2015/04/14

الشجرة قصة قصيرة بقلم: محمد عاشور

الشجرة
بقلم: محمد عاشور
عندما وجد شجرة السنط تلك ملقاة على الطريق ذابلة ، يكاد يتسرب إليها الشلل ، أخذها وهو يقلبها في يديه لا يعرف ما هي ، توهم أنها شجرة فاكهة ، فأخذها ليزرعها قرب المقابر التي يقيم فيها وحده بين الأموات الذين وجد عندهم المأوى والمأكل ، فقد كان يأكل غالباً مما تخرجه النساء " رحمة ونور " على أمواتهن وكان لبسه دائماً من النذر .
عندما قدم القرية هائما على وجهه وكان عمره وقتها لا يتجاوز السنوات العشر ، ولم يعرف أحد له نسباً أو مكاناً ، ولم يهتم أحد بذلك فقد كان أبلها ، أو كما يطلقون عليه في القرية " بالله " وينعته الأطفال " بالعبيط " كان يسير في كل وقت لا تضايقه حرارة شمس ولا وحل مطر ، يمشي حافياً دائماً وقد اكتسبت قدمه الخشونة .
كان شباب القرية عندما لا يجدون شيئاً يتسلون به فينادونه، ويسمعون منه النوادر ويرغبونه فيهم بسيجارة او قطعة حلوى .
عندما زرع شجرة السنط ظل يرعاها كما ترعى الأم وليدها ، يحاجي عليها من الهواء ، وإذا مالت يقومها بأحد الأعواد من الجانب المائلة نحوه وقد طال انتظاره وهو يرقب إثمارها .
نمت الشجرة وشب معها ، أصبحت ملء ذراعيه يحتضنها كأنها زوجته ، وهو يغني في أصوات غير مفهومة لكنه كان سعيداً.
عندما أصبح رجلا كان الأطفال يأتون عنده ليلعبوا معه رغم تحذيرات أمهاتهم ، وكانوا يجلسون معه في " عشته " التي أقامها أسفل الشجرة ، ويأكلون من الفاكهة التي تعطيها له النساء، فقد كان كريما مع كل الأطفال ، يأخذون من فاكهته ، وأحيانا يحضرون إليه بعض الطعام خلسة فيأكله سعيداً ، وإن لم يجد فمن ا
لخبز الجاف عنده أو من الفاكهة التي قلت مع الزمن .
تضخمت الشجرة وأصبحت مكانا للعب الأطفال وأصابته الشيخوخة وظل الشاب ينادونه ليسامرهم وقد ازداد حديثه تشويقا بعد ما أصبح يروي لهم عن حكايته مع الجن فيخيفهم ويضحك ، وإذ ضايقه أحدهم يهرول وراءه بسيفه الخشبي فيفر منه وهو يضحك ، ثم لا يلبث إن يعود ويصالحه ببعض السجائر .
ضاق المكان بالمقابر، وقرر أهل البلدة قطع الشجرة لبناء مقابرهم لكنهم يخشون " العبيط ".
تجمع أهل البلدة في الصباح الباكر ومعهم عدتهم وانطلق الرجال وتبعهم الأطفال يجرون، وفي أثرهم بعض النساء .
رآهم قادمين فوقف يستقبلهم متهلل الوجه ، ورأى الآلات في أيديهم ، واقترب منه طفل صغير كان يأخذ من فاكهته وقال وهو مرعوب .. سيقطعون الشجرة ، ولكنه لم يفهم وظل واقفاً فاغراه فاه .
احتشد الناس والتفوا حوله والشجرة ، وقال أحدهم : سنقطع الشجرة ،ثار عليهم وقذفهم بالطوب فلم يبتعدوا ، وجاء بسيفه الخشبي ملوحاً به في الهواء . فتدافعوا جميعا هاربين في كل مكان .
وقف مزهوا بسيفه وقد علت ضحكاته ، ثم احتضن الشجرة وأخذ يقبلها ويربت عليها .
في اليوم الثاني رآهم قادمين ، شهر سيفه في الهواء وأخذ يلوح به والناس يقتربون في حذر ، ثم تناول بعض الحجارة وأخذ يقذفهم فتفرقوا ، ولكن سرعان ما عادوا إليه أكثر إصرارا.
اقترب شابان وثالث يتبعهما وهم يضحكون ، طعن أقربهم بالسيف فانكسر مع أول طعنة ، ضحك الجميع ، رجع إلى الخلف صارخاً واحتضن الشجرة ، تمكن منه الثلاثة وأبعدوه عن الشجرة وسمع كلمة اقطعوا.
صرخ وعلا صراخه ، ومع صوت القطع وكثرة الهمهمات ضاع صراخه ولم يسمعه الكثير .
مع صراخه وكثرة تملصه تمزقت ملابسه ، وظهرت عورته ، وضحك الرجال ، ووارت النساء عيونهن وهن يتغامزن ، وقد أحال الجمع بينه وبين أن يرى الشجرة .
وقف بعض الأطفال الذين كانوا يأكلون من فاكهته وقد ظهر عليهم البكاء الصامت .
سُمع شخص يقول : أفسحوا للشجرة ، فر الجميع من أماكنهم تاركينه يشاهدها تسقط وهي تطقطق محدثة دويا عاليا . ووقفت الطيور التي تسكنها في الهواء وهي تحلق محدثة أصواتاً كأنها الصراخ، وقد تركت أفراخها في الأعشاش ، وانتشرت في المكان بعض حبات الفاكهة الجافة وكثير من الريش .
وقف يصرخ وقد تمزقت ملابسه ، انطلق ناحية الشجرة وهو يبكي، وقد سال مخاطه واختلط بدموعه ولعابه ووقف ينظر إلى جسدها المبتور ثم احتضنها وهي نائمة تلفظ أخر أنفاسها .
وقفوا ضاحكين وهو مستمر في البكاء ، وشيئاً فشيئاً أخذ يهدأ بكاؤه حتى انتهى ولم يحرك ساكنا ، تقدم أحدهم في حذر ليعينه على النهوض لكنه سقط ، لقد مات بجوار الشجرة ، وكان أول من دفن مكانها ، وجاء بعض الأطفال بالفاكهة ليضعوها على قبره .

هناك تعليقان (2):