2016/03/16

الرؤية والبنية في روايات الطاهـر وطار بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــة



الرؤية والبنية في روايات الطاهـر وطار
بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــة
كلية الآداب،جامعة عنابة،الجزائر
يجمع الدارسون-أو يكادون- على أن الأديب الراحل الطاهر وطار هو مؤسس الرواية العربية   في الجزائر،فقد فرضت أعماله حضورها القوي سواءً في الجزائر،أو في شتى أقطار الوطن العربي،فالطاهر وطار هو الذي أوصل صوت الرواية الجزائرية إلى مختلف أصقاع الوطن العربي،وهو الذي عرّفهم بتحولات المجتمع الجزائري،والمتابع لأعماله الروائية،والقصصية،والمسرحية يُلاحظ أنها تقدم رصداً شاملاً لأهم التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها الجزائر مدة ما يربو عن نصف قرن،وهذا ما جعلها تحظى باهتمام كبير من قبل النقاد،والدارسين،في الجزائر، وسائر دول المغرب العربي،وكذلك في المشرق،فأنجزت العديد من الدراسات،والرسائل الجامعية حول أدبه...
ويعد كتاب: «الرؤية والبنية في روايات الطاهر وطار»للباحث الجزائري إدريس بوديبة،واحداً من أهم الدراسات التي أنجزت حول أدب الطاهر وطار الروائي، فهو مساهمة ثمينة في دراسة أدب الطاهر وطار الروائي،ومصدر هام لا يمكن أن يتجاوزه كل من يتصدى لدراسة أدب الطاهر وطار،حيث يقدم المؤلف دراسة جادة عن روايات الأديب الطاهر وطار،وهو يهدف من خلال هذه الدراسة إلى إبراز مختلف المظاهر المتعلقة بتحولات الرؤية الفكرية،والبنية الروائية،والكشف عن تطورها من نص إلى آخر من نصوص الطاهر وطار.   
 وعن دراسته يقول المؤلف:« تعاملت في دراستي هذه ،مع الشكل الروائي بوصفه بنية،تتضمّن رؤية متجادلة مع مرجعيتها الاجتماعية.وقد ساعدني على هذا أن الطاهر وطار ينتمي لصنف الأدباء القلائل،الذين لا يستقرّون على شكل روائيّ واحد،وقد حرصت في جميع الفصول،على تأكيد ظاهرة التحوّل الفني في الرّؤية والبنية،التي تحرّرت من هيمنة السرد التقليدي،لتنفتح على بنية السرد الحديث.وإن تطور الكتابة عند وطار لم يكن على مستوى الموضوعات فحسب،بل كان كذلك على مستوى الكتابة ذاتها.فقد طوّر أدواته،ولم يعد يقنع بالكتابة التي تقترب من الواقع وتكتفي برصد تحولاته الخارجية،فقد أصبحت الكتابة عنده تنطلق من داخل النص الروائي ذاته،لتلتحم بالذاكرة وعناصر الحلم والتاريخ،وسمح هذا البعد التجريبي الجديد للرواية،بامتلاك أدوات تعبيرية مغايرة،لقد كنت خلال هذه الدراسة أعود في كل مرة لأقوال الكاتب وتصريحاته الصحفية،وما أكثرها،لأدعم استنتاجاتي وطروحاتي،وأنا أعلم أنه ينبغي عليّ أن أحذر من المطابقة بين مضمون العمل الروائي،وآراء الكاتب.لذلك فقد وظفت تلك التصريحات بشكل انتقائي،ولم أنسق وراء كل التصريحات المضلّلة،لأن الهوّة كثيراً ما تكون واسعة بين ما يقوله الكاتب في تصريحاته،وبين ما تتضمنه النصوص الإبداعية من مواقف، ورؤى، وأشكال.
وفي الحقيقة إن ما قمت به في دراستي،هو محاولة للكشف عن بنية الشكل ومضمرات النص،وبهذا فإن الرواية الوطّارية،قد مرت بتحولات ظاهرة في رؤيتها وبنيتها،وذلك منذ البدايات الأولى التي كانت مفعمة بحرارة الواقع وحسّيته،انتهاءً بأعماله الأخيرة المنحازة إلى التجريد،والكتابة المركّبة التي تنحت عوالمها،عبر مكوّنات التّناص، والارتداد، والمثاقفة،والاشتغال على اللغة،التي لم تعد مجرّد استتباعات تطورية للنمط السابق،غير أن شيئاً واحداً لم يتغيّر في هذا المسار الروائي،فلقد ظل هاجس الموضوع السياسي يحتلّ فضاء هذه النصوص جميعها دون استثناء»(1).
الطاهر وطار والتأسيس للرواية العربية الجزائرية:
قدم المؤلف لمحة تاريخية عن المسار التطوري الذي عرفه المشهد الثقافي في الجزائر،وذلك منذ أوائل القرن،وقد عرض من خلاله لمختلف التيارات الفكرية،والأحداث السياسية،وأكد على أن هذه الأحداث كان لها الفضل بشكل أو آخر في دفع الحركة الأدبية خطوات إلى الأمام،وتحدث عن الاستعمار الفرنسي وسياسته المنتهجة في سبيل تدمير وتخريب كل ما له صلة بما هو عربي بغرض فصل الجزائر عن الوطن العربي،ومسخ هوية الشعب الجزائري،وسلب أفكاره الإسلامية،ولم يكتف الاستخراب الفرنسي بتجريد الإنسان الجزائري من أرضه،بل عمل على إفساد الأفئدة والعقول،وهذا ما تجلى في إغلاق المساجد، وتحويلها إلى كنائس،وإغلاق المدارس التي كانت تعلم العربية،واستبدالها بمدارس فرنسية،وكذلك سعى إلى هدم الزوايا التي كانت تعمل على تثقيف الشباب، وغرس روح المقاومة في نفوسهم،ولذلك فلا نعجب في أن تكون الرواية المكتوبة بالفرنسية هي الأسبق في الظهور من الرواية العربية،لأن كل ما هو عربي كان مُحارباً، ومكبوتاً من قبل الاستعمار الفرنسي،وقد بدأ الشعور الوطني يستيقظ بعد بروز الحركة الوطنية على الساحة،ولاسيما بعد طرح المسألة الثقافية، والسعي من أجل تثبيت القيم الثقافية والحضارية للشعب الجزائري، وفي مقدمتها الإسلام، واللغة العربية،وقد تطور هذا الوعي بشكل كبير، واتسع مجاله بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة:1931م،من قبل العلاّمة عبد الحميد بن باديس،ورفاقه،ومن هنا بدأت تظهر على الساحة اللغة العربية، وظهرت بعض الأعمال لمثقفين جزائريين باللغة العربية،كما أدت الصحافة الجزائرية دوراً عظيماً، وأيقظت الشعب الجزائري،وهكذا ظهرت أولى المشاريع الروائية المكتوبة باللغة العربية مع أحمد رضا حوحو الذي كتب:«غادة أم القرى»سنة:1947م،وكانت المحاولة الثانية مع عبد المجيد الشافعي في قصته المطولة:«الطالب المنكوب»،والتي ظهرت سنة:1951م بتونس.
غلاف الكتاب
 ويشير المؤلف إلى أن بداية السبعينيات هي المرحلة الفعلية التي عرفت قفزة حقيقية من الناحية الفنية في النصوص الروائية الجزائرية، ومن أهم الأعمال التي ظهرت: «ما لا تذروه الرياح» لمحمد عرعار،و«ريح الجنوب»لعبد الحميد بن هدوقة،و«اللاز» و«الزلزال»للطاهر وطار،وقد كان التحول الكبير مع الروائي الطاهر وطار،فمنذ أن ظهرت أعماله«بدأ النقاد في الجزائر والمشرق ينظرون بجدية إلى عناصر التفوق والتفرد التي طبعت أعمال هذا الروائي الجديد، ومنذئذ لم يعد الحديث عن الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية،ينطلق من موقف الشفقة أو الدعم التعاطفي-باعتبارها تجربة هشّة تحتاج إلى المؤازرة-ولكنها أصبحت تنتزع الإعجاب والتقدير،وغطت بهيمنتها على باقي الأجناس الأدبية في الجزائر، وانتزعت الصدارة في مجال البحوث النقدية،والتغطيات الصحفية والإعلامية، ولأول مرة أمكننا الحديث عن تجربة روائية جزائرية جديدة متقدمة،لأن السنوات العشر الأولى،التي أعقبت الاستقلال مكّنت الجزائريين من الانفتاح الحر على العربية المعاصرة،وجعلتهم يلجأون إلى الكتابة الروائية للتعبير عن تضاريس الواقع بكل تفاصيله وتعقيداته،سواءً أكان ذلك بالعودة إلى مرحلة الثورة المسلحة،أو الغوص في الحياة المعيشية الجديدة، التي بدأت تظهر ملامحها في التغيرات الجديدة التي طرأت على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية»(2).
وقد أجمل المؤلف السمات الأساسية التي ميزت المسار الروائي للأديب الطاهر وطار،وأبرز الأسباب الرئيسة التي جعلته يتبوأ مكانة مرموقة،ويصبح أحد أهم الأسماء الأدبية في الرواية الجزائرية، والعربية في جملة من النقاط الرئيسة من أهمها:
«1-قدرة وطار على الاستمرار في الممارسة الإبداعية،بطريقة شبه منتظمة،ليحتل بذلك الصدارة من الناحية الكمية والنوعية،ويتقدم كل الروائيين الجزائريين الذين يكتبون باللغة العربية.
2-يتمتع وطار بهاجس المغامرة الفنية،وتطويره المستمر لأدواته،والقدرة على تنويع بنيته الروائية،والانتقال من شكل إلى آخر بسهولة ويسر،مع الوفاء لموقفه الفكري العام،الذي يدعم رؤيته الشاملة لقضايا الكون والإنسان والحياة.
3-تندرج أعماله في سياقاتها المختلفة،لتؤرخ لكل التحولات والسّيرورات الحاصلة في المجتمع الجزائري،منذ الثورة المسلحة إلى الاستقلال،مع التركيز على الألوان المحلية للجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية، وكأن الطاهر وطار أراد أن يكتب-روائياً-ملحمة الجزائر،ويحمل على عاتقه هذه المهمة التي لا تخلو من انحيازات ذاتية واضحة، ولكنها انحيازات مشروعة إبداعياً،فمن واجب الأديب أن يعيد صياغة العالم،وتشكيله وفق وعيه ورؤيته الخاصة.
4-إن روايات وطار كانت باستمرار مصدر افتتان وغواية،في موضوعاتها بالنسبة لعدد كبير من الروائيين،الذين أعادوا صياغتها وفق منظوراتهم الفكرية والفنية المختلفة،ويعود هذا لقدرة هذه الروايات على استقطاب الأحداث الاجتماعية،وامتلاكها للوعي بالواقع والكشف عن نوعية العلاقات التي تتحكّم في سيره،وبلوغها درجة عالية من النمذجة والانسجام»(3). وحسب منظور المؤلف  فالإغراءات الإيديولوجية والفنية التي قدمتها مدرسة«الواقعية الاشتراكية»لوطار،كانت السبب الرئيس الذي صبغ أعماله بالحركة التلقائية، والرؤية الشمولية،وهي التي منحته المقدرة على إدراك العلاقة الجدلية التي تربط الفرد، وأفكاره، وعواطفه بالحياة وصراعات المجتمع، وذلك دون السقوط في الخطابات التبشيرية المسطحة التي تلتزم تمجيد البطل الإيجابي الذي يؤثر في الواقع،ويغيره إلى ما هو أفضل باعتباره نموذجاً لبطل المستقبل.
البنية الكلاسيكية في روايات الطاهر وطار:
 في مبحثه عن أزمة البطل الثوري من المنظور الواقعي في رواية«اللاز»للطاهر وطار،يشير المؤلف إلى أن الفرضية التي ينطلق منها في قراءته لهذه الرواية هي أنها رواية رائدة خطت أولى خطوات التأصيل الحقيقي للنهوض بالرواية الجزائرية،وذلك في إطار البحث عن موضوع كلاسيكي رصين غني بمضمونه التاريخي المعاصر،ومحتشد بالشخوص،وبمختلف الدلالات، والوقائع الممكنة، والمحتملة الحدوث،إذ أن الثورة الجزائرية هي الهاجس المركزي الذي شكل فضاء هذه الرواية،وأحال على مرجعية أحداثها.
 وقد سعى المؤلف من خلال مبحثه هذا إلى الإجابة على مجموعة من الأسئلة من أبرزها: هل نجح وطار في صياغة عناصر ملحمته الروائية،والارتفاع بها إلى مستوى الإبداع الرفيع؟وهل قدم لنا قراءة فنية جديدة لحقبة تاريخية معينة؟ أم اتخذ من الرواية مجرد قالب يبث فيه بعض المعارف، ويشحنه بالوقائع والأحداث التاريخية،ليعبر عمّا أثارته هذه الملحمة الثورية في نفسه من انفعالات وآراء؟
وقد رأى أن الطاهر وطار تسلح برؤية خاصة ينظر من خلالها للشخصيات، وفعلها في الأحداث،وانفعالها وتفاعلها،حيث إنه قام بعملية تكييف لها،وقد تأثر تصويره للشخصيات بمنظوره الفكري والفني،وهذا ما انعكس على بناء الرواية، وقد قدم الطاهر وطار رؤيته من خلال بعدين:بعد ينسحب على موقفه من أحداث التاريخ(الماضي)،وبعد ينسحب على موقفه من أحداث الحاضر،وفي نظر المؤلف أن الطاهر وطار تميز بحس ورؤية تاريخية ثاقبة،ومن خلال رواية«اللاز» أعطى لشخصية«زيدان»صفة البطولة والمثالية المطلقة، ولاسيما في نهاية الرواية،بيد أنه ظل متمسكاً بحاسته المتشككة في الإيديولوجية الماركسية،وشرعية استمرارها وتواصلها،وفي سياق دراسته للبنية الكلاسيكية في روايات الطاهر وطار قدم الباحث دراسة عن المتكأ الإيديولوجي ورؤية الواقع في رواية:«العشق والموت في الزمن الحراشي» فهي تعتبر الجزء الثاني من المشروع الروائي الذي بدأه الطاهر وطار،وهي واحدة من المؤشرات الهامة التي تحيل على المرجعية الفكرية والإيديولوجية للكاتب، ولاسيما في المرحلة الأولى من كتاباته الروائية،وهي المادة الخام للكتابات التي ظهرت فيما بعد،وقد علل المؤلف هذا الحكم بأن الطاهر وطار واحد من الكتّاب الذين تأثروا بالوضع التاريخي وعايشوه،فكانت كتاباته صورة له،وهذا ما يفسر كذلك هيمنة الجانب الإيديولوجي والفكري على الجانب الفني في بعض أعماله الروائية ، وبخاصة العملين الأولين(ثنائية اللاز).
بين المؤلف أن الإطار الذي تجري داخله أحداث الرواية يتشكل من بنيتين زمنيتين:بنية زمنية خارجية،وبنية زمنية داخلية،وقد تميزت هذه الرواية بأسلوب الخواطر، والمونولوج الداخلي،والحوار مع الكاتب،ولم يهتم الكاتب بتطور الزمن،بل اهتم بالفكرة، وهذا ما لوحظ من خلال الخطاب المباشر الموجه إليه،وتعددت الخطابات بتعدد الرؤى التي حوتها الرواية،واتضح للمؤلف أن المكان في هذه الرواية لا يشكل عنصراً جمالياً هاماً،بل تجده يذكره كضرورة موضوعية يتطلبها الحدث أو الشخصية.
رأى الباحث في دراسته للأنساق الدلالية ونظام بنائها في رواية«الزلزال» أن وصف المكان ومكوناته خضع لرؤية الراوي،حيث أضفى عليه تكويناته، ومنظوراته على الأشياء الموصوفة مُسقطاً عليها وعيه، وهذه الطريقة في الوصف تحمل في ثناياها بقايا الأسلوب الكلاسيكي على الرغم من أن الطاهر وطار سعى إلى أن يتخلص منه بمقدار كبير في رواية«الزلزال»، وقد ألفى مادة خصبة في البنية الاجتماعية المليئة بالأشياء التي تناولها بالعرض والوصف،ولاحظ أن الزمن أثر تأثيراً واضحاً في المكان،وهذا ما جعل القارئ يحس مظاهر التغير، والتحول، والتدهور،كما أن بنية المكان بدت منغلقة، ومضغوطة بفعل الاكتظاظ والحرارة، والضغط النفسي الذي يعانيه البطل،واقتصر الطاهر وطار على الوصف الخارجي للمدينة،ولم يهتم بوصف المنازل والبيوت من الداخل، ومزج بين طريقة الوصف الساكن، والوصف السردي، واقتصر على أسلوب الوصف العام الخالي من المصطلحات الفنية.
وخلص المؤلف في ختام دراسته إلى أن«الرؤية الوطارية في هذه الرواية تعتمد على ملامسة اللحظة التاريخية،التي تقدَّم بديلاً آخر،ليسأل النظام السياسي القائم نفسه من خلالها،لأنها تنطلق من الأبعاد الافتراضية،السوسيو-تاريخية،المشكّلة للواقع،والطامحة إلى تخطِّيه،وخلق زمنية تخييلية أخرى مقترحة،ولكننا نرى أن وطار قد قدم رؤية منحازة ومباشرة،ولذلك انطوت روايته على دلالات محدّدة الأبعاد،ولم تترك مجالاً لانفتاح النص على مختلف الأسئلة الممكنة والمشرّعة على الآخر والمستقبل،ويعود هذا أيضاً إلى غياب الرمز المتعدّد المستويات،الذي يندمج في التواشجات التأويلية،ويغني الخطاب الروائي الذي يعلو على الواقع الفعلي،ويتماهى معه دون أن يكونه،كما اتجه الطاهر وطار بروايته وجهة تسجيلية وقائعية،تعتنق التأريخ،وتعتبره مهمتها الأساسية،وكأن هذه الرواية هي نوع من التدوين لحقبة تاريخية من استقلال الجزائر،فحتى اللغة تخلو من الجرعات الشّعرية والشّطحات الفنية التي تشعرنا وكأننا أمام عمل توثيقي يستنطق الشخوص،لتقويلهم ما يريد الكاتب قوله،لذلك برزت بقوة هيمنة وطار على النص بوسائل فكرية،وهذا على حساب التّراجع الواضح للوسائل التقنية، وما تحمله من أبعاد جمالية وفنية،وعلى الرغم من كلّ المآخذ،فإن هذه الرواية ستظل وثيقة أدبية هامة ،مكتنزة بمختلف الأحداث والسلوكات، والظواهر السياسية والاقتصادية التي أنجبتها السبعينيات بكل إيجابياتها وسلبياتها»(4).
البنية الحداثية بين الرؤية الواقـعية والإيقاع الروائي الجديد:
قدم المؤلف ثلاث دراسات، وذلك في إطار تجليته للبنية الحداثية في روايات الطاهر وطار،في بحثه الأول سلط الضوء على المنظور والإسقاط التاريخي في رواية«الزلزال»،فأشار إلى أن بطل الرواية يعود إلى الماضي من خلال الاسترجاعات التأملية لبعض المشاهد أو الشخصيات الفاعلة في التاريخ العربي الإسلامي،وهذه العودة ليست عودة عفوية،ولكنها محاولة لرؤية العالم من جانب يختزل الواقع،ويقفز عليه كدليل على عبث المحاولة الانتقائية التي تأخذ من ركام التاريخ بعض جوانبه بغرض بعثها أو الاستنجاد بها،وقد توصل الباحث إلى أن الطاهر وطار في هذه الرواية قد«اتجه أكثر للاهتمام بمسألة الشكل والبناء والإيهام ومسرحة الأحداث واستعمال الحوار السردي والتناوبي،مع إبراز العوالم الدّاخلية للشخوص والاعتماد على الوصف،لا باعتباره وظيفة تزينيية،ولكن ليؤدي دوراً موحداً بين وجهة نظر المحمولات والموضوعات،كما يقوم بوظائف أخرى تبئيرية،كما أن المؤلف لا يتدخل ليدلي بآرائه بشكل مباشر، ولكنه يترك وعينا من خلال السرد يستقبل الحدث الذي تعبّر عنه الحركات والإشارات قبل الملفوظ اللغوي»(5).
وتبدى للمؤلف في دراسته للتناص السردي في رواية«الحوات والقصر» أن الطاهر وطار عمل على النص التراثي بكل تجلياته الأسطورية، والخرافية، وذلك حتى يتمكن من إبداع نص روائي جديد، ومنفتح على الواقع السياسي والاجتماعي بغرض التعبير عن موقفه ورؤيته، وهذا ما صرح به الأديب الطاهر وطار في قوله:«في رواية الحوات والقصر عالجت موضوع الصراع على السلطة بتعبير رمزي،لأنني لا يمكن أن أواجه السلطات وأقول للحاكمين إنكم عصابات لصوص».
وفضلاً على أن رواية«الحوات والقصر» هي نص فني استلهم عوالم الحكاية الأسطورية بهدف تفجيرها كأداة فنية للتدليل على معنى في الواقع الاجتماعي،فإنها أيضاً تعتبر عملاً أدبياً يحمل روح الحداثة، وهموم العصر، وقد خلق الطاهر وطار في هذه الرواية مجالاً أسطورياً مكتنزاً بالأحداث والخوارق العجائبية،كما استخدم اللغة الأسطورية المحملة بالدلالات الرمزية قصد تصوير الشروط الاجتماعية، والسياسية لأهل القرى السبع، وحسب المؤلف فرؤية الطاهر وطار ظهرت في الصورة المحكومة بوضعيتين هما:
-صورة الطبقة المهيمنة، والتي تمثلت في القصر، والسلطة، والفرسان،وإخوة علي الحوات الثلاثة.وتمثلت صورة الطبقة الخاضعة في القرى السبع المحكومة بالقوة والبطش.
وأما الرؤية السردية فإنها تحتدم وتتصاعد بإيقاع اللحظات المشكلة للزمن الأسطوري،وقد ترك الطاهر وطار شخصيته تنمو عبر الصراعات اليومية ليس بغرض تفسير حركة التاريخ في سيرورته المحايدة، وإنما ليفسر روح العصر انطلاقاً من مواقف أبطاله،ومواقعهم ونموهم، وابتعد في تشخيصه عن معاني التجريد والتعميم،وتجلت الرؤية الأسطورية في العوالم الغرائبية التي رافقت البطل في رحلته،وأضفت عليها عمقاً إنسانياً، ورسمت في الوقت ذاته خطاً موازياً تتكئ عليه، وهو خط التصوف الذي يلبسها مناخاته الشفافة،«كما استخدم الكاتب أسلوب الرؤية من خلف،حيث إن الراوي يعرف أكثر من الشخصيات،ويظهر ذلك في غلبة الوصف والسرد على التعبير،ما عدا المقاطع التي يناجي فيها البطل نفسه،كتعبير عمّا يمكن تسميته بتراكم الوعي الذاتي،الذي يمثل خطاً تتصاعد فيه مواقفه،كما تنهض بالموازاة حركة وعي الجماهير،التي تبلور موقفها باتجاه قفزة نوعية تغيّر مصيرها بشكل نهائي،وبصورة يبدو معها هذا التغيير وكأنه خاضع لمنطق التجادل،الذي يسود البناء كما يحكم الرؤية»(6).
وفي دراسته الأخيرة تعرض المؤلف لتحولات الاتصال والانفصال في رواية«تجربة في العشق»،حيث قدم عدة تحليلات تتعلق بمستويات السرد المختلفة، وألقى الضوء على شخصيات الرواية،وأشار إلى أن شخصيات هذه الرواية ليست كلها من صنع الخيال المطلق،بل إنها محتملة وممكنة الوجود،ولم يهتم الكاتب بالكشف عن مظاهرها الخارجية وحسب،بل سعى إلى إماطة اللثام عن حقيقتها الداخلية،وأسرارها، وتقلباتها النفسية والروحية،ولاحظ أن الاتصال في رواية«تجربة في العشق» غائب في الواقع «ولكنه متحقق في الهواجس،وملذّات الوهم، وهكذا تنبني الرواية على فضاء مزدوج،يتدفق أحياناً بملفوظات الاتصال،وأحياناً أخرى ينفتح على مستويات أخرى للانفصال،وإن الكاتب لم يعتمد في روايته المفهوم المدرسي للمذهب الواقعي الاشتراكي،فلقد لجأ باستمرار إلى توظيف البطل المضاد، وخاصة في هذه الرواية التي تنزع نحو التشكيل والتخييل والانكفاء التأملي المكتنز بالخيبات،دون الوقوع في النزعة التفاؤلية السطحية،ويمكن القول إن هذه الرواية تنطوي على مفهوم واضح للإنسان وقدراته التغييرية،فهو بدراسته للواقع الدائم التطور والتحول وتحليله للعلاقات الاجتماعية قد صاغ لوحة صادقة لحياة عصره الخاصة والاجتماعية،فرواية«تجربة في العشق»ذات مرجعية حسيّة كثيفة بغناها الاجتماعي والإنساني،وهي تحيلنا باستمرار على ملامح للأبطال الذين يحتملون التأويل وينفتحون على حقائق عديدة،والروائي في هذا العمل-بالذات- لم يكن يبحث عن حدث معين يتكئ عليه في تحريك مركبته السردية،بل كان يبني الأفكار المجردة ويلبسها شكل الحدث الذي يتقاطع مع الامتدادات الثقافية لأفكاره المتمثلة في بطل روايته،وكأنه بصدد البحث عن رواية جديدة تدعو إلى واقع جديد،ولم تكن الرواية في هذا المشروع إلا علاقة محدودة في فضاء يتجاوزها باستمرار، وبهذا المعنى فقد كان الطاهر وطار يعرف ما يرفض، ويفتّش باجتهاد مذهل عن البديل المطلوب المتجاوز للوعي البسيط»(7).
وقد خضعت شخصية البطل للتصميم والاختيار،وهذا ما جعل القارئ يحس بنوع من الافتعال،كما أن الطاهر وطار ألجم تلقائية التدفق السردي في بعض الصفحات،وهدفه من وراء ذلك الاستسلام إلى الوصف،واحتشدت الرواية بالكثير من الرموز والتأويلات،فقد خلق الكاتب شخصية واقعية بملامح أسطورية.
  الهوامش:
(1) إدريس بوديبة:الرؤية والبنية في روايات الطاهر وطار،منشورات مؤسسة بونة للبحوث والدراسات،عنابة،الجزائر،2011م ،ص:30  وما بعدها.
(2) إدريس بوديبة:الرؤية والبنية في روايات الطاهر وطار،ص:40. 
(3)إدريس بوديبة:المصدر نفسه،ص:44.
(4)المصدر نفسه،ص:119وما بعدها.
(5)المصدر نفسه،ص:221 وما بعدها.
(6)المصدر نفسه،ص:276.
(7)المصدر نفسه،ص:298 وما بعدها.

ليست هناك تعليقات: