يوسف
الشارونى إنسانًا
بقلم: يعقوب
الشارونى
أبدأُ بصورةٍ انطبعَتْ فى ذاكرتى لا تمحوها
الأيامُ ، حدثت فى منتصفِ الأربعينياتِ من القرن الماضى :
* اقتربَ موعدُ السفرِ ، وتَهيَّأ الأخُ الأكبرُ
للخروجِ بصحبةِ الصديقَيْنِ أحمد بهاءِ الدينِ وفتحى غانم ليكونا فى وداعِهِ ، وهو مسافرٌ إلى السودانِ حيث
سيعملُ مدرسًا فى الخرطومِ .
لكن المفأجاةَ كانَتْ فى انتظارِ
الصديقَيْنِ ، فقد ارتفعَتْ حرارةُ الأخِ الأكبرِ مع آلامٍ شديدةٍ فى المعدةِ .
وبدلاً من الذهابِ إلى محطةِ القطارِ
المُتَّجهِ إلى أسوانَ ( وبعدها
الباخرةِ المتجهةِ إلى السودانِ ) ، ذهبَ
الأصدقاءُ الثلاثةُ إلى الطبيبِ .
لم يجدِ الطبيبُ سببًا مُحدَّدًا للمرضِ
.
بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ ، عندما فاتَ موعدُ
القطارِ ، اختفَتْ كلُّ أعراضِ المرضِ .
قالَ الطبيبُ ضاحكًا : " إنكَ
نفسيًّا لم تستطعْ الابتعادَ عن كتبِكِ وأصدقائِكَ بالقاهرةِ ! "
قالَ الصديقانِ : " بل قُلْ هى
حساسيةُ الأديبِ الفنانِ ، فهو " عريسٌ " جديدٌ ، رأى أن يسبقَ عروسَهُ
، لكنْ يبدو أنه لا يرغبُ فى السفرِ إلا وهى معَهُ !! "
- هذه حادثةٌ لا أنساها ، عاشَها فى بداية حياتِه العملية أخى
الأكبرُ يوسفُ الشارونى ، الذى
ملأ حياتى منذُ كنتُ فى المدرسةِ الابتدائيةِ ، بكتبِ الأدبِ والنقدِ والفلسفةِ وعلمِ النفسِ ، وبأحاديثِهِ مع
أصدقائِهِ الذين تألَّقوا معه جميعًا فى سماءِ الأدبِ والفكرِ والفنِّ ، ومن بينهم الأساتذةُ أحمدُ بهاءُ الدين وفتحى غانم
وأنيس منصور وعبد الرحمن الشرقاوى ود . مصطفى سويف وبدر الديب .
* * *
إنها صورةٌ تكشفُ ، على نحوٍ مكثفٍ ، عن جوانبَ مختلفةٍ تُفصِحُ عن شخصيةِ
أخى الكاتبِ الكبيرِ وأولِ أساتذتى ، يوسف الشارونى .
ذلك أننى عندما كنتُ فى الرابعةِ الابتدائيةِ ، كانَ أخى الأكبرُ يوسفُ
فى السنةِ الأولى بقسمِ
الفلسفةِ وعلمِ النفسِ فى كليةِ الآدابِ بجامعةِ فؤاد الأول ( القاهرة الآن ) .
وهكذا امتلأ البيتُ حولى ، منذ بلغتُ العاشرةَ من عمرى ، بالمسرحياتِ
والرواياتِ التى كانت قد صدرَتْ فى ذلك الوقتِ ( 1941 - 1945 ) لتوفيق الحكيم ، الذى
تعلمنا منه جميعًا فنَّ الحوارِ وأسرارَه ، وبكتبِ علمِ النفسِ للدكتور يوسف مراد
، وكتبِ الفلسفةِ للدكتورِ عثمان أمين حتى إننى كنتُ واحدًا من ثلاثةٍ نجحوا
وحدَهم على مستوى مصرَ ، فى مسابقةِ الفلسفةِ التى كانت تقيمُها وزارةُ التربيةِ
والتعليمِ لطلابِ السنةِ النهائيةِ من التعليمِ الثانوىِّ .
وأذكر ، عندما أحضرَ لى أخى
يوسف رواياتِ نجيب محفوظ الأولى ، وأنا فى بداية المرحلة
الثانوية ، (وكان عمرى 11 سنة) ، أنه قالَ كأنما يتنبأ : " إنه أعظمُ كاتبِ
روايةٍ باللغةِ العربيةِ ، وقد يحصلُ يومًا على جائزةِ نوبل " .. ولعله قالَ هذه العبارةَ ليثيرَ حماسى لكاتبٍ
لم أكن قد قرأت له من قبلُ ، لكننى كنتُ أتذكرُها دائمًا كلما انتهيتُ من قراءةِ
إحدى رواياتِ كاتبِنا الكبيرِ . وعندما حصلَ أستاذُنا نجيب محفوظ على الجائزةِ
عامَ 1988 ، استعدتُ بقوةٍ كلماتِ أخى يوسف الشارونى ، الذى أدركَ بحسِّه الفنىِّ
المُرهَفِ أننا أمامَ روائىٍّ مصرىٍّ يستطيعُ أن يضارعَ أكبرَ أدباءِ العالمِ .
وكان أخى يوسف هو الذى اصطحبَنى إلى أولِ لقاءٍ لى مع كاتبِنا الكبيرِ نجيب
محفوظ ، عندما كان يعقدُ ندوتَه الأسبوعيةَ بكازينو أوبرا فى وسطِ القاهرةِ .
* أصدقاءُ يوسف الشارونى :
كذلك امتلأ بيتُنا بعددٍ كبيرٍ من
أصدقاءِ أخى يوسف ، مما أتاحَ لى الاستماعَ ، فى تلك السنِّ المبكرةِ ، إلى كثيرٍ
من المناقشاتِ والآراءِ ، وقراءةَ عددٍ كبيرٍ من المخطوطاتِ لأعمالٍ أدبيةٍ وفى
مجالِ الدراساتِ النفسيةِ ، مما صقلَ موهبتى
الأدبيةَ ، وأثارَ اهتمامى المبكرَ بقضايا وحقائق نفسية وتربوية وآراءٍ
متعددةٍ ما كان يمكنُ أن يتعرفَ عليها من كانوا فى مثلِ سنِّى فى ذلك الوقتِ ،
وأفادَنى هذا كثيرًا وأنا أكتبُ بعدئذٍ للأطفالِ والشبابِ الصغيرِ ، كذلك وأنا
أختار كتبى لمكتبتى الخاصة .
- ومن بينِ ما أذكرُه ، أنه فى حوالَىْ عام
1951 ، عندما كنتُ طالبًا فى السنةِ النهائيةِ بكليةِ الحقوقِ بجامعةِ القاهرةِ ، أعطانى أخى يوسف رسالةً وصلَتْ إليه من باريسَ .. كانَ الشاعرُ الكبيرُ
الأستاذُ عبدُ الرحمنِ الشرقاوى فى بعثةٍ إلى باريسَ لمدةِ عامٍ ، وأرسلَ من
هناك إلى أخى يوسف مخطوطَ قصيدتِه الرائعةِ " من أبٍ مصرىٍّ
إلى الرئيسِ ترومان " - وكعادةِ أخى أشركَنى معه فى الاستمتاعِ بالقصيدةِ وتذوقِها ، لكى
يرسلَ بعدئذٍ انطباعَه عنها إلى صديقِه ، الذى
أصبحَ من أعلامِ الشعرِ والروايةِ فى مصرَ والعالمِ العربىِّ .
وهكذا كان أخى الأكبر يساهمُ فى تنميةِ تذوقى للشعرِ وغيرِه من الفنونِ ،
ومن أهمها القصة ، كما ساهمَ فى تنميةِ جوانبَ أخرى متعددةٍ من حياتى وحياةِ إخوتى
، بل وحياة عدد كبير من شباب المبدعين .
* يوسفُ والثقافةُ الموسيقيةُ :
وكانت الثقافةُ الموسيقيةُ من بينِ الخبراتِ المبكرةِ التى أتاحَها يوسف
الشارونى لى ولإخوتى فى ذلك الزمنِ المبكرِ من حياتِنا .
لقد لاحظَ عددٌ كبيرٌ من النقادِ ، أنه
توجدُ فى كثيرٍ من قصصِ الشارونى " ألحانٌ متقابلةٌ " ، أو نغمةٌ
أساسيةٌ أو رئيسيةٌ ، تعقبُها وتحيطُ بها تداعياتٌ تنتقلُ بالقصةِ من الخاصِّ إلى
العامِّ ، أو من العالمِ الخارجىِّ إلى العالمِ الداخلىِّ ، أو العكسُ ، ثم لا
تلبثُ النغمةُ الرئيسيةُ أن تعودَ أكثرَ قوةً ووضوحًا ، وهو ما اعتدْتُ أن
أسمِّيَه " تنويعاتٍ ومقابلاتٍ على اللحنِ الأساسىِّ " .
والحقيقةُ أن ملاحظاتِ هؤلاء النقادِ
حولَ المقارنةِ بين قصصِ يوسف الشارونى والأعمالِ الموسيقيةِ صادقةٌ جدًّا ، وإن
كانوا لا يعرفونَ أن مصدرَها هو ثقافتُه الموسيقيةُ المبكرةُ ، التى تذوقْناها معه
، نحن إخوتُه ، انطلاقًا من غرفتِه فى بيتِنا الذى نشأنا فيه معًا .
- وبهذه المناسبةِ أذكرُ أن والدَنا ، عندما قررَ الإقامةَ بالقاهرةِ ،
وتَركَ الريفَ و " شارونة " بصعيدِ مصرَ ،
اصطحبَ معه بعضَ قيمِ الريفِ ، ومنها الحرصُ على كثرةِ الأبناءِ ، فكنا تسعةً ، يوسفُ ثالثُهم وأنا
سادسُهم .
كذلك حرَصَ والدُنا على بناءِ بيتٍ متسعٍ وسطَ قطعةِ أرضٍ كبيرةِ المساحةِ
، بها كرمُ عنبٍ ونخيلٌ
وأشجارُ سنط ، وحديقةٌ نزرعُها ونلعبُ فيها ، لأن الرجلَ فى الريفِ تلازمُه
الرغبةُ فى امتلاكِ مساحةٍ من الأرضِ الزراعيةٍ . وعندما ينتقل إلى المدينةِ ، يكون
البديلُ عن الأرضِ أن يمتلكَ بيتًا متسعًا ، أتاحَ أن يستقلَّ كلُّ واحدٍ من
الأبناءِ بغرفةٍ مخصصةٍ له .
وفى غرفةِ يوسف ، شاهدْتُ مكتبتَه
تتكونُ خطوةً بعدَ خطوةٍ ، أو كتابًا بعدَ
كتابٍ ، فكانَ أولُ شىءٍ حاولتُ أن أتمثلَ به أن أنشئَ لنفسى مكتبةً ، بل
حاولَ كلُّ واحدٍ من إخوتى أن تكونَ له مكتبتُه الخاصةُ فى غرفتِه منذ سنواتِه
المبكرةِ ، إلى أن أصبحَتِ المكتبةُ تملأ معظمَ غرفِ بيوتِنا حاليًّا ، وكانَ هذا
من أهمِّ نتائجِ القدوةِ التى قدمها لنا الأخُ الأكبرُ ، بعد الوالدِ الذى كان
يمتلكُ أيضًا مكتبةً خاصةً ، ونراه دائمًا مشغولاً بالقراءةِ أو الكتابةِ .
* يوسفُ " وجمعيةُ الجرامافون " :
- وعندما كان أخى يوسفُ طالبًا فى كليةِ الآدابِ ، كانت هناك جمعيةٌ
اسمُها " جمعيةُ الجرامافون
" لتنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ . كانت تجتمعُ فى بيوتِ الأعضاءِ بصفةٍ دوريةٍ
. والحقيقةُ أننى لم أكن قد استمعتُ إلى الموسيقى الكلاسيكيةِ بقصدٍ ، قبل أن
أستمعَ من أخى عن تلك الجمعيةِ عندما كان عمرى 11 أو 12 عامًا .
وذاتَ يومٍ أعلنَ لنا أخى يوسفُ أنه
جاءَ الدورُ على بيتِنا ، وأن أعضاءَ الجمعيةِ سيجتمعون فى غرفتِه للاستماعِ إلى
الموسيقى المسجلةِ على أسطواناتٍ . وأحضرَ أخى الأسطواناتِ وجهازَ تشغيلِها (
الجرامافون أو البيك آب ) ، واستمعنا إليها مرارًا قبلَ وبعدَ مجىءِ زملاءِ يوسف (
فى الجامعةِ ) ، ومن بينها السيمفونيةُ الخامسةُ لبيتهوفن ، وشهر زاد لريمسكى
كورساكوف . وقد حفظْنا أنا وأخى صبحى ( الدكتورُ صبحى الشارونى الناقدُ التشكيلىُّ
) مقطوعاتٍ كثيرةً مما سمعْنا ، وأخذنا نرددُها فى البيتِ ومع الأصدقاءِ .
وبدأ يوسفُ يكشفُ لنا أسرارَ القصائدِ
السيمفونية ، وكيف أنها تدورُ حول لحنٍ أساسىٍّ يترددُ خلالها ، لكنه يُفسحُ
الطريقَ لغيرِه من النغماتِ ، ويكونُ التناسقُ أو التناغمُ أو الهارمونى هو الذى
يحققُ الوحدةَ والتماسكَ بين أجزاءِ العملِ الموسيقىِّ ويعطى له أثرَه الكلىَّ .
وقد دفعَنى هذا إلى الحرصِ بعدئذٍ على الاستماعِ إلى البرنامجِ الموسيقىِّ
بالإذاعةِ ، وقراءةِ الدراساتِ التى تساعدُ على تنميةِ التذوقِ الموسيقىِّ .
هذه الثقافةُ الموسيقيةُ انعكسَت بوضوحٍ على البناءِ المتناسقِ الذى نجدُه
فى عددٍ كبيرٍ من قصصِ يوسف الشارونى ، رغمَ اختلافِ النغماتِ ما بين العالمِ
النفسىِّ للبطلِ والعالمِ الخارجىِّ ، أو ما وصفَه أستاذُنا يحيى حقى بأنها قصصٌ
" ذاتُ بعدَيْنِ " ، وهو ما جعلَ عددًا من
النقادِ ، كما ذكرتُ ، يشبهون قصصَ يوسف الشارونى بالأعمالِ الموسيقيةِ ، وهم لا يعرفون أن يوسف الشارونى
قد تأثر كثيرًا فى هذا بثقافتِه الموسيقيةِ ، التى بدأت فى الجامعةِ ، ونقلَها
بوعىٍ لمن حولَه ، والتى طالما حدثتُ نفسى أنها هى التى أوحت إليه بهذا الشكلِ
الجديدِ الحديثِ لقصصِه .
* التناغمُ والتمردُ فى قصصِ يوسف
الشارونى :
- واللافتُ للنظرِ أنه مع هذا التناغمِ الذى يقومُ عليه عددٌ كبيرٌ من قصصِ
يوسف الشارونى ، فإن هذا هو الشكلُ الذى اختاره ليعبرَ من خلالِه فى معظم قصصِه
عن " التمردِ " .
إن شخصيةَ يوسف الشارونى ، على الرغمِ
مما كانَ يبدو عليه شخصيًّا من هدوءٍ ، حافلةٌ بالتمردِ . لقد تمردَ يوسفُ أصلاً
على الشكلِ الواقعىِّ للقصةِ ، كما تمردَ على الشكلِ الرومانسىِّ ، وبدأ كتاباتِه
القصصيةَ الأولى بالقصةِ الحداثيةِ ، وبأكثرِ الأساليبِ معاصرةً فى القصةِ
القصيرةِ ، حتى أطلقَ عددٌ من أهمِّ النقادِ على كتاباتِه أنها " قصصٌ تجريبيةٌ
أو تعبيريةٌ " .
- أما من ناحيةِ الموضوعِ ، فإن روحَ
التمردِ هذه تسفرُ عن نفسِها بوضوحٍ فى شخصياتِ وموضوعاتِ قصصِه ، خاصةً فى
مجموعتِه القصصيةِ الأولى " العشاقُ الخمسةُ " ، ويظهرُ التمردُ هنا كنوعٍ من الاحتجاجِ على ما يحيطُ
الإنسانَ من ضغوطٍ وأوضاعٍ وتحدياتٍ .. إنه تمردٌ على الواقعِ الذى تعيشُه
الشخصياتُ ، وتسعى إلى تغييرِه .
- ولعلَّ
أوضحَ مثالٍ على ذلك قصتُه " مصرعُ
عباس الحلو " . إنها قصةُ إنسانٍ يريدُ أن
يتحررَ من واقعٍ يرفضُه . إنسانٍ يعيشُ حياةً رتيبةً خاملةً ليس لها هدفٌ ، ثم
يتحولُ نتيجةَ الحبِّ والطموحِ إلى إنسانٍ متمردٍ ، يرتكبُ الفعلَ الإيجابىَّ
عندما يحاولُ القضاءَ على مَن حاولَت ، ومَن حاولوا معها ، إحباطَ مشروعِه للتحررِ
.. عندئذٍ يشعرُ أنه حصلَ على قمةِ تحررِه ، وساهمَ فى تحررِ العالمِ كلِّه .
- ومن خلالِ هذا التناغمِ بين العالمِ
النفسىِّ الداخلىِّ والعالمِ المرفوضِ
الخارجىِّ ، ومن خلالِ هذا التمردِ والاحتجاجِ والرفضِ الذى تعبرُ عنه
الشخصياتُ ، فى بناءٍ فنىٍّ متكاملٍ ، نجدُ أنفسَنا أمام أعمالٍ فنيةٍ توحى بمواقفَ إيجابيةٍ تعطى الأملَ فى
التغييرِ وتحثُّ عليه . إنها احتجاجُ على الواقعِ ، قد يفقدُ فيه البطلُ الحبَّ أو
الحياةَ أو العقلَ ، لكنَّ قصصَ يوسف الشارونى ، من خلالِ ذلك كلِّه ، وبما يختارُ
الكاتبُ من ألفاظٍ وعباراتٍ وصياغةٍ ، تؤكدُ
دائمًا ، ومن خلال الفنِّ ، أنه فى قدرةِ الإنسانِ أن يغيرَ دائمًا هذا
الواقعَ إلى الأفضلِ .
* *
*
لقد وجدتُ دائمًا ، أنه بالرغمِ من البناءِ الفنىِّ المحكمِ لمعظمِ قصصِ
يوسف الشارونى ، فإنه يوجَدُ خلفَ كلِّ قصةٍ شىءٌ يريدُ أن يقولَه . وأوضحُ هذه
الأشياءِ ، أنه فى قدرةِ الإنسانِ أن يغيرَ الأوضاع التى تقيدُه وتكبلُه والتى لا
يرضَى عنها .
- نؤكدُ هذا بمثالٍ آخرَ من قصةِ " رسالةٌ إلى امرأةٍ " ، فى مجموعتِه القصصيةِ
الثانيةِ . إننا نرَى فيها بوضوحٍ صورةً أخرى من صور الدعوةِ إلى التمردِ ،
فهى من أوائلِ القصصِ فى اللغةِ العربيةِ التى عبرت عن حاجةِ المرأةِ إلى التمردِ
والتحررِ ، وضرورةِ هذا التمردِ .
إن قصةَ " رسالةٌ إلى امرأةِ " ، تتوجهُ مباشرةً إلى المرأةِ ،
لكى تغيرَ من واقعِها الذى تستسلمُ فيه إلى المصيرِ الذى يفرضُه الغيرُ عليها ..
مصيرٍ يرسمُه أفرادُ الأسرةِ ولا تملكُ أمامَه شيئًا . لقد استسلمت بطلةُ القصةِ ، لكن
القصةَ نفسَها تؤكدُ أن فى استطاعةِ المرأةِ أن تقاومَ وأن تنتصرَ .
- كذلك قصةُ " الحذاء " التى
نشرَها يوسف عام 1951 ، وتدور حولَ رجلٍ يستخدمُ حذاءً قديمًا ، تصيبُه الشقوقُ
ويتمزقُ مرةً بعد أخرى ، فيذهبُ إلى الإسكافىِّ لإصلاحِه .. وبعدَ أن تكررَ الأمرُ
عدةَ مراتٍ ، صارحَه الإسكافىُّ : " ما فيش فايدة .. لازم جزمة جديدة " .. ومن الواضحِ أن القصةَ تقول إنه أحيانًا لا ينفعُ
الترميمُ ، وإنه لابد من التغييرِ الشاملِ .
* جذورُ التمردِ والدعوة إلى
التغيير فى حياةِ يوسف الشارونى :
ومع ذلك فإن عددًا من النقادِ ، أو من تناولوا قصصَ
الشارونى بالتعليقِ ، قد ركزوا معظمَ ملاحظاتِهم على أن " الشارونى قادَ
وأثرَى الجانبَ التعبيرىَّ فى القصةِ " ( اقرأ شعبان يوسف -
كتاب رسالة إلى امرأة - ص 172 ) .
وأفاضوا
فى الحديثِ عن الابتكارِ فى المعالجةِ ، وقوةِ التأملِ ، وسردِ المشاعرِ
والأحاسيسِ التى تدورُ فى نفسِ الإنسانِ ( د . ريمون فرنسيس ) .
بل
يقولُ الناقد شعبان يوسف : " إن القصةَ عند يوسف الشارونى ليست منطويةً على
هدفٍ معينٍ سياسيًّا أو إصلاحيًّا " .
لذلك أجدُ من المهم الكشفَ عن جذورِ " التمردِ
" فى حياةِ يوسف الشارونى وقصصِه . وعما يوجدُ خلفَ كلِّ قصةٍ من شىءٍ يريدُ
أن يقولَه ، وعلى وجهٍ خاصٍّ قدرةُ الإنسانِ على أن يغيرَ الأوضاعَ التى لا يرضَى عنها .
ففى
عامِ 1942 ، عندما كنت فى العاشرةِ من عمرى ، فى السنةِ الرابعةِ الابتدائيةِ (وكانت نهاية المرحلة
الابتدائية) ، كان أخى يوسف قد أتمَّ السنةَ الأولى من دراستِه بقسمِ الفلسفةِ
وعلمِ النفسِ بكليةِ الآدابِ بجامعةِ القاهرةِ .
وعند
بدايةِ العطلةِ الصيفيةِ ، اتفقَ مع عددٍ من زملائه أن يذهبوا إلى مدينةِ التلِّ
الكبيرِ ، لتجربةِ العملِ فى المتاجرِ التى كانت تبيعُ كلَّ شىءٍ للجنودِ الأجانب
الذين كانوا يتمركزون ، خلال الحرب العالمية ، فى المدنِ الممتدةِ على طولِ قناةِ
السويسِ والقريبةِ منها .
سافرَ
فى الصباحِ.. وعندَ منتصفِ الليلِ ، فوجئنا ، فى بيتِنا ، بطرقاتٍ عنيفةٍ على بابِ
البيتِ .. فزعنا من نومِنا منزعجينَ ، وما إنْ فتحنا البابَ ، حتى اندفعَ إلى
الداخلِ مجموعةٌ من الرجالِ ، بعضُهم يرتدى البدلةَ وبعضهم الملابسَ البلديةَ ،
ومعهم عددٌ من جنودِ الشرطةِ .. انتشروا بغيرِ استئذانٍ ، فى كلِّ أنحاءِ البيتِ
.. وفجأة سألَ أحدُهم - اتضح فيما بعد أنه من ضباطِ القسمِ السياسىِّ - أين
المدعُوُّ يوسف ؟
وهكذا
اكتشفنا ، والدى ووالدتى ونحن إخوتُه وأخواتُه الصغارُ ، أن كلَّ هذا العددِ الذى
اقتحمَ بيتَنا ، إنما يبحثُ عن أخى الذى لم يكن قد بلغ بعدُ السابعةَ عشرةَ من
عمرِه ، والذى ذهبَ وحده فى أولِ مغامرةٍ له ليجربَ عالمَ العملِ أو الوظيفةَ .
لكن ..
لماذا ؟
لم
يحاولْ أحدٌ أن يجيبَ عن تساؤلاتِنا .
أخبرَه
والدى أن يوسف سافرَ فى الصباحِ إلى التلِّ الكبيرِ ليشتغلَ . طلبوا عنوانَه ، لكننا كنا فى انتظارِ أن
يرسل إلينا عنوانَه عندما يستقرُّ هناك . سألوا عن المكانِ المخصصِ فى البيتِ
لنومِه ، والمكتبِ الذى يراجعُ فوقه موادَّ دراستِه ، فأرشدَهم والدى إلى غرفتِه
المخصصةِ له فى الدورِ الأرضىِّ من منزلِنا .
اندسستُ
أراقبُهم يـُقَلِّبون فى كلِّ شىءٍ ، وعلى وجهٍ خاصٍّ الكتبُ التى جمعَها أخى فى
الدولابِ الذى خصصَه ليكونَ " مكتبتَه " .
لكن ما
أثارَ دهشتى ، أنهم اتجهوا إلى " سلةِ المهملاتِ " ، فأفرغوها فوقَ مكتبِه ،
وراحوا يقلبون فى كلِّ قطعةِ ورقٍ ممزقةٍ فى السلةِ ، يقرءونها باهتمامٍ ، ثم
حفظوها معهم باهتمامٍ !!
سألت
نفسى : " هل يمكنُ أن يكونَ فى مثل هذا الورق المُهْمَلِ ، سببٌ لكلِّ هذا
الغزوِ المفاجئِ لبيتِنا ؟! "
وعندما
تجمعوا لينسحبوا ، تصورت أن الغزوَ انتهى ، لكنهم تركوا وراءهم رجلَ شرطةٍ جلس على
مقعدٍ أمامَ مدخلِ بيتِنا ، للقبضِ على يوسف إذا حدثَ وعادَ إلى البيتِ !
وبعدَ
أيامٍ ، اختفَى رجلُ الشرطةِ ، ففهمنا أن شيئًا قد حدثَ !
وانطلق
أبى إلى أحدِ المحامين ، فعرف أنه تم القبضُ على يوسف ، وإحضارُه إلى القاهرةِ من
التلِّ الكبيرِ ، ثم أودعوه مركزَ الشرطةِ إلى أن تُتِمَّ النيابةُ تحقيقاتِها معه
.
تحقيقاتٌ
حول ماذا ؟ .. لم نصل إلى أحدٍ ليجيبَ عن سؤالِنا .
أخيرًا
عرفنا أنه صدر قرارٌ بحبسِه تحتَ التحقيقِ فى سجنِ مصرَ بجوارِ قلعةِ القاهرةِ ،
بعد أن تم اتهامُه " بالانضمامِ إلى جماعةٍ تهدفُ لقلبِ نظامِ الحكمِ "
- وذلك بعد أن اكتشفوا أنه حضر ندوةً أو محاضرةً قيلت فيها أشياءُ وصفوها بأنها
" خطيرةٌ " .
وقضى
يوسفُ تسعةَ أشهرٍ فى " قرميدان " تحتَ التحقيقِ . وسأل والدى المحامى :
" ما هى العقوباتُ المتوقعةُ لمثلِ هذه التهمةِ ؟ " .. وعاد والدى إلى
البيتِ مهمومًا ، فقد قال له المحامى " العقوبةُ قد تصلُ إلى الإعدامِ أو
الأشغالِ الشاقةِ المؤبدةِ !
"
سألت
نفسى : " هل تطاردُ السلطاتُ أخى بسببِ قصاصاتٍ ممزقةٍ وجدوها فى سلةِ
المهملاتِ بغرفتِه ؟ "
وبعد
هذه الشهورِ الطويلةِ ، أصدر قاضى التحقيقِ قرارَه بأنه لا وجه لإقامةِ الدعوى
الجنائيةِ ضد أخى وبقيةِ زملائِه ، فليست هناك أيةُ جماعةٍ ، ولا اتفاقٌ جنائىٌّ ،
ولا محاولةٌ لقلبِ النظامِ ، لكنهم طلبةٌ دفعهم حبُّ الاستطلاعِ إلى الذهابِ
للاستماعِ إلى محاضرةٍ عن " العدلِ الاجتماعىِّ " .
وعندما
عاد أخى فى منتصفِ العامِ الدراسىِّ التالى إلى الجامعةِ ، اكتشفَ أن شهورَ السجنِ
جعلت منه " بطلاً " ، ينظر إليه الزملاءُ والزميلاتُ كرائدٍ فى
العملِ السياسىِّ .
لقد ظنت أجهزةُ الأمن أنها لقنته مع زملائه درسًا عقابًا
له لشغفِه بأن يعرفَ ، وأن يتعرفَ على معنى " العدلِ الاجتماعىِّ " .
لكننى اكتشفتُ أن ما تعلَّمَه أخى يوسف كان شيئًا
مختلفًا تمامًا عما قصدَتْ إليه أجهزةُ الأمنِ !!
*
* *
فبعد أربعة أعوام ، فى عامِ 1946 ، قام إسماعيل صدقى رئيسُ الوزراءِ ، بحملةٍ ضدَّ الصحفيينَ
والمفكرين والكتابِ ، وذلك عندما تحركَتِ المنظماتُ الشعبيةُ تعقدُ المؤتمراتِ
وترتبُ المظاهراتِ احتجاجًا على فكرةِ تكوينِ " لجنةِ الدفاعِ المشتركِ
" بين مصرَ وبريطانيا . وأصدرت
اللجنةُ الوطنيةُ للعمالِ والطلبةِ بيانًا حددوا فيه يومَ 11 يوليو 1946 ( ذكرى
ضربِ الإنجليزِ للإسكندريةِ عامِ 1882 ) يومًا للحدادِ العامِّ وبدءِ الجهادِ الوطنىِّ
.
وهنا
أسفرَ صدقى عن وجهِه الحقيقىِّ ، وقامَ فى اليومِ السابقِ على الإضرابِ ، باعتقالِ
حوالَىْ مائتين من الكتابِ والصحفيين وزعماءِ اللجنة الوطنية ونقاباتِ العمالِ
والطلبةِ ، وأغلقَ كثيرًا من دور النشرِ والجمعياتِ مثلِ اتحادِ خريجى الجامعةِ ،
ومؤتمرِ نقاباتِ عمالِ القطرِ المصرىِّ ورابطةِ بعثاتِ الجامعةِ والمعاهدِ ، كما
أغلقَ نهائيًّا عددًا من الصحفِ والمجلاتِ من بينِها الوفدُ المصرىُّ ، وصادرَ
لعدةِ أيامٍ جرائدَ المصرىِّ والكتلةِ ومصرَ الفتاةِ ، ومنعَ الاحتفالَ بيومِ 11
يوليو .
وأَطْلَقَ
على هذه الحملةِ ( قضيةَ المبادئِ الهدامةِ ) ، وألصقَ بالمعتقلين تهمةَ الشيوعيةِ
، وكان منهم سلامة موسى والدكتور محمد مندور ومحمد زكى عبد القادر وغيرُهم.
وكانت
هذه الحملةُ نقطةَ تحولٍ فى أسلوبِ السلطةِ التنفيذيةِ ، إذ جعلت تلك التهمةَ
سيفًا مسلطًا على رقابِ كلِّ الوطنيين الذين يقفون موقفَ المعارضةِ لربطِ مصرَ
بعجلةِ الاستعمارِ .
وأصدرَ صدقى بيانًا نشرته الصحفُ على صفحتين كاملتين ،
تبريرًا لفعلتِه ، وتضمَّنَ البيانُ مقتطفاتٍ طويلةً مما نشرته الصحفُ والمجلاتُ
التى أغلقَها أو صادرَها .
وفوجئنا نحن ، إخوةُ يوسف ، بأن البيانَ تضمَّنَ أكثَر
من عشرةِ مقتطفاتٍ من مقالاتٍ نشرَها يوسف فى عددٍ كبيرٍ من المجلاتِ التى تمَّ
إغلاقُها ، بعضُها كانَ موقعًا باسمِه ، وعددٌ كبيرٌ منها بأسماءٍ مستعارةٍ .
وهكذا اكتشفنا أن شهورَ السجنِ كانت مدرسةً ، قرأ فيها
يوسف الكثيرَ ، وسمعَ الكثيرَ ، وشاهدَ أحوالَ المسجونين ، تأمَّلَ وفَكَّرَ فى
الكثيرِ ، فواصلَ على مدى أربعِ سنواتٍ تأكيدَ حقِّ المواطنِ فى العدالةِ
الاجتماعيةِ ، مستخدمًا الكلمةَ والفكرةَ والقصةَ .
وتوقعنا
أن تقتحمَ بيتَنا حملةٌ مشابهةٌ لحملةِ سنةِ 1942 ، لكنْ يبدو أن أحدًا لم يتوصلْ إلى
صاحبِ الاسمِ الحقيقىِّ للأسماءِ المستعارةِ للكتاباتِ التى كانت من بينِ ما
استندَتْ إليه أجهزةُ صدقى فى المصادرةِ والإغلاقِ .
*
* *
هل
أستطيعُ أن أقولَ أيضًا ، إن أحدَ أهمِّ الآثار التى تركَها يوسف الشارونى فى
إخوتِه ، أن الناقدةَ الإيطاليةَ الدكتورة ماريا ألبانو ، أستاذَ الأدبِ العربىِّ
فى جامعةِ نابولى ، والمتخصصةَ فى دراساتِ أدبِ الأطفالِ فى العالمِ العربىِّ ، كتبت عن يعقوب الشارونى تقولُ : " والفضلُ
الكبيرُ للشارونى فى إدخالِ الروايةِ الاجتماعيةِ فى أدبِ الأطفالِ فى العالمِ
العربىِّ " . (
يراجع كتابُ : القصةُ المصريةُ الحديثةُ للأطفالِ - تأليف د . ماريا ألبانو -
الصادرُ عن الهيئةِ المصريةِ العامةِ للكتابِ - صفحة 27 ) .
* يوسفُ ويعقوبُ الشارونىُّ وسلطنةُ عمان :
وهناك مرحلةٌ مهمةٌ فى حياتى ، ربطتنى بسلطنةِ عمانَ فى
مجالِ أدبِ الأطفالِ ، فقمتُ بزيارتِها أكثرَ من
مرةٍ تلبيةً لدعوةٍ كريمةٍ من وزارةِ الإعلامِ . وكانَ لأخى يوسف دورٌ مهمٌّ فى
تلك المرحلةِ .
ففى عامِ 1990 ، طلبت وزارةُ الإعلامِ بسلطنةِ
عمان من أخى يوسف ، الذى كانَ يعملُ عندئذٍ فى عُمان ، أن
يقترحَ علىَّ أن أكتبَ عددًا من الكتبِ للأطفالِ والناشئةِ ، حولَ سلطنةِ عمان .
وبالتنسيقِ معَ وزارةِ الإعلامِ ، اقترحتُ ستةَ
عناوينَ ، أصبحَتْ بعدئذٍ سبعةً ، يقدمُ أولُها إلى الأطفالِ إنجازاتِ صاحبِ
الجلالةِ السلطانِ قابوس بنِ سعيد المعظمِ ، على أن يكونَ اسمُ الكتابِ "
بابا قابوس " - والثانى عن سعيد الكبيرِ ، والثالثُ عن أسدِ البحارِ أحمد بن ماجد ، ورابعُها عن إعادةِ توطينِ المَها فى أرضِ عُمان ، ثم عن شجرةِ البخورِ ، والأفلاجِ ، والنخيلِ فى عُمان . واقترحتُ لهذه
السلسلةِ اسمَ " حكاياتٌ من عمان " .
وقمتُ بزيارةِ عمان ، لأتعايشَ بصدقٍ مع البشرِ والطبيعةِ والإنجازاتِ قبلَ
أن أكتبَ .
وكان أخى يوسف هو دليلى الأولَ أثناءَ زياراتى .
وكم أفادَنى بتوفيرِ
المراجعِ التى قَدَّمَت لى كثيرًا من المعلوماتِ حولَ هذه المجموعةِ
من الموضوعاتِ . كما أمدَّنى بكتبٍ ومجلاتٍ تساعدُ الرسامين على أن
تكونَ كلُّ صفحةٍ من هذه الكتبِ حافلةً بالرسومِ ، التى تتعاونُ مع
النصِّ فى إبرازِ الأثرِ الكلىِّ لكلِّ كتابٍ من هذه السلسلةِ ، التى اخترتُ لها شكلاً
يشبهُ السردَ القصصىَّ ، عن طريقِ اختيار شخصيةٍ عُمانيةٍ أحكى القصةَ على لسانِها ..
فقصتى عن المها ، مثلاً ، أطلقتُ عليها اسمَ "
سلمى فى أرضِ عمان " .. وسلمى هذه هى أولُ " مهاة " وُلِدَت على أرضِ عمان ، بعد قرارِ استعادةِ المها العربيةِ إليها ، الذى أصدرَه عام 1975 صاحبُ
الجلالةِ السلطانُ قابوس المعظمُ .. كما جعلتُ أحدَ
أشجارِ البخورِ تتحدثُ عن ماضى وحاضرِ الاهتمامِ بأشجارِ اللبانِ ، التى اعتبرَها القدماءُ شجرةً مقدسةً .
وكان لتلك المعاونةِ الصادقةِ من أخى الأكبرِ ، الأثرُ الكبيرُ فى
نجاحِ هذه السلسلةِ ، الرائدةِ بين كتبى التى تتحدثُ عن وطنٍ غالٍ عزيزٍ من أوطانِ بلادِنا العربيةِ
.
* جذورُ القلقِ فى شخصياتِ قصصِ يوسف الشارونى :
وإذا كنا نجدُ جانبًا من شخصياتِ يوسف الشارونى يسيطرُ عليه القلقُ ، الذى قد
يتحولُ إلى تمردٍ أو طموحٍ ودعوةٍ إلى التغييرِ ، فإن مشاعرَ القلقِ هذه قد تكونُ لها جذورٌ فى طفولةِ
يوسف الشارونى
...
فعندما كان يوسفُ طفلاً
عمرُه ثلاثُ سنواتٍ ، حدثت
فى الأسرةِ مأساةٌ ظلَّ الأبُ والأمُّ يتذكرانِها على مدى حياتِهما . فقد كان
ليوسف أخٌ يكبرُه بسبعِ سنواتٍ اسمُه "
شكرى " ، مع ثلاثِ أخوات يسبقنَ يوسفَ فى العمرِ وأختٍ أصغرَ منه عمرُها عامٌ
.
وقد تُوفِّيَتْ أولى
البناتِ وعمرُها خمسُ
سنواتٍ قبلَ أن يولدَ يوسفُ ، واستطاعَتِ الأسرةُ عبورَ أحزانِ ذلك الفَقْدِ . لكن
الأحزانَ تجددت عندما فقدت الأسرةُ فجأةً الابنَ الأكبرَ " شكرى " وقد وصلَ عُمرُه إلى عشرِ سنواتٍ ، بينما عُمرُ يوسفَ ثلاثُ سنواتٍ ، فأصبحَ يوسف هو
الصبىَّ الوحيدَ بين ثلاثِ بناتٍ ، تكبرُه اثنتانِ وتصغرُه واحدةٌ . وكان من
الطبيعىِّ أن يشتعلَ قلبُ الأمِّ والأبِ قلقًا على حياةِ يوسفَ بعد أن أصبحَ الذَّكَرَ الوحيدَ بين أخواتِه البناتِ ، بجوارِ الحزنِ الكبيرِ لرحيلِ الابنِ البكرِ .
ولا شك أن هذا القلقَ على حياةِ طفلٍ صغيرٍ فى تلك السنِّ المبكرةِ ، قد تسرب على نحوٍ لا شعورىٍّ من الوالدين
إلى هذا الطفلِ
الصغيرِ ، فأصبح هو نفسُه يعانى شيئًا من
قلقٍ لازمَه طَوالَ حياتِه ، ولعله انعكسَ
على عددٍ من شخصياتِ قصصِه .
هل أستطيعُ
أن أقول إن
هذه الوقائعَ المبكرةَ ، هى أحد
المفاتيحِ لشخصيةِ يوسفَ الشارونىِّ ، وبالتالى أحدُ المصادرِ التى قامت عليها بعضُ ملامحِ شخصياتِه فى قصصِه ، وعلى وجه خاص قصص " دفاع منتصف الليل " و
" لمحات من حياة موجود عبد الموجود
" ؟
هذا أمرٌ
أضعُه أمامَ النقادِ والدارسين ليقولوا فيه كلمتَهم ، بعد أن قالَ الدكتورُ نعيم
عطيه فى كتابِه " يوسفُ الشارونىُّ وعالمُه القصصىُّ " : كانَ يوسفُ
الشارونىُّ من أوائلِ الكُـتَّابِ
المصريين الذين أرسَوْا قواعدَ القصةِ التعبيريةِ ، إذ
جنحَ فى قصصِه إلى التعبيرِ عن موجةِ القلقِ التى تسودُ القرنَ العشرينَ
" .
ونشيرُ هنا إلى نموذجٍ واضحٍ لهذه الشخصياتِ " القَلِقَةِ "
فى قصصِ يوسفَ الشارونىِّ ، هى شخصيةُ " عباس
الحلو " ، التى انتزعَها يوسفُ من بينِ شخصياتِ نجيب محفوظ ،
ثم نسجَ حولَ " مصرعِ عباس الحلو " فى " حانةِ النصرِ "
بالقاهرةِ ، قصةً جديدةً تفيضُ بالقلقِ والطموحِ والتمردِ .
* يوسف الشارونى وحياتُه اليوميةُ :
وعن أسلوبِ يوسفَ الشارونىِّ فى حياتِه اليوميةِ ، يقولُ كاتبَنا الكبيرَ
يحيى حقى :
يوسفُ الشارونىُّ لا يهدرُ وقتَه فى الترددِ للدردشةِ واغتيالِ العمرِ على
المنتدياتِ والمقاهي ، بل التزمَ منهجًا صارمًا لا يقوَى عليه إلا من تمرَّسَ
بالجدِّ والعزمِ ، وآمنَ برسالةٍ يتعشقُها ويتعبدُها . فهو إذا آبَ من عملِه إلى
منزلِه الأقصى بحلوانَ ، فرغَ سريعًا من مؤاكلةِ أسرتِه وقيلولةٍ قصيرةٍ ، ليجلسَ
إلى مكتبـِه حتى منتصفِ الليلِ ، يومًا بعدَ يومٍ ، يربى موهبتَه التى لا تُنكرُ
له ، بالعكوفِ على روائعِ الفكرِ .. لا قراءةَ طالبِ متعةٍ ذهنيةٍ وثقافيةٍ عامةٍ
فحسبُ ، بل قراءةَ الدارسِ الذى يهمُّه قبلَ كلِّ شىءٍ أن ينبشَ أسرارَ صنعتِها ،
فهو يتتلمذُ على كبارِ المؤلفين أنفسِهم ، ولا يقتصرُ على رطانةِ الكتبِ النظريةِ
فى فنِّ القصةِ ، حتى أصبح خبيرًا بهذا الفنِّ ، وحتى أصبحت قصصُه تنضحُ بأسرارِ
هذه الصنعةِ . وأشهدُ أنه عرفَ كيف يَسْلمُ من خطرٍ يترصدُ بأمثالِه حين ينساقونَ
لا إلى الاهتداءِ بهذه الأسرارِ بل إلى تقليدِها ، وما أدقَّ الفرقَ بين الاهتداءِ
والتقليدِ .
*
* *
خلاصةُ ما أستطيعُ قولَه عن أخى الأكبرِ وأستاذى الأولِ
يوسفَ الشارونىِّ ، إن الأدبَ العظيمَ هو القادرُ ، بقوةِ الفنِّ وحدَه - وليس
بالهتافاتِ - أن يغيرَ ، وأن يحملَ الناسَ على أن يفكروا على نحوٍ مختلفٍ ، لكى يتغيروا ، وأن يصبحوا قادرين على
التغييرِ .