محمد عبدالله الهادي
"أنت الذي يُعطي الحياة لكل البلاد، لأنك خُلقت نيلا في السماء، لينزل
لأجلهم، ويُحدثَ أمواجًا فوق الجبال مثل أمواج البحر، لتروي حقولهم التي في
قراهم، ما أجمل أعمالك يا رب الأبدية"
"صلاة قديمة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "هاهو الموعد قد حان يا مولانا.. هاهي خيول النهر تظهر.. آه.. ما
أروعها من خيـول!! .. هاهي تخرج من الماء للـبر.. إنها تعـدو بكل العـزم.. تعـدو سريعًا يا مولانا".
وأصدر الملك أمراً:
ـ "اتبعوها كلكم.. يا كهنة المعبـد وسحرة الملك
وكتبة القصر وجنـد مصـر".
قال الوزير:
ـ "لقد جرتْ كثيرًا يا مولاي.. مسافة لم تتخيلها عقولنا منذ أعوام
كثيرة.. سيعلو النيل ويجري الفيض حتى هناك".
كان الملك في شرفة قصره والوزير يشير بكفِّـه للبعـيد.
* * *
طاف المنادي بكل أرجاء المدينة:
ـ "يا أبناء الشعـب.. بأمر مولانا الملك.. هلمـوا إلي ساحة القصـر.. هلمـوا للاحتفـال"
كانت الساحة تغص بالرجال والنساء والأطفال؛ صفوف للعامة.. صفوف للخاصة.. وعلي المنصة العالية
كان الملك وحاشيته.
الكهنة يصلُّون صلوات الشكـر ويترنمون بأناشيـدهم البهيجة.
عندما جاء دور السحرة، عرضوا ألعابهم
وحيلهم التي أذهلتْ المشاهـدين.
وجاء دور الرقص والغناء؛ الراقصات يرقصن ويغنين للحب والفيض والخصب.
وأخيراً مدَّت الموائـد، أكل المدعـوون وشربوا الجعـة وضحكوا ودعـوا لملكهم بالصحة وطـول العمر.
قبل أن ينصرفوا، استدعى الوزير "جابي الخـراج"، قال له
علي مسمع من كل الحاضرين:
ـ "فاض النهر كما لم يفض من قبل.. اعمل حساباتك بدقَّة.. سيزيد الخراج
هـذا العـام عشـرة أضعـاف".
انحـنى "جابي الخراج" وهو يبسـط كفَّـه علي صـدره:
ـ "سمعـاًُ وطاعـةً يا سيـدي".
* * *
ما أجمل أيام السعادة وما أحلاها!، وما أقصرها أيضاً.. هكذا فكَّـر "مُحـب"
وسن فأسه يشق ثرى أرضـه. حملتْ "تي" ولـدها "سنوحي" وبللـتْ وجهه بماء النهـر، عـادتْ وجلستْ بـه تحت شجرة الجميز،
راحت تلاعب الصغير
وتهـدهـده، كانت قـد وهبته عندما ولدته ابنًا للشجرة المقدسة، والصغير؛
"النونا" كما
تدعـوه، لا يكف عـن الضحك وهـو يحـبو حواليـها، وهي تحثُّه بالغناء المنتظم:
ـ "تاتا تاتا.. خطِّي العتـبة تاتا".
وصمتتْ
"تي" فجأة، ودقَّ صدرها بعنف، عندما رفعتْ رأسها ورأت جنـد الوزير والكاتب والجابي يشقون الأرض جماعة صوب
"محب"، الذي كان منحنيًا يقتلع الحشائش الضارة بيديه من حول
النباتات. انتبه ورآهم فنهض واقفًـا يُرحب بهم.
ردُّوا علي ترحيبه باقتضاب، ثم فرد الكـاتب أوراقه ونظر
فيها، ثم رفع رأسه وباغـته بصوت عال سمعه الجميع:
ـ "يا محب.. إنك لم تـؤد ما عليـك من خَراج".
فوجئ للحظة بما لم يتوقع، ثم بسط كفَّـيه
الملوثتين بطين الأرض أمامـه:
ـ "لا يا سيـدي.. لقد أديتُ ما عليَّ في حيـنه!".
دقَّ الكـاتب بقلمـه البوص علي الأوراق، وهزَّهـا
أمامه، كأنه يقول له:
كل شيء مسجل هنا.. أتكـذب الأوراق يا رجـل؟.
نظر "محب" للأوراق بحـيرة ولم يفهـم
شيئاً، إنه لا يعـرف القـراءة والكتـابة .
أخرجه الجـابي من حيـرته وقال له:
ـ "خَراج الأرض والشجـرة؟".
تراجع "محب" للـوراء، وقال وهـو ينقـل
بصـره بين أرضـه وشجـرته ووجوه المحيطين به:
ـ "دفعتُ خَراج الأرض يا سيدي.. أمَّا الشجرة فقـد أكـل منها كل أبنـاء القرية.. آلاف
مؤلفة من النارنجات التي شققتها بيديَّ.. وراعيتها حتى طابتْ واستوتْ واصفـر لونها.. لم أمنع
أحـداً عنها.. هـذا يا سيدي غير آلاف أخرى من البـاط التي سقطتْ أو أخـذها إلـه الرياح".
قال الجـابي:
ـ "أنتم تأكلون وتنكرون النعمة ولا تشكرون مولانا الملك.. هل أصابكم
خير مثل هذا من قبل؟.. البلحة في السباطة طولها شبر.. القتاء طولها عشرون شبراً..
حبَّة الشعير تملأ كفَّك العريضة هذه يا ناكر النعمـة".
اقتاد الجند "محب" صوب داره، وهو يردد:
ـ " لستُ ناكرًا للنعمة يا سيدي.. لقـد دفعتُ ما عليَّ".
ورأتهم
"تي" وهم
يقتـادونه فاندفعـتْ صارخة:
ـ "اتركـوا زوجـي".
وكانت تنتحب وتضرب رأسها بقبضتها، عندما كان الجند يُخرجون
محتويات دارها أمام الجابي والكاتب الذي بـدأ يسجل في
أوراقـه:
(بقرة واحـدة.. خروفان..
عشرون مكيالاً من الشعير.. جرتان من الجعة.. زير للماء.. عشر دجاجات.. ست أوزات..
خمس بطات).
الطفـل الذي أفزعـه الصراخ كان يحبـو بعـيداً.
ـ "اتركـوا بيتـي وزوجـي".
وقال الجابي منهياً الأمر:
ـ "لن تُظلـم يا مُحب.. سنقسم هـذه الأشياء نصفين..
نصف لك والآخر للخراج".
حملوا ما أخذوه ومضوا، تركوه يتهاوى بقلة
حيلته أرضاً ، مكوراً قبضته تحت ذقنه بحزن، و
"تي" التي ازداد نحيبها لم تكن قـد كفَّتْ عن الصياح
والولولة، عندما صمتتْ فجـأة، وتلفتتْ حواليها بقلق،
ولم تر ولدها، ضربت صدرها متسائلة:
ـ "سنوحي؟.. أين أنت يا سنوحي؟.. ولـدي؟".
وجرتْ صوب النهـر.
* * *
ثلاث ليال حالكة السواد لم يبن فيها قمر، اغرورقتْ أعين النجوم بالدمع فشَحُب نورها، وثلاثة
نهارات بشموس سوداء، هل كانت الآلهة غضبى؟ "سنوحي" تأخـذه دوَّامات النهر
عنـد القاع، "تي" فقـدتْ رشدها، شقَّتْ ثوبها، لطختْ وجهها ورأسها
بالطمي، كانت تغرس أظافرها في طين الشاطئ مناديةً الماء الجاري:
ـ "سنوحي.. سنوحي.. رد عليَّ يا سنوحي.. أنا أمّـك".
"محب" مع الأقارب والجيران، يجوبون الشاطئ ذهابًا وعـودةً، بحثاً عن
الصغـير.
مع غـروب اليـوم الثالث، قال النهر لـ "سنوحي":
ـ "اذهب يا ولـدي لأمك المسكينة.. فقـد جفَّـتْ منـابع الدمع في عينيـها".
طفـا الطفل علي سطح الماء، فصاحوا لرؤيته:
ـ "سنوحي.. سنوحي".
وانتظمتْ أصواتهم يدعـونه:
ـ "حـوِّد يا طالب الدفـن.. حـوِّد يا طالب الدفـن".
مالتْ جثـة الطفـل نحو الشاطئ، رفعها "محب" بساعديه. ازداد جنـون
"تي" وهي تتحسسه غير مصدقة أنه مات.
وظهر الجابي فجأة ومعه الجـند، أزاحوا الناس عن طريقـهم وهم يحيطون بـ
"محب":
ـ "هوِّن عليك يا محب.. لابد أنك أغضبتَ النهر.. هاهـو ولدك قـد عـاد.. ادفع حق ولـدك الذي غرق في
النـيل".
لم ينبس "محب" المذهـول ببنت شفة، والأقارب والجيران يدفعـون عنه كي ينصرف
الجـابي.
* * *
نهض "محب" وتبعتـه "تي"، ألقيا نظرةً أخيرة، بأعين
مترعة بالدمع، علي كوخهما وقطعة أرضهما العطشى؛ الأعشاب الحمراء التي تغطي وجه الأرض حولهما صارتْ وحشية
كدغـل بري صغير ومهمل، مضيا تحت شجـرة الجمـيز الحزينة وطقطقتْ تحت أرجلهما أوراقها الجافة، كانت الرياح المحملة بذرات الرمال الصفراء تهب بعنف، وتضرب أغصان الشجرة فتـئن، وتلطـم وجه الأرض بقسـوة، وتخبـط باب الكـوخ، وتهـزُّه بأصوات مكتـومة تثـير في نفسيهـما
الحـزن والأسـى.
ألقيـا نظرةً علي قريتهما الصغيرة القابعة في حضن النهر، كانت شبه خاوية، هجرها أهلها
صوب المدينة، كان النهر غاضبًا فقيَّـد خيـوله في محبسها، لم تخرج هـذا العام، انخفض
فيضُه ومنـع ماءه، بانتْ قيعان التـرع والخلجان للعيـان، طفتْ أسماك النهر ميتة، لحقتْ بها حيوانات الـبر وطيور السماء،
وفسـد الزرع، وارتاع الناس بعـد أن نفـد الخـزين، كَـثُر اللصوص، أكلـوا تحت وطـأة الجوع الميتة
وأوراق الشجر بعـد أن مات البعـض جوعًا، زحفـوا صوب قصر المـلك تاركين ديارهـم وقراهـم:
ـ "أغثـنا يا مولانا.. الجوع يقتلـنا".
* * *
هاهو القصر العظيم
يلوح علي البعـد فوق ربوته
العالية، بأعمدته الطاعنة وجه الفضاء، وأبوابه الكثـيرة الموصـدة في وجـوه النـاس.
لكـزتْ "تي" كتف زوجهـا:
ـ "محب.. انظـر".
هالهما رؤية الكثرة الزاحفة صوب القصر، أناس كثيرون بدوا كأسراب النمل في جريانها ودأبها بحثاً عن طعـام، جنـود الملك الذين
يحرسون القصر، ويحيطون به إحاطة الخاتم بالإصبع، يقفون بالمرصاد للجمع الزاحف والزاعق:
ـ "أغثـنا يا مولانا الملك .. الجوع يقتلنا.. الجوع يقتلـنا".
"محب" الذي أصابه التعب جلس علي صخرة قرب النهر، يتأمل الجوعى والقصـر والجنـد والنهـر، ودَّ أن يشاركهم
وهم يزيحون الجنـد ويقتحمون أبواب القصـر، هـو جائع وذهنـه مشوش يخلط الحاضر
بالماضي، و"تي" لا تكف عن البكـاء.
"أغثنـا يا مولانا.. الجوع يقتلـنا".
الجمـعُ الزاحـف يتعاظـم كتـيَّار جارف علي أبواب القصـر.
رئيس الجند الذي جرى للقاعة وانحنى أمام الملك كان يردد في ذعـر:
ـ "الأمر خطـير يا مولانا.. الأمر خطـير".
تدحرجتْ الكلمات في جوف الملك ولم يـرد.
ذُعـر الأعوان: الوزير والكاهـن والكـاتب والسـاحر الأعظـم.
* * *
خرج "محب" من جب الماضي علي الأصوات الزاعقـة:
ـ "أغثـنا يا مولانا.. الجوع يقتلـنا".
رآهم ـ بوطأة الجوع الأعمى ـ يقتحمون القصر، يزيحون الأبواب عن مواضعها، يندفعون بعشوائية، يعيثون في كل
الأرجاء بحثًا عن طعام، يحطّمون وينهبون كل ما تطوله أيديهم.. سـأل واحـد :
ـ "أين الملك؟".
وردَّ آخـر:
ـ "لقـد هـرب الملك وأعـوانه من سرداب سرِّي بالقصـر".
وضع "محب" يـده علي كتف "تي"، كانا ما زالا علي الصخرة المطلة علي القصر يتطلعان بدهشـة، يتعجبان من الدنيا
وأحوالها، ينظران للنهـر الغاضب.
وانتبه "محب"، ألجمته المفاجأة، لم يصدق عينيه، وضع كفَّه فوقهما كي تنجلي الصورة وتبـين
أكـثر:
"كانت خيـول النهـر قـد خرجتْ من محبسـها"
رآها تخرج من المـاء للـبر.. تعـدو بكل العـزم..
تعـدو.
لا يدري من أين
جاءته القـوَّة التي جعلتـه يهـبُّ واقفـاً؛ القـوَّة التي سرتْ في أوصاله المنهـكة وجعلته يجري صوب النهر، وقـد انطلق لسـانه صائحًا في جمـوع الناس، بصوت ملـوّن بالفرحـة:
ـ "الخيـول.. خيـول النهـر.. لقد عـادتْ خيـول
النهـر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة القاهرة ـ 30 مارس 2001 م ـ مجلة المحيط الثقافي إبريل 2007 م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق