2012/10/20

من أحلى الأيّام.. (الجزء الثاني) بقلم عبد الله لالي الجزائر

من أحلى الأيّام.. 
بقلم عبد الله لالي
الجزائر
 
الجزء الثاني..  
11..
مع الشيخ الغزالي..01
لم ألتق بالشيخ الغزالي وجها لوجه ..ومع ذلك فإنّني أعتبر نفسي أحد تلاميذه الذين تربّوا على فكره وفهمه للإسلام وقد قرأت معظم كتبه، وكانت البداية بكتابه ( فقه السيرة ) إذ طبع هذا الكتاب في أواسط الثمانينيات في الجزائر..
وكانت أوراقه صفراء وغير مجلّد الغلاف وقد رأيته في مكتبة المعصومة وأنا عائد من الثانويّة مساء، وكنت معتادا على المرور بها مساء قبل الذهاب إلى محطّة الحافلات والعودة إلى القرية، وذلك طلبا لجديد الكتب خصوصا الدينيّة منها أو الأدبيّة، وعندما رأيته تلقفته بلهفة وشوق كبير، ونظرت إلى ثمنه فوجدته مرتفعا قليلا ( 40 دينارا جزائريّا) لكنّه مقبول بالنسبة لطالب ثانوي ( مدمن مطالعة )، ولاحظت على غلافه أنّ الشيخ الغزالي - وكان حينها يدرّس بالجامعة الإسلاميّة بالجزائر- قد تبرّع بحقوق طبع الكتاب إلى القارئ الجزائري..
ولم أكن أحمل المبلغ كاملا معي فقررت العودة صباحا لشرائه، لكن المشكلة أنّ مكتبة المعصومة أحيانا تتأخر في فتح أبوابها فأضطر إلى الانتظار حتى المساء، أي إلى ما بعد انتهاء الدوام، ولا أذكر هل اشتريته صباحا أم مساء، لكنّني في النهاية عدت به إلى البيت والتهمته التهاما..
غير أنّه لم يبلّ الصدى الذي في نفسي للسيرة النبويّة، إذ كنت آمل أن أجد فيه كثيرا من وقائع السيرة، فوجدت فيه فعلا كما سمّاه صاحبه ( فقه السيرة ).. فكر وتأمّل وفهم وتحليل، فوائد جمّة وأفكار عظيمة لكنّها لا تشبع حاجة طالب علم لم يحط بالسيرة بعد خبرا..
وكان كتاب الشيخ الغزالي رحمه الله ( فقه السيرة ) هو الذي قادني إلى   ( فقه السيرة ) للدكتور رمضان البوطي إلا أنّه كان أقلّ تأثيرا في نفسي من ( فقه السيرة للشيخ الغزالي) وإن اختلفت طريقة العرض والتحليل، فالأوّل يعتمد على الأسلوب الأدبي المدبّج بالحجة والمنطق العقليّ، والثاني يعتمد المنهج العلمي الأكاديميّ الذي يضح المقدّمات ويصل إلى النتائج البديهيّة، ولم يبلّ كلاهما صدى نفسي للسيرة النبويّة إلى أن قرأت بعد ذلك ( سيرة ابن هشام ) كاملة في أربعة مجلّدات فأحسست بنوع من الرّضا..ولكن ما زال الشوق قائما والحنين متوقدا لسيرة خير البشر..
وكان لي بعد ذلك كتاب واحد على الأقل في السيرة أقرأه كلّ عام، ودأبت على ذلك سنين عددا إلى أن أوغلت فيها إيغالا واستظهرت معظم أحداثها عن ظهر قلب..وألفت فيها كتاب ( هذا نبيّك يا بنبيّ ) للأطفال..
12 ..
مع الشيخ الغزالي02 ..
قبل أن أبدأ بقراءة كتب الشيخ محمّد الغزالي تعرّفت عليه من خلال ملتقى الفكر الإسلامي الذي كان يعقد بالجزائر، وذلك عندما تابعت محاضرة له بثت على القناة الوطنيّة فأذهلني أسلوبه الخطابي وطريقته في عرض الفكر الإسلامي ، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي أتابع فيها محاضرة يلقيها صاحبها عفو الخاطر ، دون أن يستعين بورقة أمامه يتهجى منها كما ألفنا مشايخنا – من قبل – في قناتنا الجزائريّة..
وكان له بعد هذه المحاضرة درس أسبوعيّ يلقيه مساء كلّ يوم اثنين، ولم يكن عندنا تلفاز بالبيت فكنت أذهب إلى دكان قريب من بيتنا ، به تلفاز وأشاهد ذلك الدّرس الأسبوعي الرائع، ولا أذكر أنّه فاتني يوما فقد كنت حريصا عليه كلّ الحرص، ومن يومها صرت تلميذا في غير مدرسة ( !! ) للشيخ الغزالي – رحمه الله - وجعلت أتتبع أيضا مقالاته وبعض فتاويه التي تنشر في جريدة ( النصر )..وأذكر أنّه كان عندنا شيخ بدوي يتكلّم العامية كأنما يتكلم الفصحى، فدخل مرّة الدّكان أثناء درس الشيخ الغزالي فنظر إليه بهيئته الأزهريّة، فأعجبه فقال:
-       إيه.. هذا الشيخ عليه طلعة باهية ..
ولا يخفى على أحد صدق تعبير هذا البدوي الذي يتكلّم على السّليقة، وكذلك فصاحته فعبارته تكاد تكون فصيحة مئة بالمئة..مع تصحيح كلمة ( باهية ) فقط لتصبح بهيّة..إنّه نور العلم وإشعاع الإيمان يضفيه ربّي على العلماء فيبهر الأبصار ويدهش القلوب..
ومنذ أن عثرت على كتابه ( فقه السيرة ) صرت أنقب عن كتبه الأخرى، وأقرأها في وقت قيّاسي.. وقد قرأت كلّ كتبه التي طبعت في الجزائر وبعض الذي طبع في غيرها مما وصلت إليه يدي، ومعظمها تنازل رحمه الله عن حقوقه فيها لمصلحة القارئ في الجزائر.. قرأت ( فقه السيرة) كما سبق وأن ذكرت وقرأت ( مشكلات في طريق الحياة الإسلاميّة )، و( ظلام من الغرب ) والذي شنّ فيه حملة شديدة على طه حسين وهو محق في كلّ ما قاله ، وذكر أنّه سمع أنّ طه حسين ذهب إلى الحج في آخر أيّامه وبكى عند الكعبة ، وتاب إلى الله ورجع عن كلّ ما بدر منه مما يسيء للإسلام.. وقرأت أيضا ( قذائف الحق ) طبعة الكويت ثمّ طبعة الجزائر والذي تحدّث فيه عن الإخوان المسلمين وسجون عبد الناصر، وكتاب ( الزحف الأحمر ) الذي كان ممنوعا كما سمعت في عدّة بلدان عربيّة، وقيل أنّه طبع في الجزائر ثمّ سرعان ما سحبت نسخه.. وكتاب ( فنّ الذكر والدعاء )..و( حصاد الغرور)..وغيرها كثير..
إلا أنّ الكتاب الذي قرأته بشيء من الريبة والحذر – رغم تعلقي الشديد بالشيخ الغزالي –هو كتاب ( كيف نتعامل مع القرآن )، فقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة وجدلا واسعا لاسيما من التيار السلفي، الذي كان لا يحبّ الشيخ الغزالي وينعته بأبشع الصفات، وكان الشيخ الغزالي – رحمه الله – عنيفا عليهم لا يهادنهم أبدا ، وكان يرى أنّهم الخطر الذي يهدّد الإسلام من داخله.. وكثيرا ما كان يسميهم في كتبه ومقالاته(أصحاب الفقه البدوي )، ولعلّه بالغ بعض الشيء في ذلك.. وربما كان يقول ذلك في فورات الغضب ، خصوصا أنّه أعطى كتابه ( فقه السيرة ) للشيخ الألباني ليعلق على أحاديثه ، احتراما لتخصصه وتفوّقه في علم الحديث.. وإنّما يعبر ذلك عن قمّة الاحترام للرأي المخالف..
وما أعجبني في الشيخ الغزالي تواضعه وحكمته وفصاحته التي لا تكاد تجد فيها تلجلجا أو تعتعة، فقد كان إذا خطب كالسّيل الذي يهدر هدرا في غير انفعال ولا توتر، وأذكر أنّه قال يوما عن الشيخ يوسف القرضاوي: الشيخ القرضاوي كان تلميذي ثمّ صار صديقي وبعد ذلك صرت تلميذه..
13 ..
في المعرض الإسلامي..
طار الخبر بين المثقفين مثل البرق أنّ المعرض الإسلامي سيقام في مكتبة المركز الإسلامي، بحديقة ( جنان البايلك ) في بداية الثمانينيات فقرّرت الذهاب مبكرا مع بعض الأصدقاء، وانتظرنا طويلا في صف لا يكاد ينتهي حتى يصل دورنا في الدّخول، كان دخول المعرض الإسلامي في ذلك الوقت يشبه دخول الجنّة، وتسمّرت أقدامنا في الأرض ولم يتزحزح الطابور قيد أنملة، واقترب موعد الدّراسة وانسحب بعض الأصدقاء خوفا من صعوبة الحصول على ورقة الدّخول إلى الثانويّة في اليوم التالي، وكنّا ندرس بثانوية الحكيم سعدان، والتي كان فيها المعهد الأصلي سابقا..
وقرّرت أنا وصديق آخر أن نغامر ونبقى ننتظر، وجاء فلان ودخل ثمّ تبعه علان ودخل أيضا، ولكنّنا لم نستطع الدخول وأذكر أنّه كان يقف بالباب جنديّان من الشرطة العسكريّة ( pm )، أي نعم من الشرطة العسكريّة، فلا أحد يدخل إلا بإذنهما وبينما نحن وقوف إذ جاء رجال في حلّة بهيّة، ودخل بكلّ يسر ثمّ خرج محملا بعدّة صناديق من الكتب، وسرت همهمة بين المصطفين إنّه سائق الوالي.. !!
وقال أحدهم إنّ معظم الكتب المفيدة والهامة ذهب بها المسؤولون، ولم يتركوا لنا شيئا، يزينون بها رفوف مكتبات صالوناتهم دون أن يفقهوا ما فيها، وكان يقف إلى جانب الباب رجال يبدو في أواخر سنّ الكهولة وأوائل سنّ الشيخوخة، فنظر إلى النجدي الذي يقف أمامه في هيئة مخيفة..وقال له:
-       لماذا سمحت لذلك الرّجل بالدخول دوننا..؟
فقال له الجنديّ:
-       ذلك سائق الوالي.. !!
فقال الرّجل :
-       وأنا أيضا قاض ..قاض متقاعد..
وأعقب كلامه بابتسامة ممازحة..فقال له الجنديّ:
-       أنت ضحكت ..لو أنّك لم تضحك لدخلت..
فملت على أحد المثقفين الذين أعرفهم وقد توسمت فيه أنّه يعرف الرجل، وقلت له:
-       من هذا ..؟
فقال:
-       إنّه الشيخ محمّد مراوي محام ومن جمعيّة العلماء المسلمين..
فكانت تلك هي المرّة الأولى التي عرفت فيها الشيخ محمّد مراوي من رجالات جمعيّة العلماء المسلمين رحمه الله (ت 2000 م ) ..
ودخلنا المعرض بعد لأي وفي آخر النهار وبداية الليل، ووجدنا المعرض يصدق فيه قول الله تعالى:
" فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون "
بل طاف على المعرض المسؤولون ونحن مصطفون، ولم أفز يومها سوى بكتيّب صغير الحجم لكنّه عظيم الفائدة كان بعنوان ( الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ) للشهيد ، شهيد الإخوان المسلمين الأستاذ عبد القادر عودة..  
14 ..
في معرض المعصومة..
دأبت مكتبة المعصومة على إقامة معرض سنوي في الطابق الأوّل من المبني الذي تشغله، وكان البناء كلّه قديما على الطراز العربي الأصيل..وعندما دخلت معرضها أوّل مرّة شعرت كأنّني عدت إلى العصور الإسلاميّة الأولى في قمّة ازدهارها وتألقها، كان المكان ضيقا بعض الشيء والسقف واطئ حتى يكاد يلامس رؤوسنا لكنّ الكتب كانت منتشرة في كلّ الأنحاء والزوايا كأنّها حديقة بهيجة من الأزهار والورود..
وربما ذلك هو أوّل معرض أدخله في حياتي وأنا طالب في الثانوي.. طفت على الكتب بشوق ولهفة واخترت منها عددا لا بأس به، ومن ذلك المعرض الذي أقامه ( الميزابيون ) في مكتبتهم المتميّزة تعرفت على عدّة أسماء في عالم الأدب والفكر، لقد تعرفت على مارون عبّود في كتابه ( نقدات عابر ) وتعرّفت على جبران خليل جبران في كتبه ( النبيّ – والعواصف- الأجنحة المتكسرة – الأرواح المتمردة )، كما اكتشفت أيضا كتب جرجي زيدان في ( عذراء قريش – صقر قريش – غادة كربلاء – فتح الأندلس وغيرها..)، وصدمني صدمة هائلة كادت تودي بي فكريّا، لولا أن قيّض لي الله أستاذي الفاضل عمر بوستة ، الذي كان من الدعاة الذين يشار إليهم بالبنان في بسكرة، فقد سألته عن جرجي زيدان ورواياته التاريخيّة.. !!
فقال لي: إيّاك وإيّاك..إنّه كاتب مسيحي يدسّ في كتبه السمّ في العسل، له أسلوب أدبي جيّد يكتب روايات عن التاريخ الإسلامي ليشوهه ويحرّفه..دعك منه فلا خير فيه..ومن حينها تركت القراءة له بعدما كنت قرأت شيئا من تلك الكتب..ولم أقرأ له بعدها إلا بعد أن شعرت أنّه صارت عندي حصانة فكريّة، تقيني من الأفكار المشوّهة لفكرنا وعقيدتنا في أسلوب مبهرج وألفاظ خدّاعة..ومما قاله لي أيضا الأستاذ عمر بوستة إيّاك وأن تقرأ لـ شارل بروكلمان فإنّه مستشرق حاقد أيضا، من الذين سعوا إلى تشويه الإسلام والتاريخ الإسلامي في قالب أدبيّ..
كما كان أستاذي عمر بوستة السبب في اكتشافي لسيّد قطب وقراءتي لمعظم كتبه بعد ذلك وكان يترنّم بذكر ( في ظلال القرآن ) فلم يهدأ لي بال حتى قرأته كلّه بمجلداته الستة الضخمة، كان يملي علينا ذات يوم مقطعا من مقالته التي بعنوان( الكلمة )، فأسرتني واستولت على مجاميع قلبي، فتوقفت عن الكتابة وسألته:
-       لمن هذا المقال يا أستاذ ؟
فابتسم وقال بشيء من الحدّة ولم تسأل ؟
فقلت: إنّ له أسلوبا رائعا..
فانفرجت شفتاه عن ابتسامة أعرض وقال:
-       إنّها لسيّد قطب ..الشهيد سيّد قطب رحمه الله ..
وكان مجرّد النطق باسم سيّد قطب في ذلك الوقت، كفيل بأن يثير الرّعب في القلوب..        
وتعرّّفت أيضا على مخائيل نعيمة في بعض كتبه، وأدهشني أسلوبه العذب القويّ، وسخريته اللاذعة خصوصا في كتابه ( مذكرات الأرقش )..
كما اكتشفت عالم ( غادة السمّان ) في المعرض نفسه ، وكان لها أسلوب رائع ومتميّز، لكنّ مواضيعها يجب أن توضع عليها ألف علامة استفهام وتعجب.. ؟؟!! 
15 ..
كنز في بيت خالتي.. 01
كلّ ما كتبته سابقا جعلني أرجع بذاكرتي إلى الوراء، إلى أكثر من ثلاثين سنة إلى الخلف..كنت في قريتنا شتمة في مرحلة الابتدائي لا أعرف من الكتب سوى الكتاب المدرسي، ولم يكن هناك ما يشجعني على الدّراسة والمطالعة إلى أن دخلت مرحلة المتوسط، واتصلت بابني خالتي عبد المؤمن وعزّ الدّين اللذين كانا يقطنان في المدينة في حي سيدي بركات الشعبي من أشهر أحياء بسكرة..
وكنت أزور خالتي في العطل والمناسبات، وفي الليل عندما يهدأ كلّ شيء ونجلس نتسامر نبدأ في تبادل النكت والطرائف والألغاز المحيّرة، ولاحظت أنّ ابني خالتي يستعملان قاموسا لغويّا خاصا..ففي ألفاظهما عبارات من الفصحى لم أسمع بها من قبل، كما أنّ ألغازهما التي يعرضانها كانت فيها نوع من الثقافة المتميّزة، أذكر على سبيل المثال أنّني سمعت منهما هذا اللغز لأوّل مرّة في حياتي:
" دققت الباب حتى كلّ متني فلمّا كلّ متني كلمتني..قلت يا اسما عيل صبري .. ! قالت يا إسماعيل صبرا .. "     
وسمعت منهما أيضا هذا اللغز:
" يا قاضي ته ..ما رأيك في امرأة تزوّج ته هي أمّي وأنا ولد ته "
كان شيئا مدهشا جعل مداركي تتفتح ، وعقلي ينضج ، والتفت من حولي فوجدت أنّ في بيت خالتي توجد كتب أخرى غير الكتب المدرسيّة، منها كتب حصل عليها ابنا خالتي جوائز لتفوقهما في الدراسة وقد كانا أوّل أقرانهما دائما، فأخذت أتصفح تلك الكتب لاسيما القصص والقواميس الضخمة وأقلّب أوراقها وأتمعن في صورها.. وأقرأ بعضها..
وهناك في حيّ سيدي بركات عرفت لأوّل مرّة معنى المطالعة، ومعنى قراءة كتاب خارجي غير كتب المدرسة ، واكتشفت في بيت خالتي الكنز المخبأ.. كان عندهم غرفة في إحدى زوايا البيت بعيدة عن كلّ شيء يزعج أو يشوّش، وكانت قليلة الإضاءة من يدخلها وينغمس في قراءة كتاب.. فإنّه ينسى الدنيا بكاملها..
وأذكر أنّني ذهبت مرّة في زيارة على نيّة المبيت ليلة واحدة لا أكثر، ودخلت الغرفة المتطرّفة صدفة ، فوجدت ابن خالتي عبد المؤمن يقرأ كتاب ( ألف ليلة وليلة ) وكنت سمعت به وتشوّقت لقراءته لكنّه لم يقع بيدي، فوجدتها فرصة ذهبيّة ...تركت ابن خالتي حتى أنهى قراءته فتلقفته وكان في أربعة أجزاء ضخمة على ما أذكر، وجعلت أقرأ بنهم وشغف مدّة أربعة أيّام متواصلة..لا أقوم إلا لضرورة أو للنّوم..غير أنّي لم أتمكن من قراءة كلّ الأجزاء لأنّي اضطررت للعودة إلى القرية ولم يكن بمقدوري أخذ الكتاب معي، لأنّ ابن خالتي كان قد استعاره من شخص آخر..
وبعد سنين طويلة عدت إلى كتاب ( ألف ليلة وليلة )،  فوجدته كتابا لا يستحق القراءة مرّة أخرى، لأنّ مستواه الأدبي متدنّ للغاية وإنّما تميّز بكثرة قصصه وإيغاله في الخيال المجنّح الذي ليس من ورائه طائل..
16 ..
كنز في بيت خالتي.. 02
في بيت خالتي اكتشفت كتب الحركة الإسلاميّة، وكانت البداية بمجلّة صفراء قديمة عنوانها ( الإخوان المسلمون )..أعجبتني المجلّة ولا أذكر العدد بالضبط لكن كان فيه موضوع بارز شدّ انتباهي..كان عن " ذي القرنين " ولم أكن قد سمعت به من قبل ولعلّني قرأت عنه في المصحف ولم أفهم معانيه، لكنّ المجلّة فصلت فيه تفصيلا فأخذت المجلّة معي إلى الأصدقاء وكان لنا فيه نقاش طويل عريض..
وجاء بعد ذلك اكتشاف كتب الحركة الإسلاميّة لاسيما حركة الإخوان المسلمين، فعرفت كتب سيّد قطب بشكل مفصّل وكتب أخيه محمّد قطب ، وربما قرأت العدد الأكبر من كتب محمّد قطب في مكتبة ابن خالتي عبد المؤمن وقد كان عبد المؤمن قارئا نهما بامتياز، والعجيب أنّه كان يجمع في تفوّقه الدّراسي بين المواد العلميّة والمواد الأدبيّة، بحيث لا يعجزه أمر من الأمور أدبيّا كان ولا علميّا..وكان مرجعي الأوّل في اللغة التي بدأت تتفتح آفاقها في ذهني وكلما أعجزني أمر إلا ووجدت الجواب عنده حاضرا..
لقد وجدت في بيت خالتي كتب محمّد قطب التي تؤصل للفكر التربوي الإسلامي،   وجدت كتاب ( منهج التربية الإسلاميّة ) وكتاب ( التطوّر والثبات في حياة البشريّة ) وفيه عرفت أنّ هناك ثوابت وأصولا في الإسلام لا ينبغي أن تتبدّل أو تتغيّر ، وهناك متغيّرات هي محلّ الاجتهاد كونها قابلة للتغيير والتبديل..ومن ثمّ عرفت الجواب القاطع للذين يدعون إلى التطوّر والتقدّم وعدم التشبث بالماضي كليّة..
كما قرأت له كتاب ( منهج الفنّ الإسلامي ) الذي وجدت فيه أيضا التأصيل الشرعيّ للفنّ الإسلامي، وأنّ ديننا فيه فسحة كبيرة لمن شاء ممارسة هوايات حباه الله بها أو أراد الترويح على نفسه..
أمّا كتابه ( جاهليّة القرن العشرين ) فقد قرأته بإمعان وفي النفس شيء من حتى.. !! وكذلك كتابه ( هل نحن مسلمون )، وربما لم أفهمها بشكل صحيح في حينها، إلا أنّني لم أعد لقراءتهما، وهذه إحدى عيوبي التي لم أستطع التخلّص منها إلى اليوم، فأنا قلما أعود إلى قراءة كتاب سبق وأن قرأته، والكتب التي أعدت قراءتها كاملة تعدّ على أصابع اليد..
وإلى الآن لا أعرف سببا مقنعا لذلك، ربما لأنّني بدأت المطالعة متأخرا نسبيّا، إذ لم أقرأ الكتب الخارجيّة إلا في مرحلة المتوسّط كما قلت..وربما لم أقرأ الكتب الرصينة والتي تعتبر من أمّهات الكتب إلا في مرحلة الثانوي، ولذلك كنت أحرص على قراءة أكبر عدد ممكن من الكتب..
وتعتبر كتب مصطفى صادق الرّافعي من الكتب القليلة التي أعدت قراءتها مرارا لاسيما   ( وحي القلم ) و( تحت راية القرآن ) و( رسائل الرافعي لأبي ريّة )..
وقد أعجبني كتاب ( الإنسانيّة بين الماديّة والإسلام ) لـ محمّد قطب وقرأته بعمق متفحصا كلّ كلمة جاءت فيه، لكنّني لم أعد لقراءته ثانية، ولقد قلت أنّ ذلك يعدّ من بعض عيوبي..( وأيّ النّاس تصفو مشاربه )، كان بيت خالتي بمثابة خليّة النحل التي لا تكاد تهدأ، إذ كان يؤمّه المثقفون من كلّ حدب وصوب، خصوصا أبناء الحركة الإسلاميّة، وهناك اكتشفت أيضا أنصار حركة ( حماس ) اليوم وأنصار حركة ( النهضة)..وكذلك بعض الذين تعاطفوا مع الجبهة الإسلاميّة فيما بعد..         
17..
مكتبات الأصدقاء والخلاّن..01
أنا في هذه المذكرات لا أمشي على نهج سويّ بل أتعسف على الذاكرة تعسفا، كلما عنّ لي أمر من الماضي كان لي فيه جولة من جولات السعادة مع خير جليس، أرخيت للقلم زمامه وشرحت صدري بما كان وبما حدث عفو الخاطر..                 
ولذلك لا أتبع ترتيبا زمنيّا متسلسلا بل كلما تذكرت قلت، وكلّ ما ذكرت دوّنت وعسى أن أفيد وأنفع ..وعسى أن يوضع ذلك في ميزان الحسنات..لي ولكل من كان سببا في أن صار هذا العبد المسكين شيئا مذكورا ولله المنّة من قبل ومن بعد..
كنّا شبابا ناشئا وكان أغلبنا فقراء من الصعب أن نقتني كلّ ما تشتهيه أنفسنا من الكتب، وربما لو بذلت لنا الكتب سهلة ميسورة، لا نشقى في الحصول عليها ولا نعنّى في اقتنائها، لما قرأنا كما قرأنا ولما اجتهدنا في طلب العلم كما اجتهدنا ' وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.."
كان الكتاب الواحد يدور على عشرة أشخاص أو أكثر، ونقرأه ونحن محاصرون بوقت محدّد وفترة ضيقة...أذكر ذات مرّة أنّني كنت مشتاقا غاية الشوق إلى قراءة مذكرات الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله ، ولم تقع بيدي ولا علمت أنّ أحدا من الأصدقاء عنده، فجاءني على حين غرّة الصديق الفاضل والجار العزيز سابقا، سمير مودّع والذي كنّا نناديه عادلا ، جاءني وقال لي:
-       أتدري على ماذا عثرت ..
فأثار فضولي وشوقي ..فقلت على ماذا ؟
قال: مذكرات البنا رحمه الله ..
فقلت هاته وعجّل
قال:  آسف إنّما استعرته ولم يمهلني صاحبه سوى يومين وقد قرأته ولابدّ من أن أعيده غدا ..
قلت: هاته سأقرأه الليلة وأعيده إليك غدا صباحا..
وأتاني به وهو يسألني إن كان بإمكاني قراءته الليلة كاملا.. !!
قلت سأحاول..وفعلا قرأته في تلك الليلة، وكان فيما يقارب المائتي صفحة لم أترك منه سوى بعض التقارير كانت على شكل ملحقات بآخر الكتاب وضللت ساهرا إلى أن لاحت تباشير الفجر في الأفق.. وكانت متعة ما بعدها متعة..كما يقال..
18..
مكتبات الأصدقاء والخلاّن..02
لعلّ مكتبات الأصدقاء هي المكتبات الأكثر تأثيرا في نفسي وفي تشكيل ثقافتي الشخصيّة، بعد مكتبتي الخاصّة، وكان بعض الأصدقاء سخيّا لا يبخل بكتاب ولا يحتكره لنفسه، وإنّما الذي يمتلك كتابا جديدا لابدّ أن يطوف على بقيّة الأصدقاء..ولكن كانت هناك قاعدة معروفة لدينا جميعا وهي أنّه لا ينبغي إعارة كتاب جديد إلا بعد أن يقرأه صاحبه، إلا فيما ندر..
وكانت عندنا عادة سيئة أيضا، يستاء منها بعضنا كثيرا لكن ما يعتم أن يقع فيها هو نفسه، وتلك العادة ناتجة عن حرصنا الشديد عل قراءة كلّ ما يقع بين أيدينا، فإنّنا نبقي أحيانا الكتاب المستعار عدّة أشهر أو ربما السّنة لا نعيده لصاحبه ، ولا يطالب به حتى نجد الفرصة لقراءته ، لكثرة ما نجمع من كتب ومجلاّت وصحائف تضيق أوقاتنا المحدودة عن قراءتها جميعا..
بالنسبة لي كان لي – ولا يزال- الكثير من الأصدقاء الذين أتبادل معهم الكتب والمطبوعات المختلفة، وكنت أستعير الكتب بشكل جنوني ولعلي انقطعت إلى قراءة الكتب - أكاد لا أختلط بالنّاس إلا لماما - ما يقارب العشرة سنوات من سنّ الثامنة عشر إلى سنّ الثامنة والعشرين تقريبا..
ومن الأصدقاء الذين أدمنت استعارة الكتب منهم الصديق الفاضل والأخ العزيز الأستاذ فوزي مصمودي، وهو الآن كاتب معروف وله شهرة وصيت لا ينكر، وهو من أكثر الأصدقاء بذلا للكتب لا يعرف كيف يخفيها أو يبخل بها، وكنت أزوره في بيته في بسكرة خلال أيّام الجمع وفي العطل أحيانا، فلا أرجع إلا ومعي زاد من الكتب والمجلات..كما كان يزورني أيضا فلا يقدم عليّ إلا وبيده أكثر من كتاب أو مجلّة ولا يزال ذلك دأبه إلى اليوم، وكان إذا جاءني سألني عن جديد الكتب ثمّ ينهض إلى مكتبتي فيفتشها تفتيشا دقيقا، ويأخذ منها ما يروق له، وذلك قبل أن تحاصر مكتبتي من قبل أفراد العائلة وتحبس في أماكن من البيت لا تكاد ترى الضوء وقلبي يعتصر عليها ألما وحصرة..
وكانت الفائدة الأكبر من قراءة الكتب المستعارة من الأصدقاء ، هو النقاش الذي يعقبها أو يسبقها أحيانا، غير أنّ هذا النقاش غالبا ما يكون خاطفا ونحن وقوف لتوديع بعضنا، وحاولنا عدّة مرّات إقامة ندوات خاصّة حول بعض الكتب التي نقرأها، فنجحت الفكرة وأقمنا بضع ندوات في بيوتنا ..مرّة في بيتي ومرّة في بيت الأستاذ عبد الحليم صيد، ومرّة ثالثة في بيت الأستاذ الكريم صالح بوغفير ورابعة في بيت الأستاذ فوزي مصمودي وفي غيرها من البيوت وكان يحضر هذه اللقاءات جماعة خاصّة من الأصدقاء جمعتهم مشارب متقاربة في الثقافة والفكر..
وربما أقمنا لقاءات في بيوت أخرى لا أذكرها وذلك على شاكلة ( صالون العقاد )، إلا أنّ ذلك لم يستمرّ وتشعبت بنا هموم الحياة ، فحالت بيننا وبين ما نشتهي من متعة اللقاء حول مائدة الكتب..
وأذكر أنّا أقمنا لقاء أو اثنين في حديقة ( جنان البايلك ) التي فيها المركز الثقافي الإسلامي، وربما لو دامت تلك اللقاءات لنتج عنها شيء ذو بال، يضاف إلى الساحة الثقافيّة والفكريّة أو الأدبيّة.. بلى هو قد أضاف ولكن ليس كما يتمنّى المرء، فمعظم الذين شاركوا في هذه اللقاءات له مشاركة معتبرة في ميدان الكتابة أو قرض الشعر أو المحاضرة والحوار الفكريّ الجادّ.. 
19 ..
مكتبة الأستاذ فوزي مصمودي..
تربطني بالأستاذ فوزي مصمودي صداقة وطيدة يتجاوز عمرها الثلاثين سنة، عرفنا بعضنا في متوسّطة بشير بن ناصر ( متوسّطة بني مرّة سابقا )، ولم نكن ندرس معا في صف واحد، فلمّا انتقلنا إلى الثانوي صرنا معا في القسم نفسه، فتوطّدت العلاقة بيننا وكنّا نقف في ساحة الثانويّة أو أمام بابها نتبادل أطراف الحوار، وكان أغلبه في الثقافة والأدب والفكر، وكلما جاء ذكر كتاب على لسان واحد منّا إلا وطلبه الآخر ليقرأه، فكانت مكتباتنا وهي صغيرة في بادئ الأمر شركة بيننا..
ومما أذكره عن علاقتي الثقافيّة بالأستاذ فوزي مصمودي أنّنا كنّا ذات يوم جالسين تحت أسوار الثانويّة ومعنا بعض الأصدقاء إذ بفوزي يلمح قصاصة ظرف بريدي كبير، فأخذها ربما لينزع عنها طابع البريد الذي فيها، وكان وما يزال هاو من الدّرجة الأولى في جمع الطوابع البريديّة ( وهو يملك أكثر من 3000 طابع منها غير النقود القديمة والعملات ) ..فلما نظر في  العنوان المكتوب على الظرف وجده يشير إلى مجلّة البعث الإسلامي التي تصدر عن ندوة العلماء بلكهنؤ بالهند..واقترح علينا مراسلة المجلّة للحصول على بعض أعدادها المجانيّة.. 
وراسلنا المجلّة فعلا فأرسلوا لنا اشتراكا مجانيّا لمدّة سنة، ثمّ انقطعت عنّي أعدادها، إلاّ أنّ أخي فوزي واصل مراسلتها وهي ما تزال تصل إليه إلى يومنا هذا، كما أخبرني منذ بضعة أشهر في ندوة تكريمه التي أقامتها البلديّة له..
وكانت تلك المراسلة هي السبب الرئيسي في تعرّفنا على العلامة الشيخ أبي الحسن الندويّ – رحمه الله - ومتابعتنا لكتاباته ونشاطه الدعويّ الكبير، وقد استمعت لمحاضرة ألقاها في إحدى ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر وبثت على التلفزيون..وقد طبعت مذكراته قبل سنوات فاشتريتها من المعرض الإسلامي الذي أقيم بمكتبة المركز الإسلامي، وكانت بعنوان ( في مسيرة الحياة ) وهو من بين الكتب القليلة جدّا التي أعدت قراءتها عدّة مرّات، بل وشعرت وأنا أقرأه بنور يشعّ منه لم أشعر به في كتاب أيّ مؤلف آخر، وأحسست أنّ الربانية التي تحدّث عنها في كتابه ( ربّانيّة لا رهبانيّة ) تجسدت فيه وتمثلت في سيرة حياته التي كانت كلّها لله..
وحتى لا يتشعب بي الحديث بعيدا عن الموضوع، أرجع إلى الكلام عن مكتبة الأستاذ فوزي مصمودي، كان فوزي مصمودي منذ عرفته شعلة من النشاط والعمل المتواصل، لا يهدأ ولا يني في طلب المعرفة وكنّا معا نقرأ كلّ شيء وأيّ شيء يقع بين أيدينا، ثمّ بدأنا نتخصص نوعا ما حيث تركزت قراءاتنا في الأدب والإسلاميّات والتاريخ وشيء من الاهتمامات العلميّة..
وكنّا نهتم بالمجلات والدوريّات الثقافيّة لاسيما تلك التي تأتي إلينا من المشرق العربي، وعلى رأسها مجلّة العربي وملحقاتها بعد ذلك، ومجلّة الدوحة والقافلة والخفجي والفيصل والجيل، كلّ هذه العنوانين كنّا نبحث عنها بكدّ واجتهاد..
وكنّا نتابع صدور أعداد هذه المجلات الرائعة بشغف بالغ، وكانت توزّع بالأساس في مكتبة الشركة الوطنيّة للنشر والتوزيع، وهي قريبة من ثانويّة الحكيم سعدان، فكنّا نمرّ بها صباح مساء انتظارا لوصول أيّ عدد منها، وبما أنّ هذه المجلات معظمها كان يصدر منذ سنوات طويلة، حتى قبل أن نعرف معنى الكتب والمطالعة، فإنّنا بدأنا نبحث عن أعدادها القديمة..
وكان فوزي أكثرنا توفيقا في الحصول على هذه الأعداد، فكنت دوما أجد في مكتبته الجديد منها فأستعيره ويبقى عندي ما شئت أن يبقى حتى أفرغ من قراءته، وأحيانا أجد أنا بعض الأعداد التي لم تقع بيده فيأتي ويأخذها من مكتبتي بغير حرج ولا كلفة ويقرأها.. كما كان أخي فوزي كثيرا ما يهاديني بالكتب التي يعرف أنّني أحبّها أو أميل إلى مطالعتها أكثر خصوصا تلك التي تهتمّ بالرواية والقصّة القصيرة..  

يتبــــــع ..

ليست هناك تعليقات: