2008/07/16

طائر أخضر صغير



طائر أخضر صغير




قصة لأحمد طوسون



صبار وحيدة على الإفريز بجوارها قنديل قديم .
شيش بلونه الرمادي الثقيل يغطيه تراب ناعم .
قشور جيرية وتشققات عند الحواف .
لم تكن حجرتها كباقي حجرات بيتنا .
حجرتها واسعة وكبيرة يسكنها هدوء رائق كأنها بعيدة عن ضجيج العالم حولها ، تحتفظ بخصوصية عن حجرات البيت وتحتشد بدفء حقيقي .
حين نفتح نافذتها تتسلل شعاعات الشمس الذهبية ونحس نسمة باردة تنسل إلى داخلنا وتربت على مشاعرنا الصغيرة .
أمي تقول إن حجرة جدتي كغيرها من حجرات بيتنا لكنها لا تزحمها بالكراكيب الصغيرة .
سريرها بناموسته التي تشبه سحابة بيضاء كبيرة .
إلى جواره دولاب صغير بدرج واحد ، فوقه صورة لأبى بزيه الكاكي وملامحه التي تشي بصرامة وطيبة .
علب صغيرة لأدويتها وراديو صغير.
في الناحية الأخرى يستند دولاب خشبي قديم تملؤه الكتب والمجلات وبأحد أرففه تنحشر كومة من ملابسها .
***
دائما تجلس وحيدة في حجرتها ، لا تخرج منها إلا لتتوضأ وتعود ومعها دورق ماء لتسقى صبارها .
سعاد تقول إنها كانت تجمعهم تحت شمس سطحنا وتحكى حكاياتها الجميلة ، حتى جاراتنا كن يتركن حالهن ويبقين منصتات لها .
عندما تراهن أمي تتعجب منهن !.
يقلن :
- حكايتها جميلة ولسانها حلو .
تلك أيام بعيدة لا أتذكرها .
أمي تقول إنها كانت حامل في ..
أبوك كان في الجبهة وجدتك تأخذ أخوتك وتصعد بهم إلى السطح وتقول :
- سننتظر أباهم حتى يعود .
عندما نزهق من واجباتنا ونحس ضيقا نهرع إلى حجرتها ، تتلقفنا في حضنها ، تسألنا عن مدرستنا وأحلامنا التي تشبه بالونات ملونة وأحوالنا ، تعبث في خصلات شعري بكفها ونسمعها تدندن بأغان شجية لا نسمعها إلا منها .
يسرى غناؤها في عروقنا ، تفتح درج دولابها الصغير ، تخرج الحلوى وتعطيها لنا ، وتقول :
- أبوكم منذ صغره يحب الحلوى
يأتي ليبحث عنها في درجي ..
وأحرص ألا يعود بدونها .
سعاد التي أصبحت تشبه أمي كثيرا تحب أن تسمع حكاياتها عن أبى ، تسرح جدتي ببصرها إلى صبارها وتقول :
- لم يكن أحد مثل أبيكم ....
.........................
تفتح ذراعيها لتحتضن شيئا لا نراه وتظل تحكى حتى يغلبني النعاس .
أصحو على صوت أمي تنادينا :
- اتركوا جدتكم لتستريح ..
أرى ملامحها تشي بألم حقيقي ، يذهب أخوتي وأتشبث بحضنها ، تناديني أمي لكنها تنهرها بنظراتها ، فتنسحب وتتركني وحدي معها .
تضمني إلى صدرها ..
أتنفس رائحتها بعمق وأسمعها تهمس بأغانيها الشجية حتى أغلق عيني على البالونات الملونة وأنام .
***
كانت لا تعرف القراءة ..
لكننا نراها تفتح دولابها ، تدحرج نظراتها ناحية الكتب وتتلمس حوافها بأصابعها ، تخرج أحدها ، تتشممه وتتنفس رائحته كأن به أريجا يبعث الحياة فيها وتضمه إلى صدرها .
حين نسألها :
- هل تقرأين يا جدتي ؟!
تبتسم وتقول : إنها تركت المدرسة من ثالثة ابتدائي وتزوجت من جدنا الله يرحمه ..
( على أيامنا لم تكن البنات يكملن تعليمهن ،كنت اقرأ الكلمات الكبيرة في جرائد أبيكم ، أتهجاها حرفا .. حرفا ، وأبوكم يضحك .
لكنه أصر أن يعلمني .. )
تعتدل في جلستها وتزيحنا بعيدا عن صدرها وتقول :
- هاتوا ورقة وقلما .
تجرى صباح وتحضر كراستها وقلمها .
تمسك جدتي بالقلم .
نراه يرتعش بين أصابعها ، ونرى اسم أبينا منقوشا فوق الصفحة البيضاء ودموعا غزيرة تبللها .
..........................
أمي تقول : إنها كتب أبي ، بعد أن استشهد في الحرب جمعتها.
وضعت ملابسها في رف ورصت الكتب واحتفظت بها في دولابها ، حتى عندما تأخذ سعاد كتابا لتقرأه لا تنام جدتي إلا بعد أن تطمئن أنها أعادته .
وحين تنتعش الحكايات على لسانها ويفارقها الصمت تقول : إن أبى كان يقرأ كثيرا ، من صغره يحب الكتب وينفق مصروفه عليها ، لم يكن مثل باقي أصحابه ، كان يقول :
- الكتب تعوضك عن كل شيء ..
لم يخرج مرة إلا وعاد ومعه كتابا جديدا .
حتى ساعة الحرب ، عندما كان يأتي في أجازة وأجهز طعاما ليأخذه معه لأصحابه وأضعه في الشنطة أجده يحمل كتبا معه ، وحين أقول له :
- يا ابني الكتب حتى في الحرب ؟!!
يضحك ويقول :
ـ اقرأها وقت الراحة ..
يسكت لحظة وأسمعه وكأنه يكلم نفسه :
ـ ليتنا قرأناها جيدا !.
ويعود ليقبل يدي ويرتمي في حضني ويتركنا إلى الجبهة .
***
سعاد تقول إن جدتي وصبارها يتشابهان .
لهما نفس الندوب الغائرة والحزن الشفيف .
أمي تقول إن جدتي هرمت ولم تعد تستطيع الذهاب لزيارة قبر أبيكم ، أحضرت الصبار ووضعته على إفريز نافذتها .
كنا نراها تعتني بها وترويها .
نطل عليها ، نرى شفتيها تتحركان وكأنها تتكلم مع أحد ، لكننا لا نسمعها ولا نجد غير صبارها .
بين حين وآخر كنا نراها تلقى أحزانها وترتدي فرحتها ، تفتح بابها وتنادى علينا في لهفة .
نترك حاجتنا ونهرع إليها .
تشير لنا فنبقى في أماكننا صامتين .
وتشير ناحية طائر أخضر صغير بجناحين أزرقين يحوم حول صبارها وتقول :
- روح أبيكم .
نرى الدموع تتراكم في عيني أمنا ، تتركنا وتهرول إلى حجرتها صامتة ..
ومن بعيد نسمع أنينا مكتوما .
سعاد تقول :
- لحظات الوجع تظل باقية في النفس .
كنا نرى الطائر الصغير يدخل حجرتها ويظل يحوم ويرفرف بجناحيه الصغيرين فوق سريرها ودولابها الخشبي القديم وحول وجهها ، وحين يتركنا نرى الدموع تسقط من عينيها ونسمع أنينها الممتد .
***
منذ ماتت جدتي ونحن ننتظر الطائر الصغير ..
نفتح شيش نافذتها الرمادي ، يفاجئنا صبارها الذي أصابه العطش وكساه التراب الناعم بنظرة قاسية .
نزيحه بأكفنا ونرويها ، لكنها كانت تذبل ...
نجلس على سرير جدتي .
صورة أبى تلح على رأسي .. لا أعرف سببا لإحساسي الشديد بفقده .
تحكى سعاد ما حفظته عن جدتنا من حكايات حتى تتعب .
نستلقي على ظهورنا ونراقب السحابة البيضاء فوق سرير جدتي ، نخرج الكتب القديمة ونقلب صفحاتها التي اصفرت ونشم رائحتها العتيقة ..
ونظل ننتظر طائرنا الصغير .

ليست هناك تعليقات: