2015/04/23

خمسون دقيقة في ضيافة الهرم الجزائري الدكتور عثمان سعدي بقلم: زينة السعيد بورويسة



خمسون دقيقة في ضيافة الهرم الجزائري الدكتور عثمان سعدي
بقلم: زينة السعيد بورويسة
لم يكن من السهل عليّ اقتطاع ما يقارب الساعة من وقت الدكتور الباحث عثمان سعدي. و قته كان أثمن حتى من الحياة ذاتها.
كم حلمت بلقائه و رجوت الجلوس في حضرته و لو لحظات فمنّ الله عليّ بجلسة تقارب الساعة في بيته بالجزائر العاصمة. كان رجلا كبير السن، عظيم الهمة، جميل الهيئة، على قدر كبير من اللباقة و حسن الضيافة. و بمجرد جلوسي في صالونه التاريخي بادرني بالقول: بسرعة أخرجي دفترك و أسرعي بطرح الأسئلة التي تريدين فأنا بصدد إعداد مقال و من الضروري إنهاؤه اليوم. أحسست بنفسي ضيفة ثقيلة الظل. و الحقيقة أنني لم أكن قد دونت شيئا من الأسئلة، و لم يكن لي غاية سوى الجلوس مع هذا الهرم الذهبي الذي لطالما قرأت له. و لكنه سرعان ما بدا مرتاحا في الحديث معي بعدما عرف أنني قطعت 500 كلم لرؤيته لا أكثر و بعدما لمس فيّ حرارة الدفاع عن اللغة العربية. القضية التي تبناها منذ سنوات. و بدأ الحديث بيننا يتجه نحو العمق عندما وجدني مطلعة على كل أعماله و مقالاته و آرائه  و حتى أسماء عائلته الكبيرة و الصغيرة،  بل و قد كنت محظوظة في تطابق اسمي "زينة" مع اسم ابنته الصغرى المغتربة التي اشتاق إليها كثيرا، و ترجم شوقه في جولة صغيرة داخل صالونه ليقدم لي صورة ابنته "زينة" و باقي أفراد العائلة.
صالونه كان تاريخيا بامتياز، يحتفظ فيه بصور له أيام شبابه، فهذه صورة له مع أستاذه "طه حسين" بمصر رفقة دفعة التخرج، و تلك أخرى رفقة الرئيس العراقي الراحل "صدام حسين" أيام كان الدكتور سفيرا للجزائر بالعراق،.... بل و في صالونه أغراض جميلة و قديمة تعكس بعض التقاليد الجزائرية.
حدثني الهرم عثمان سعدي عن رحلاته بين سوريا و العراق، و كيف جمع قصائد الشعراء العرب التي تناولت الثورة الجزائرية في مؤلفين ضخمين. حدثني عن مشروع التعريب في الجزائر أيام كان نائبا في البرلمان و كيف فشل المشروع و من كان و راء ذلك. حدثني عن أسباب ابتعاده عن الساحة السياسية و تفرغه للبحث في تاريخ اللغة العربية و الدفاع عنها الذي أثمر معجما قيما " معجم الجدور العربية للكلمات البربرية" و كتابا تاريخيا مهما يلخص تاريخ الجزائر " الجزائر في التاريخ". و لعلّ أكثر ما حدثني عنه نشاط " الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية" التي يترأسها منذ نشأتها و عن الحصار الذي تعانيه الجمعية رغم أهدافها النبيلة و أعمالها القيمة التي جمعت في كتاب خاص.
كان الجلوس مع الدكتور عثمان سعدي أشبه ما يكون بجولة عبر التاريخ الجزائري و العربي ، انطلقت من نظام الدراسة في أربعينات القرن الماضي، ثم الثورة و الانضمام إليها، ثم الاستقلال و المهام الدبلوماسية التي أسندت إليه، ثم عهد الرئيس الراحل هواري بومدين و عمله بالبرلمان الجزائري و انتهاء إلى تفرغه للبحث و الدفاع عن اللغة العربية، و تنقله خلال كل هذا بين مصر و الكويت و العراق و سوريا.
و يبدو أن الدكتور لم يستطع أن يقاوم أنس الحديث فتذكر زوجته الفلسطينية، و كيف تعرف إليها و تزوجها و أنجبا أولادهما، و كيف كانت سنده الأكبر في الحياة حتى تخيلته يتيما يتحدث عن حب أمه و عطفها، و قد سبق له أن ترجم تلك العواطف النبيلة في روايته "دمعة على أم البنين".
و قبل المغادرة عرض عليّ جولة ممتعة في بيته الجميل الذي احتلت الكتب المنظمة في رفوف خشبية المساحة الأكبر منه ، و لم أضيع الفرصة لألتقط صورة معه قبل أن أغادر بيته محملة بحزمة من مؤلفاته التي أهداني إياها.
أدار زوجي محرك السيارة و انطلق. و أدرت أنا قرصا كان قد قدمه لي الدكتور و انطلقت في تذكر كل ما دار بيننا من حوار رغبة مني في الاستمتاع به من جديد و سعيا مني في ترسيخه بذاكرتي. كان القرص يعزف ألحانا جزائرية أصيلة تتخلله توضيحات بصوت الدكتور عثمان سعدي و الذي جمع من خلاله أشهر ألحان الناي الجزائرية و القصص التي تترجمها. و سواء أكانت تلك القصص حقيقية أم خيالية فقد سافرت أنا معها بعيدا محاولة مني لرسم معالم لشخصية هذا الرجل الذي جمع بين الأدب و التاريخ و البحث الأكاديمي و العمل الدبلوماسي و الحس الفني الغنائي... لم أستطع أن أطلق عليه لقبا معينا. و وجدتني أردد "هو هرم".

ليست هناك تعليقات: