محمد الكامل بن زيد
أ-
مخرج
كل المرايا في هذه المدينة معكوسة .. الشيخ يعانق الشيخ .. المرأة تغازل
بريق المرأة .. و الولد يبحث عن أبيه
المجهول ..و الرب يكاد يكون معزولا عنهم
.. في سنتهم من لم يقرأ .. لم يحفظ حرفا من الكتب المدرسية .. أعفي من شر المرايا
.. هكذا روى لي أحدهم في رحلتي إلى
المدينة .. كانت لي فرصة واحدة لملاقاته .. لا غير ..لأني حين بحثت عنه مرة أخرى
لم أجده .. لم ألق لأثر قدميه عنوانا .. كأنما الأرض ابتلعته .. وحين سألت
..ببراءة طفولية .. قالوا :قال قولا بليغا في المرايا .. ثم غادروني و في الصباح
عادوا .. وقالوا بصوت واحد :ستر من الله.. إنك من الغرباء ...
ب – اللقاء
إنشق القمر ......
في هذه المدينة لاشيء مستقر .. ضوضاء ثم سكون ... سكون ثم ضوضاء .... و بين
السكون و الضوضاء.. حدث كل شيء بسرعة .. وزّعت المنشورات .. علّقت اللافتات .. قرأ
الكلام غير المفهوم بصوت شحاذ أعمى .. لم يعرف له أصل من أهل المدينة .. فكل ما يعرف
عنه .. أن له عصا سحرية سوداء .. تساعده على دفع صوته إلى أبعد مكان .. قدمت له
ذات مساء من قبل شيخ عملاق .. لم يخلق مثله .. في حديث العامة .. حكايات و حكايات
عن هذا الشيخ العملاق .. لكن لا أحد رآه .. أو حتى خيّل إليه .. الشحاذ الأعمى
يدعو الناس إلى الساحة الكبيرة .. أحشاء المدينة تتقيأ حدثا مرفوضا .. اعتلى
الآباء.. الأمهات .. الأساتذة .. الشيوخ .. الأئمة المنابر الحديدية .. صورهم
منفوخة .. ألسنتهم محمومة .. استشهدوا بأسماء الرب الحسنى .. كل آمن به قبل أن
يلقي بصره فوق الجماهير .. بأسمائه ..
أعلنوا أن ساعة اللقاء آتية لا ريب فيها .. ساعة تنبثق الشمس من غرب المدينة ..
ساعة يقول الفاسد .. ياليتني كنت ترابا .. العيون .. الشفاه .. تضمر شيئا مكتوما
.. للعيون .. للشفاه المجاورة .. عين بعين .. شفاه بشفاه .. في أنفسهم رياء ..
يودون لو يعمّروا ألف سنة .. اللاحقون يتمنون لو أنهم مكان السابقين .. الجماهير
تصفق بيد واحدة .. الحناجر تعلن سخطها .. على قرب النهاية .......... لم يدرك أحد
منهم .. كيف رجت الأرض رجا .. مرسلة المنشورات الى خلف المدينة ................وعاد
أهل المدينة إلى مساكنهم الضيقة .. كأن شيئا لم يكن ثم خرجوا إلى أراضيهم الموحلة
..زرعوا .. ثم حصدوا .. بكوا من شدة الألم .. وقالوا .. هذا الذي رزقنا من قبل
......
ج – خفي .. حنين
حين أو غلت في أوحال المدينة .. لم أكن أملك من القش سوى أحذيـــة مطاطية
كــــان كل همي أن أعثر على صديقي خفي
حنين .. فذات ليلة من ليالي الماضية .. وقعت عيناي على خريطة قديمة .. رثة .. بين إحدى
الكتب العميقة .. إن لم تخن الذاكرة .. كان الكتاب لابن خلدون .. شدتني تلك
الخريطة طويلا .. فأقسمت على أن أجد مفتاح سرها .. ولم أكن اعرف أحدا غير صديقي ..
خفي حنين .. فله دراية بكل الخبايا .. الميتة و الحية .. فهو أصدق إنباء من
الكتب.. ظننت في البدء أني سألقه بقرب
المنابر الحديدية .. لكن المنابر .. وجدتها شاغرة .. تكاد تقتلعها الرياح .. اليأس
المخيف اقترب من ملامح الوجه .. رأسي معذب فوق كتفي .. ومع ذلك لازال يهوى النظر
إلى الأعلى.. حيث السماء السابعة .. إعتاد منذ أن تفجّر بطن أمي بي .. أن يتبيّن
الخيط الأسود من الخيط الأبيض .. لكن هذا المساء تكسرت عادته أمام السحابات
المعتمة ..تملكني اليأس أخيرا .. لأني لم ألق صديقي خفي حنين .. وتملكه اليأس أخيرا
.. لأنه لم يتبيّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض ....ساقتنا أقدامنا إلى تمثال
عروس الحرية بالساحة الكبيرة ..
همس لي بحزن :
- إني لم أتبين الخيط الأبيض هذا المساء ...................
فأكدت له برأسي ..أسفا :
و أنا لم ألق صديقي .. خفي حنين ........
و عاد يبكي حتى احترقت مقلتاه ثم التفت إلى عروس الحرية ..
ثم قال :
- أتدري أن أمنا حواء مرت من هنا .. وأعطت لهذه العروس .. أثداء شرقية
إحترت في قوله .. و أدركت مدى
الفاجعة.. أمسكت بيده و نهضت اصطحبه إلى خارج المدينة .. لكنه أوقفني بشدة ...
- أريد أن أضاجع .. هذه النهود الشرقية
- ماذا سيقال عنك ........ معتوه ..
ابتسم .. إبتسامة ..بلهاء ..نمت عن خبث عظيم :
شيء جميل ..هكذا تسقط التهمة ............
د- إمرأة مجهولة الهوية :
من بين آلاف نسوة المدينة .... صرخت أجملهن .. خلقا .. وحسنا .... ما السبب
؟!...
ما الداعي .. يا أهل المدينة ؟! فأنتم إخوة ..كلكم أبناء وطن واحد ..لماذا
تأكلون أنفسكم كما تأكل النار .. الحطب ؟؟......... جاء صوتها غير مألوف لدى
الجميع ..... إعتبر جريمة .. فالمرأة في هذه المدينة .. كل شيء مباح .. أن تشرب
الخمر ما لذ ..مباح ..أن تضرب الفنجان للبائسين ..أن ينهش حلمة ثديها ..كل رضيع
جائع ..مباح ..أما أن يرتفع صوتها حد .................................الجريمة ...................
حين استفاق الشحاذ الأعمى من سكرته الأخيرة ..ليلة أمس ..لم يجد تلك
..المرأة ..لكنه سأل بهمس مخنوق : بأي ذنب ..قتلت ......
هـ - صيف الآونة الأخيرة :
صيف الآونة الأخيرة ... شديد الحرارة ..كل نفس بشـريـة تقذف من أفواهها
كلابا.. جهنمية ..ومن بشرتـها مياها بركانية ..ومن عيونها ..صقورا إغريقية ..كل
الحشرات التي نبذوها وراء ظهورهم .. تقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..
الأرصفة تدافع بمخالب قوية عن حقها في إرث
الشتاء الماضي.. المدفون في أحشائها..هنا ..لا فرق بين الجالس و الواقف
أمام عتبات الشوارع ..هنا لا فرق بين الذي يصلي و الذي لا يصلي فكل الجبهات على
الثرى مقلوبة ..معذّبة ..تدعوا الرب ..تصرخ في صمت :.... هذا صيف موعود ..هذا صيف
مشهود ....
م – اللافتة الصخرية ....
من هول ما حدث في المدينة ..انشق القمر ..هو نفسه لم يصدق كيف حدث ذلك ..أن
ينشق فجأة و على ماذا ؟ .. على لافتة صخرية أغلقت كل منافذها .. الأهالي أصبحوا
سكارى و ما هم بسكارى .. لقد أصبحوا يقرأون قرآنهم كأنهم يقرأون قصائد أبي
نواس..ويرتدون من القش ما ستر الظاهر وكشف عوراتـهـــم ..ويسيرون إلى الخلف بظهرهم
.. وأنا ..ما أنا ؟! ...ضاعت أحلامي في خليط عوالمهم .. أصبحت سجينا بينهم لا أمل
لي في الخروج .: حاولت أن أسرع الخطى إلى أول شارع ضيق يؤدي إلى خارج المدينة
..لكني وقفت على لافتة صخرية صغيرة ..أغلب
ظني أنها لم تكن ساعة توغلي في المدينة ..إقتربت منها بقلب يدق أبواب صدري ..بعنف
..ولم انتظر طويلا أمامها ..ففي لحظة واحدة من الدهر ..قرأت الكتابة المنقوشة
عليها .....بأسى :
- ممنوع الدخول..........
- ثم تبيّنت أني سأبقى أبد الدهر ....غريبا في هذه المدينة ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق