2015/04/03

زمّار الحيّ الذي أطربني.. بقلم: عبد الله لالي



قراءة في كتاب:


( نظريّات القراءة في النّقد المعاصر )
حبيب مونسي
بقلم: عبد الله لالي
زمّار[1] الحيّ الذي أطربني..

قِيل في المثل العربي الشّهير ( زمّار الحيّ لا يُطرب )، ذلك إذا غاب الإنصاف وملأ القلبَ حبُّ الانجذابِ إلى الغريب دون القريب، وكانت صِلَة الرَّحم مبتورة، لكنّا بحمد الله لسنا من أولئك.. وإنّا لَيُعجِبنا زامرنا ونَتِيه به فخرا، لاسيما إذا حبّر لنا عزفه تحبيرا..
الدّكتور حبيب مونسي[2] أديب وناقد من طراز خاص، لم تُعشِ بصره نظريات النّقد الغربيّة الحديثة ببهرجها وتبرّجها الفاتن، بل نَظَر إليها نظرة المستعلي المعتدّ بتراثه العربي الزاخر بقيمه الفنيّة، وعطائه الفكري والإبداعي الثريّ..
وهو يرى أنّ النظريات الغربيّة نشأت في بيئة وظروف تختلف تماما عن البيئة والظروف العربيّة، وبالتّالي فإنّه من الخلل والخَطَل أن نأخذَها بقضّها وقضيضها، ونحاول تطبيقها أو إجراءَها على النّص الإبداعي الذي نشأ وتبرعم في بيئة عربيّة، ومن طينة عربيّة مسلمة، مختلفة المشارب، مختلفة المكوّنات والدّوافع.
وقد عثرت له بجملة من الكتب النقديّة الرّائعة التي تحاول أن تؤسّس إلى نظريّة عربيّة ومفاهيم نقديّة على الجادة الواضحة تسير، لا تذوب في منهج الآخر ولا تكون تذييلا سيئا ورديء الخطّ على تدويناته، التي طار صِيتها في الآفاق وتلقّفَها النّاس كأنّها الوحي المنزّل، والقول الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقد اخترت أحدَ كتبه القيّمة لأقرأه بصوت مرتفع وأُشرك معي غيري من القرّاء في الإبحار بين دفتيه، مستطلعا رأيا مختلفا تماما على جملة الآراء النقديّة التي تطغى على السّاحة الأدبيّة، مسبّحة بحمد النظريّة الغربيّة ومهلّلة لها..
الكتاب تحت عنوان (نظريات القراءة في النّقد المعاصر )، منشورات دار الأديب 2007 م. يتألّف من 271 صفحة من القطع المتوسّط، قسّمه الكاتب إلى خمسة فصول في كلّ فصل يعالج قضيّة من القضايا النّقديّة الجوهريّة، وقد تحدّث في الفصل الأوّل عن ( فعل القراءة ) ثمّ تحدّث عن (سوسيولوجيا القراءة ) في الفصل الثاني، أمّا في الفصل الثالث فقد خصّصه لـ ( سيميائيّة القراءة ) وكان الرّابع ( جماليّة القراءة ) وختم فصول الكتاب بـ ( التلقي والحدث القرائي ). و بسط مهجيّته في تأليف الكتاب في مقدّمته، وأبان عن غرضه من تأليفه والغاية منه.
يقول الدّكتور حبيب مونسي في مقدّمة كتابه ( نظريات القراءة في النّقد المعاصر ):
"..إذا كنّا في مجال الأدب " نُرَدِّد " كثيرا من هذه النّظريّات ترديدا آليا، خاليا من الوعي الذي يغوص عميقا في الجزور المؤسّسة للنظريّات، ثمّ نسارع لإجرائها مناهج وطرائق لتفسير النّصوص، في سذاجة كاملة، تجعلنا نَفْصِل فصلا بين الأدبي والدّيني. ولا نشغل بالنا أبدا بالتفكير الهادئ في إمكانيّة كون الأداة التي نتعامل معها إنّما صِيغت في حقل غير الحقل الأدبي.." 
كثيرا ما يعزف المتغرّبون على نغمة الفصل بين الدّين والمناهج الأدبيّة والنّقديّة، ويَفصلون بين الدّين والإبداع الفنّي، سواء كان شعريّا أو نثريّا، ويَفصلون بين الدّين والسّياسة وبين الدّين والاقتصاد وبين الدّين ومناهج التعليم، ويزعمون أيضا أنّ التعامل مع ( المقدّس ) يصادر الاجتهاد ولا يسمح بالتجربة والخطأ والمحاولة التي قد تفضي إلى اكتشاف جديد لم يُسبق إليه، وفي نهاية المطاف يُبْعَد الدّين كلّه عن الحياة ويحصر في زاوية ضيّقة جدّا هي المسجد..
والغريب أنّهم يَغفلون أو يتغافلون عن المناهج الأدبيّة أو النّقديّة الغربيّة التي يطبّلون لها ويزمّرون ويقيمون لها طقسا من القداسة والتعظيم؛ بأنّها مناهج – في كثير من الأحيان – كان مبعثها الدّين في الغرب، وولدت بين أحضان الكنيسة، أو وَضَعها رجال دين بالأساس، وقابلتها مناهج أخرى – كردّ فعل عليها – وضعها أناس كفروا بالدّين وأرادوا أن يُبعدوا سطوة رجاله عن الهيمنة على الحياة..
تلك هي بعض المعاني أو ما يشبهها، التي أراد الدّكتور حبيب مونسي أن يشير إليها في مقدّمة كتابه ( نظريات القراءة في النّقد المعاصر )، فهو يضيف قائلا:
" ..وأنّ كثيرا من مصطلحاتها، بل كلّها إنّما نُحتت من ذلك الحقل ( يقصد الحقل الديني )، وأُشبعت برؤاه وما دورانها في الحقل الأدبي إلا من قبيل الترويض الذي يسهّل علينا قبول التّعدد في القراءات.."
ولا يكتفي المؤلّف بالنّقد والإشارة إلى مكامن الخلل في تلقّف النظريات الغربيّة بعماية وتسليم كأنّه تسليم الدّراويش، وإن كان أقطابه يدّعون التلبّس بنظريّة التنوير والحداثة، ومسآلة الذّات والبحث عن الجديد باستمرار، تلك جعجعة بلا طحين، يتنكرون لقديمهم القريب ( النّاصع )، ويحفلون أيّما احتفال بالقديم الغربي الضارب في القدم ( التارث اليوناني والإغريقي الموغل في الوثنيّة والخرافيّة، والمتوغّل في الأسطورة إلى حدّ جعلها شعارا ودثارا، قلت لا يكتفي المؤلّف بذلك بل يسعى إلى البحث عن نظريّة عربيّة خالصة تستنبط من نظريّة القراءة العربيّة الإسلاميّة منهجها وآلياتها، ويخطو في ذلك خطوة بعيدة المدى، راسخة في الحقل التنظيري والتطبيقي معا..

النّاقد ( ابن جلا وطلاع الثنايا ..)
في ختام مقدّمة كتابه (نظريات القراءة في النّقد المعاصر )؛ يرسم لنا الدّكتور لحبيب مونسي الملامح الواضحة لحقيقة النّاقد الأدبي، دون أن يضع العمامة أو يقول: " أرى رؤوسا قد أينعت "، بل هو صاحبها حتّى ولو لم تَيْنَع ولم يحن قِطفاها..
فالنّاقد الحقّ.. النّاقد الحصيف البصير بمكامن الجمال والإبداع السّامي، يأخذ بيد النّاشئ وهو لا يزال في أطوار نموّه الأولى، كما يصاول البارعَ المقتدرَ في أعلى مقامات عطائه ويكفكف من غلواء غروره، إن مال به القلم ذات اليمين أو ذات الشمال، فهو شاعر مع الشّاعر وقاصّ مع القاصّ، ومنشئ لخلق من الإبداع جديد مع المنشئين، لا مجرّد صدى لإصوات هائمة في سماء الكتابة والقول..
يقول الدّكتور لحبيب مونسي في الصّفحة الثامنة من ختام المقدّمة:
" ..ذلك النّقد الذي كان يعرف كيفيّة احترام النّصوص، واحترام أصحابها والإقرار لهم بالفضل والسّبق.. ذلك النّقد الذي كان النّاقد فيه " درجة " لا تُنال بالتنمنّي والتحذلق، وإنّما هي تتويج لسنين من المعاشرة للنّصوص، وشحذ مستمر للذّائقة، وتدريب لا يكاد يفتر للحسّ.."
فهل من سبيل – وقد اتضحت الصورة – إلى نقد عربيّ أصيل غير مستلب، ولا مائع في الثقافة الغربيّة وغائص فيها حدّ الأذقان..؟
الجواب تبدّت ملامحه في الفصل الأوّل من الكتاب:
فعل القراءة..
هذا النّازل من السّماء تكليفا وتشريفا ( اقرأ )، قبل أن تنفتح عليه أوربا ما بعد القرون الوسطى بعد ذلك بقرون، قد أدهشتني قراءة الدّكتور حبيب مونسي لهذا الفعل، وقرأت فيها مالم أقرأه عند غيره من قبل، فليس الفعل الذي احتضنه غراء حراء، الغار المبارك، أوّلَ لحظة نزول الوحي يقتصر على الأمر بقراءة النّصوص المكتوبة وحسب، وما أقلّها في تلك الفترة.. ! بل يتعدّاه إلى قراءة كلّ الإشرات والرّموز التي لها دلالة ومعنى، وقراءة كلّ صفحة الكون المفتوحة، قراءة تأمّل وتفكّر..
ويحضر هنا العقّاد حضورا قويّا، إذ يستدعيه الكاتب من خلال كتابه ( التّفكير فريضة إسلاميّة ) ليكون كذلك قارئا ممتازا لهذا الفعل ( اقرأ ) لفظا ومدلولا، كما يحضر الجاحظ وتحضر معهما المرجعيّة العربيّة التي بلغت شوطا كبيرا في فهم معنى ومدلول القراءة الواسع، دون الاقتصار على الفهم النّصّي الظاهري، ويضيف الكاتب قائلا:
" وكلّ عقل سويّ إذا ألزم نفسه أمر " القراءة " كان بمقدوره أن يطّلع على " الكتابة الكونيّة " وذلك لاستحالة اللّفظ احتواءها
" وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ "
وتَحَدَّثَ الكَاتِبُ بَعْدَ ذَلِك عَنْ تَعَدُّدِ القِرَاءَةِ وجمعانيتها مستدلا بمرتاض في ردّه على غريماس حيث قال:
" ذلك ما لمحناه في ردّ " عبد الملك مرتاض " على غريماس " وكورتيس " حين اعترف غريماس بإمكان تعدد القراءات في النّص الواحد من خلال إيزوطوبياته المتعدّدة .." صفحة 27 من الكتاب.
وهنا لي وقفة لطالما حيّرتني وأخذت منّي حيزا من الزمن المعتبر للتفكر " أيمكن للنّص أن يقرأ على وجه ثمّ يقرأ على نقيضه، ويكون الكاتب قصد الأمرين معا .. ورضي نهج القارئ لتلك القراءة المتناقضة ؟ !  
أو بمعنى أدق أيمكن للنّصّ أن يكون حمّال أوجه ..؟ وهل الكاتب عمد إلى تحميل نصّه بكلّ تلك المعاني عن عمد ..؟
أنا لا أرى إلا أنّ الكاتب قصد لمعنى محدّد، ربّما تختلف الأنظار في إدراك تفاصيله، واستكشاف جمليّاته، لكن هو معنى واحد في كلّ الأحوال، أمّا من يقول:
" أنا أكتب وعلى القارئ أن يفهم من ذلك ما يشاء ! " فذلك في حقيقة الأمر لم يكتب شيئا، أو يكون قد كتب بعض الهذيان، ويريد من القرّاء أن يستخرجوا من نصّه أشياء ذات دلالة وذات قيمة، وهذا لعمري هو العبث بعينه، والغشّ للقارئ، وفي هذا المقام لابدّ أن أسوق كلاما ذهبيّا جاء في سياق حديث المؤّلف ص 25 حيث قال:
" وليس ذلك تقييد للفعل الإبداعي المتجدد للنّصّ بقدر ما هو حيطة منهجيّة تقتضيها أمانة الفعل القرائي وعدم التّقول على النّصوص.. وإلّا لكنّا مجبرين على اعتبار النّصّ – كلّ النّصّ – بنية فارغة، خواء وعلى القراءة أن تحشوها بما تشاء .."
وفعلا، النّص له رسالة وفكرة ما، يريد أن يوصلها، قد تكون تلك الرّسالة أو الفكرة ذات ثراء وغنى ومتعدّدة الجوانب، متشعبة الدّلالات فيفهم منها القرّاء كلّ منهم على قدر ثقافته وفهمه، أمّا أن لا يقصد المبدع إلى أيّة فكرة كانت، إنّما يكتفي بالمثيرات اللفظيّة والصوتيّة، والتلوينات الجماليّة، فهذا لا يُقبل منه، ولا يضيف شيئا إلى عالم الإبداع، غير مِعْول هدم يكسر به كلّ الأسس الفنيّة السّائدة، دون تقديم بدائل حقيقيّة..
ثمّ تناول الكاتب نظريّة المتعة واللّذة في القراءة حيث يقول أصحاب نظريّة المتعة أنّها أرقى من نظريّة اللّذة.. وبسطها بسطا منهجيّا مدعوما بجدول توضيحي، يفرّق بين ( نصّ المتعة ونص اللّذة ).. ورغم دقّة المنهج النظري لكن لم ترقني كثيرا هذه النظريّة، إذ كأنّي بها مثل النّص الحداثي الذي يلعب على حبل المصطلحات، وأدوات الثورة والهدم والبناء، والتجديد وكسر الطابوهات والسّائد وفي النّهاية لا هم تركوا لنا القديم بروعته وجماله الأصيل ولا هم قدّموا جديدا باهرا آسرا، يصحّ أن يقال عنه أنّه إبداعٌ متجدّد لا يبلى على الزمن.. وتمنّيت لو أنّ المؤلّف أعطى رأيه في آخر الفصل حول هذه النّظريّة ولكنّه اكتفى بجملة من التساؤلات علّها تحفز على البحث والدّراسة..

النّص وترابطاته..
ذكرتني مقدّمة الفصل الثاني من كتاب (نظريّات القراءة في النّقد المعاصر ) للدكتور حبيب مونسي؛ بقصّة قبيلة بني أنفِ النّاقة الذين كانوا يَستَنكِفُون من الانتساب إلى قبيلتهم بهذا الاسم، لأنّ فيه شيئا من الحطّة والمهانة، إلى أن مدحهم الحطيئة الشاعر فقال:
قـومٌ هـمُ الأنـفُ والأذنـاب غيـرهـمُ *  * ومنْ يسـوِّي بأنـف الناقـةِ الذّنبـا
فصاروا يفتخرون بذلك الاسم، ولا يَسْتَخْفُونَ به..
بيتٌ واحد من الشّعر قد يحطّ من شأن قبيلة ويرفع من أخرى، إنّه الإعلام ودوره الخطير في المجتمع، قد يجعل من الحبّة ( قبّة ) كما يقال، ويحوّل الأَسْوَدَ أبيضَ، والأبيضَ أسودَ، وكم من إبداع عظيم ومبدعين رائعين غَمَطَهُم الإبداع حقّهم، ووقفت وسائل الطَّبع والنّشر والإشهار عقبةً كؤودًا ضدّهم، وذاع صِيت غيرهم ممن هم دونهم شأنا وأقلّهم إبداعا وأضعفهم مَلَكَةً..
بدأ الدّكتور حبيب مونسي الفصل الثاني من كتابه بداية عاصفة، وبمقدّمة قويّة جدّا ظهر فيها قلمُ النّاقد بشكل بَيِّن وجليّ، وشخّص الدّاء تشخيصا دقيقا وموفّقا.. وأشار إلى أمر هام للغاية وهو دور الدّعاية والإشهار والنشر والإعلام في رواج الإبداع، سلبا وإيجابا وقال أنّ كثيرا من النّصوص الإبداعيّة وكثيرا من المبدعين، ليسوا بشيء، لكنّ الإعلام نفخَ فيهم من روحه الزّائفة، وكساهم بهرجا خدّاعا، وأوهم جمهور القرّاء بأنّ فيهم حياةً وما هم بأحياء، في الوقت الذي يغيب فيه النّاقد الجاد، النّاقد النزيه، أو يتمّ تغييبه عن عمد. يقول المؤلّف في ص 43 :
" بل الأخطر من هذا كلّه تُزيف القيم فتجعلها مقلوبة لا تخضع إلا لمقياس الدّعاية المحكومة بخيوط ديماغوجيّة جوفاء أو سياسويّة مغرضة، والكاتب والقرئ بين هذا وذاك لا يعبآن بشيء في انعزالهما عن المؤامرة التي ينسجها قانون السّوق والرّبح.
فما قيمة حكم نقدي يصدر – وهو في عمى – عن هذه الكولسة البغيضة التي يتمّ فيها إعداد الجمهور وبناؤه، وقولبته عاطفيّا، بل إرغامه على استهلاكيّة مسلوبة الإرادة ؟ وما قيمة لذة القراءة ومتعتها.. "
لجمال المقدّمة وقوّتها وددت لو نقلتها كلّها، فهي ذات قيمة نقديّة نفيسة، وتفسّر ظاهرة انصراف النّاس عن الأدب والإبداع، وفي الوقت ذاته تفسّر زهد بعض الكتّاب في مواصلة الكتابة والتأليف، لأنّه لا معنى لأن يؤلّف الكاتب ويبدع، ويقدّم للنّاس رضابا مصفَّى، ثمّ يجد نفسه غير مقروء ولا مُلتفتا إليه، ويرى غيره ممن يأتون بالغثاء تبلغ شهرتهم عنان السّماء.. ألم يفعلها أبو حيان التوحيدي من قبل وأحرق كتبه كما رُويَ..؟ !  
وأرسل مقولته الشهيرة وإن كانت شديدة القسوة:
" قعودي في السّوق ابيع وأشتري *  * دليل على أنّ النّاس حمير "
أو كما قال ( رضي الله عنه !! )..
وهي فعلا ظاهرة غزت السّاحة الإبداعيّة إلى أن طغت عليها وجرفت من أمامها كلّ مقاييس الموضوعيّة والنزاهة العلميّة، وامتدت أيضا إلى أحد أهمّ مؤشرات النجاح الإبداعي وهي الجوائز الثقافيّة، والمسابقات الأدبيّة والفكريّة التي تعطى للمبدعين، فتحصر في فئة ( المعارف ) والأصدقاء المقرّبين، أو من هم في ذات التيار الفكري أو الأيديولوجي..             
ومن ثمّ خلص المؤلّف إلى أنّه لابدّ من النظر إلى القراءة ضمن منظور ( سوسيولوجي ) أوما قد يسمّى اجتماعيّة الأدب والإبداع، وتطرّق إلى فكرة طريفة للغاية وهي فكرة علم اجتماع القرّاء وعلم اجتماع الكتاب، وعلم اجتماع موزّعين، وعلم اجتماع الأنواع الأدبيّة وعلم اجتماع الرواية، وهي القضيّة التي أثارها ( لوسيان غولدمان )، والتي تسهم بشكل كبير في الكشف عن ( الجزء المغمور من جبل الجليد ). 
بمعنى آخر وهو أنّ النّص الإبداعي لا يمكن قراءته بمعزل عن هذة الشبكة من العلاقات المعقّدة، والمؤثرة فيه بشكل جوهري، وقراءة النّص خارج هذه الأطر عمل عبثي يزعم ما لا ينبغي وما لا يكون، فالذي يقرأ يقرأ وهو محّمّل بثروة لغويّة تراكمت لديه ضمن هذه الشبكة الاجتماعيّة، والأدوات التي يستخدمها هي أدوات نشأت في وسط هذه الشبكة، أو شبكة اجتماعيّة أخرى مماثلة.. ما يوقعه في مغالطات كبيرة لا توافق المنحى الذي قصده الكاتب أو أراده..
ثمّ بسط الكاتب بعد ذلك فكرة ( سوسيولجيا الأدب )، وهي فكرة هامّة في الحقيقة، تَتَبَّع الأثر الأدبي كما يقول " من المؤلّف إلى القارئ عبر قنوات الواقع.." وتستخدم نوعين من الدّراسة إحداهما:
هي علم الظواهر الأدبيّة، وتقوم بعمل إحصاءات واستبيانات واستفتاءات، وهي تمكن الدّارسين من معرفة المستوى الفنيّ ومدى التاثير الذي بلغه ( الإبداع المكتوب )، وهي طريقة تتبنى نظم علم الاقتصاد والاجتماع في معرفة ذلك، وقد جاء بها ( اسكاربيت )..
والثانية سمّاها علم اجتماع الإبداع الفنّي في الأدب:
وموضوعه كما يقول المؤلف " الخلق الجمالي في صلته بالمؤلّف والمجتمع.." وكلا الدّراستين يكمّل بعضهما بعضا، ويقترب أكثر من ( النّص المكتوب ) بشكل أكثر فهما واستيعابا، ولكن رغم أنّ هذه المناهج ذات قيمة علميّة كبيرة وتساعد على الوصول إلى فهم النّص وإدراك مدلوله وتأثيره في القارئ؛ وفي المجتمع من حوله إلّا أنّها تبقى مناهج تجزيئيّة، لا يتمّ الانتفاع بها إلا إذا أخذ من كلّ واحدة أجود ما فيها..
كما أنّها رغم طنينها وجعجعتها لم تأتِ بسبق كبير، بل إنّ في تراثنا الإسلامي ما يؤشّر إلى السّبق ودقّة الفهم بشكل أكبر، وأكثر شموليّة، وإن لم يتجلّ في الأدب وما يتعلّق به من نصوص فنيّة، ولكن تجلّى في علم الحديث، وما تطلّبته دراسته من تناول ( المتن ) - الذي يشترك مع المتن الأدبي في كثير من الخصائص والسّمات - من حيث القائل والنّاقل والظروف المحيطة بذلك القول، وهو أمر بديع لم ترق إليه المناهج الغربيّة الحديثة إلى يومنا هذا..         
وعرض الكاتب لنظريّة ( فيكو ) أو تصنيف فيكو الذي يعتبر فيه الأدب مؤسّسة اجتماعيّة، لها تأثير تفاعلي متبادل بينها وبين مكوّنات المجتمع، ولذلك نجد الأدب عبر كلّ العصور يأخذ سماته العامّة من المجتمع الذي نشأ فيه أو انبثق منه، وقال المؤلّف أنّ تصنيف ( فيكو ) عبارة عن تطوير لنظريّة ابن خلدون، وهذه الإحالة تذكرني بكثير من الأدباء والكتّاب والمبدعين الغربيين الذين تأثروا بالحضارة العربيّة الإسلاميّة، وكتبوا بعض نوادر الإبداع والتنظير اقتباسا أحيانا وسرقة في بعض الأحيان، من تلك الحضارة في شتى مجالاتها وعلى رأسها المجال الإبداعي، فقد كتب دانتي  ملحمته( الكوميديا الإلهيّة ) متأثرا برسالة الغفران لأبي العلاء المعريّ، كما ثبت ذلك لاحقا، كما كتب (ردويار كبلينكس) قصّة ( موكلي فتى الأدغال )، التي هي في حقيقتها، مأخوذة بالأساس من قصّة ( حي بن يقضان ) الفلسفيّة، لصاحبها الفيلسوف الأندلسي الشهير ابن طفيل..
فلماذا نجعل الغرب وجهتنا في كلّ ما هو فنّ وإبداع؛ والغرب نفسه مازال ينظر إلى حضارتنا على أنّها معين ترٌّ، ينبغي الغرف منه والاستفادة من نفائسه العظيمة ؟    
ويعجبني في الأستاذ حبيب مونسي إلمامه العميق بالنّظريّات الغربيّة في المجال النّقدي والأدبي، بسطه لها بشكل سهل وواضح جدّا دون اللجوء إلى التحايل على القارئ بأساليب التعميّة والتهويل اللّفظي، لننبهر بما عند الغرب من تلك النّظريّات مثلما يفعل كثير من النّقاد المستلبون فكريّا، بل هو زيادة تلك السّمة المحمودة له، يردّنا ردّا جميلا من حين لاخر إلى ما في تراثنا الأدبي والفكري، من سبق وتميّز إبداعي لا يدانيه سبق أو تميّز في أيّة حضارة أخرى.
وفي سياق الحديث عن الترويج لنصوص وإبداعات معيّنة تفرضها سوق الكتاب أو سوع الدّعاية الإعلاميّة يقول الدّكتور حبيب مونسي ص 52:
"  حتى نكاد نجزم اليوم أنّ ما ينزل غلى السّوق ليس هو ما يريده القارئ – في كلّ الأحوال * بل هو مفروض عليه وعلى ذوقه وقد تنزلق حتما بعد هذا التساؤل عن طبيعة هذا القارئ وطبيعة ذوقه بعدما غدا الإشهار والتسويق وعمليّات ' قولبة " و" تكييف " للقارئ و" سلب " لإرادته ..."
وتحت عنوان فرعي ( الجمهور القارئ ) أكّد المؤلّف أنّ فعل الكتابة لا يتحقق إلا بفعل القراءة، بمعنى أنّ الذي يكتب ولا ينشر، فلا يقرأ له فهو كالذي لم يكتب ابتداءً، إلا الكتابة فعل موجه للقارئ فإذا لم يطبع وينشر ويتلقّاه القارئ فلا معنى له، وكأنّه ما يزال مخزونا في رحم الغيبب إلا أن ينبجس صبحه بالنّشر ذات إشراقة وتجلٍّ..   

" أنا أقرأ فأنا موجود "
إذا كان القارئ العادي يتفاعل مع النّص سلبا وإيجابا، إقبالا أو إدبارا؛ فإنّ النّاقد يعتبر قارئا من طينة خاصّة يمكن أن نسمّيه ( القارئ الممتاز )، ويمكن أن ترى عينُه ما لا تراه العين المجرّدة من حاسّة (النّقد) الرّهيفة، التي تلتقط أدقّ التفاصيل وتُدرك أبعد الدّلالات وأقلّها ظهورا وتجليّا..
يتحدَّث الدّكتور حبيب مونسي عن قضيّة هامّة في مجال الكتابة والقراءة، وهي ضرورة أن يستهدف الكاتب والنّص جمهورا " يتجاوز الحدود الجغرافيّة والزّمنيّة بفعل الترجمة " لأنّ النّص لا يقصد به جمهورا محدّدا ولا مكانًا ضيّقا بل الكاتبُ عادةً يتطلّع إلى خاصيّة الخلود في نصّه، والأثر الجيّد يترجم إلى لغات العالم كلّها فيصل إلى أكبر جمهور ممكن، ويتجاوز بجودته حدود الزمان الآني إلى آفاق المستقبل البعيدة..
وهناك أمر آخر ذو أهميّة بالغة أيضا يغفل عنه بعض الكتّاب والمبدعين، وهو قضيّة اللّغة العربيّة الفصيحة، ويعتقدون أنّ التزام اللغة العربيّة الفصحى يحرم جمهورا واسعا من فهم ما يكتب، ويضيّق الأفكار التي لا يُعبّر عنها إلا بالعاميّة، وهذا خطأ فادح منهم، إنّ الكتابة باللّغة العربيّة الفصيحة والراقيّة في أعلى أساليبها وأجملها؛ ضمانٌ أكثر للانتشار والدّوام، وذلك لسببين اثنين:
-   اللغة العربيّة الفصيحة يفهمها كلّ ناطق بالعربيّة بخلاف العاميّة فهي محليّة ومحصورة في بيئة ضيقة، ولا يمكن أن يفهما كلّ عربيّ أو ناطق بالعربيّة.
-   الأمر الثاني العاميّة تزول بمرور الزمن فلا تفهمها الأجيال اللّاحقة، حتّى في البيئة التي نشأت فيها، بينما تبقى الفصحى مقروءة على مدى الزمان بضمانة بقاء القرآن الكربم..
يقول الدذكتور حبيب مونسي في كتابه (نظريّات القراءة في النّقد المعاصر) عند حديثه عن الجمهور الواسع ص 61:
" وهو الذي يتجاوز الحدود الجغارفيّة والزّمنيّة بفعل الترجمة والانتشار، إذ باستطاعة العمل الأدبي أن يتابع وجوده ضمن أجيال من القرّاء، محافظا على عطائيّته بتفتحه على الدّوام على متطلّبات الأجيال والمجتمعات، فالترجمة وإن كانت " خيانة " إلا أنّها تنقل المؤلّف إلى وسط مغاير، يتعامل مع الصّنيع الأدبي بمنظاره الخاص، ومن زاوية قيمه الخاصّة ".
فالنّص الذي يتجاوز المحليّة الضيّقة متطلّعا إلى العالميّة، ومتجاوزا اللّهجات الشعبيّة المتغيّرة على الدّوام إلى اللّغة الأمّ الباقيّة على الزمن؛ يمكنه أن يصل إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء، بل هو عدد مطّرد لا يتوقّف عند بيئة معيّنة، ولا عند جيل واحد، فلا يزال النّاس إلى اليوم يقرأون امرأَ القيس وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد والخنساء، رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن على ذلك الشعر الذي خلّد ذكراهم..
وهنا وقفة أخرى عند عبارة الكاتب ( فالترجمة وإن كانت " خيانة " إلا أنّها تنقل المؤلّف إلى وسط مغاير )، فإنّ كلمة ( الخيانة ) هنا تُؤخذ على سبيل المبالغة أو التعبير المجازي، لكي نقول أنّ الترجمة لا تنقل معاني الكاتب أو الشّاعر بدقّة تامّة أو كما كان يريدها صاحبها وما قصده منها، وإلا فإنّ الترجمة هي خدمة أمينة ( نسبيّا ) للنّص يسعى إليها كلّ كاتب ومبدع، ويفرح بها أيّما فرح ويراها سبيله إلى الانتشار الأكبر.. فكيف تكون خيانة ؟ !
ورغم أنّ هذا المصطلح ( خيانة التّرجمة ) شاع بين النّقاد وانتشر بشكل كبير، إلى درجة أنّ ناقدنا أتى به في سياق حديثه عن الجمهور الواسع دون أن ينتقده أو يبيّن دلالته الحقيقيّة، إلا أنّ فيه سوء نيّة ظاهريّا نحو المترجِم ونحو النّص ( المتَرجم ).. كان ينبغي في نظري تلافيها باستبداله بـ (نسبيّة الترجمة)، فهي أكثر دلالة على المعنى الحقيقي لعمليّة الترجمة..     
وأحبّ أيضا التعليق على عبارة ( القراءة فعل غير بريء ) التي أوردها الكاتب في صفحة 69، بحيث أسجِّل التَّحفظ أو التوضيح نفسه الذي أبديته حول ( خيانة الترجمة )، مع زيادة توضيح وهو أنّ القراءة لا تكون بذهن خال تماما من الأفكار المسبقة أيّ أنّها من الصّعب أن تكون حياديّة، بل يضفي فيها القارئ على النّصّ شيئا من فكره ومشاعره وآثار تجاربه السّابقة، وهذا أمر لا محيد عنه.. ولا مانع من التهميش على النّصوص أحيانا لتوجيه القارئ إلى الفكرة الصّحيحة قبل أن تتشعّب به الأفكار إلى ما لم يقصده الكاتب أو المبدع..
وإذًا فأنا أفضّل عبارة ( فعل غير حيادي ).. لأنّ لفظة غير بريء تُحيل على الاتهام، بينما غير حيادي تصف الواقع الحتم الذي يكون عليه القارئ في كلّ بيئة وفي كلّ زمن، ولأنّه يقابلها أيضا (الكتابة فعل غير بريء) أيضا ، والبراءة بهذا المفهوم شيء متوهّم ولا وجود له في الحقيقة .. ولا وجود لقراءة متجرّدة تماما، فالتجرّد الكامل والتّام مجرّد وهم أو أكذوبة كما يقول المؤلّف نفسه – وقد أصاب كبد الحقيقة كما يقال – وذلك في صفحة 71:
" فالتّجرّد المزعوم عند دخول " حرم النّص " أكذوبة تبطلها التحقيقات الميدانيّة التي انتهت إلى تأكيد ديناميكيّة جديدة للنّص في الفعل القرائي..".  
ويبحر بنا الدّكتور حبيب مونسي في الفصل الثالث داخل لجج بحر السيميائيّة التي فتنت كثيرا من النّقّاد في العصر الحديث، ولجمت أسنّة الأقلام فلا تكاد تنظر إلى سواها وتعتبرها بدعًا من النّظريّات الجديدة التي اخترقت حجب النّصوص الإبداعيّة واستنقذتها من ربقة القراءة الكلاسيكيّة القديمة، التي لا تحيد عن مؤدّى النّصوص الظّاهري.. ولا تتجاوزه إلى ما لم يخطر ببال الكاتب أو يعيه أثناء العمليّة الإبداعيّة..
وقد قام المؤلّف بتحليل وشرح النظريّة السيميائيّة بشكل دقيق وأمين، ومما لفت انتباهي في هذا الفصل ولزم الوقوف عنده؛ هو جملة من المصطلحات الطريفة والقيّمة في الآن ذاته ومنها ذكره لمصطلح ( الكتابة المشهديّة )، والذي يستمدّ من المسرح رؤاه وشموليته بحيث يقرأ النّص بكلّ أبعاده كما يقول الكاتب:
" يُـمَشْهِد الكتابة هندسيّا فيتيح قراءة بياضها وسوادها، طولها وعرضها، ثخانتها، وهزالها، دقّتها وشططها على السّواء ".
هذا المصطلح يحدّد بدقّة القراءة الواعية التي تنظر إلى النّصّ من مختلف الزوايا، لا من زاوية واحدة فقط، وهي القراءة العادلة في نظري بحيث توفّي النّص حقّه والكاتب حقّه في آن معا..
ثمّ يأتي في السّياق ذاته الحديث عن القراءة التي تنأى بنفسها عن صاحب النّص، وكأنّها تتمثل قول الإمام عليّ رضي الله عنه " انظر إلى ما قيل، لا إلى من قال " وربّما هي التي يطلق عليها بالقراءة الموضوعيّة أو المتجرّدة وتكاد تكون مستحيلة، بل هي كذلك إلا إذا قلنا أنّ التّجرّد والموضوعيّة نسبيين..
وهناك أمر آخر مهمّ جدّا وهو علاقة الكاتب بالنّص التي كثيرا ما تساعد على الاقتراب أكثر من النّص وفهم مدلولاته البعيدة، وتجنّب الوهم والظنّ أو تصوّر ما لم يفكّر فيه الكاتب، رغم أنّ بعض النّقاد استساغه بل دعا إليه على أساس أن يكون القارئ مبدعا ثانيّا يعيد تشكيل النّص من جديد، وهنا يصير النّص مجرّد حافز أو منطلق لكتابة إبداعيّة أخرى قد تكون مختلفة تماما، وذلك لا يتأتَّى إلا لقارئ مبدع، أمّا عامّة القراء فهم مخاطبون بفكرة الكاتب نفسه التي قصدها، وأراد تبليغها لهم، سواء كانت الفكرة ذات إسقاطات عمليّة تحقّق في الواقع المادي، أم هي فكرة جماليّة خالصة للمتعة الفنيّة، مداعبة للروح والأشواق وحسب.. !         
ومن الأفكار القيّمة كذلك ما خلص إليه الكاتب بعد هذه الفكرة الطريفة فكرة (الكتابة المشهديّة)؛ فجاءت القراءة المشهديّة وبالتالي كانت الإحالة الجميلة التّالية:
" غير أنّ ما يشجّعنا على المضي قدما هو إيماننا أنّ " اقرأ " ترادف عندنا " عش " فتكون معادلتنا اليوم: " أنا أقرأ إذن أنا أعيش ".
تلك المقولة الخالدة التي صادفت فطرة سليمة فجاءت على السّليقة:
" أنا أفكّر فأنا موجود "
وتوالدت منها متناصّات كثيرة وكانت أروعها وأبهاها:
" أنا أقرأ إذن أنا أعيش " ولربّما لو قال أستاذنا:
" أنا أقرأ فأنا حيّ " لكانت أجود وأكثر وقعا في النّفس، وأفضل حتّى من المقولة الأصليّة " أنا موجود " ولعلّ القصور في الترجمة وليس في صاحب المقولة.. 
   
 ( نَرْجْسٌ وَلَيسَت نَرْجَسِيَّة ..)
قد يَعمَد غَمْر باتهامنة بالنرجسيّة حين نرجع في كلّ ما نُحيل عليه مبهورين إلى تراثنا العربي الإسلامي، ولكن نقول :
" إنّ في كلّ ذلك نَرْجِس وريحان وليست نرجسيّة وعقدًا غربيّة ما أنزل الله بها من سلطان، وكأنّ وإيّاهم كالذي قيل فيه ويقال: ( رمتني بدائها وانسلّت ).." وإنّا على خطى الأجداد الأماجد لسائرون، وخيرٌ لنا أن نقول:
" أولئك آبائي فجئني بمثلهم " بدلا من أن نُستَلَب في حداثة مزعومة، تقدّس تراث الإغريق واليونان فتسخر من التوحيد وتقدّس الوثنيّة ( !! ).

*  *  *
من قال أنّ الجاحظ هو شيخ أدباء العربيّة لم يبعد النّجعة، ولا جانب الصّواب فالرّجل قمّة سامقة وبحر في الأدب لا تكدّره الدّلاء.. ! ومن ثَمّ لا نعجب من حضوره الدّائم في النّصوص الإبداعيّة أو النّقديّة الحديثة فهو بحقّ فلتة من فلتات التّاريخ كما يقال، كما كان المتنبّي فلتة من فلتات الشّعر..
ونجد الدّكتور حبيب مونسي في كتابه هذا ما يفتأ يتكئ على آرائه في مسار بحثه النّقدي، وحسنا فعل، فلمَ نجرِ وراء سراب الأدباء ومنظري الغربيين لنستخلص من نحاسهم ذهبا، وعندنا الذّهب الإبريز في لغة مشرقة وذكاء حاد وإحاطة تذهل لها الألباب، ليس عند الجاحظ وحده، بل هي قوافل من النجوم السّائرة بهرت عقول الغربيين أنفسهم وماتزال أنفاسهم تتقطع من البَهَر بها.    
يذكر الدّكتور مونسي في الفصل الثالث عن السيميائيّة مصطلح العلامة، ويبيّن الغرض منها في نظريّات النّقاد الغربيين، حيث صارت اللغة " هي اللسان الذي يُتحدّث به عن العلامات، وقد انتقلت من حقل اللغة إلى فضاء الأشياء والمعاني.." أيّ أنّها تتجاوز اللغة في مدلولها الواسع وهي أكثر منها شمولا، ويبدو ذلك فتحا جديدا ومثيرا، وحداثيّا في مجال التنظير النّقدي فاز الغرب بقصب السّبق فيه، ورغم ( نرجسيّتنا ) نقول أنّنا سبقنا إليه وما فاتنا منه شيء، وإنّما هي بضاعتنا ردّت إلينا كما يقول المشارقة عن إبداع المغاربة، فعندنا مصطلح ( النّصبة ) التي تحدّث عنها الجاحظ كانت الأسبق في تبيين دلالة هذه المصطلح وأهمّيته، وإن بخسه المستغربون من أبناء جلدتنا حقَّه.
وقد أشار الدّكتور مونسي إلى ذلك بجلاء حين نقل عن أحمد حساني قوله:
" وقد كان الجاحظ قبلا قد لحن إلى ذلك من خلال مفهوم " النّصبة ": وهي الحال النّاطقة بغير لفظ والمشير بغير يد، وذلك ظاهر خلق السماوات والأرض، وفي كلّ صامت وناطق، فالنّصبة إذن هيئة دالّة على نفسها من غير وسيلة ودلالتها على نظرة تأمليّة "   
وجاء في البيان والتبيين للجاحظ أيضا قوله عن النّصبة:
" و جميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص و لا تزيد: أولها اللفظ ثم الإشارة ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصبة.
و النصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف، و لا تقصر عن تلك الدلالات ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها، و حلية مخالفة لحلية أختها ".وإذا رجعنا إلى البيان والتبيين نجد أنّ الجاحظ لم يلحن لحنا كما أشار أحمد حساني وإنّما فصّل تفصيلا، وكأنّه يتحدّث عن علم السّيمائيّة ( كما يحبّ الدّكتور مرتاض تسميتها ) في العصر الحديث، وهنا يصلح أن نقول كما قالت العرب من قبل:
" ما ترك الأوّل للآخر شيئا " ولتكن نرجسيّة وشعورا بتضخمّ الذّات الجمعي، وبعد ( أولئك آبائي فجئني بمثلهم..)، ولكن هو حبّ التمظهر بالإغراق في الاصطلاحات النقديّة، الأمر الذي يذكرنا بعلم الكلام الذي حوّل العقيدة الصّافيّة إلى فسلفة ( نكدة ) تمجّها الأفهام السليمة والفطر النّقيّة.
ولله درّ الدّكتور حبيب مونسي حين قال بكلام فصل ومنطق بيّن:
" حفل التراث العربي بإشارات فذّة في الحقل السيميائي، وتكشّف عن وعي متقدّم بقيمة السّمة الدلاليّة إبّان تشكّلها بغية التواصل، من اختمارها في النّفس فكرة إلى إيجادها سمة دالّة على موجود، فالغزالي ينشئ لها كيانا متكاملا من أربعة أطراف أساسيّة حين يقول:
" إنّ للشيء وجودا في الأعيان، ثمّ في الأذهان، ثمّ في الألفاظ، في الكتابة. فالكتابة دالّة على اللّفظ، واللّفظ دالّ على المعنى الذي في النّفس، والذي في النّفس هو مثال الموجود في الأعيان ".
ولا يكتفِ الدّكتور مونسي بالإحالة على الجاحظ والغزالي بل يبغيهما ثالثا وهو البحر يمدمهما بسبعة أبحر لا ينفد مدادُها ولله المثل الأعلى، يقول من صفحة 88:
" وتكون اللغة في الموروث العربي عين التّصوّر السّوسيري الذي جعل علم العلامات أشمل من علم اللّسان، ذلك أنّ " الجرجاني " يقرّر أنّ: " أنّ اللغة حتّى تجري مجرى، العلامات والسيمات، ولا معنى للعلامة والسّمة حتّى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه "
وهذه الإحالات مهمّة جدّا إذ تظهر ما في موروثنا الثقافي والأدبي من ذخائر غنيّة ومدهشة، وهي لنا حصن منيع يقينا من الانبهار بالنظريّة الغربيّة حدّ الذَّوبان والاستلاب، ولا مانع من الاستفادة من تلك النظريّات وتلقيح الأفكار والعقول بها، وأخذ ما فيها من جيّد بعد التمحيص والنّقد الشديد، والنظر في خلفيّاتها الفكريّة والعقديّة، أمّا أن نأخذ بفتون الحداثة فنكون كالأعمى الذي يقود بصيرا، فلا وألف لاّ.. !
ولمزيد من التَّنوير والتوضيح العملي يُرْفِق الدّكتور حبيب مونسي ما يعرضه علينا من نظريّات نقديّة؛ بمخططات بيانيّة تكثّف الفكرة وتُجلِّيها فيما يُشبه الصورة، وذلك ما يساعد على تمثّلها في الذهن حيّةً مجسّمةً كأنّا نراها رأي العين ..
 ومن لطيف ما استدلّ به الكاتب على شرح مصطلح ( العلامة ) في النظريّة السِّيمائيّة؛ أبيات شعريّة مقتبسة من كتاب ( البيان والتبيين ) لشيخ العربيّة الجاحظ إذ يقول فيها الشّاعر:
" أشارت بطرف العين خيفة أهلها *  * إشارة محزون ولم تتكلّم
  فأيقنت أنّ الطرف قد قال مرحبا *  * وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم
وساق بيتا ثالثا لشاعر آخر يقول فيه:
" حواجبنا تقضي حوائجنا *  * ونحن صموت والهوى يتكلّم "
وأضيف أمرًا علّه يزيد الفكرة وضوحا وبيانا، فإنّ في تراثنا العربي عِلم كامل يسمّى ( علم ) وهو يعتمد على تتبّع الأثر واستخلاص معلومات كاملة ودقيقة من ذلك الأثر، دون سابق إطلاع أو معرفة بمن ترك ذلك الأثر، ويعتمد أيضا على سيماء الأشخاص، أيّ علامات وجوههم وأجسامهم وبشرات جلدهم، ورنّات أصواتهم وحركات عيونهم. وفيه من القصص والروايات العجب العجاب لا يتسع المجال لذكره..
 ويختم الدّكتور حبيب مونسي كلامه حول النظريّة السيمائيّة بكلام نفيس للدّكتور عبد الملك مرتاض – كان بعضه والله في نفسي قبل أن يذكره الكاتب – حول هذه النظريّة وغيرها من النظريّات الغربيّة فيقول:
" فإذا سألنا "عبد الملك مرتاض ": هل هناك قراءة سيميائيّة " محضة " ؟ أجاب: " إنّنا من السّذاجة أن نزعم أن نبلغ من النّص الذي نقرأه منتهاه، إذا وقفنا من حوله مسعانا على منظور نفساني فقط، ومنظور اجتماعي فقط، أو بنيوي فقط ... وقد دأبنا نحن في تعاملنا مع النّصوص التي نتناولها، على محالوة المزاوجة، أو المثالثة، او المرابعة بين جملة من الأجناس، باصطناع القراءة المركّبة.. " 
ولايزال في الكتاب جمّ كثير من الآراء النقديّة ذات القيمة الكبيرة، والنظرات الصّائبة، وسيكون لنا متّسع من الحديث حولها وإن طال الأمر، فهي دُرَرٌ في عالم النّقد، لا ينبغي أن تطوى عليها الكتب وحسب، بل ينبغي أن يُستنارَ بها ويُقتفى أثرُها وتكون منارة للدّارسين..

جماليّة القراءة:
أمّا الفصل الرّابع فقد أخلصه الكاتب لفكرة مذهلة هي (جماليّة القراءة):
العنوان مغري جدّا ويفتح آفاقا واسعة للقراءة الممتعة، القراءة المغذّية للروح والموسِّعة للمدارك، وقد بدأ كلامه فيها بالحديث عن نظريّة التلقي التي تاهت فيها أشرعة المنظِّرين والنّقاد ولم يتوصلوا فيها إلى نظريّة شاملة متكاملة الأبعاد..
ثمّ يتطرّق الكاتب إلى تأثير عمليّة التَّلقي فيقول عنها ص 129:
" أمّا تأثير التلقي فوجهته عكسيّة إذ يرتدّ إلى الذّات، في اضطرابها وتشوّشها ليعدّل، أو يحوّر، أو يثبّت الاعتقاد الأولي، ويزحزحها عن الموقع الافتراضي إلى موقع جديد ".
وإذا كانت نظريّة التلقي تتزعمها – كما يقول الكاتب – المدرسة الألمانيّة فإنّ هناك إشاراتٍ قديمةً جدّا في التراث العربي لفت النّقاد الانتباه إليها ولكن لم تحظ بالعناية الكافية، ويسوق لنا المؤلّف نموذجا من ذلك إذ يقول في ص 133:
" وعندما نقرأ اليوم تعليق " الوليد بن المغيرة "على أثر القرآن الكريم في نفسه: ( إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وأنّ أسفله لمغدق، وأنّ أعلاه لمثمر ). نستعظم مثل هذا الرّد، لأنّه يضعنا أمام أوّل نصّ يكشف عن ناتج الوقع في الذّات القارئة .. "
ويبحر بنا المؤلّف في نماذج كثيرة مشرقة من تراثنا الغني حول نظريّة التلقين وناتج الواقع عند القارئ العادي والقارئ المختصّ، ويربط ذلك كلّه بدراسات الإعجاز التي تناولها العلماء قديما، إلى أن يولج بنا إلى أسبقيّة النّقد العربي القديم على كثير من المصطلحات النّقدية الحديثة، وإن سمّوها بغير مسمّياتها المألوفة في عصرنا الحاضر فيقول في ص 135:
" الدّهشة تنتابنا ونحن نستبدل بعض المصطلحات – مما ألفناه اليوم – حتّى تقفز أمامه النّصوص وقد تبدّت حداثتها، وسبقها مما يجعلنا نجزم بأنّ أهل الإعجاز أدركوا مفاهيم " الأفق السّابق " و"ناتج الوقع " و" تشكّل الأفق الجديد " وتجاوز المعايير " وكلّها مفاهيم تقوم عليها جماليّة التلقي اليوم".
وهذا أوّل ناقد عربي وفقا لعلمي وما نالته يدي من كتب ودراسات نقدية، يعرض لهذا الأمر بمثل هذه الجرأة والوضوح بحيث يكاد ينسف كلّ النظريّات الغربيّة الحديثة، ويجعل منها كلاما قديما سُبق إليه بمئات السّنين، غير أنّ زامر الحيّ لا يطرب عند كثير من النّاس، ولكن جاء جيل جديد، لا تبهره أضواء الغرب ولا تفتنه عن تراثه العظيم، فيعرف لزامر الحيّ حقّه فيعلي من شأنه ويجعل منه قدوته ومنارته التي بها يحدّد مساره الصّحيح.  
وهذا ما قاله الكاتب بصريح العبارة وأكاد أكتفي بكلامه وحسب دون تعليق أو شرح، لأنّه غنيّ عن ذلك ص 137:   
" إنّ استثمار النّص التراثي في قراءة – جادّة – للتّلقي قد يكشف عن معطيات أخرى أكثر حداثة من الصّخب المثار حول " أسطورة القارئ " اليوم، والتفاتنا إلى الغرب يسمنا بميسم التبعيّة العمياء، ما دامت هناك نصوص تضارع ما جادت به قرائح الآخر، بل تتعدّاها في أحايين كثيرة...".
وهذا والله ما قلته ونشرته سابقا في حلقات ماضية، قبل أن أصل إلى هذا الموضع من كتاب الدّكتور الفذّ حبيب مونسي الذي ردّ النّقد الأدبي الجادّ إلى تراثنا المشعّ ردّا جميلا..    
 وعندما يتحدّث عن المعرفة ومستويات التلقي عند القارئ؛ فإنّه بعد استعراضه لبعض النظريّات الغربيّة، التي تصنّف مستويات التّلقي عند القارئ إلى مستوى حدسي ومستوى معرفي؛ يرجع إلى عبد القاهر الجرجاني هذا العلم البارز في ظاهرة الإعجاز اللغوي، ويجد لديه الكثير مما توصل إليه الغربيون من كشف نظري، سبقهم إليه بمئات السّنين..   
وفي الفصل الخامس ( التلقّي والحدث القرائي ) يسيح بنا المؤلّف في ماهيّة عمليّة الإبداع والفرق بينها وبين الخلق الذي له قدسيّة في النّفس المسلمة وهو يختصّ بالله تعالى، دون سواه من العالمين، كما تحدّث عن نظريتي فرويد وأرسطو في تفسير العمل الإبداعي وبرهن على بطلانهما، إذ أنّهما يفتراضان ذلك افتراضا، وفرويد نفسه يقول عن نظريته أنّها ( تخمين لم يثبت بالدّليل ..ولا تقدّم تفسيرا كاملا لطبيعة الفنّ ) كما لم تقدّمه نظريّة التطهير الأرسطيّة.
ثمّ يستعرض نظريّات غربيّة أخرى مثل نظريّة ( الموقف )، ومبدأ ( التعبير ) وغيرها من النظريّات التي تحاول تفسير ماهية العمل الإبداعي أو الفنيّ، وفي مدار هذا الزخم التنظيري الذي تكتنفه الحيرة والقلق أكثر مما يكتنفه الوضوح والإدراك الصّحيح للعمليّة الإبداعيّة، يمثل لنا الدّكتور حبيب مونسي بمقولة الكاتب الألماني كافكا :
" أن أكتب خلاف ما أتكلّم، وأتكلّم خلاف ما أفكّر، وأفكّر خلاف ما يجب عليّ أن أفكّر، وهكذا إلى غاية أعمق الظلمات ".
متاهة ظلّت فيها بوصلة الفكر الغربي، وبعض أشباه المثقفين من أبناء جلدتنا على آثارهم يهرعون، والحقّ عندنا بيّن واضح لا شيّة فيه.. ودوما يكون في تراثنا الخلاص الذي بَعُدَ مناله عن أصحاب النّظريّة الغربيّة، حتّى وإن اقترب منه بعضهم اقترابا كبيرا لا يستهان به، ووصلوا بواسطة التجربة والخطإ وملاحظة الواقع وتتبع أثر النّص في المجتمع؛ إلى نتائج مقبولة إلى حدّ ما وإن تكن قاصرة يشوبها خلل كبير في مختلف جوانبها، ذلك لأنّها تفتقر إلى الأساس السليم والأرضيّة الصّلبة من عقيدة صحيحة وفكر نقيّ..
قلت يلجأ إلى التراث ليَمتح من معينه، الذي لا ينضب، يقول في صفحة 211:
" يقول ابن جنّي " اعلم أنّه لما كانت الألفاظ للماعني أزمّة، وعليها أدلّة، وإليها موصلة، وعلى المراد منها محصّلة، وعنيت العرب بها، فأوّلتها صورا صالحة من تثقيفها وإصلاحها "  ويسوق نصّا آخر على النّمط ذاته من ابن سنان الخفّاجي..
فها هو علم آخر من أعلام تاريخ أمتنا المجيد، ليثبت قوّة حضارتنا وبقائها حيّة معطاءة على الزمن، لا يأفل نجمها ولا تُنَكّسُ رايتُها، حتّى وإن خذلها بعض أبنائها وباعوا ما عندهم من كنوز ثمينة ودرر نادرة بثمن بخس من بريق الحضارة الغربيّة الزّائف.. !!
وتبحّر الدّكتور مونسي في هذا الفصل في الحديث عن ( عنصر ذهبي ) في العمليّة الإبداعيّة، وهو الوسيط اللّغوي، الذي لا يكون الإبداع إلا به، ومن ثمّ تطرّق في حديثه أيضا إلى الخاصيّة الجماليّة للتركيب والتي قرّر البحث الأسلوبي الحديث صعوبة تقنينها وقياسها. وكأنّ التركيب هو البصمة الأسلوبيّة التي تشير إلى صاحبها وتدلّ عليه دون سواه، وأشار الكاتب إلى النظريّة التي تتحدّث عن فلسفة الجمال وتقدّس الشكل وتجعل المعنى مجرّد تعلّة لإقامته وبنائه صرحا جميلا، مغنيا بذاته عن المعنى ومغايرا للواقع الذي يحياه الإنسان، ويأبى أن يكون مجرّد صدى له كما تدّعي ذلك نظريّة المحاكاة..
وفي نهاية هذا الفصل الذي ختم به هذا الكتاب القيّم، يحضر المعتزلة وابن القيم في مناقشة قضيّة (تأويل النّصوص)، وتظهر القوّة العقليّة المدهشة للمعتزلة، وفي الآن ذاته  تظهر قوّة ابن القيّم الجبّارة في ردّه على المعتزلة، وإن كان الموضوع في جوهره ( ديني )، لكنّه في منهجيّته وأدواته معرفي نقديّ بحت، يفوق في مردوده وتاثيره كثيرا من الأبحاث النقديّة التخصصيّة في العصر الحديث. 

وبعد ..
حقّا أطربنا زامرنا ..
وأفادنا وكأنّنا في تكوين مكثّف في مجال نظريّات القراءة النّقديّة، أخذنا منه ما طالته قدراتنا وجهدنا، ولكن ما يزال الكتاب زاخرا بكم هائل من المعارف الأدبيّة والنقديّة النافعة والضروريّة لكلّ باحث ودارس أدبيّ.  
كتاب (  نظريّات القراءة في النّقد المعاصر ) للدّكتور الأديب النّاقد حبيب مونسي؛ كتاب قيّم للغاية فيه النّقد العميق، والتأصيل التنظيري الرّصين، والتميّز بالخصوصيّة التي ينبغي أن يتمظهر بها الأديب العربي المسلم، دون شعور بعقدة النّقص إزاء الوارد من طوفان النظريّات الغربيّة.. وينبغي لكلّ الدّارسين والباحثين في الجزائر وعالمنا العربي أن يستفيدوا من هذا العطاء الكبير الذي يقدّمه الدّكتور حبيب مونسي ليس في هذا الكتاب وحسب، بل في جلمة من الكتب الرّائعة التي قد نعرض لها بالقراءة في مناسبة أخرى مستفيدين ومفيدين بإذن الله تعالى..             



[1] - وقيل الأصحّ أن نقول ( زامر الحي لا يطرب ) والمعنى واحد .
[2] - الدّكتور حبيب مونسي أستاذ بجامعة سيدي بلعبّاس، ناقد وروائي جزائري من مواليد 1957 م من مؤلفاته (نظريّات القراءة في النّقد المعاصر، نقد النّقد ( المنجز العربي في النّقد ) دراسة في المناهج، الصّوت والخطاب ممتنعات الترجمة ) وفي الرواية له ( العين الثالثة- مقامات الذّاكرة المنسيّة – جلالته الأب الأعظم ). وغيرها من المؤلّفات الأخرى التي أثرى بها المكتبة العربيّة والعالميّة.     

ليست هناك تعليقات: