طاقة المفارقة
بين عنف النثر ونثر الغنائية
دراسة في ديوان
( أنا الشرير بتاع الورد )
دراسة / أحمد قرني محمد
يدعوك ديوان الشاعر محمد حسنى ( أنا الشرير بتاع الورد ) منذ البداية ومن لحظة قراءة العنوان الذي يفجر داخلنا طاقة المفارقة ما بين جملتي (أنا الشرير) وما بين (بتاع الورد ) فما تثبته الأولى تنفيه الثانية فلا يمكن أن يكون الشرير هو ذاته (بتاع الورد ) وتلك المفارقة التي احتواها العنوان تنبأ عن ذلك التناقض الذي تعيشه ذات الشاعر وتضع الديوان في منطقة القلق وهكذا يصبح العنوان صالحا أن يكون مدخلا لقراءة الديوان بأكمله وكأن الشاعر يدخلك إلى الديوان باستهلال يدعو إلى تفجير الأسئلة بعنوان ليس من قبيل العناوين السهلة التي تجنح أحيانا إلى الرومانسية أو إلى التقريرية وإذا كانت معظم قصائد الديوان نثرية فهي أبدا لا تميل إلى المسطح والمهمش كما يحاول أصحاب القصيدة الجديدة أن يبرهنوا على حسن بضاعتهم من الشعر فيميلون كل الميل بالقصيدة ولكن محمد حسنى يأخذك إلى عالمه بسهولة ويمنحك الدهشة و منذ البداية حين تطالع قصيدة (الم ) حين يضع سؤالا مدهشا فيقول ( ليه البنفسج يعرف الحزن اللى غايب مننا واحنا ما نعرفش الخضار ) الديوان ص 7 وفى مقطع 2 ص 7 وإذا كان حسني قد افتتح قصيدته بسؤال مقلق صادر عن ذهنية يؤصل في حقيقته لتلك المفارقة التي نتحدث عنها وهي المفارقة التي تجعل المتلقي يعيد تشكيل الدلالة مرة أخرى، فإنه والحال كذلك يختتم المشهد بطاقة من المفارقة أيضا تجعل المشهد أكثر حركة ودراما "وانا كل ماكتب بكرهك تطلع بحبك" فليس باستطاعة الشاعر تأكيد مقصده المتراوح ما بين الداخل حيث تكمن "بحبك" والخارج حيث يكمن فعل الكتابة الظاهر لكن الشاعر يحسم الأمر لصالح الداخل المضمون "وانا كل ماكتب بكرهك تطلع بحبك" فبينما يشير فعل "اكتب "إلى الظاهر فإن فعل "تطلع" يشير إلى الداخل المضمون والذي بالقطع يخرج دون إرادة الشاعر التي انصرفت إلى الظاهر وهو يعود إلى نفس التقنية في مقطع 3 ( الاسطوانة اتكسرت ص 11 وفى قصيدة ( حق مشروع ) نرى الدموع تفرح بانتصارها ( من حق الدموع تفرح بانتصارها عليك وقت ما تسيبك غرقان فيها ونلاقي كل دمعة جاره صحبتها ف ايديها وجايين يتفرجوا وعملو مشهد كامل لفرحهم ) ص 57فهذا الفرح الظاهري الذي تشير إليه كلمات مثل ( دمعه بتجري وتتنطط ودمعه متحزمة وبترقص ) فهذا الفرح الظاهري يخفي الحقيقة المدهشة أن الذين يقيمون هذا الفرح هم الدموع التي تشير في حقيقتها إلى الحزن وكأن المشهد الذي صوره الشاعر على انه فرح هو في حقيقته مأتم وهكذا تبدو الصورة وتشكلها عند محمد حسني تركيبة معقدة يتدخل في تأليفها عنصران هامان أحدهما ظاهري يقوم في الحواس المخيلة والثاني باطني يقوم في النفس وموطن التجربة ويكون الأول عادة معادلاً للثاني وعلى قدر انفعاله ويبدو المضمر الداخلي لدى حسني أعمق واكبر أثرا في تشكيل الصورة لديه بحيث يبدو تأثير ذلك واضحا في الديوان ويظهر ذلك واضحا في قصيدة ( شجرة جميز ) حيث قام الشاعر باسقاط مشاعره واحساسه بها على الأشياء بينما تبدو الاشياء خارجنا محايدة والعلاقة التى يضفيها الانسان تبدو فقط داخله هو رغم محاولة الشاعر اقناعنا بوجود هذه العلاقة بينما الشيء الموجود خارجنا لا علاقة له بذلك الاسقاط حيث لا يتحدد وجوده المادى وفق تصوراتنا التى يحكمها فى الغالب المزاج النفسي ( اهرب من اصرارها على معرفة الإجابة وافتكر شجرة لوحدها على أول الشارع ،شجرة كبيرة وعجوزة بس فيها عافية ....وفي مرة حسيت وانا تحتها انها حزينة جدا ، ومش عارف اتكلم ، او مفيش لغة بينا خالص غير أنى اخد منها ضلها ، واديها خوفي من الشمس ... هو اتحول لشجرة ولا هي اتحولت لجنية وكلمته ورجعت تانى لصورتها الاولانيه) ص79 ثم يتم قطع الشجرة وتتحول الى اواني وكراسي ( وانا بقيت اخاف من أي كرسي جديد ، واتعامل معاه بحرص شديد ، لا يكون حتة من قلب الشجرة )
***وهو يستخدم تقنية المشاهد والقطع السينمائي كحيلة فنية لإثراء القصيدة ويلعب على تلك التقنية في أكثر من مكان بالديوان ففي قصيدة "الفرامل" نطالع كلمات مثل ( موسيقى تصويرية بره الكادر ) ( مشهد أكيد مر عليكم ف أي فيلم ينقل حالة غربة ) مثلا قصيدة الاسطوانة اتكسرت ) ص11 فهو يتحدث داخل القصيدة عن المشهد والتتر وفى هذه القصيدة نرى صورة رائعة تحاول أن ترصد حالة الفزع ( تدور زى المجنون اللى نط من سور الدنيا بتاعته لدنيا تانية مستغرباه) ص 14 وأيضا استخدمها الشاعر ـ أي تقنية السينما ـ في قصيدة ( سيناريو ناقص) ص 15 حيث تتجمع ألفاظ مثل( المشهد، اللوكيشن ،المخرج ،أكشن ) ليحمل المفارقة بين التمثيل والواقع ويمزج بينهما بتلك الحيلة الفنية ...والمفارقة بين البحر والمدينة حين يجعل من نفسه بحرا وهى المدينة حيث يحيلنا الى الألعاب الشعبية وكيف تحول إلى شلال ( انت البحر وهى المدينة والمشهد بينكم بيتكرر كتير، بتعمل انك ملتزم بكل قواعد المشهد وزى ما اتفقت بالظبط انت زى البحر ، وهى هاتكون مدينة وأول ما تدخل اللوكيشن وتشوفها تكون شلال ، وتغرق كل معالمها وكل اللى واقفين يستغربوا جدا ، لسه المخرج ما قالش اكشن ..) هكذا يضيع الفرق تماما بين الإيهام والحقيقة بين الواقع والمتخيل فبينما في عالم التمثيل يجب أن يحدث كل شيء وفق سيناريو معد سلفا ولكن حين تخرج الذات معبرة عن ثورتها في صورة شلال ..شلال يحمل كل شيء في طريقه ليكسر كل القواعد المحددة سلفا فيما يحلم الشاعر أن يخرج عن كل القواعد المعدة سلفا ليهدر كشلال فبينما يشير البحر إلى السكينة والهدوء يكون الشلال هو القادر على إحداث التغيير وأيضا قصيدة ( الفرامل ) ص 83 سوف تدور القصيدة على نفس الطريقة بينه وبينها حيث يقوم الشاعر بإعطاء دور للولد والبنت في القصيدة فيقول ( هى الشتا ، وانت هاتعمل وحيد وماشي ومكتف ايديك ) وكأن حسني يعود بنا الى اللعبة الشعبية "عريس وعروسة" حين يقضي قانون اللعبة بأن يلعب الولد الصغير دور العريس وتلعب البنت دور العروسة وهكذا يمزج حسني بين التراث الشعبي ويستلهم روحه في بناء قصيدته الجديدة كما يقول في قصيدة اخرى بعنوان آخر الصفحة ص 86 ( ومرة أقول وردة وكتير اقوى قوى كنت بقولك مدينة ، وانا بحر ليك ) وعملية تسمية الاشياء بأسماء غير أسمائها منتشرة جدا في الألعاب الشعبية
**نلاحظ أيضا خفوت طاقة المجاز اللغوي وحضور المباشرة التي تجسد مادية العلاقة بين الإنسان والأشياء فنرى تجسيدا لهذا قصيدة (مفاجأة) ص 25 من الديوان حيث تخلو القصيدة تماما من المجاز (يا عم مافيش حد ...اسأل نفسي كتير ايه الوش ده ؟ وخربشة وأصوات لألألأ أكيد فيه حد وانا مش واخد بالي ) فبينما فى الظاهر يبدو الشاعر وحيدا لكنه يشعر أن هناك شخصا ما في المكان يشعر بوجوده وهنا حيث شعوره بالاغتراب المتنامي بينما يقبع في داخله إحساس عميق بوجود شخص ما بجواره ربما يريده أو يحلم به أو يقلقه ذلك الوجود الغامض الذي يمنحه بعض الأمان والقلق أيضا وهو هنا يتكأ على موروث شعبي يؤكد دائما أننا لسنا بمفردنا في هذا العالم حيث توجد المخلوقات التي لا نراها تحوم حولنا ... استطاع محمد حسنى أن يخلق تلك الحالة ليحدث نوعا من التوتر لدى المتلقي هذا التوتر خلق حركة داخل النص من خلال فعل المراقبة والانتظار، وطاقة المفارقة أيضا تتجسد بوضوح داخل قصيدة (وردة) المهداة إلى أيمن بكرص19 فبينما يؤذى الشاعر مشهد( منديل ورق غرقان دم ومرمى ف نص الطريق ) والجملة التالية ( وما اعرفش مين بالظبط اقنعنى انه وردة ) ما بين هذه الجدلية تتولد القصيدة شيئا فشيئا وما بين هذا المشهد الساكن تتولد الحركة وما بين الظاهر وما بين الباطن وما بين الداخل والخارج تتولد طاقة المفارقة وتنحدر القصيدة من أعلى نقطة لتصنع دراما وفى محاولة الشاعر الإنقاذ أو الخلاص (أأقرب أحس بالخطر ) وهنا تبدو العلاقة المتشابكة بين الإنسان والأشياء البسيطة التي تحيط به
وأيضا تتجلى تلك المفارقة في الديوان في ( قصايد قصيرة ) وخاصة المقطع الأخير( تاريخ) ص 34 ( تفتكر يعنى تستاهل انك تدخل التاريخ من أوسع أبوابه ، أو حتى من زقاق صغير ، علشان كل شوية تفكر انك تنتحر وتعيش ) فما بين الانتحار والحياة طاقة من المفارقة تعطي أهمية للصورة التي تصل إلى ذروتها في نهاية المشهد (تنتحر وتعيش ) ويأخذك محمد حسنى بشدة في قصيدة ( المصور ) ص 75 حين نطالع ذلك المصور الذي يقف حائرا أمام صورته حيث تفجر القصيدة معنى كليا عن الوجود بحيث تعارض وبشدة اتجاه كتاب قصيدة النثر أنها تجنح نحو الذات والتشظي والبسيط ( تتفاجيء بصورة واحدة مش قادر توصل معاها لبر ، وتحدد ملامحها ، تقرر تحمضها من جديد ، تطلع صورتك ) فما بين فعل المفاجأة الذي أحدثته تلك الصورة المجهولة لدى المصور وما بين أن تكون هذه الصورة هي صورة المصور نفسه طاقة من المفارقة وهنا لا يتحقق الوجود الملموس للذات إلا من خلال رؤيتها لصورتها وتبدو هنا الصورة دالا على الحقيقة أو دالا على عثور الذات على الجوهر... وهى تعيدنا إلى قصيدة (الصور ) ص17 التي تحيل طاقة المفارقة بين الكلام والصور حين يرصد حسنى تلك الثنائية
***الديوان يحمله روحان تتجاذبان الشاعر ولم يحدد موقفه بعد من كتابته فبينما تتنازعه شكل القصيدة الجديدة إلا أن الديوان يمتلئ بجماليات التفعيلة والغنائية مثل قصائد ( ليكي لوحدك ) ص 29 وقصيدة (صلاة غائب ) ص 41 ( انا الشرير بتاع الورد ) ص 51 وهى القصيدة التي يحمل اسمها عنوان الديوان وهذا مدهش لأنه يطرح السؤال الهام عن مدى قناعة الشاعر بالقصيدة الجديدة هل مازال مترددا أم انه يرى في كل قصيدة جمالها الخاص بحيث يبدو مقتنعا بتجاور الشعريات بيد انه من اللافت للنظر أن الشاعر لم يعد هو الشاعر نفسه في ديوان (مواسم للعطش والجوع ) حيث شاعر النبوءة وشاعر يحمل هموم البشر فتشبه تجربته تجربة المسيح في الصلب حين يقول (مواسم ليل الشتا فرحان بخوفى م الطريق والأنسجام بين السطور ضحكه ولكن من عذاب التجربه باتهد ،خوفى عليا م الوقوع يشبه لخوف المد م الغربه ، اشتاق الى كل القلوب وانا جسمى يشبه للمسيح ف الصلب ) بل أصبح موقف الشاعر من القصيدة ليس موقف الكاشف شاعر النبوءة ذلك الشاعر الذي يرى في نفسه وذاته ذاتا عالمة ببواطن الأشياء ومدركة لما لا يعرفه باقي المجموع بل نرى محمد حسنى يبتعد عن هذا الدور تماما رغم احتفاظه بمعظم أدوات القصيدة العامية مثل الوزن والصورة والاداء الغنائي الجمالي الكلاسيكي في بعض قصائد الديوان وكأن هذا مقصود من الشاعر... لكن هذه المرة بدا مختلفا بدا الكون أمامه مستعصيا على الفهم وتبدو ذات الشاعر ذاتا مأزومة ويبدو هو كما يقول في قصيدة ( ما تاخذونيش ) ص 27 ( أنا صوتي مش عابر سبيل ، لكن سبيل عبرت عليه الأسئلة ) فينقل الشاعر من صوت للتغني كشاعر الربابة القديم إلى موضع للألم ... وهنا يبدو الشاعر قلقا حائرا ويبدو هذا الانكسار وتلك الحالة التي تسكن الشاعر حين نراه في ( صلاة غائب ) ( بيتكسر ف صوتى كلام ، وتلملم ف قلبك روح ، وادور عنى ما القانى ، شبه تانى يقربلى يغربلى حدود وشي ويسكنى ) ص 41 وهنا يبدو اغتراب الشاعر حتى عن نفسه قاسيا بحيث تبدو الغربة واضحة بين اجزاء جسد الشاعر ( حدود الوش والقلب والروح والصوت ) لكن وفى الحين نفسه تبدو ضرورة الوزن وقد اضطرت الشاعر إلى أن يحرف المعنى في قوله ( وادور عنى ما القاني ) وكذلك فعل في قصيدة ( عايزانى ايه) حيث يخاطب الشاعر نفسه ( زى الفراشة بتعشق الموت ف عز النور وتميل الأحزان عليك لا تلاقي حد ينصفك ... )ص35 فبينما يحيلنا الموت الى الظلام والسكون تحيلنا النور الى الحياة والحركة وهكذا تنبع طاقة المفارقة في كثير من قصائد الديوان ....وقد تندهش حين ترى محاولة الشاعر الاقتراب من حبيبته في قصيدة ( ضيقة نفس ) التي تعبر عما قصدناه في أن الشاعر يبدو واعيا بما يصنع ذلك الوعي الفني الذي يتطلبه حس الناقد داخل الشاعر وهو يحاول الاقتراب ويصطنع الحيل حينا وهو في ذاته يفضح المعاني الكبيرة التي يحوم حولها النقاد ولا تبدو في الواقع حقيقية ( خلوا بلكم دى محض مؤامرة ، علشان وانا بافسرلها البعد الدرامتيكى فى الصورة اقرب واشم ريحتها يااااااه واقرب تانى واحاول استنطق الرسمة بشكل مغاير عن الاول واحط كمان ابعاد واتكلم عن الابعاد وعن الالوان وعمقها النفسي المهم اقول واقرب ) ص 39،40 وهو في ذات الوقت يقترب من معنى القرب الصوفي حيث في الاقتراب من المحبوب متعة ولذة ... وكذلك يقترب أكثر من فعل كتابة النص لديه في قصيدة ( حياة قصيدة ) بل ويرصد تعليقات من الآخر حول النص ويطرح محمد حسنى العالم الافتراضي في قصائده فنرى قصيدة مثل شاتينج ص 45 ولا نكاد نرصد ارتداد واحد داخل الديوان سوى قصيدة (مفتاح الحياة) حيث تبدو القصيدة مختلفة عن روح الديوان فيقول فيها ( عارف طريقى وخطوتى ومعايا زاد ، ممكن يكمل للبشر كل السكك ..) وذلك الخطاب لا نجده إلا في تلك القصيدة تقريبا إلا إننا نلحظ إن الشاعر قام بإهداء هذه القصيدة إلى روح الشاعر محمد حسني وربما في ذلك الإهداء يكمن التغير
**يجنح محمد حسنى في كثير من مناطق الديوان إلى كسر الإيهام بل والحيلولة دون اندماج المتلقي في لحمة القصيدة وهو يعتمد على بعض التيمات الشعبية التي يستخدمها العامة في الحكى في محاولة لجذب المتلقين للحديث وايقاذ وعيهم فيقترب من فعل الحكواتي فنراه يقول ( المهم ما طولش عليكم ) في قصيدة شاتينج ص 46 وقوله في قصيدة الاسطوانة اتكسرت ( هانبتدى منيين بالظبط )ص11 وفى ذات القصيدة يقول ( بس أنا مش هاطول عليك ) وفى قصيدة (ضيقة نفس ) يقول ( خلوا بالكم دى محض مؤامرة ) ص39 وفى قصيدة محاولة يائسة ( سيبنى أكملك ) ( يا تصبر على ..) ص 81 وفي قصيدة الفرامل نجد ( وتخيل معانا كده ) ( خالى بالك )
***وهنا نأتي إلى ملاحظة قد لا تسعد كثيراً من كتاب قصيدة نثر العامية ، الذين حملوا على عاتقهم مهمات التجديد الجمالي ، واتخذوا قيماً ومواقف تناسب وعيهم اللحظي بالعالم ، ، إن موقف الذات الساردة في قصيدة النثر عامة أو ما نطلق عليه أحيانا القصيدة الجديدة ، هو موقف يعكس تشظى الذات وتماهيها في ممارسات الحياة اليومية وانهماكها في العادي والمعاش والنسبي والشخصي هذا بالقطع ما يروج له أصحاب تلك القصيدة لكن محمد حسني وهو يتبني تلك التجربة لا يعمد مطلقا إلى تلقيها بهذا الشكل النمطي السهل بل حاول أن يبتعد عما هو كائن ليصنع تجربته بتفرد فلا يبدو منحازا إلي التجربة الجديدة بكل تصوراتها عن الشعر فيجعل من نفسه صورة كربونية من تجارب سابقة أو صورة طبق الأصل فيغدو مسخا لا إبداع لديه مثلما قالت إحداهن ما تظنه قصيدة نثر(
شدَّني من شعري الذي فضحتْهُ طرحتي ، ورماني تحتهُ ،خبَّأتنا عيدان القمحِ في غيطِ أبي ، وتصلَّبتْ مشمشتان غامضتان في نهديَّ ، كنتُ نشوانةً")
محمد حسني لا يكتب الشعر بأي تنظير مسبق لذا فهو يبدو متجددا لا يهمه ان أتت القصيدة تفعيلية او نثرية تجنح كتابته الى الرومانسية ومرة الى الذهنية لكونه يتعامل مع الشعر على انه فضاء حر يصلح دائما للتجريب لذا لا نجده يجتر تجارب سابقة عليه بل حاول حسني أن يضيف إلى تلك القصيدة الجديدة وان يتعاطى معها بعدما أدرك بحسه كمثقف وشاعر أن تجربة شعر النثر باتت حاضرة بقوة في الشعر فأمدها من روحه واستطاع أن يمنحها رونقا وهو يفصح عن ذلك في مقطع من قصيدة "قلب" حين يقول ( هاكتبني من غير اى دلالات فلسفية او جمالية يعني هاكون مباشر جدا ومن غير لف ودوران ) ص 67 ويقول في قصيدة آخر صفحة ص 86( أو حد يتخيل إنى باعمل حساب القاريء المتفاعل او الضمني او اي توقع تاني انا سايبه فاضي لاني مش عارف اوصفك وانت جوايا ) وقد أتاحت له تلك الطريقة في التعامل مع القصيدة الجديدة أن ينفتح على العالم وتغدو القيم الكلية والمعاني الكبرى التي من أبرزها الوطن مثلا حيث تتفكك إلى معاني جزئية صغيرة ، وتذوب في التجربة الشخصية الحية والمعاشة ، ومن ثم يظهر الوطن على نحو واضح في قصيدة محمد حسني فنرى مثلا قصيدة أيه النظام ؟ ص 73( هنفضل طول عمرك ومش هتتغير ماشي بعنيك لانك بنعشق سيرة البلد وتشرب عذاب الفرق بين النظرية والتطبيق وتفرد كل كلامك وتعمل منه كوبري يوصلك لكل شبر وزقاق ..) وقد يظهر الوطن على شكل خطاب للحبيبة مثلما فعل حسنى في قصيدة (ليكى لوحدك ) ص 29 حيث يختلط الخاص بالعام ويبدو الفراق هو فراق الحبيبة معادلا في ذاته لفراق الوطن والأرض وتظهر هذه التيمة أكثر لدى محمد حسنى في قصائد التفعيلة ( ووجعي كمان يهون لو تعرفى ، ما كنتى بعتى غربتى ، وما سبتى صبار الفراق ، فكراه يخضر تربتى وتفكى روحى وتربطى ، عطشي اليكى بالفراق )
وهنا يغدو السؤال إلى أي مدى يتشابه موقف الذات الشاعرة في قصيدة النثر مع موقف الشاعر القديم فيما يتعلق بنظرته إلى معنى الوطن ؟ فبينما يمكن وبكل بساطة تخيل الوطن في قصيدة مثل ( الفرامل ) ص 83 من الديوان في حين ربما تبدو ابعد ما تكون داخل الديوان عن هذا المعنى الكلى لكن هذا ما قصدناه في تغير معنى الوطن لدى كتاب قصيدة النثر فلم تعد تتحدث عن معاني كليه أو بصوت مباشر بل قد تتلمسها في أشياء وصور صغيرة داخل النص
كما يظهر الهم بالكتابة والقصيدة لدى محمد حسنى مثله في ذلك مثل معظم الشعراء المهمومين بالكتابة والشعر حين يبحثون عن معنى الكتابة في ظل معطيات العصر مثلما يقول سعدنى السلامونى من ديوان (دواوين في الدرج) وهو يبحث عن معنى الشعر
الشعر ، ما عدش ورق وأقلام ، بقى شاشة وكاميرات ، الدنيا ، نقدر ندخلها فى أسطوانات ، بلحمها ودمها ، سماها ونجومها وأرضها
الزلازل والبراكين اللى تحتها ، ضلمتها وشمسها
أيضا نرى محمد حسنى لديه هذا الهم ويظهر ذلك واضحا في ( لحم ودم ) ص 63 ( المهم انها قصيدة هاتبهدل كل قوانيين النقد ، وكل قوانين الشعرا نفسهم ، لانهم اول مرة يصدقوا ان فيه قصايد حروفها بتشر دم ، وتغرق لون الورق ) وقصيدة (حياة قصيدة ) ص 61
كما يظهر ارتباط الشعر بالمناسبة في الديوان حين نقرأ رثاء إلى محمد الحسيني وقصيدة نادي حافظ ومهدي صلاح
***حاول محمد حسنى رصد ثنائيات موجودة في حياتنا، وأسقط تجاربنا الإنسانية بشكل عام على التجربة الخاصة، بقدر ما هي مشاكل الإنسان بشكل عام، وكيف يرى الإنسان نفسه من خلال هذه الثنائيات ( وف وسط الصور اللى بتتعرض ، صورتك وانت قاعد لوحدك وبتفكر وبتصرخ، ويبان صوتك اعلى من التتر ، تفتكر بشكل سريع ، المشهد ده مش جو المسلسل ، ولا اتفقتوا عليه ، ازاى سبت المخرج يبين صورتك الحقيقية ) قصيدة الاسطوانة اتكسرت ص 13فحين يختلط الواقع والتمثيل ويضغط الواقع الذى يخرج حيا دون ارادة السارد... وحاول أن يصنع فرضياته الخاصة داخل هذه التجربة مشهد واحد وزوايا مختلفة لهذا المشهد ورؤيته للأشياء داخل النص تبدو رؤية خاصة تنبع من رؤيته الداخلية للعالم وإحساس عنيف بالأزمة يبدو متفاقما داخله ( يا عم مافيش حد اسأل نفسي كتير ، ايه الوش ده ؟، وخربشة وأصوات ، لا لا لا أكيد فيه حد وانا مش واخد بالي ،.....وتنتهى الى ( نفسي ف مرة واحدة ، لو اروح هناك ، واعرف مين بالظبط مستخبي وعايز يعملي مفجأة ) قصيدة مفاجأة ص 25 ،
*** الرومانسية موجودة بشكل كبير داخل الديوان بيد أن الرومانسية لا تعنى فقط علاقة الحبيب بالمحبوبة أو علاقة بنت بولد، وإنما هي كل إحساس بالآخرين، في الديوان يوجد إحساس عميق بالأشياء الموجودة في الحياة داخل إطار العلاقات الإنسانية حتى المهمش والبسيط منها مثلا منديل الورق الملقى في الطريق وستارة الحبيبة في قصيدة شباك حنان ص 69، والرومانسية بالنسبة له هي الرابط الإنساني الذي يشعر به ناحية هذه الأشياء وتبدو العلاقة مع المحبوبة في منتهى التعقيد حين نطالع قصيدة (ضيقة نفس ) ص 39 عندما تنتهى القصيدة بتوحد الشاعر مع محبوبته ( تتحول من غير فتوشوب لطيف وتدخل بنفسها جوه صورتها ، وانا احس ان فى حد بيقاسمني انفاسي او ضيقة نفس ، يمكن هي بتسرق الاكسجين منى وتسحبه من نفسي اول باول وحجتها انى ما كنتش قابل للإشتعال ) وتطور تجربة الحب داخل الديوان الى مجرد محاولة اثارة شفقت المحبوب بصورة قد تبدو تقليدية رومانسية مثل قصيدة (شبه ) ص 43 (بديكي من قلبي الحياة ، واستنى تيجى في مركبي ونغيب ) وكلام يبدو مكرور مثل ( متزوقيش طعم القدر ) وفي قصيدة (حقيقة ) يقدم حسني عرض لتجربة شعرية رومانسية تثير العواطف والمشاعر لكنها لا تقدم جديدا على مستوى الشعر العربي الذى يمتليئ بالبكاء والتوسلات للمحبوبة ( خلينى ذكرى للحياة خلى دموعك يوم فراق الاوردة رامي سنينى وضحكتى على اول السكة رايحلك بالحنين ) ص 59***** وتجربة محمد حسنى في هذا الديوان يبدو انه قد نجح في الخروج المبكر من تكرار تجربته واجترارها فقد فضل أن يبتعد قليلا عن تجاربه في الكتابة السابقة ليلحق بكتاب العامية مع قصيدة يمكنها أن تفجر داخله شعرا طازجا مدهشا وفى هذا الديوان نرى الكتابة لدى محمد حسنى تتشكل بطريقة عفوية جدا حيث يستطيع الشاعر أن يمسك بالأشياء البسيطة ليحيلها إلى معنى أعمق من خلال اللغة السهلة والمفردات البسيطة وهو يفصح عن تلك النظرة التي ربما يرددها البعض عنه فيقول في قصيدة حياة قصيدة (ممكن حد يقول دى كانت حالة وحد يقول كتبها قبل ما يمشي ) ص 61 وترى تلك البساطة والدهشة في رصد مشهد بأكمله داخل قصيدة ( حق مشروع ) حين يصور مشهد الدموع فنرى مواقف تبدو بسيطة مثل (دمعة بتيجى وتتنطط ونرى دمعة متحزمة وتترقص) إلا إنها تكتمل تلك المشاهد في صنع نهاية تشكل في طياتها طاقة المفارقة التي تحدثنا عنها فبينما تبدو الدموع مجتمعة في مشهد انتصارها الذي يشكل هزيمة للشاعر في آن واحد ( من حق الدموع تفرح بانتصارها عليك ) ص 57 وكيف جعل الدمع تفرح في تكملة لرؤيتنا عن طاقة المفارقة التي تتخلق داخل الديوان بأكمله
• يبدو خطاب الشاعر في كثير من قصائد الديوان بضمير المخاطب لكن وبكل تأكيد فإن الخطاب يعود في مواطن كثيرة إلى الذات كأنه فعل الصدى مثل قصيدة (ألم ) ص 7 ( صعب انك تعرف السكة ، وتفوت بقلبك على وش ناس ، مش زي ناس وتعدى منهم يخطفوك ...) وهنا يبدو الخطاب رغم انه يتجه للخارج إلا انه وفى حقيقته يبدو خطابا للذات ويبدو الاغتراب هنا بمعناه البارد وأيضا يبدو الخطاب كذلك في قصيدة الاسطوانة اتكسرت ( بتفتح لنفسك عالم غير العالم بتاعك ، وتكتب اسم مش اسمك ، وتحاول تصدق كل تفاصيل الحكاية )
**معجم الديوان
بقى ان نتحدث عن معجم ديوان ( انا الشرير بتاع الورد) حيث يبدو واضحا حداثة معجم الديوان من خلال المفردات التى تم استعمالها حيث بدت اكثر التصاقا بالحياة المعاصرة فنجد مفردات مثل ( الشات والفوتوشوب ( وهاحط صورتها بالفوتوشوب جو الرسمة ) ص39 الرتوش ( هاضرب عليك ف الخاص ) ( وتبقى زى مؤشر الصوت ف الميديا بلير ) ( وتحط جريد على البروفايل ) ( تعرفهم باحساسك من النيجاتيف ) ( أول ما تكتب كومنت ) ( وتبقى عايز تقفل وتنام )
وأخيرا يبقى دائما محمد حسنى قادرا على إدهاشك في كل ما يكتب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق