2012/10/30

صاحب الأسمال ... المضمر المتخفي بقلم: مثنى كاظم صادق



صاحب الأسمال ... المضمر المتخفي
مثنى كاظم صادق

         قال أبو حيان التوحيدي : ( إن الكلام عن الكلام صعب ) ..... تشدني مع القاص المبدع ( جوزيف حنا يشوع ) أسباب وصال حميم ، منذ أن راهقنا على الأدب والثقافة ، فهو/ أنا  ننتمي إلى جيل قد تعطر بدخان الحروب ، بعقودها الثلاثة         ( المكبوسة ) في الذاكرة اللئيمة التي لا تريد أن تنسى رائحة الدخان ، وعلى الرغم من ذلك ، دشن قلمه بامتياز جنساً أدبياً أثيراً لديه .. ولدي ـ كقارئ ـ ألا وهو القصة القصيرة والقصيرة جدا، هذه مجموعة قصصية وسمت بـ ( صاحب الأسمال )(1) اتسمت بسمة الشعرية الدافئة؛ إذ تلبست ـ هذه القصص ـ بعباءة المضمر المتخفي الكامن في رماد النص ، على أنني افترض أن داخل هذا المضمر أشياء أراد بها كاتبها من خلال النص السردي أن ( يدك ) معاقل المدركات الذهنية الشاخصة في الواقع العراقي ، من خلال حقن قصصه بأمصال الرمز والمفارقة ، إذ تمثل ـ القصص ـ رؤية خاصة ذاتية للحياة ضمن مساحاتها المدهشة ، ولعلي لا أجانب الصواب  لو قلت: إنَّ هذه القصص تشتغل على الثنائية التوافقية أو الضدية ذات الإطار الواحد والهويات المتعددة . لاشك أن العنوان ( صاحب الأسمال ) بمثابة النداء والإشارة إلى المتلقي ؛ فهو ثريا النص الذي اختاره القاص ليضيء به المجموعة التي تسمت به وشعت بضوئه ؛ لذا لا يمكن ـ بحسب ما أعتقد ـ الولوج إلى أي نص ما من دون الدخول إلى العنوان والوقوف عنده ؛ لأنه ـ أي العنوان ـ يشكل عتبة النص ، بل البوابة التي من خلالها يمكن الدخول إلى باحة النص والجلوس فيه . ( صاحب الأسمال ) عنوان متلفع بدلالات وإيحاءات عديدة منها وأهمها أن قصة (صاحب الأسمال) الذي اختارها القاص لكي تسجل المجموعة باسمها أقول : إن (صاحب الأسمال )  ظهر فقيراً بأسماله وانتهى غنياً بأسماله أيضا !! ولعل الأسمال هنا ليست الأسمال المادية ، ربما أسمال روحية أو أسمال أخرى وأخال القاص قد اختار هذا العنوان ؛ للخروج من سجن التقليدية للعنوانات المنتشرة للقصص القصيرة ، إذا ما علمنا أن العنوان للنص القصصي أو الروائي يتم من خلال آليات ثلاث هي :
1.   قد يكون العنوان مما يرد في النص من جملة أو كلمة.
2.    قد يكون العنوان مستوحًى من مضمون النص .
3.   قد يكون العنوان لا علاقة له بالنص بصورة ظاهرية أو مضمونية .
من الملاحظ أن القاص يحمي قصصه القصيرة  من ( التفتت ) بجملة النهاية التي غالبا ما تعانق العنوان لفظاً أو مضموناً ، ويتأتى ذلك لقدرة القاص اللغوية على توليد الأفكار وانبجاسها من مفرداته الدالة التي تحمل تناقضات الحياة والإشفاق على الذات مكونة معادلا موضوعيا للغربة أو قل إن شئت : الإغتراب . و قد لا يكفي الإحاطة بجميع ثيمات هذه القصص ، لكن سمتها العامة أنها تجمع بين الرومانسية المجنحة والواقعية النقدية  مستعيناً ـ القاص ـ على ذلك بتقنية إضفاء الجو النفسي الدافئ لشخوص قصصه . فضاء المكان في هذه القصص ملوث غالباً ؛ مما يؤدي إلى الشعور بالاستلاب الحاد الذي يؤدي إلى ( طمس ) الذات ، فضلا عن أن الرمزية التي يستعملها القاص هنا لها القدرة على تفتيق النص السردي باتجاه الواقعي ؛ فقصة ( الرأس ) ذات محمولات مكثفة ( جداً ) لأن الرأس ( صلة معرفية ) بالآخر وعند فقدانه تتحول هذه الصلة إلى ( قطيعة معرفية ) بالآخر أيضاً حيث شكل الرأس ثيمة رمزية إشارية عن الذات ( الملتاثة ) بالأمكنة ( خزانة الأحذية ) ، ( أواقي الحبوب ) ، ( المرحاض ) وإن فقدان( الرأس ) المحمول الرمزي للحواس والفكر قد جعله يرتاح من الصداع والمشاكل مع الناس !! وعندما وجد الرأس ( المبحوث عنه) في السرير الذي يرمز إلى النوم والاسترخاء قرر أن يبقي رأسه كما هو من باب الراحة له والاستراحة منه !! لكي يكون أجمل بحسب الموظفة ومن دون صداع ومشاكل مع رب العمل !!. أما القصة التالية لها ( الوجه الآخر ) فتفيض أعماقها بالمغلوط في الحياة التي نضطر أن نضرس فيها حين يأكل سوانا الحصرم ؛ فنلبس وجها آخر لنرضي به وجها آخر!! حيث تفضي جملة النهاية ( بيت المعري ) ( هذا جناه ...... علي / وما جنيت على أحد ) المنقوص من كلمة ( أبي ) كيما ينطلق بالبيت من الخاص الشخصي للمعري إلى العام الجمعي ( نحن ) . وتأتي قصة ( أسفلت الشاعر الحزين ) مسكونة بهاجس الجرأة / التغيير ضمن فناراتها الهادية من خلال دقة الرصد المكاني ، وتكاملية المحرك الزماني ، فالحيوانات كانت الخيط الواضح فيها بل هي ( المهماز ) الذي شيدت عليه القصة ، حيث إن أرضية هذا التشييد هو الشارع الإسفلتي ( الشاهد الأبدي ) على فضح ممارسات الأبطال!! وعلى الرغم من أن ( القرد / الخنزير / الفيل / الهر / القطة / الأسد ) قد لوثا الإسفلت وعبثا به مما جعل الإسفلت في حالة من الأنين والتشاؤم إلا أن الحيوانات  ( الكناري / النمل / الصقر / الكلب ) قامت برد فعل معاكس ، لكن الأسد ظل مستبداً وبقي الإسفلت يئن ؛ فكان أن تركته الريح بعد أن نفحت عليه ريح التفاؤل والأمل فلم يأبه لها . طالما استعملت الحيوانات في القصص الرمزي لطرح مجموعة من الأفكار المتلبسة بالأشخاص ربما استحضر هنا جماعة ( أخوان الصفا وخلان الوفا ) في القرن الرابع الهجري ، باستعمالهم الرمز الحيواني في رسائلهم جاعلين بعض العبارات الكاشفة للمتلقي كيما يعرف رمز هذا الحيوان أو ذاك من خلال النص إن الثنائيات الضدية واضحة في هذه القصة التي اتكأت على الجملة المشعة التي قالتها الريح للإسفلت . أما قصة ( النافذة ) فكشفت عن بواطن الإنسان المعزول عن الآخر بـ ( نافذة ) قد تكون غير واضحة الملامح بسبب المطر ( الحزن ) تبدأ القصة بعنوان ( النافذة ) وتنتهي بكلمة ( النافذة ) ومابين النافذتين !! نافذة العنوان ونافذة النهاية يأتي نسقان مهمان شكلا عمود القصة ( إنه بالتأكيد يستحق كل مرارات الكون ) و ( هل سيظل ـ كما وعد ـ يحبني إلى الأبد ) إذ شكل النسق الثاني نشيد العشق الأبدي الذي جاء موزونا ( كما وعد / يحبني / إلى الأبد ) وأخيرا أقف على درة التاج لهذه المجموعة وصندوقها الأسود وهي قصة ( صاحب الأسمال ) إذ إن القاص قد جعل الذوات حرة الحركة ، والذات بتعريفها النقدي هنا هي إيقونة لوجود كينونة مستقلة للشخص الذي كان أو يكون أو سيكون في النص ، لكنني لم المح ملامح شكلية واضحة للشخصيتين المحوريتين ، لاسيما الوجوه مثلا ، واغلب الظن كي لا تتحدد الصور والأقنعة وهذا يعطي أن هنالك متشابهات لهما في أمكنة وأزمنة أخرى ، فضلا عن تضادية جدلية بين صاحب الأسمال المحتال اللعوب الماكر الطموح الذي كسب ود صاحب الجنائن بالمرواغة والكذب وبين صاحب الجنائن الوديع الساذج الكريم أي ذات شريرة وذات خيرة وهنا تكمن الديلاكتيكية في الحياة  . النص مفعم بما هو أسطوري وميثولوجي وشخصيات من الذاكرة الطفولية ، وهي نتاجات معرفية أسهمت الذاكرة التسجيلية مع الذاكرة الانتقائية في انتقائها وتناولتها بصورة جيدة إذ إن عملية النقلة المفاجئة والمدهشة للنص من خلال عبارة ( ونجحت لعبة البلي شتيشن )إذ جعل للنص مذاقاً تكنولونصي؛ فالقصة تثمر بالدهشة المفرطة عند المتلقي بهذا الانتقال المثمر . إن هذا النوع من التثمير التقني والرمزي والرياضي والتاريخي والأسطوري المترابط بروعة متقنة وعجيبة جعل القصة لها مذاق خاص ، ربما من يقراها يجد فيها نوعاً من الهلوسة الصوفية المنتجة للوصول إلى النرفانا ( التجلي أو التنور) بغية الوصول إلى بانوراما جميلة وفق القاص في نسجها وربطها ببعض بالرغم من تنافرها الموضوعي عند سلخها من القصة ؛ ولذلك شكلت بمجموعها شفرات مفتوحة السعة يشترك فيها الواقعي بالميثولوجي عن طريق ذاكرة مزدوجة بالوعي الكامل والمخيلة الواسعة واللذان لهما علاقة بالوجودي والكوني . القصة جاءت خالية من الحوارات بين أي من شخصياتها ، لكن القاص ركز على الأفعال لهذه الشخصيات ، وما آلت إليه من جراء هذه الأفعال.....
ــــــــــــــــــــــــ
(1) صاحب الأسمال مجموعة قصصية ، جوزيف حنا يشوع ، عن سلسلة إصدارات مجلة إنانا 2012م

ليست هناك تعليقات: