمولي الكنسي".
ويعرف الفيلسوف الألماني " كانت "
الحداثة في سياق إجابته عن سؤال : ما الأنوار ؟ فيقول: "الأنوار أن يخرج
الإنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في استخدام فكره دون توجيه من غيره".
وباعتبار أن َّ(كانت) من آباء الحَداثة
الغربيَّة فإنَّه يؤكّد "في كل أعماله أن شرط التنوير والحداثة هو الحرية....
بمعنى أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام
العقل".
وأما العالم الفرنسى للسيميائيات " رولان بارت" ( 1915 -
1981م) فيعرّف الحداثة بأنَّها : "انفجار معرفيّ لم يتوصَّل الإنسان
المعاصِر إلى السَّيطرة عليه" .
ويصف لنا (جوس أورتيكا كاسيت) الحداثة
قائلًا: "إنّ الحداثة هدم تقدمي لكل القيم الإنسانية التي كانت سائدة في
الأدب الرومانسي والطبيعي، وأنها لا تعيد صياغة الشكل فقط بل تأخذ الفن إلى ظلمات
الفوضى واليأس".
والحداثة عند(تورين) باختصار كما يقول في كتابه "
نقد الحداثة "تستبدل فكرة الله بفكرة العلم، وتقصر الاعتقادات الدينية على
الحياة الخاصة بكل فرد".
ولنا مع
هذه التعريفات وقفة متأنية
، فهذه التعريفات بعض من كل مماّ ورد على
ألسنة أهل الحداثة من الغربيين على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم، وهي تشير في جملتها
إلى
أنَّ
الحداثَة فكرة ٌلا تقتصر على الجانب الأدبيّ فقط كما تصور بعض العلماء الشرعيين
والأدباء المعاصرين ، إنما هي نظرية وفلسفة تعمّ وتشمل كافة الجوانب الحياتيَّة ، اجتماعيَّة
كانت ؟ أم معرفية ؟ أم صناعية ؟ أم غيرها ؟ ، وبالتَّالي فالحداثيُّون يقدِّمون
تصوّرًا هدَّامًا لحياة ِالنَّاس يَشملُ مختلف نواحيها.
ولعلَّ الأساس الذي تقوم عليه فكرة الحداثة هو "
العقل والعقلانية " – أى مطلق العقل -
التي تهدر معها كل ما لا يدركهُ العقل، فالعقل المتحرِّر من كلِّ سلطان هو
معيار أهل الحداثةِ بل هو السُّلطان الحَاكم على الأشياءِ.
وأما مفهوم
مصطلح الحداثة عند دعاتها من العرب ، فإننا نرى أنه بعدما ظهر مصطلح
الحَداثةِ في الغرب ، سُرعَان ما اتّجه بَعض أدعيَاء الثَّقافة إلى نَقل هذا المُصْطلح
، خاصَّة الأدباء والنُّقاد ، وكثير من المُغرمِين بالحضَارة الغربيَّة الهَشّة ،
ومن أشهر التّعريفات ، تعريف زعيم الحداثة في الأدب العربى الحديث " أدونيس " ( علي أحمد سعيد المعروف
باسمه المستعار أدونيس شاعر سوري ولد عام 1930 م بقرية قصابين التابعة لمدينة جبلة
في سوريا، تبنى اسم أدونيس تيمناً بأسطورة
أدونيس الفينيقية)، في كتابه الثَّابت والمتحول:
"هي الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا
النظام"، ثم يذكر في ذات الكتاب أنه "لا يمكن أن تنهض الحياة العربية،
ويُبدع الإنسان العربي إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي،
ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي".
ويعرّف
الناقد المصرى د. جابر عصفور الحداثة
بأنها : "البحث المستمر للتعريف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف
الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان
من الأرض، أما سياسيا واجتماعيا فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة
التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى
العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال و ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة
القبيلة أو العائلة أوالطائفة إلى الدولة الحديثة ومن الدولة التسلطية إلى
الديمقراطية ( تعني الحداثة الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل الذي هو نقيض
النقل".
ويرى ناصيف أن الحداثة "هي حالة خروج من التقاليد وحالة تجديد، وتتحدد
الحداثة في هذا المعنى بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد أو التراث أو
الماضي ، ونجد جميع التعريفات لمصطلح
الحداثة عند دعاتها تصب في هذا المفهوم بأسلوب سمج يفتقد للبلاغة العربية ، وجمال
التراكيب اللغوية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق