2011/12/18

التمثال الذى هوى بقلم: د.سعاد محمود الأمين


التمثال الذى هوى
د.سعاد محمود الامين
دوىٌ هائل أيقظه من غفوته،فتذكر أنه مازال على قيد الحياة.
....بوم....دل ...كراششش....بووووووم....
لم يكن نائما فعيناه مفتوحتان، وصدره يعلو ويهبط ،كان شاخصا بعينيه الجامدتين صوب سقف زنزانته الصخرية.لم يكن يتحرك.إستجمع قواه ،نهض فزعا عند سماعه ذلك الصوت المدوى الذى ردد صداه المكان، وإهتزت له أركان زنزانته.فأعادت له ذاكرة الأيام، التى لايعلم عددها، مرت الأعوام وهو قابع هنا، لايعرف دخول الليل أو إنبلاج الصباح. كان آخر صباحا راه فوق سطح الأرض،لم تشرق الشمس فيه، ولم تشرق بعده أبدا، عندما  ألقى به فى زنزانة فى باطن الأرض.
كان فى أيامه الأولى يتمتع بحب الحياة،وأمل عظيم  أن يأتى  الفرج قريبا،لأنه مظلوما، صار يدوّن التاريخ على جدران الزنزانة بمداد إعتصره من دمه .كان يثقب أصبعه ليكتب التاريخ حتى لا تفلت الأيام من ذاكرته.
بعد مرور الأيام  دب اليأس فى قلبه، وإنفلت التاريخ منه وضاع. أصبح كثير الصمت لاتنم نفسه عن شى. صارت دواخله خاوية، لايكترث لأى شئ ولا يثير إهتمامه شئ فقد تلاشت صور الأصدقاء والأسرة وفقد الإتصال بهم سنوات، كان يغمض عينيه ويدعوا الله أن يأخذ بروحه، فهو حى  بجسده ولكنه ميت فى دواخله.
لكن هذا الصوت جعله يقفز من سباته ويجثو على الأرض أمام باب الزنزانة. تناهى الى مسامعه صوت شخص ينادى: هل هناك أحد ..هل هناك أحد.؟
فتح فمه ليجيب ولكنه لم يجد صوته فهو صامت منذ فترة ليست بالقصيرة، فقد إبتلع صوته. سمع الخطوات تبتعد. حاول أن يمرن حباله الصوتية عسى أن تسعفه المرة القادمة .حتى اللغة كاد أن ينساها، كانت آخر الكلمات قد سمعها من جلاديه:ستقبع هنا ما بقيت على قيد الحياة ،وستلقى دروس مكثفة فى الألم والعذاب. من تظن نفسك حتى تتطاول على سيادة الرئيس حفظه الله. قطع عليه حبل أفكاره التى نشطت بشدة وأصبح يفكر ماذا يحدث فوق سطح الأرض.
سمع الصوت مرة أخرى وكان قريبا من زنزانته: هل هناك أحد؟. أو هكذا ظنه ينادى فهو لم يفهم
جمع كل قوته وصاح بأعلى صوته :أانا ~~~~أانا..هنا....أننننننننا
 صمت برهة  فسمع خطوات منتظمة الإيقاع تقترب، كان الظلام حالكا سمع صوت المزلاج يصرّ  وفتحت الزنزانة فقفز الى الخلف عندما رأى الجندى تمتم يائسا: هل حان وقت إعدامى.
مد  الجندى يده له فتبعه صامتا وجلا ،لم يتبادل الجندى معه الحديث ولكنه أيقن إنه ليس من جلادى النظام من الطريقه التى قاده بها الى خارج الزنزانة.
خرج من باطن الأرض حيث يقبر النظام غير المرغوب فيهم فى هذه الزنازين و يكون مصيرهم النسيان.
لوكان من زمن آخر لبكى عند خروجه فرحا، ولكن جلادوا النظام إستاصلوا الدمع من العيون. لقد رأى سطح الأرض ولكنه فى حيرة من أمره. هناك شئٌ خطير  هؤلاء الجنود لاعرفهم ظل يتمتم همسا محدثا نفسه .ليسوا من بنى جلدته لايفهم ما يقولون وبماذا يفكرون. ولكنهم مبتسمون يشيرون اليه بالإنطلاق والذهاب حيث يريد. إنتابته رغبة ملحة فى العودة لدياره، لقد بدأ الأمل يدب فى أعماقه أراد الركض بعيدا. ولكنهم يحملون السلاح وهو يخشى حملة السلاح، إذا ركض قد يطلقون النار عليه! من يدرى ربما. فهو لا يعرف غير هذا السلوك لحملة السلاح. قلوبهم قاسية تواقون لصناعة الموت.
عاودته مخاوفه من جلادى النظام كان يخشاهم وهو حر الآن ولكنه مقيدا فى دواخله يشعر أنه مازال سجينا.
جلس على الأرض منكس الرأس كما تعود دائما، وبدأ يتذكر تلك الكلمات التى عاهد ابن عمه عليها، لاتشى بى ولن أشى بك. ولكنه وشى به  وزج به فى غياهب السجون نظير حفنة من النقود وولاء كذوب للنظام.
 إنتشله من أفكاره صوت الجندى، عندما إقترب منه جفل بعيدا، شخص ببصره خوفا من الأتى أراد أن يثحدث ولكن لغة الآخر وقفت سدا منيعا، ربت الجندى على كتفه وأشار اليه بالذهاب.
تلفت السجين ونظر الى ثيابه الرثه وتحسس وجه وكثافة الشعر الذى يكسوه عشرون عاما مضت هل هناك من يعرفه أم سيحسبونه من أهل الكهف.
عبر الطريق ومازال الخوف يسيطر عليه.كانت المدينة صامتة يخيم فيها الظلام وكان الدمار واضحا والّسنة اللهب تتصاعد فتضئ  وتخبو  والبنايات المهدمة كانها بيوت أشباح. تحدث الى نفسه متسائلا:هذه ليست بغداد... أين أنا  و ماذا يجرى؟
رأى شبحايتجول أمامه فهرع اليه وسأله متلهفا: ماذا حدث فى بغداد ؟
التفت الرجل ونظر اليه متفحصا وأجابه: لقد سقط النظام
بادره السجين متلهفا للأخبار: هل قتل الرئيس؟
 رد عليه السابل هامسا وهو فى عجلة من أمره: لقد سقط التمثال
قال السجين : أى تمثال؟ أنا لم أفهم مايجرى كنت فى باطن الأرض مسجونا عشرين عاما.
نظر اليه السابل متعاطفا،  وأشار عليه بالذهاب حتى لايفقد بقية عمره فالبلدة ليست آمنة وإنصرف وأختفى فى الظلام.
تحسس السجين طريقه عله يهتدى الى داره القديم حيث تسكن أمه. كان يتلفت حذرا ويدور حول نفسه أحيانا . إنه لا يصدق مايرى ،دخان منبعث من مبانى مهدمة،صوت طلقات رصاص متفرقة. سكون وظلام دامس.
أهتدى الى داره، صعد السلالم الحلزونية المتاكلة ،وقف أمام الباب وضربات قلبه تسبقه، وقوافل الذكريات تهاجمه، ولكن لاصوت ينم عن الحياة .هل مات الناس جميعا؟ تردد.. ثم قرع الباب .
سمع من الداخل صوتا ضعيفا يقول من الطارق؟
 قالها مسرعا يقذف الكلمات من فمه تباعا: أنا الرشيد  أفتحى الباب
 حمدالله أنه مازال يتذكر اسمه لم ينادى به، طوال سجنه رقما مدونا فى دفاتر النظام.
فتح الباب  دلف الرشيد  الى الداخل صرخت أمه وفتحت ذراعيها فارتمى باكيا منتحبا. لم يصدق أنها على قيد الحياة كانت تنظر اليه ولاتصدق عينيها وتمطره بقبلاتها الحانيه فتسرى قشعريرة حب فى جسده الواهن.
أشرقت شمس اليوم التالى  مرسلة أشعة الحرية الذهبية على مدينة بغداد. كان شروقا غير عاديا  حلم الشمس منذ سنوات.خرج الرشيد بعد أن أصلح هيئته وتأهب لزيارة قبر أبيه الشهيد، دمعت عيناه وصاح بأعلى صوته : لقد أصبحت حرا ياأبتى رددها  ورددت صداها المقابر،ألم دفين يعتصر قلبه لأنه لم يعد يسمعه. عرج بعد ذلك الى ساحة التمثال الذى هوى. جلس بعيد يحدق فيه وهو ملقى على الأرض. فتابع ببصره وجه التمثال. فسمح صوته الجهورى المدوى ووجه الذى لاتمحوهيبة السيادة أخاديده وقامته المديدة الصلبه وروحه التى تستمد قوتها وبقائها من ضعفهم.
كان مصدر خوفهم ومحل طاعتهم.  أوامره التى لا تعصى.منذ صغره حفظ كلامه ورأى إرهابه،كان يسأل دائما هل ولدته أم مثل أمهاتنا، بكل هذه الحقوق. إنه بذرة شيطان قذفه ذلك الرحم فى ليلة حالكة السواد ليسوم البشرية الويلات . كان شعاره القتل ... والقتل.....حتى كاد أن يقضى على  الرعية جمعاء.
هوى تمثاله وتلاشى صوته. إنها سنة الحياة تداول الأيام والعروش .أيقظه صوت أمه تدعوه للذهاب. تجول فى الطرقات محدثا نفسه هذه بغداد الأرض  لن تتغير ولكن أين الناس ؟ الناس هم بغداد لاينبغى أن يتغير كل شى. ذهب النظام والشمس مازالت تغيب وتشرق. وقف الرشيد وسط بغداد متلذذا بنسيم الحريه ومتألما
من كل شئ. غفل راجعا الى داره محدثا نفسه ستعود بغداد الى سيرتها ما دام الباب يفتح.....

ليست هناك تعليقات: