2010/07/18

وتواريت قليلا، قصة لمحمد عبدالله الهادي



وتواريت قليلا


قصة قصيرة
بقلم محمد عبدالله الهادي


مهداة إلي مكاوي سعيد

كنت اقلب متصفح النت علي حاسوبي،‮ ‬مررت علي صفحات الثقافة والأدب للنسخ الالكترونية للصحف سريعا،‮ ‬توقفت أمام قصة لمكاوي،‮ ‬كانت عن طفل تتفتح مشاعره الحميمة نحو جارته الصغيرة،‮ ‬يكتب لها رسائل حب ساذجة يدسها خلف مقعد مصعد المنزل دون‮ ‬أن يجرؤ علي البوح لها،‮ ‬ويتابعها من خلف زجاج باب شقته المصنفر وهي تدخل شقتها المواجهة لشقته،‮ ‬وكانت أختها الكبري التي استشعرت هذه العلاقة تناصبه العداء وترصده في‮ ‬غدوه ورواحه للشقة‮..‬
جاءت زوجتي ووضعت بجانبي كوب شاي وقالت‮:‬
‮- ‬مش قلتلك‮.. ‬أنا سمعت صراخا في الشقة التحتانية بالليل وأنت مش هنا؟
قلت لها‮:‬
‮- ‬لا‮.. ‬خير إن شاء الله‮.‬
‮- ‬أم نادر تزحلقت علي بلاط الحمام ووقعت علي ظهرها‮.‬
‮- ‬ياساتر يارب‮.. ‬وأولادها؟
‮- ‬غادة كانت نايمة ونادر برة‮.. ‬تصور من لحقها؟
‮- ‬من؟
‮- ‬أم ميدو وجوزها‮.‬
كنت قد نسيت الخلاف بين أم نادر وأم ميدو فذكرتني هي‮. ‬كانت الأخيرة قد شاهدت الأولي تكنس الطرقة وتكوم التراب أمام بابها،‮ ‬ولما عاتبتها قالت لها‮: »‬أنت نفضتي السجاد إمبارح وسبتي التراب قدام بابي‮«.. ‬وتطور العتاب لشجار وخصام‮.‬
رشفت من كوب الشاي وحاولت العودة لجو القصة،‮ ‬كان العداء بين الأخت الكبري والولد الحبيب قد تنامي،‮ ‬حبيبته الصغيرة لم تصعد بالمصعد هذه المرة‮.. ‬بل صعدت أختها التي تكبرها بسنوات قلائل وتكرهه‮. ‬فتكت بحشوة كرسي المصعد حتي وجدت رسالته،‮ ‬أخذتها ودخلت بها إلي مسكنها‮ ‬غاضبة‮..‬
تعاظم خوفه وانساب البول رغما عنه ملوثا بنطاله وجوربه وحذائه‮..‬
كانت زوجتي قد انشغلت قليلا بترتيب بعض كتبي المبعثرة حول حاسوبي،‮ ‬أقتربت مني وهي تداري ضحكتها بيدها‮:‬
‮- ‬أبو ميدو شالها م الحمام وهي بقميص النوم‮.‬
‮- ‬ياخبر‮!.. ‬وأم ميدو؟
‮- ‬أنت نسيت إنها حامل‮.. ‬ومش تقدر تشيل حاجة‮.‬
وضحكت مرة أخري وأردفت‮:‬
‮- ‬كانت مكسوفة وقالت إنه زي أخوها‮.‬
سألتها وقد تذكرته‮:‬
‮- ‬وأبونادر؟
‮- ‬كان عنده حصة درس‮.. ‬ولما عرف جه بسرعة،‮ ‬وقال لها قدامنا وهو متضايق‮:‬
من قالك تمسحي الحمام؟
وأخرج تليفونه من جيبه يشوف رقم دكتور من اللي بيدي أولادهم درس ييجي يشوفها‮.‬
قلت بتأفف‮:‬
‮- ‬ياساتر‮.. ‬طول عمره شحيح ويعبد القرش‮.‬
أبو نادر يطلع لشقتي التي تعلو شقته ثلاث مرات اسبوعيا،‮ ‬يعطي ابني احمد‮ - ‬الذي هو في عمر الولد الحبيب بقصة مكاوي‮ - ‬درسا خاصا،‮ ‬وكان قد طلب‮ - ‬دون مراعاة للجيرة،‮ ‬رفع أجره ثلاثين جنيها مرة واحدة عن أجر العام الماضي،‮ ‬وعندما لاحظ ترددي في القبول وعدم اقتناعي بزيادة ليس لها مبرر،‮ ‬أبدي تسامحا‮ ‬غير حقيقي،‮ ‬يحمل في طياته مساومة مقيتة كتاجر يدلل علي سلعة هو الكاسب فيها في كل الأحوال‮:‬
‮»‬عموما أحمد زي ابني نادر‮.. ‬اللي تقدر تدفعه ادفعه‮.. ‬احنا جيران ورقبتي سدادة‮«.‬
اضطررت أن أرفع أجره‮.‬
حل أحمد في عقلي مكان الولد الحبيب،‮ ‬الولد كبر حقا،‮ ‬وقلت مصيبة أن يكون وقع في‮ ‬غرام بنت من جيران العمارة بنت‮.. ‬أي بنت؟‮.. ‬وتذكرت‮ ‬غادة بنت أبونادر؟‮!‬،‮ ‬مصيبة سوداء ان تكون هي‮!‬
المنزل سبعة طوابق في شقتين،‮ ‬ولاتوجد بنت‮ ‬غيرها تماثله في العمر،‮ ‬لايوجد مصعد ولا حاشية،‮ ‬ما الذي يمنعه من ترك رسائله علي أي بسطة للسلم عند قدومها؟
عدت بسرعة لشاشة الكمبيوتر ومسحتها‮ ‬


بعيني،‮ ‬وقفت عند السطر الذي توقفت عنده‮:‬
‮»‬لم يجرؤ الصبي علي الذهاب لأبيه طوعا،‮ ‬وتطوع أخوته الكبار بحمله إليه كاتمين ابتسامات التشفي‮. ‬كانت الرسائل في حجر أبيه،‮ ‬وأخت حبيبته الواقفة قبالته تمزق كل رسالة بعد أن يتأملها أبوه‮«.‬
انقطعت العلاقة بين الحبيبين فحزنت،‮ ‬وتذكرت ابني أحمد فغيرت رأيي وقلت‮: ‬أحسن
‮»‬مات الأب وتزوجت أخت حبيبته الكبري برجل ضئيل مسن أقام معهم في مسكنهم‮.. ‬لم يدعه أحد لحضور حفل زفاف أخت حبيبته الكبري ولا حتي حفل زفاف حبيبته اللاحق،‮ ‬وان كان اخوته بلا استثناء قد حضروا كلا الفرحين‮. ‬أخت حبيبته لم تكن تصعد معه بالمصعد أبدا‮.. ‬ان وجدته ينتظره تباعدت أمتارا حتي أوشكت ان تلتصق بباب المنزل الخارجي،‮ ‬ثم تدير له ظهرها حتي يصعد‮.. ‬وان كانت بانتظاره ولمحته خلفها،‮ ‬اسرعت بالدخول وهي تغلق الباب في وجهه بصوت مدو‮«.‬
رشفت آخر حسوة شاي،‮ ‬أنهت زوجتي بعض مشاغلها الصغيرة وعادت تأخذ الكوب‮.. ‬تمهلت وقالت‮:‬
‮- ‬أحمد‮..‬
قاطعتها وقد لون الخوف صوتي وأنا أنتبه لها‮:‬
‮- ‬ماله؟‮.. ‬حصل حاجة؟
وكدت أسألها‮: ‬شفتيه مع بنت أبونادر؟
لاحظت لهفتي واستشعرت خوفي فقالت‮:‬
‮- ‬مالك خايف كدا‮.. ‬نادر جه معاه امبارح ووصل انترنت من عندنا‮.‬
بان الانزعاج علي وجهي،‮ ‬وسألت مستنكرا‮:‬
‮- ‬نادر‮.. ‬ونت من عندنا؟‮!‬
قالت‮:‬
‮- ‬أيوه‮.. ‬فيها ايه؟ الجيران لبعضهم‮.‬
قلت لها‮:‬
‮- ‬لاياهانم‮.. ‬فيها كتير‮.. ‬وأنت مش عارفة حاجة‮.‬
غادرتني لتقطع علي الاسترسال وهي تقول بتأفف‮:‬
‮- ‬يوووه‮.. ‬ح تعمل من الحبة قبة‮!‬
‮»‬كانت الليلة شتوية والمطر الملوث بالوحل الملتصق بورق الشجر يتساقط برتابة‮.. ‬وهو يحاذر ان يسقط في حفرة،‮ ‬أو يقترب من أحد أعمدة الإنارة المفتوحة بطولها وأسلاكها الكهربية تومض علي فترات،‮ ‬ودخل إلي بهو المنزل واستدعي المصعد‮.. ‬وهو في منتصف المسافة‮.. ‬تصاعد إلي أذنه خطوات مهرولة تجتاز الشارع،‮ ‬ثم تتوقف فجأة في بهو المنزل‮.. ‬التفت بالتزامن مع نزول المصعد‮.. ‬كانت أخت حبيبته الكبري تتراجع ببطء إلي ركنها الأثير‮.. ‬لكنها لم تدر له ظهرها هذه المرة‮.. ‬فقط أشاحت بوجهها عنه‮.. ‬كانت ملابسها مبللة وجسدها يرتعد من البرد‮.. ‬تجاهلها وصعدت،‮ ‬لكنه بمجرد دخوله مسكنه داهمه صوتها الحاد الصاعد من أسفل يصرخ بجنون‮«.‬
توترت أعصابي،‮ ‬لقد انقطع النت فجأة وضاعت الصورة من الشاشة،‮ ‬حاولت تخليص أحمد من الصبي الذي يتراوح فيه وفشلت،‮ ‬فزعقت لزوجتي‮:‬
‮- ‬شفتي ياهانم‮.. ‬اللي أنا عامل حسابه حصل‮.‬
جاءت علي مهل ونظرت لي وسألت بلوم‮:‬
‮- ‬خير؟‮- ‬أهو النت قطع‮.. ‬أحمد يوصل نت لنادر والتحميل يزيد والنت يقطع‮.. ‬وحضرتك تقولي جيران‮!‬
استهانت بكلامي ولم تعلق،‮ ‬فاغلقت الجهاز‮ ‬غاضبا ونهضت‮.‬
مرت أيام احتلت فيها القصة رأسي،‮ ‬وتراوحت هواجسي بين تلصصي علي ولدي أحمد تارة،‮ ‬وبين البحث عن قصة مكاوي لاكمل قراءتها وأعرف نهايتها تارة أخري،‮ ‬وكلما حاولت الرجوع لنفس الصحيفة والبحث عنها،‮ ‬أجد عددا جديدا،‮ ‬ولا أرشيف للأعداد السابقة‮.‬
مراقبتي لأحمد لم تسفر عن شيء يؤكد هواجسي‮.‬
طلبت مني زوجتي أن أرافقها لزيارة أم نادر وواجب الاطمئنان علي الجارة المصابة،‮ ‬قلت لها‮ »‬روحي أنت‮.. ‬أنا مش فاضي‮« ‬وسقت لها أسبابا واهية‮.‬
علي صفحات مواقع البحث الشهيرة كتبت عبارة‮ »‬قصة الأخت الكبري‮« ‬مرة،‮ ‬واسم مكاوي سعيد مرة أخري،‮ ‬نتائج البحث جاءت في ثوان بقصص اخوات كثيرات ليس من بينهن أختنا الكبري‮.‬
فكرت في البحث عن رقم تليفونه اطلبها منه‮.‬
مضت أيام كثيرة نسيت فيها أمر القصة،‮ ‬لكنني في بعض الأحيان كنت أتذكرها،‮ ‬فأحاول تخيل نهاية لها،‮ ‬أضع نفسي مكان المؤلف،‮ ‬فأخرج بنهايات كثيرة لاتحوز رضاي‮.‬
فجأة،‮ ‬وبدون توقع،‮ ‬وأنا اتصفح المواقع الأدبية،‮ ‬وجدت القصة،‮ ‬طرت فرحا،‮ ‬رحت أمر علي سطورها بسرعة‮:‬
‮»‬سنوات مرت أكثر وأكثر وما عدنا نلتقي أنا وأخت حبيبتي لابالصعود ولا بالهبوط ولا حتي في الشرفتين المتجاورتين‮.‬
أخت حبيبتي الكبري والتي تكبرها بسنوات قليلة‮.. ‬ماتت أمس‮..‬
أختي التي تكبرني بعام تركت أولادها وزوجها ولازمتهم‮.. ‬تشارك بهمة وحماس اعداد الولائم للمعزين،‮ ‬وغسل الآواني والملابس وفاء لجارتها وصديقاتها‮.. ‬وأنا بغرفتي وحيدا بعد كل هذه السنوات‮.. ‬انسلت أختي من مسكنهم ليلا في اليوم التالي للعزاء‮.. ‬واقتحمت علي‮ ‬غرفتي‮.. ‬جلست أمامي متثاقلة وأزاحت بيدها الضخمة المجلة التي كنت أتصفحها،‮ ‬ثم ألقت أمامي بسلسلة ذهبية تنتهي بحلقة بلاتينية‮.. ‬وأومأت إلي بأن اتلمسها‮.. ‬تفحصت الحلقة،‮ ‬كانت بها صورة شخصية باهتة لزوج الراحلة خلف زجاج يكاد يكون معتما‮.. ‬قلبت شفتي متسائلاً‮.. ‬أمسكت أختي الحلقة وفتحتها بعنف،‮ ‬فسقطت صورة كانت منزوية خلف صورة الزوج الراحل‮.. ‬كانت الصورة راقدة علي الأرض بين قدمي‮.. ‬ولم أكن بحاجة لتأملها‮.. ‬كانت صورة لفتي في السادسة عشرة من العمر‮.. ‬وكانت صورتي‮.. ‬أْعادت أختي إحكام الحلقة وقامت‮ ‬غير مبالية بقدمها التي تطأ صورتي وقالت وهي تمضي‮..‬
‮- ‬هاروح أسلمهم بقية الصيغة‮.. ‬ياريتهم ما خلوها في عهدتي‮«.‬
شملني حزن‮ ‬غامر والصبي الذي صار رجلا كبيرا يخرج رسائله القديمة التي كان قد أعاد لصقها بمهارة ويلقمها للنار‮.‬
أشفقت علي الولد الذي صار رجلا دون أن يتزوج،‮ ‬دون أن يدرك الحقيقة إلا بعد فوات الأوان‮.. ‬وقلت‮:‬
كلنا هذا الولد‮.‬
وشملني حزن علي الأخت الكبري‮.. ‬وقلت‮:‬
كلهن أخوات لها‮.‬
‮> > >‬
مرت أيام كثيرة نسيت فيها القصة،‮ ‬وانشغلت‮ ‬بقصص أخري من قصص الحياة‮.‬
لكنها اليوم انبثقت أمامي بتحد جديد،‮ ‬كانت كمن تبحث لنفسها عن نهاية أخري داخل رأسي،‮ ‬نهاية لايصنعها خيالي حسبما يهوي،‮ ‬بل تصنعها الحياة‮..‬
كنت عائدا من عملي بعد الظهر،‮ ‬وقبل ان أجتاز باب المنزل،‮ ‬لمحت أحمد واقفا مع بنت علي البسطة المجاورة لمدخل السلم،‮ ‬كانت البنت هي‮ ‬غادة بنت أبونادر،‮ ‬هكذا عرفت،‮ ‬بيده المترددة نحوها ورقة مطوية‮. ‬وكان وجهاهما المتقابلان،‮ ‬الضاجان بحمرة الصبا،‮ ‬يقولان الكثير دون صوت أسمعه‮..‬
توقفت وتراجعت وقررت‮ ‬،‮ ‬عدت للشارع بسرعة قبل أن يرياني‮..‬
تواريت قليلا بجوار جدار المنزل قبل أن أعود مطمئنا علي أنهما قد صعدا السلم باقدام ثابتة‮.‬

نقلا عن جريدة أخبار الأدب