2013/10/11

المهانة.. قصة بقلم: محمد نجيب مطر

المهانة
محمد نجيب مطر
عاد من آخر يوم في الامتحانات النظرية وأحس بالراحة والسعادة لانتهاء العام الدراسي، توجه إلى مطعم المدينة الجامعية لتناول طعام الغذاء، أخبره المشرف أن تغذيته انقطعت بانتهاء الامتحانات النظرية، وأن عليه أن يتصرف في طعامه أثناء الامتحانات العملية، اعترض الطلاب، وأصبح في حيرة من أمره فليس معه ما يكفيه للطعام، همس المشرف في إذن زميله الموظف بأنهم حثالة، لا يريدون أن يصرفوا مليماً واحداً من جيوبهم على طعامهم، سمع تلك الكلمات فاحمر وجهه غضباً ورد بمنتهى القسوة عليه وبصوت عالي أسكت جميع الأصوات: هؤلاء مهندسوا المستقبل وليسوا حثالة، أنت موظف بدبلوم تجارة وهم مهندسون، صفق الطلاب لزميلهم الذي لم يسمع أحد صوته طوال ثلاث سنوات من الدراسة، ولم يعرفوا عنه أنه اختلف يوماً مع أحد، ولكن كلامه أثلج صدورهم، فاشتعلت الأكف بالتصفيق، ترك المكان وغادر والتقط المشرف اسمه.
انتهت الإجازة، وحمل الطالب شنطته وذهب إلى المدينة الجامعية ليرى اسمه ضمن المقبولين، فلقد حصل على تقدير جيد جداً، وشرط المدينة الحصول على تقدير جيد، لم يجد اسمه ضمن قائمة المقبولين، عرف أنه وقع في مشكلة كبيرة، فظروف الأسرة لن تسمح بالسكن خارج المدينة الجامعية، وهو لا يعرف كيف يعد الطعام لنفسه، ولا حتى كيف يغسل ملابسه، ذهب إلى الموظف وسأله، فأجابه بشماتة أن قراراً قد صدر بمنعه من دخول المدينة الجامعية لأنه تطاول على مشرف المدينة الجامعية، شاهد زملاءه الذين صفقوا له سابقاً يصعدون إلى غرفهم ولم يعرض واحد منهم عليه أن يترك شنطته عنده حنى ينهي المشكلة.
ذهب إلى العميد فرفض مكتبه دخوله وأخذوا منه الشكوى، تقدم إلى اتحاد الطلاب وعرض مشكلته فأخبروه أن ينتظر أسبوعاً لعلهم يجدوا له مخرجاً، عاد إلى مكتب العميد وعلا صوته فأدخلوه إلى العميد الذي أخبره أنه تعرض لمجلس تأديب مسجل فيها أقواله وأن المجلس أصدر قراراً بمنعه من السكن في المدينة الجامعية، أخبر العميد بأن هذا الكلام كذب لأنه لم يمثل أمام أي جهة أو لجنة، فأخبره العميد أن الوثائق التي أمامه تقول ذلك، وأن عليه أن يعود إليه بعد فترة لكي يعيد التحقيق في الأمر، ورغم أنه أخبر العميد أنه لا يجد مكاناً يبيت فيه اليوم، إلا أن العميد رد عليه بأنه لا يستطيع أن يفعل له شيئاً أكثر مما فعل.
أخبره أحد زملائه أن زميله الاسكندراني الذي أيده في النقاش حدثت له نفس المشكلة وعليه أن ينسق معه في هذا الأمر، تقابل مع زميله فوجده متفائلاً ومبتسماً ويلقي النكات هنا وهناك، وأخبره أن كلم والده في الهاتف وأنه قادم من الاسكندرية وسيحل المشكلة ببساطة لأنه رجل خبرة في الشكاوى ويحسن التفاهم مع البشر، وعليه ألا يحمل هماً.
جاء والده قبل صلاة العصر بقليل، وجلسا معهما على القهوة، وسألهما عن المشكلة فحكيا له القصة منذ بدايتها، فقام وذهب معهم إلى الكلية وسأل عن مشرف المدينة فقالوا أنه في بيته في إجازة لأنه تزوج منذ يومين فقط، عرف عنوان البيت، واشترى هدية مناسبة وذهبوا إلى بيت المشرف وأخذه الوالد بالأحضان، وهنأه على الزواج، وأعطاه الهدية، وقبل أن يفتح الرجل فمه قال له أن هؤلاء الشباب لا يقدرون المسئولية، ويتصرفون برعونة، وأنهم أخطأوا في حقه، وبأنه يعتذر عنهم، فقال له المشرف : لقد أهانوني، فقال له وهم الآن يعتذرون، وطلب من ابنه أن يقوم ليقبل رأسه، فقام وقبل رأسه، وأمره أن يقوم ويعتذر، فقام وكأنه ينتحر وقبل رأسه في ألم شديد وإحساس بالمهانة لا يوصف، قبل الرجل الاعتذار وقال له لا بأس، واشترط ألا يبيتوا الليلة في المدينة الجامعية، فوافق الوالد أخبره بأن يأتوا إليه في الغد وأن يعتذروا أمام الطلبة، وسيقوم بعد ذلك بتسجيلهم في الدفاتر.
اضطروا للمبيت مع أحد زملائهم في شقة خارجية وفي الصباح ذهبوا فوجدوا المشرف الذي كال لهم الاهانات أمام الطلاب وهم صامتون، فأسقط في يده، وسجلهم في المدينة الجامعية.
ظل الطالب يحمل تلك الاهانة في نفسه، وكلما قابل هذا الموظف نظر إلى الأرض في ذلة، تعلم أن الناس يعجبون بمن يطالب بحقوقهم، وعند الحساب ينسحبون ويتحمل بمفرده النتائج، شكلت تلك الإهانة عقدة حياته، وكلما تذكرها تمنى لو أنه مات قبل أن يفعل ما فعل، إنه يكره الظلم، لقد انكسر شئ في داخله لأول مرة في حياته، وظلت تلك الذكرى تؤلمه فيما بقي من حياته.
تخرج من الكلية وحاول مقابلة المشرف لكي يصفي حسابه، فأخبروه أنه في إجازة عمل في الخارج، عين في أحد شركات البترول وتحسنت أحواله، ولكنه ظل مهزوماً من الداخل رغم محاولات النسيان المستمرة، ولكن أَنََّى للحر أن ينسى انكساره، سافر إلى الخارج وصادف توفيقاً ونجاحاً كبيراً، وظل كل سنة يذهب إلى مكان بيت المشرف ليكيل له الإهانات التي تلقاها منه مرغماً فيخبروه أنه مسافر للعمل في الخارج.
بعد عشرين سنة من تخرجه ظل كل إجازة يذهب إليه فلا يجده، وذلك الذي انكسر في داخله لن يجبر إلا بإهانة هذا الرجل، وظل هذا الهاجس يؤرقه ويفسد عليه حياته، وينغص سعادته، وفي أحد رحلات العودة، وجده في المطار، تلمظت عيناه وشحب لونه، ونظرت زوجته إليه خائفة رغم أنها لا تعرف ماذا يحدث، توجه إليه مباشرة وزوجته خلفه بأولادها، رآه فقام، فلقد عرفه وفهم من شكله ما ينوي فعله، هجم عليه وعانقه في حرارة قائلاً : المهندس محمد، فقال له : نعم، واستعد لإخراج كل ما في جوفه من حقد دفين كبر مع الزمن، فنادى المشرف على زوجته في عجل وقدمها إليه قائلاً أنه أعز أصدقائي في الكلية، وأجلسه وأخذ يحكي له عن ظروف حياته وكيف أكمل دراسته وحصل على بكالوريوس التجارة، وأراه ابنتيه الجملتين اللتين جلستا على ساقيه وأخذتا تعبثان بلحيته، وأقسم عليه أن يزوره مع العائلة في بيته، وأخذ رقم تليفونه المحمول وسمع نداء الصعود إلى طائرته فاستأذنه وودعه في حرارة صادقه وهمس في أذنه: أعتذر عما بدر مني، أرجو أن تسامحني، عانقته الطفلتان الجميلتان، وتعانقت الزوجتان، ومضوا في سبيلهم، وجد المهندس نَفْسَه تتحلل من عقدتها القديمة، وهو يسلم عليه بحرارة ويتمنى له التوفيق من كل قلبه، وهو يتعجب من التحول السريع الذي حدث له، وحمد الله الذي أذهب الغيظ عن قلبه.
 

ليست هناك تعليقات: