ملامحُ واتّجاهاتُ الأدبِ الفلسطينيِّ في إسرائيل!
آمال عوّاد رضوان
بتاريخ 10-5-2010 أقيمت ندوةٌ بعنوانِ ملامحُ واتّجاهاتُ الأدبِ الفلسطينيِّ في إسرائيل، في كلّيّة القاسمي في مدينة باقة الغربيّة، وهي إحدى نشاطاتِ قسم اللّغةِ العربيّةِ الّذي يرأسُهُ د. فاروق مواسي، باستضافة عددٍ مِن المبدعين والأدباءِ المحلّيّين، د. بطرس دلّة، هيام قبلان، نزيه حسّون وآمال عوّاد رضوان، وبحضور إضمامةٍ طلاّبيّةٍ فوّاحةٍ مِن جنائنِ الكلّيّة، يُقاسمُهم الحضورَ البهيَّ د. ياسين كتاني، د. عائدة فحماوي، أ. جميل كتاني، أ. عبد الحكيم أبو مخ، أ. هيفاء عبد القادر، ومُعِدّة النّدوة سكرتيرة القسم سندس وتد، وقد استهلّ التّرحيب د. مواسي والتّعريف بضيوفِه، مُبيِّنًا أهمّيّةَ دراسة أدبنا المُعَبِّر عن أوجاعِنا وأحلامِنا، تلاهُ الضّيوفُ بالحديثِ عن الشّعرِ والقصّة والرّواية:
مشاركة د. بطرس دلّة عن القصّةِ القصيرةِ وتطوّرِها في الأدبِ المَحلّيّ
مشاركة هيام قبلان: الرّوايةُ في الأدبِ الفلسطينيِّ المَحلّيّ
مشاركة آمال عوّاد رضوان: مجْدُ حيفا ويافا وعَكّا حنينٌ محفورٌ على حافرِ مأساة!
مشاركة نزيه حسّون: الشِّعرُ الفلسطينيُّ المَحلّيُّ وتطوّرُه
واختمَ اللّقاءُ بقراءاتٍ شعريّة، وشكرِ د. مواسي للضّيوف والحضور.
د. بطرس دلّة عن القصّةِ القصيرةِ وتطوّرِها في الأدبِ المَحلّيّ:
تعريفُ القصّةِ: هي سردٌ واقعيٌّ أو خياليٌّ لأفعالٍ، قد تكونُ نثرًا أو شِعرًا يُقصدُ بهِ إثارةُ الاهتمامِ والامتناع، أو تثقيفُ القارئِ أو السّامعِ إلى ما يريدُ أن يقولَ الكاتبُ القاصّ، أمّا القصّةُ القصيرةُ فهي سردٌ قصصيٌّ قصيرٌ نسبيًّا، يهدفُ إلى إحداثِ تأثيرٍ مفردٍ مهيمنٍ واحدٍ وفي لحظةٍ واحدة، فالوحدة إذن هي المبدأُ الموجّهُ لها، والتّوتّر هو أحدُ العناصرِ البنائيّةِ للقصّةِ القصيرة. وهنا يطرحُ السّؤالُ نفسه: لماذا نكتب؟
يجيبُ أحدُهم: "أنا أكتبُ مِن أجلِ الخلود"! ويقولُ آخرُ: "أكتبُ كي يكونَ لي اسمٌ معروفٌ"! ويقولُ ثالث: "أكتبُ كي أفيدَ الآخرين، وأدافعَ عن الوطن"! وكتبَ آخر: "أنا أكتبُ للشّمس والحياةِ والمستقبل، للعاملِ في مصنعِهِ وللفقيرِ لقمةَ عيْشِهِ، وللمساكينِ عزاءَهم وللاّجئينَ في خيامِ الذّلّ والغربةِ أكتبُ الأملَ بالعودة، أمذا الجياع فأكتب لهم خبزَهم كفافَ يومِهم، وللعطشى ماءَ عطشِهم، وللفلاّح الّذي يتباركُ بالمطرِ ويطربُ للرّعدِ وله شيء يضيءُ وجهَهُ الحزين في ظلماتِ شيخوختِهِ، أكتبُ للعنق الأعزلِ الّذي لا يستطيعُ الانتصارَ على سكاكين ومخالبِ المفترسين سلاحَهُ، أكتبُ للحرّيّةِ والاستقلال ومِن أجل الحياة"!
ويقولُ د. فاروق مواسي: "أكتبُ لأنّني مضطرٌّ أن أقدّمَ الثّمراتِ وكأنّني شجرة، قد تكونُ عذبةً شهيّةً وقد لا تكون، ولكنّي أحسّ أنّ هناك مَن يَسعَدُ بها، أعيدُ تركيبَ الأشياء والعناصر كطفلٍ، وأحطّم مسؤوليّتَها كرَجل وأنقدُ طبيعتَها، كشيخٍ أكتبُ كي لا أموت"!
تطوّرُ القصّةِ: بدأت القصّةُ في أدبنا المَحلّيِّ بعدَ النّكبة بشكلٍ بطيءٍ، وقد يكونُ سبب ذلك القطيعة الّتي كانتْ قائمةً معَ العالم العربيذِ الأرحب، وقد يكونُ قلّة عددِ القرّاء، أو بسببِ الانقطاع عن الأدبِ العالميّ، لأنّ ما تُرجمَ منه كانَ قليلاً جدًّا، وبالمقابل قد يكونُ نجاحُ الشّعراءِ في إبداعِهم بشكلٍ مُلفِتٍ للنّظر خاصّة، لأنّ الشّعراءَ عالجوا مواضيعَ اللاّجئينَ والهزائمِ والانتفاضاتِ والحُكم العسكريِّ ومُصادرةِ الأراضي، والإحباطِ بسبب الصّدامِ مع حضارةِ العولمة، الّتي تتّهمُ حضارتَنا العربيّةَ الإسلاميّةَ بأنّها حضارةُ عنفٍ وإرهاب، إلاّ أنّ انتشارَ الصّحافةِ، ودَوْرَ الحزبِ الشّيوعيِّ، وازديادَ المتعلّمينَ وأساتذةِ الجامعات، وظهورَ بعضِ المجلاّتِ والصّحفِ والتّرجماتِ، كلُّ ذلك أثّرَ في ظهورِ القصّةِ وحتّى الرّوايةِ لتُنافسَ الإبداعَ الشّعريّ، وقد يكونُ سببُ عدمِ انتشارِها، أنّ معظمَ القاصّين الأوائل كتبوا بلغةِ الوعظِ والخطابِ، وتغليبِ المضامين على الشّكل، ممّا جعلَ هذا الأدبَ وثيقةً اجتماعيّةً للدّارسين، وكانتِ القصصُ الأولى بعدَ النّكبةِ ذاتَ طابعٍ رومنسيٍّ واقعيّ، هكذا ظهرتِ الإرهاصاتُ الأولى للقصّةِ بعدَ النّكبة، وكانتْ القصصُ في الغالبِ سطحيّةً تقريريّةً واعظةً، ومواضيعُها كانتْ في الغالب باهتةً وبعيدةً عن الواقع، مع افتقارِها إلى العناصرِ والمقوّماتِ الفنّيّةِ للقصّة.
في سنواتِ السّبعين والثّمانين ظهرَ نشاطٌ قصصيٌّ روائيٌّ غزيرٌ وتغيُّرٌ في الشّكلِ والمضمون، قصصٌ طرحتِ القضايا الجوهريّةَ الّتي تهمُّ الأقلّيّةَ العربيّةَ الفلسطينيّةَ في إسرائيل، بالإضافةِ إلى بروزِ قصصٍ تدورُ حولَ همومِ الفردِ والذّات، وذلك لأسبابٍ اجتماعيّةٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّة، وعلى الرّغمِ مِن هذا التّطوّرِ الكبيرِ، فقد ظلّتْ موضوعاتُ القصّةِ القصيرةِ الفلسطينيّةِ لعربِ الدّاخل تلامسُ المأساةَ الفلسطينيّةَ وتداعياتِها المختلفة. ومعظمُ قصصِ رحلةِ ما قبلَ الثّمانيناتِ تمحورتْ حولَ الأرض الّتي يفلحُها، ويُدافع عنها ويَمنعُ مصادرتَها.
عناصر القصة القصيرة التقليدية؟
تبدأ القصصُ عادةً بمقدّمةٍ قصيرةٍ تُعِدُّ القارئَ لِما سيأتي بعدَها، ومن ثمّ الفكرةُ أو المغزى؛ الهدفُ الّذي يحاولُ القاصُّ عرْضَهُ في قصّتِهِ، والحَدَث؛ وهو عملٌ أو مجموعةُ أعمالٍ ووقائعَ مرتّبةٍ ترتيبًا سببيًّا، تدورُ حولَ موضوعٍ عامٍّ، وتُصوِّرُ الشّخصيّةَ وتكشفُ عن صراعِها معَ الشّخصيّاتِ الأخرى، والعقدةُ أو الحبكة؛ وهي مجموعةُ الحوادثِ المرتبطةِ زمنيًّا، ومعيارُ الوحدةِ هو وحدتُها، لأنّها تحكي عن الصّراع الّذي تدورُ حولَهُ، والشّخصيّةُ أو الشّخوص؛ هي أحد الأفرادِ الخياليّين أو الواقعيّين، الّذينَ تدورُ الأحداثُ حولَهم، والشّخصيّةُ تسمّى البطلُ أو الأبطال، يختارُهم القاصُّ عادةً ويَعرضُهُم بشكلٍ واضحٍ خلالَ السّرد، والشّخصيّةُ قد تكونُ مسطّحةً أو مدوّرةً أو جامدةً لا تتغيّرُ طوالَ عمليّةِ القصّ، والسّردُ؛ هو لغةُ النّصّ، له أهمّيّةُ بالغةٌ لأنّهُ أحدُ الأسسِ العامّةِ في القصّة، والوصف؛ يُصوِّرُ العالمَيْن الدّاخليَّ والخارجيّ مِن خلالِ العباراتِ والألفاظ، وتدخلُ فيهِ بعضُ البلاغةِ كالاستعارات والتّشابيهِ الّتي تُغني فنّيّةَ اللّغة، والحوار؛ إذا لجأ إليه الكاتبُ، فإنّهُ يُكسبُ السّردَ حيويّةً خاصّة.
القصّةُ القصيرةُ جدًّا: يختلفُ هذا النّوعُ عن القصصِ في بنائِهِ وشكلِهِ، فالتّفكيرُ في القصّةِ القصيرةِ جدّا يجبُ أن يكونَ مكثَّفً،ا ولكن القصّةَ تُكتبُ ببطءٍ، لأنّ القاصَّ يختارُ كلماتِهِ بدقّةٍ متناهية، وظهرَ هذا النّوعُ في التّسعيناتِ مِن القرن العشرين، بسببِ الحاجةِ إلى السّرعةِ، فالحياةُ باتتْ سريعةً ومضطربة.
ميزاتُ القصّةِ القصيرةِ جدًّا: قِصَرُ حجمِ القصّة؛ فقد لا تتعدّى صفحةً واحدةً. والمعيارُ الكيفيُّ أو الفنّيُّ؛ الّذي يكونُ ساخرًا أو موجزًا أو ترميزيًّا أو تلميحيًّا، والمعيارُ التّداوليُّ؛ وهو يعني إرسال رسائل مُشفّرة مع انتقاداتٍ كاريكاتوريّةٍ ساخرةٍ عن النّكباتِ والهزائم والإحباط، وهي أشبهُ بفلاش سريع كما تلمعُ كاميرا التّصوير، فلحظةٌ مِنَ الضّوءِ الغامرِ نشعرُ بعدَها بحدوثِ شيء، وأخيرًا كثافة اللّغة.
يقولُ د. حسين محمود حمزة في كتابهِ "صور المرايا" 1999، إنّ التّغييراتِ الّتي طرأتْ على القصّةِ العربيّةِ تدورُ حولَ ثلاثةِ مساراتٍ هي: تطويرُ السّماتِ الإيجابيّةِ والمواقفِ الثّوريّة، كمواجهةِ الاستقلالِ وقتلِ الهُويّةِ العربيّة، وتأكيدُ الهُويّةِ في ظروفِ الاحتلال، وتطويرُ المواقفِ والأوضاعِ واستشرافُ المستقبل، بإسقاطِ النّكراتِ التّافهة، فصورةُ البطلِ تغيّرتْ خاصّةً في قصص باط بوط للقاصّ خليل بيدس 1993، ومدار الجدار لوليد فاهوم 1995، والشّيخ مبروك لمحمد علي سعيد 1997، وباب الحمير لزكي درويش 1991، والحصان الأبيض لرافع يحيى 1996 وإلخ.. فالبطلُ لم يَعُدِ الإنسانَ المناضلَ الّذي يُمثّلُ المجموعَ، ويُضحّي مِن أجلِ الآخرين، أو ذلك الفلاّحَ البسيطَ، فتعظيمُ البوط لدى خليل بيدس جعلَ القارئَ يقفُ مشدوهًا، أمام هذا البطلِ غيرِ المألوف، فالسّخريةُ كانتْ مِن عاداتِ وتقاليدِ العربِ الاجتماعيّة، وقد توافقتْ مع مجموعةٍ مِنَ الأمثال والنّصوصِ الذّاتيّة، يُكسبُها دلالاتٍ جديدةً يمكنُ تسميتها بالتّناص الآيْرونيّ، والايرونيا هنا ليست السّخرية فقط والمفارقة للنّصّ أو للفظٍ معيّن، فالمعنى الظّاهرُ يختلفُ عن المعنى الباطن، فيضيف في قولِهِ: "قلْ لي أنتَ أيّها الصّديق، أُي حذاءٍ تحتذي أقُلْ لكَ مَن أنت"! كذلكَ فإنّ حمارَ القاصّ محمّد علي سعيد يُصبحُ مبارَكًا، بعدَ أن تحوّلَ قبرُهُ ليُصبحَ مزارًا، فهو يحملُ دلالةَ الانصياعِ الأعمى، وهنا يعتمدُ الكاتبُ على بنيةٍ تتقاطعُ مع قصّةٍ تراثيّةٍ، تحكي أنّ اثنيْن كانا في سفَرٍ وماتَ حمارُهُما، ولمّا لم يكنْ لديهما وسيلةٌ للسّفر، فقد غطّيا الحمارَ كي يوهِما القافلةَ المارّة، بأنّ الميت هو إنسانٌ صالحٌ ورعٌ ولهُ حسنات، فقامتِ القافلةُ بالتّصدّقِ على الميت، ومن هنا نشأتْ فكرةُ بناءِ مزارٍ فوقَ قبرِ الحمار، ولمّا اختلفا حَلَفَ أحدُهما بالوليّ الصّالح "الحمار"، فأجابَهُ الثّاني: لقد دفنّاهُ معًا، فيحاولُ القاصّ تحميلَ الحمارِ دلالةً سياسيّة، عندما لا يَشي الحمارُ بمكانِ كيسِ التتن الدّخان، بينما يَشي العملاءُ والأقزامُ بأسرارِ الوطنيّين الأحرار، كذلك يلجأ الكاتبُ إلى الحوار، فالبرّغمِ مِن بساطةِ التّقنيّةِ، إلاّ أنها تُضفي ديناميكيّةً على تطوّرِ النّصّ، وهنا يُكرّسُ الكاتبُ مكانةً خاصّةً للمكان، حيثُ يلعبُ مُراوِحًا بينَ قطبَي المنفى والوطن، فهو في كلتا الحالتيْن يُبقي جزءًا كاملاً في النّصّ مؤثّرًا في مستوى الخطاب، وهكذا يظلُّ المكانُ بلا أهمّيّةٍ، إلى أن يتشابكَ معَ الشّخصيّاتِ والمواقفِ والزّمان.
أمّا مجموعاتُ القاصّ محمّد علي طه وزكي درويش ود. فاروق مواسي وغيرهم، فتتعدّدُ لديهم دلالاتُ الكلمةِ في النّصّ الواحد، ولو أخذنا كلمةَ الخروج في مجموعة زكي درويش، في الخروج من الضّباب، لوجدنا أنّها مشحونةٌ بالدّلالاتِ الذّهنيّةِ العربيّة، وذلك لأنّنا نستطيعُ ربْطَها بالسّياق الحضاريّ، وهو سِفرُ الخروج الّذي في التّوراة، كما انّها تتقاطعُ مع لفظةِ الخروج في روايته، "الخروج من مرج بن عامر" عام 1983، فالخروجُ هنا تمّ مِن مكانٍ محدّد هو مرج بن عامر، أمّا الخروجُ مِنَ الضّبابِ فهو حالةٌ بيئيّةٌ، كما أنّ الماءَ والمطرَ يتشابكان في اجتياز حدودِ اليهود للبحر عندَ الخروج مِن مصر، هنا وجدنا انزياحًا في المعنى مِن دلالةٍ إلى دلالةٍ جديد،ة وفي الحالتيْنِ هو انزياحٌ عن المعنى القاموسيّ.
في مجموعة القاصّ محمّد علي طه "النّخلة المائلة" 1995 نجدُ تصويرًا، فيوسف العليّ الّذي ترك نخلتَهُ عام 1948 وهُجِّر، يعودُ الآن إليها ليجدَها كما هي فيُسمّيها المبروكة بقوله: "مبروكة يا مبروكة.. ياعين أمّك وأبوك، بالدّم زرعناكِ وبالدّمع سقيناكِ، وإجا الغُرَبا سرَقوكِ" ص 10، ويضيف القاصُّ للنّخلةِ دلالاتٍ تراثيّةً، ففي سورة مريم للنّخلة مكانةٌ خاصّة، ولدى الإنسانِ العربيِّ في الصّحراءِ للنّخلةِ مكانةٌ كبيرةٌ في حياتِهِ الصّحراويّة، وهي عندهُ رمزٌ لذاكرتِهِ حيث يقولُ: "أتذكرينني؟ أتذكرينَ أترابي وإخوتي، ونحن ندُورُ حولَكِ ونرقصُ ونغنّي؟" ص 14.
تطوُّرٌ آخرُ حصلَ في موضوع الزّمنِ، فالزّمنُ في النّصّ الأدبيِّ الحديثِ لم يَعُدِ الزّمنَ التّقليديّ، بل باتَ مُهمَّشًا ومُحطَّمًا، وتحوّلَ مِن خلفيّةٍ تجري أمامَها الأحداثُ، إلى أن يكونَ أحدُ الشّخصيّات الرّئيسيّةِ في بعضِ قصصِهِ، والزّمنُ في بعضِ القصص يكونُ سريعًا كالضّوء، بحيث تتضاءلُ إزاءَهُ أهمّيّةُ المكان، فيَمُرُّ الزّمنُ سريعًا كما يكبرُ ابنُ الحكايةِ حسبّ مشيئةِ الكاتب، لا بحسبِ الشّكلِ الزّمنيِّ البطيءِ.
اللّغةُ؛ ابتعدتْ عن الصّورِ المستهلَكةِ والقوالبِ اللّفظيّةِ، بحيث تعدّدتْ مستوياتُها، فبعضُهم يلجأ إلى العامّيّةِ يُطَعِّمُ بها نصوصَهُ، والبعضُ يُحلِّقُ حتّى تكاد تشعرُ أنّهُ شِعرًا، أمّا البعضُ الآخرُ فيلجأ إلى المُحسِّناتِ البلاغيّة، فيُكثرُ مِنَ الاستعاراتِ والتّشابيهِ والمقابلاتِ والتّضمينِ، بحيثُ تتعدّدُ الدّلالاتُ نتيجةً لذلك، ولا نقصدُ ترصيعَ اللّغة بهذه المحسّنات البلاغيّة فقط، بل نعني أنّ الكاتبَ أو القاصَّ إنّما يبحثُ عن خلقِ صراعٍ بينَ المضمون والأسلوب، وقد ينحتُ مصطلحات جديدة ككلمة المتشائل؛ المركّبة مِن المتشائم والمتفائل لدى اميل حبيبي، أو شكْسْبَرَتني مِن شكسبير، في مثلِ هذه المنحوتات نجد لدى بعضِ القصصيّين في كسر الطابو لقواعد اللّغةِ العربيّة، واستعمال مبدأ القياس اللّغويّ في مواطنَ يجدرُ بها ذلك، ومواطنَ أخرى قد لا يجوز بها ذلك، حتّى عندَ المهجريّين وجدنا خروجًا على قواعد اللّغة، فجبران يتساءل في قصيدته "أعطني النّاي وغنِّ" بقوله: "هل تحمّمتَ بعطرٍ وتنشّفتَ بنور"، فوجّهَ له أصحابُ اللّغة انتقادَهم بقولهم، هل استحممتَ بدلاً تحمّمتَ؟ وكيف يتحمّمُ الإنسانُ بالعِطر ويتنشّف بالنّور؟
كذلك الأمر بالنّسبة لتعامل الكاتب مع البطل، بحيثُ تختلفُ نظرةُ الكاتب المُحْدِثِ إلى البطل، عن نظرتِهِ إليه في المرحلة السّابقة لكتابة القصّة، لذلك نخلُصُ إلى القول: إنّ المرحلةَ الثّانيةّ أي بعدَ الثّمانينات، انتقلتْ فيها القصّةُ إلى رؤيةٍ فنّيّةٍ جماليّةٍ للنّصّ الأدبيّ لدى الكثيرين مِنَ الأدباءِ المُخضرَمين والجُدُد، فالمرحلةُ الثّانيةُ لم يَعُدِ البطلُ ذلكَ الإنسانَ الفلاّحَ البسيط، أو المناضلَ الّذي يُمثّلُ المجموعَ، أو الّذي يُضحّي مِن أجلِ الآخرين، لأنّ هذا البطلَ التّقليديَّ كان فيما مضى يحملُ هذهِ الصّفات، أمّا بطل هذه المرحلةِ فقد يكونُ حمارًا كما في قصّة الشّيخ مبروك لمحمد علي سعيد، وقد يكون ذلك الإنسان الّذي يلتفُّ حولَ نفسِه، كما عندَ رجاء بكريّة في مزامير ايلول 1991، فهو لديها البطلُ الّذي قد يكون فكرةً تدافعُ عنها، مثل الشّرف وحرّيّة المرأة، فالبطلُ الجديدُ ليس نموذجيًّا ولا تقليديًّا، إنّهُ بطلٌ مُجدَّدٌ مِن نوع جديدٍ رفيعِ المستوى.
ماذا فعلَ معَ الأسطورة؟ يُحاولُ الأديبُ حنّا أبو حنّا في كتابِهِ "تجرّعتُ سُمَّكَ حتّى المناعة"، توظيفَ أسطورةِ البعل وعناة الكنعانيّة، ذات الدّلالاتِ الواضحةِ كمادّةٍ أوّليّةٍ للكوْن، باعتبارِها أسطورة، فهو يُحاولُ أن يُحمِّلَها تجربةً معاصرةً ارتقى بها إلى مستوى الشّعر، بكلِّ ما تمتازُ بهِ مِن رموز، فالإنسانُ عندما يضعُفُ في موقفٍ ما، يلجأ إمّا إلى الحُلم وإمّا إلى الأسطورة، مع أنّ مثلَ هذا اللّجوءِ لا يُعتبرُ ابتعادًا عن الواقع، بقدْرِ ما هو تجذيرٌ له، فحنّا أبو حنّا في شِعرِهِ هذا ينجحُ في توظيفِ بعض الآياتِ القرآنيّةِ والإنجيليّة، وحتّى الأغاني الفلسطينيّةَ الشّعبيّة، مِن أجل فضْحِ الواقع الظالم الّذي يعيشُهُ الإنسانُ الفلسطينيّ، وهذا ما يسمى بالتّناصّ.
ماذا وكيفَ سيكونُ مستقبلُ هذا الجانر الأدبيّ؟
يقولُ د. حبيب بولس في كتاب "عيون المرايا": يواجهُ القاصُّ العربيُّ أسئلةً لا تحتملُ التّأجيلَ بسببِ المأزق الّذي يعيشُهُ مجتمعُنا العربيّ، خاصّة حولَ قضايا القِيَم والمُثُلِ والمبادئِ والمُراهنات، فالقاصّ يصطدمُ بواقع فيه الكثير مِنَ الظّواهر المَرَضيّةِ والسّلوكيّةِ والاجتماعيّةِ والأخبار، الأمر الّذي يمنعُ القاصَّ مِن السّرْدِ بنفْسِ النّبرةِ والوتائر السّابقة، فكيفَ يعملُ القاصُّ فوقَ أرضٍ ساخنةٍ مليئةٍ بالنّدوبِ والبثور، وبتقنيّاتٍ تنهارُ مِن جهةٍ وتُبرعِمُ بالمقابل؟"
مِن هنا كانَ على القاصِّ أن يُراقبَ المجتمع، ويرى ما طرأ عليهِ مِن تطوّراتٍ ومستجدّاتٍ كي يُطوِّرَ معها قِصصَه، ومعلومٌ أنّ مجتمعَنا قد بدّلَ الكثيرَ مِنَ القِيم برؤيةٍ جديدة، فمثلاً كانوا في زفّةِ العريس يُغنّونَ: "طالع مِن الخمّارة وبيدُو اليمين سيجارة"، فهل تصلح هذه القِيم لعالمِنا اليوم؟ إنّ معظمَ مبدعينا يعيشونَ في حالةٍ مِن القلق وشعورٍ بالغربة، بسببِ التّمييز القائم ضدّ الإنسانِ العربيّ، لذلك فقد أدّى الواقعُ الجديدُ إلى تقليصٍ كبيرٍ في إمكانيّةِ التّعبيرِ القصصيّ والتّعبير اللّفظيّ، وضرورة إيجادِ تقنيّةٍ جديدةٍ لكتابةِ القصّة، هكذا باتت القصّةُ المدماكيّةُ القديمة غيرَ مناسِبةٍ لعالمِنا الحاضر، ونحن نتطلّعُ اليوم إلى قصّةٍ انفجاريّةٍ مفصليّةٍ أو مُركّبةٍ، ذات نظرةٍ عموديّةٍ مكثّفةِ التّفاصيل، بعيدةٍ عن اللّغةِ الإخباريّةِ لغةِ الصّحافة، والوعظيّةِ والتّعليميّةِ الجامدة، إنّما قصّة متحررة مِن التّرهّلِ السّرديّ، ومع ذلك فقد بدأنا نلمسُ في الآونةِ الأخيرة تقدُّمًا ملموسًا في عالم القصّة والرّواية، بحيث باتتا تُنافسان عالمَ الشِّعرِ وبقوّة، ككتاب د. راوية بربارة "شقائق الأصيل" 2009.
بعضُ كُتّاب القصّةِ المميّزين في بلادنا القاص الأديب حنّا أبو حنّا، له مجموعتان "صوت من الشاغور"، و"نشيد للناس" عام 1994 و"ذكريات شاب لم يتغرب" 1996 وغيرها، ويركّز على الموضوع أكثر مِن الشّكل، سميح القاسم الشّاعر والقاصّ، له قصّة الصّورة الأخيرة في الألبوم، وهي قصّة مطوّلة، وزكي درويش أسلوبُهُ أنيقٌ لغتُهُ بسيطة ولكن بعُمق، ولا يتلاعبُ بالألفاظ ولا يَلفُّ ولا يدور، ويُقِلُّ في استعمالِ حروف العطف، ولا يُطعِّمُ لغتَهُ بألفاظٍ عامّيّةٍ، آخر إصداراتِهِ كتاب ثلاثة أيّام، وله الجسر والطوفان 1973 وشتاء الغربة 1971 والرجل الذي قتل العالم وغيرها. محمّد نفّاع سياسيّ كبير وقاصّ، له مجموعة كوشان وريح الشمال 1979 وغيرها، وأبطالُ قصصِهِ مِن واقعِهِ القرويّ، يوظّفُ اللّغة المحكيّة، فقصصُهُ أشبه بالخبز السّاخن مع الزّيت والزّعتر ومتبّل بالبطم. نبيه القاسم ناقدٌ وقاصٌّ وباحثٌ، له ابتسمي يا قدس و آه يا زمن. توفيق فياض له الهُويّة المميّزة لقصّتنا والشّارع الأصفر، وهذه القصص القصيرة تحوي المأساة الفلسطينيّة بكافة أبعادِهان وتُعبّرُ عن ارتباط الإنسان الفلسطينيّ بأرضِهِ رغم تجرُّعِهِ العلقم. ليانة بدر لها النّهار الّذي سيأتي. حكم بلعاوي مواليد 1934 له الحاجة رشيدة. توفيق زياد 1932 حكاية جدي 1994، أشهر أعمالِهِ إلى جانب الشّعر عن الأدب الشّعبيّ الفلسطينيّ 1970، يوميّات في السّاحة الحمراء 1973، حال الدّنيا حكايات فولكلورية 1975، وله 11 ديوانًا أوّلها أشدُّ على أياديكم. مصطفى مرار له الخيمة المثقوبة 1970 وطريق الآلام 1970 وقلادة الأفعى 1974. إميل حبيبي سياسيّ وأديب، ترك أثرًا كبيرًا في إبداعِنا المَحلّيّ، فهو الّذي اكتشف مواهبَ أمثال محمود درويش وسميح القاسم وحسين مهنّا وغيرهم، وكانت له مدْرسةٌ خاصّة في الكتابةِ والخطابة، له المتشائل 1974 يصفُ فيها ضائقةَ المواطنين العرب في إسرائيل، امتاز أسلوبُهُ بالجدّيّة والحذاقة والسّخرية، فرفع مكانة الأدبِ العربيِّ الإسرائيليّ في العالم العربيّ، خاصّةً لأنّ طابع قصصِهِ كانَ أصيلاً ومتفرّدًا، فكانتْ لغتُهُ مساهمة حقيقيّةً وأصليّة في الأدب المُعاصر، هذا أمرٌ أغضبَ اليمينَ المتطرّفَ الإسرائيليّ، لأنّهُ رفعَ مِن مكانةِ الأدب العربيّ الفلسطينيّ للعالميّة. محمّد علي سعيد له أحمد مردخاي وغيرها، تُرجمت بعض قصصه إلى الإنجليزيّة. محمود عباسي أصدر مؤخّرًا مجموعة من 20 قصة مأخوذة من القرآن الكريم، له أكثر من سبعين كتابا منها 47 مترجمًا، وهو مؤسّس مجلّةِ الشّرق الأدبيّة الفصليّة منذ 1970. د. فاروق مواسي النّاقد والشّاعر والباحث وصاحب كتاب هدي النّجمة، وهو مجموعة دراسات وأبحاثٍ في الأدب العربيّ، حيث يتحدّثُ في القسم الثّاني من الكتاب عن مواضيع القصة والرّواية، له مجموعةٌ مِن القصص القصيرة جدًّا بعنوان مرايا وحكايا. هناكَ أحدُ المفكّرين السّعوديّين يدّعي، أنّ القصّة القصيرة في طريقِها إلى الزّوال، بسبب الخروج عن قواعدِها التّقليديّة، وأنا أعتقد أنّنا إزاءَ رأي غير ناضج، لأن مثل هذه الفوضى جاءتْ نتيجةَ القلق والإحباط الّذي يعيشُهُ إنسانُنا العربيّ، ومع ذلك فإنّ هذه المقولة لا تنطبق على أدبنا المَحلّيّ مُطلقا.
هيام مصطفى قبلان/ الرّوايةُ في الأدبِ الفلسطينيِّ المَحلّيّ
تعريفِ الرّوايةِ كجانر أدبيّ Roman/ رواية: الكلمةُ عُرّبتْ من كلمة "روما"، وهي من اللّغةِ الرّومانيّةِ العامّيّةِ، وليسَ كما يُقال في اللاّتينيّةِ الفصحى، الرّوايةُ فنُّ السّردِ النّثريِّ لمغامراتٍ خياليّةٍ، وتتميّزُ عن الأقصوصةِ مِن حيثُ مداها الزّمنيِّ وغزارةِ الأحداثِ فيها، وإبرازِ صورةٍ كاملةٍ لنفسيّةِ الأبطالِ، وتتميّزُ عنِ الحكايةِ الشّعبيّةِ، بأنّها نوعُ منَ السّردِ المختلَقِ أو المتخيّل، أو تتألّفُ مِنْ مُركّباتٍ وعناصرَ واقعيّةٍ أو وهميّةٍ، حيثُ تُصوِّرُ العاداتِ والأخلاقَ، فيُشيرُ الكاتبُ إلى جانبٍ مِنَ الحياةِ الإنسانيّةِ، ويضعُ شخصيّاتِهِ داخلَ إطارٍ اجتماعيٍّ معيّنٍ، وقد يَشحنُها بغايةٍ خلقيّةٍ أو فلسفيّةٍ أو دينيّةٍ أو سياسيّةٍ أو تاريخيّةٍ أو علميّةٍ، أو مغامرةٍ إنسانيّةٍ تُثيرُ الأحاسيسَ. لذا مِنَ الممكنِ تعريفها: أنّها وثيقةٌ بشريّةٌ مستقاةٌ مِنَ الخيالِ والتّأمّل، ومُمَثِّلةٌ لواقعٍ خياليٍّ أو حقيقيٍّ. لقدِ اختلفَ النّقّادُ في أصلِ الرّوايةِ، فللرّوايةِ اتّجاهان: بأنّ جذورَها عربيّةٌ، أو لا علاقةَ لها بالجذورِ العربيّةِ، إنّما هي شكلٌ أخذناهُ عن الغربِ. يتّضحُ أنَّ الرّوايةَ الغربيّةَ نشأتْ على خلفيّةِ الأدبِ العربيِّ، والرّحلةُ الّتي قامَ بها الأدبُ العربيُّ بعدَ سقوطِ بغداد، وانتقالِهِ إلى أوروبّا كانَ لهُ الأثرُ الكبيرُ، في نشوء هذا "الجانر" المعروف، وإذا عُدنا إلى تاريخِنا العربيِّ، نجد الكثيرَ مِن بذورِ العربيّةِ، مثلَ أيّام العربِ مِن حروباتٍ بينَ القبائل، حيثُ تواجدتْ قصصٌ وحكاياتٌ عن الزّير سالم، وسيف بن ذي يزن، وعنترة بن شدّاد، وإن اطّلعنا على القصائدِ العربيّةِ، نجدُها تحملُ نفَسًا قصصيًّا مثلَ مُعلّقةِ امرؤ القيس وغيرها.
الخلاصةُ؛ أنّ الجذورَ القصصيّةَ عندَ العربِ قائمةٌ، لكن لم يهتمّ العربُ بها، بل اهتمّوا بالأدبِ الرّسميِّ المبنيِّ على الغزل والحماسة والفخر والمدْح في بلاط الأمراء، ككتاب "ألف ليلة وليلة"، الّذي أدهشَ الغربَ، ومنهُ استمدّ الغربُ مئاتِ القصص. الرّوايةُ لا تخلو مِنَ الحكايةِ، لكن ليستْ حكايةً عاديةً، إنّما فيها إثارةٌ وتشويقٌ، ومرتبطةٌ بالزّمن والقِيم بينَ الحياةِ اليوميّةِ الزّمنيّةِ، وبينَ حياةٍ في القِيمِ والعودةِ إلى الماضي، أمّا الحكايةُ فتقتصرُ على الزّمن.
ماذا عن هذا الجانر الرّوائيِّ في فلسطين ال48؟
انّ فنَّ الرّوايةِ في أدبِنا المَحلّيِّ ما زالَ في البدايةِ، أي في التّجريب، إذ أنّ معظمَ ما نُشِرَ مِن رواياتٍ تفتقدُ للعنصرِ أو للمُركّبِ الرّوائيِّ الأساسيِّ، لكن قد نتساءلُ: لماذا هذا الجانر بالذّاتِ تأخّرَ عن الأجناسِ الأدبيّةِ الأخرى كالقصّة والشِّعر؟ هل لذلكَ علاقةٌ بالواقعِ الاجتماعيِّ والسّياسيِّ مَحلّيًّا؟ وهل كلُّ ما نُشِرَ يفتقرُ إلى مُقوّماتٍ عديدةٍ هي الأساسُ في كتابةِ الرّوايةِ؟
تظهرُ على السّاحةِ الأدبيّةِ بينَ الفترةِ والأخرى رواياتٌ، تكادُ تكونُ تاريخًا وتوثيقًا خاليًا مِنَ الدّهشةِ وتَفجُّرِ اللّغة، إذ إنّ كتّاب الرّوايةِ لم يستطيعوا حتى الآن الخروجَ مِن إطارِ الكتابةِ الخطابيّةِ التّاريخيّةِ، وهناكَ مَن يُحيلُ ذلكَ إلى أسبابٍ منها؛ الظّروفُ الّتي يعيشُها الفلسطينيُّ، والّتي أدّتْ إلى إشكاليّةٍ كبيرةٍ في قدرةِ الكاتبِ، بالتّعاملِ معَ الخطابيْنِ التّاريخيِّ والأدبيِّ. لكن، بينَ هذا وذاك نتساءلُ:
أينَ قدرةُ الكاتبِ في التّوازنِ ما بينَ الخطابِ التّاريخيِّ والإبداعيّ؟
للأسفِ الشّديدِ، أكثريّةُ الإنتاجاتِ الأدبيّةِ سيطرَ عليها الخطابُ التّاريخيّ، وكانَ ذلكَ على حسابِ الخطابِ الأدبيّ، وهنا تبرزُ هذهِ الإشكاليّةُ بالأدبِ السّياسيّ، بسببِ الوضعِ القائمِ محلّيًّا مِن صراعٍ وعدمِ استقرارٍ، بعد أن ذاقَ شعبُنا الاحتلالَ والتّهجيرَ عبْرَ هذا التّاريخ، ليَحملَ أدباؤُهُ جمراتٍ محترقةً كرَدِّ فعلٍ ودفاعٍ عن القضيّةِ، مِن أجل إلهابِ الجماهيرِ، وتحريكِ نفوسهم العطشى للمقاومةِ والإصرار، وبما أنّ الإبداعَ "فانتازيا" وتحليقٌ بعالمٍ آخرَ متخيّلٍ وساحرٍ، فيدخلُ المبدعُ في حالةٍ بينَ الوعيِ واللاّوعي، لذا؛ ليسَ مِنَ المعقولِ تخطيطُ وبرمجةُ قوانينٍ، ووضْعُ العملِ الإبداعيِّ داخلَ أطرٍ مهندسةٍ، عندَها سيفقدُ العملُ فنّيّتَهُ، ومِن هنا ندركُ أن على المبدعِ أن لا يضعَ أمامَهُ معادلةً للموازنة، بل عليه استشراق الجوانب الكاملة للحدث، ولا أن يكتبَ الحدث كما هو، بل يحاول تكوينَهُ مِن جديد، فينفخ فيه روحًا جديدةً متناغمة، كتعبيرٍ عن أيِّ حدثٍ وكأنّه شاملٌ للحدث، وذلك بالخروج مِن كلاشيه التّقريريّة أو الكتابة الصّحفيّة، وباحتواءِ وإدراكِ ما يكتبُه. ونتساءلُ.. هل للرّواية في أدبنا المحلّيِّ هُويّة أو بطاقة تعريف؟ وهل دوْرُ النّقدِ سلبيًّا فقط؟
علينا الاعتراف أنّ حركةَ النّقدِ غائبةٌ كقيمةٍ أدبيّة، لأنّ معظمَ النّقدِ في الرّواية هو عمليّةُ استعراضٍ للعمل، أو عدمِ الالتفاتِ لِما يجري في الحركةِ النّقديّةِ في الإبداع المَحلّيّ، وإن تمّ الالتفاتُ فالنّاقدُ لديهِ مِن أسماءِ الرّوائيّين مَن يعرفُهُ ليُبرزَ اسمَهُ، وتُغيّبُ أسماءٌ أخرى في ظلِّ الأسماءِ المعروفةِ والكبيرة، وخاصّةً في شعرِ المقاومةِ، الّذي طغى على الرّوايةِ والقصّةِ القصيرة.
أقتبسُ مِن مقالٍ للكاتبِ والنّاقدِ نبيل عودة في هذا الجانب إذ يقول: "إنّ الكثيرَ مِن أدبائِنا قيمتُهم تكوّنتْ بانتمائِهم وموقعِهم السّياسيّ وليسَ بأدبِهم"! وأضيفُ: إنّهُ مِن مميّزاتِ نقدِنا المَحلّيِّ هو التّأثّرُ بالعائليّة والعلاقاتِ الشّخصيّة، ممّا يفقدُ الكثيرَ مِن مقوّماتِ النّقدِ والصّدقِ الأدبيّ والإخلاصِ المِهنيِّ. وربّما لهذا السّببِ يبتعدُ النّقّادُ ذوو القدراتِ النّقديّةِ مِنَ الولوجِ لمعترك الحياة الأدبيّةِ المَحلّيّة، لذلك؛ صحيح إن قلنا: إنّ أدبَنا المَحلّيَّ يحتاجُ إلى ناقدٍ فدائيٍّ وربّما انتحاريّ، فهل نحنُ أمامَ مهمّةٍ مستحيلة"؟ ممّا تقدّمَ نصلُ إلى القول، إنّ الأحداثَ السّياسيّةَ مِن تقلّباتٍ وتحوّلاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ، وأيضًا قلّةِ الموروثِ الرّوائيِّ مِن ناحيةٍ فنّيّة لهذا الجانر في أدبنا المّحلّيّ، ربّما أدّتْ جميعُها إلى ما وصلتْ إليه الرّوايةُ المحلّيّةُ مِن هضم حقّ، أو مِن تعتيمٍ على كتّاب، لو قرأنا لهم وشرّحْنا، وحاولنا كنُقّاد تفكيكَ الرّوايةِ مِن جوانبَ عدّةٍ، وليسَ فقط الموضوع أو فحوى الرّواية.
لا ننكرُ أنّها ظهرتْ على السّاحةِ الأدبيّةِ الرّوائيّةِ إسهاماتٌ قبلَ عام 1948، لكنّها قليلةٌ، لم تُضِفْ للإبداع الحقيقيِّ الّذي كُتب في العالم العربيِّ حينَها. بعدَ الخمسيناتِ ظهرتْ رواياتٌ، لكنّها لم تُشكّلْ مرجعًا فنّيًّا مِن حيثُ المستوى، وحتّى وإن كانتْ ناضجةً، لذا فالجوابُ على بطاقةِ الرّوايةِ، أنّ قلّةٌ مِن الرّواياتِ خرجتْ عن الإطار المألوف، والّتي غلب عليها الخطابُ التّاريخيّ، ولم ترتَقِ بالعملِ إلى التّشويقِ والإدهاش، لذا فالانتقالُ أدّى إلى ركودٍ نقديٍّ، وأيضًا إلى محاولاتٍ أخرى باءتْ بالفشل وعدم الاستمراريّة! والسّؤال المطروحُ سابقًا عن قضيّة التّوازن بينَ الخطابيْن، هل استطاعَ أدباؤُنا الوصولَ إلى طريقةٍ لا تُغيِّبُ أحدَ الخطابيْن في ظلِّ الآخر؟
للأسفِ.. لا، بل إنّ الصّوتَ التّاريخيَّ كانَ غالبًا في معظمِ الأعمالِ الرّوائيّة، وكأنَّ العمليّةَ الفنّيّةَ تُقتلُ إزاءَ الواقع المُعاش، ولا أدري إذا كانتْ هناك علاقةٌ بينَ عمليّةِ النّضوج عندَ الكاتب، كي يصلَ إلى مرحلةِ الفنّيّةِ والتّغييرِ، والخروج عن الإطار المألوفِ في العمل الرّوائيّ، وهل كلُّ ما كُتبَ حتّى الآن في أدبِنا المَحلّيّ في فلسطين، لا يَرقى لأنْ نُطلقَ عليه عملاً روائيًّا إبداعيًّا، يَحملُ عناصرَ ومكوّناتِ الرّوايةِ الفنّيّةِ الّتي بإمكانِها أن تحكي عن الواقع، بالكثيرِ مِن الدّهشة والتّعبير والمشاعرِ وكذلك الأسلوب؟ اليومَ نرى أنّ هناكَ حركةٌ أدبيّةٌ نشطةٌ، إن كانَ شعرًا أو قصّةً أو رواية، لكن تبقى الجوانبُ الأهمّ، وهي المؤسّساتُ الثّقافيّةُ ودُور النّشر ووسائلُ الإعلام، والسّياسةُ الدّاخليّةُ في دمْجِ حضارتيْن داخلَ ثقافةٍ واحدة، وماذا عن الكاتب نفسِهِ وقضيّة التّوزيع؟ وأين وكيف؟
الرّواية كجانر أدبيٍّ فنّيٍّ تحتاجُ لوقتٍ كبيرٍ، واليومَ وفي زحامِ هذه المعمعةِ بينَ التّطوّرِ والحرّيّةِ، وبينَ التّحدّي الّذي كانَ مِن نصيبِ مَن عاشروا وعاشوا زمنَ النّكبة، وتحدّوْا للظّروفِ الصّعبة، للحفاظِ على اللّغةِ العربيّةِ مِن القمع؟ هل نحنُ اليومَ بحاجةٍ لجسمٍ سياسيٍّ لولادةِ روايةٍ، نطلق عليها "أدب المقاومة" كما "شعر المقاومة"؟ برأيي؛ إنّنا بحاجةٍ لعملٍ روائيٍّ فيه اختراق، ولغةٍ روائيّةٍ تدهشُنا وتنقلُنا مِنَ المكان وتتصاعد، بحيث تُعزّزُ فكرةَ الواقع التّاريخيّ وفنّيّةَ اللّغة، دونَ هضْمِ أحدِ الجانبيْن، فما الّذي يمنعُ روائيًّا مبدعًا خلاّقًا أن يجمعَ بينَ الخطابيْن، حتّى لو كانتِ الرّوايةُ بمضمونِها تحكي تاريخَ فلسطين ومعاناتِهِ؟ وأحيانًا كتوثيقٍ لذاكرةِ شعبِنا، ما الّذي يمنعُ روائيًّا أن يخوضَ هذا الجانر من الفنون ويستمرَّ في الكتابة، وهو لا يمكنُهُ الخروج مِن تلبُّسِ لغةِ الخطابة والأسلوب التّقريريّ في أعمالِهِ الرّوائيّة.
لستُ هنا بموقفِ المقارنة ولا بالنّاقدة، لكنّني أتابعُ ما يُنشرُ محلّيًّا وعالميًّا، وأرى كم تفتقرُ الرّوايةُ المحلّيّة لمن يُخرجُها مِن ركودِها ويُحييها مِن جديد، وأنا أؤكّدُ أنّ المبدعَ في أيِّ عملٍ أدبيٍّ كان، يستطيعُ أن يسمُوَ بلغتِهِ الفنّيّةِ، فاللّغةُ ليستْ جمادًا ولا حِكرًا لقاموسٍ ومُعجمٍ معيّن، بل على المبدعِ أن يُواكبَ عمليّةَ الحداثةِ في حياتِنا اليوميّة، اجتماعيًّا ثقافيًّا وسياسيًّا، ليُطوّرَ أساليبَهُ الفنّيّة، وهنا لا أطالبُ الرّوائيَّ في أدبِنا المَحلِّيِّ بالتّخلّي عن إنتاجٍ أدبيٍّ يَحكي تاريخَ أرضِنا، ويُوثّقَ ذاكرةَ شعبِنا، لكن بإمكانِ هذا العمل الرّوائيِّ أن يكونَ مكتمِلاً، إذا استطاعَ الرّوائيُّ أن يُوازنَ بينَ التّاريخ وفنّيّةِ الكتابة، ومِن هذا المنطلق ارتأيتُ تقديمَ بعضِ النّماذج، علّ المتلقّيَ يَصلُهُ ما أعنيه. مِن الطّبيعيِّ أن أستشهدَ ببعضِ الفقراتِ مِن رواياتٍ محلّيّة، حملتْ طابعَ الخطابِ التّاريخيِّ أو الخطابِ الرّوائيِّ الفنّيِّ وهي قليلة، لكنّني أذكرُ مِن أسماءِ الرّوائيين في أدبِنا المحلّيّ، وسأختارُ مِن بينِها نصوصًا كمقاطعَ مِن روايات:
*إميل حبيبي/ المتشائل/ سرايا بنت الغول/ *د. حنا أبو حنا/ ظلّ الغيمة (سيرة) اعتبرت رواية * د. فؤاد خطيب/ ذاكرة العنقاء/ طاحون الزمن *رجاء بكرية/ عواء ذاكرة/ امرأة الرّسالة/ والصندوقة " قصص" * نبيل عودة/ حازم يعود هذا المساء/ المستحيل/ المرأة على الطرف الآخر *فاطمة ذياب/ رحلة في قطار الماضي/ الخيط والطّزيز *هدية صلالحة/ أجراس الرّحيل *معين حاطوم/ زمهرير الكرملي يكشف أسرار الكون، بجزئين *نجيب سوسان/ صدى الأيام *هيام مصطفى قبلان/ رائحة الزمن العاري * سهيل كيوان/ المفقود رقم 2000/ عصيّ الدمع * هادي زاهر/ السّرّ الدفين .....
وهناكَ أسماءٌ أخرى لكنّني سأكتفي، كي أقتبسَ مقاطعَ مِن روايات، وأختار (ظلّ الغيمة) للد. حنّا أبو حنّا، وهي ربّما سيرةٌ ذاتيٌة أو توثيقيّة، والّتي بسردِها تعتبرُ روايةً، بأسلوبِهِ السّرديِّ والوصفِ إذ يقولُ في عدلة وفارس:
"كانتْ عدلة واقفةً تنشرُ الغسيلَ على الحبل، ويداها ترفّانِ كجناحَي النّحلةِ، والقامة الجمريّة يتراقصُ لهبُها حينَ تنحني تلتقطُ الثّوبَ مِن اللّجَنِ، وتنتصبُ تنشرُهُ على الحبل، وتثبّتُهُ بالملاقطِ لتحضنَهُ النّسماتُ الرّبيعيّة، وعلى شجرةِ الرّمّانِ وتحتها عصافيرُ الدّوريّ تتقافزُ وتزقزقُ، والشّمسُ تسري في الشّرايينِ دفئًا ظامئا".
وفي مكانٍ آخرَ في وصْفٍ: "ذاكرةٌ للعينِ وذاكرةٌ للفم وذاكرةٌ للأنفِ وأخرى للأذن". أمّا عن القبلةِ الأولى في سيرته يقول: "كانتْ مكتنزةَ الجسم، بياضُها كالحليبِ الّذي تعشقُهُ موجةٌ شقراءُ مِن العسل، في صوتِها غنجٌ يحتضنُكَ فترافقُه إلى حيث يشاء، وشَعرُها الخرّوبيُّ أطفالٌ سُمْرٌ يَلهونَ بالرّكضِ على شواطىءِ الجبينِ والخدّيْن، لم يَرَ ذلك قبلَ زلزالِ تلكَ القبلة، حينَ احتضنَتْهُ قبلَ يوميْنِ وقبّلتْهُ على خدّيْهِ لم يَجفلْ عصفورٌ، ولم تتحرّكْ حبّةُ رمل".
مِن هذهِ الصّورِ والمشاهدِ ما يُلغي أحيانًا التّسمياتِ ما بين (السّيرةِ والرّواية)!
وهذا مقطعٌ مِن روايةِ "المتشائل" لأميل حبيبي: "أقبَلَ العسكرُ فبقيتُ في موضعي بلا حراكٍ، سوى أنّي وضعتُ يدي فوق عيني فأغمضتها، حتّى لا أرى النّهايةَ كما رأيتُ البدايةَ، وأسمعُ مِن فوق في منزلي صراخًا أنثويًّا، وصوتَ لطماتٍ وركلٍ وجلبةٍ، وأرى معركةً حاميةً تدور بين "يعاد" والعساكر، وأراها تقاومُ وتصرخُ وتركلُ بقدمِها، وأراهم يتكاثرون عليها ويدفعونَها أمامَهم إلى سيّارةِ التّرحيل".
ويتكرّرُ الموقفُ معَ العمّةِ نزيهة العجوز في "سرايا بنت الغول"، التي تُفتَّشُ وتُعرّى في مطار بن غوريون.
النّصُّ الثّالثُ هو مِن رواية (عواء ذاكرة) للرّوائيّة رجاء بكريّة: "أهو العراء؟ فزَعُ التّساؤلِ يشُطُّ قلبي بصنّارةٍ تطير، تحسّستُ ساقيَ السّليمة، أتمضينَ أنتِ أيضًا؟ أمرّرُ أصابعَ راجفةً فوقَ موتي السّفليّ، تقيسُ مساحةَ النّقصِ الّذي يتّسعُ هناك، يتمزّقُ الشّيءُ الّذي لا أعرفُ شكلَهُ داخلَ قارورتي ببطءٍ يحشرج، وتتكوّرُ عضلاتُ وجهي المسمومةُ كراتٍ تتهيّأ للتّفرقع، تنزلقُ مركبي عن شاطئِها هاربةً لعرضِ البحر، تتابعُ نعيقَ البجع واستغاثاتِ السّنونو، لتتوقّعَ شكلَ حصنِها القشّيِّ بعيدًا عن عينِ الرّقباء، لكنّهم يُحطّمونَ مقدّمتَها، لخرْقِها قوانينَ الحظْرِ المفروض، ويعيدونَها لمرفأ حزنِها القديم، وألمحُها سبّابتَك تشيرُ بمحاذاةِ الزّجاج الشّفّافِ لحاملةِ الطّائراتِ في طريقِها للرّسو في ميناء حيفا، "هل تعرفين ماذا يُسمّونها؟ "أتخابث، "خبّرني يا قاموسي الحربيّ". تهمسُ بحّتُكَ، وعيناك ترحلان عكس إبحارها: "إنّها حاملةُ الطّائرات".
في مكانٍ آخرَ في الرّواية تقول: "سيقتلُني شبقُكَ المجنون.. سيقتلني". تحدّقُ في عل "ستقتلُني حموضةُ تفّاحِكِ يا غجريّة". يجب أن ننتهي/ لن ننتهي/ اِمضِ إلى مجهولِكَ، وإن عُدْتَ برغمي لن تجدني/ نحن لنا/ لستَ مرفئي/ أنتَ مرسايَ/ أكرهُكَ.. أحبّكَ/ أريدكَ / أحبّكَ/ حبيبي أنا/ أمقتُكَ بعددِ شعرِ جسدي/ لا شعرَ لجسدِك – سأذهبُ إليه – لن تذهبي – الرّعبُ الّذي يفترسُ أطفالَهُ أحقُّ بوقتي منك، أنت طالق - لن ترحلي- وجودُنا هباء/ وجودُنا حقيقةٌ وواجبةٌ حقيقة، هل تفهمين؟"
وبما أنّنا نقفُ أمامَ نماذجَ مِن رواياتٍ لم تخرجْ عن موضوعِ الذّاكرةِ الفلسطينيّةِ والتّاريخ للشّعبِ الفلسطينيّ، خاصّة في حدود عام 1948، على المتلقّي أن يعي أنّنا نملكُ القدرةَ ككتّابٍ محلّيّين في التّوازن بينَ الخطابيْن التّاريخيِّ والأدبيّ، إن كنّا نملكُ حقًّا الفطرةَ الإبداعيّة، إذ إنّه لا زمانَ ولا مكانَ للإبداع، والتّجربةُ لا تفرضُ قانونَها على معاقرةِ المبدعِ لعملٍ فنّيٍّ مدهشٍ حقيقيٍّ بينَ الواقع والمتخيَّل، وخاصّةً في الكتابةِ الرّوائيّةِ، وأتركُ سؤالاً لن يكونَ خاتمةَ الأسئلة: ما هو دوْرُ النّقد العربيِّ في الرّوايةِ المحلّيّة داخل حدود ال48؟ وهل يهتمُّ الإعلامُ العربيُّ بإظهارِ مبدعينَ غَيّبتْ أسماءَهم وسائلُ الإعلام؟
الشِّعرُ الفلسطينيُّ المَحلّيُّ وتطوّرُه/ نزيه حسّون
"اللّغةُ تورَثُ كالأرض، "وإذا كانتِ الأرضُ تُجسّدُ هُويّةَ وجودِنا وسِرَّ بقائِنا، فاللّغةُ بدَوْرِها تُجسّدُ هُويّتَنا الثّقافيّةَ والفكريّة، وتطوّرُ اللّغةِ إنّما يُشيرُ بالتّالي إلى تطوّرِ الشّعوبِ الّتي تنطقُ بها، فاللّغةُ تورَثُ كالأرضِ كما قال شاعرُنا محمود درويش، ولنا أن نُضيفَ أيضًا، أنّها تتطوّرُ بتطوّرِ النّاطقينَ بها.
أسوقُ هذهِ المقدّمةَ القصيرةَ لأؤكّدَ بادئَ ذي بَدءٍ على أهمّيّةِ اللّغةِ في حياةِ الشّعوبِ، فهي إضافةً لكوْنِها أداة تَخاطُبٍ هامّة، تُمثّلُ وعاءً للأدبِ بشقّيْهِ النّثريِّ والشّعريّ، والشّعريِّ بالذّات، لِما لهُ عندَ العربِ من أهمّيّةٍ مميّزةٍ منذُ الجاهليّة حتّى يومِنا هذا، وليس عفوًا أنّه قيل: "الشِّعرُ ديوانُ العرب". والشِّعرُ الفلسطينيُّ بالتّالي هو أحدُ روافدِ الشّعرِ العربيِّ العامّ، وإذا ما انفردَ بميزاتٍ خاصّة، فإنّما تكونُ انعكاسًا للأحداثِ والتّطوّراتِ الّتي مرّتْ بالشّعبِ بشكلٍ خاصّ، وقد يفرضُ المكانُ أيضًا ميزاتٍ خاصّةً على هذا الأدب، ولكنّنا لا نستطيعُ أن ننظرَ إلى هذا الشِّعرِ بمَعزلٍ عن الشّعرِ العربيِّ كلِّهِ، فقد تأثّرَ بهِ وأثّرَ فيه.
وطالما موضوعُنا اليومَ ينحصرُ في مواضيعَ تطوّرِ الشّعرِ الفلسطينيِّ المحلّيِّ منذ عام 1948 حتّى يومنا هذا، ففي ذلك العام انشطرَ الوطنُ وانشطرَ الشّعب، وآل هذا الانشطارُ إلى نشوءِ حركةٍ شعريّةٍ خارجَ فلسطينَ الوطن، أمّا في الدّاخل هنا، فمثلما تشبّثْنا ببقائِنا في وطنِنا، تشبّثْنا أيضًا بهُويّتِنا ولغتِنا، واستطاعَ مبدعونا أن يخلقوا حركةً أدبيّةً راقيةً وهامّة، لفتتِ انتباهَ النّقّادِ في العالم العربيِّ وفي العالمِ كلِّهِ، واستطاعَ شعرُنا المَحلِّيُّ بالذّات أن يتجاوزَ المَحلّيّةَ والإقليميّةَ ليرقى إلى مشارفِ العالميّةِ، متمثّلاً بأشعار محمود درويش وسميح القاسم وغيرهم، وكانَ لهذا الشّعرِ حضورٌ عميقٌ ومميّزٌ في العالم العربيّ كلِّهِ، ولا سيّما شعرِ المقاومةِ منه، وكُتبتْ عنهُ دراساتٌ مِن قِبل خيرةِ النّقّادِ في مختلفِ أرجاءِ الوطن العربيّ، أمثال: غسّان كنفاني، فيصل الدّرّاج، ورجاء النّقّاش وغيرهم، وقد كانَ لهُ أثرٌ بالغٌ في نفوس الجماهيرِ العربيّة، لاسيّما أنّه بدأ يصلُ إلى العالم العربيّ، ويتوهّجُ في سمائِهِ مباشرةً بعدَ ليلِ النّكسةِ الّتي كان لها الوقعُ السّيّءُ والتّأثيرُ السّلبيّ، الّذي كادَ يصلُ بها إلى مرحلة يأسٍ كادَ يُسطيرُ على مزاج ووجدان الجماهيرِ العربيّة آنذاك، فجاءتْ أشعارُ المقاومةِ لتكونَ نبراسًا لإعادةِ الثّقة، وكانَ لها الدّوْرُ الأساسيُّ في زرْع الثّقةِ والتّحدّي في نفوس الجماهير، وإخراجِها مِن ليل النّكسةِ الدّامس، ولهذا أصبحتِ الجماهيرُ تُردّدُ هذهِ الأشعارَ عن ظهْرِ قلب، ونُشرتْ في كثير مِن الصّحفِ في كافّةِ أرجاءِ الوطنِ العربيّ، ولاقتِ التّبجيلَ والتّهليلَ الكبيرَينِ مِن النّقّادِ العرب، ممّا حدا بشاعرِنا محمود درويش أن يقول مقولتَهُ المشهورة "أنقذونا مِن هذا الحبّ".
أمّا بخصوصِ المواضيعِ الّتي تمحورَ حولَها هذا الشّعر، فقد تجسّدتْ في أربعِ نقاطٍ أساسيّة، طغتْ على شِعرِنا المَحلّيِّ عبْرَ كلِّ مراحلِهِ منذُ النّكبةِ حتّى اليوم:
المحورُ الأساسيُّ هو الأرض، بكلِّ ما تُمثّلُهُ الأرضُ مِن أبعادٍ وطنيّةٍ ووجوديّة، ولا أظنُّ أنّ هنالكَ شاعرًا مَحلّيًّا لم يتطرّقْ للأرض في قصائدِهِ، بل إنَّ الكثيرَ مِن شعرائِنا جعلوا الأرضَ جزءًا لا يتجزّأُ مِن ذواتِهم حتّى درجةِ التّجسّد، وكثيرًا ما استُعملتِ الأمُّ والمرأةُ بشكلٍ عامّ كرمز للأرض، والامثلةُ كثيرةٌ جدًّا، وأسوقُ مقطعًا قصيرًا مِن قصيدةِ إلى سحابة للشّاعر راشد حسين، لِما فيه مِن تجسيدٍ لهذا الالتحام بالأرض:
أنا الأرضُ/ لا تحرميني المطر/ أنا كلُّ ما ظلَّ منها/ لذا.. زرعتُ جبيني شجر/ وحوّلتُ شعري كرومًا/
وقمحًا.. ووردًا/ لكي تعرفيني، فجودي مطر/ أنا يا سحابةُ عمري.. جبالُ الجليل/ أنا صدرُ يافا/ وجبهةُ يافا/ فلا تهمسي.. مستحيل/ ألا تسمعينَ خطى طفلتي القادمة/ على عتباتِ فؤادِكِ/ ألا تبصرينَ عروقَ جبيني/ تحاولُ لثْمَ شفاهِكِ/ أنا في انتظارِكِ أصبحَ شعري ترابًا/ وصار حقولاً/ وأصبح قمحًا/ وأضحى شجر/ أنا كلُّ ما ظلَّ ممّا عشقتُ/ فجودي../ وجودي.. مطر.
وليسَ أروع مِن محمود درويش حين يقولُ في قصيدةِ الأرض:
أنا شاهدُ المذبحة/ وشهيدُ الخريطةِ/ أنا ولد الكلماتِ البسيطة/ رأيتُ الحصى أجنحة/ رأيتُ النّدى أسلحة/
عندما أغلقوا بابَ قلبي عليّا/ وأقاموا الحواجزَ فيّا/ ومنْعَ التّجوّلش/ صارَ قلبي حارةْ/ وضلوعي حجارةْ/ وأطلَّ القرنفل/ وأطلّ القرنفل
الأمثلةُ كثيرةٌ في هذا المجال، فهنالكَ شاعرٌ مِن الجيلِ الجديدِ يقولُ:
تبرعمَ لوزُكِ الزّهريُّ في جسدي/ وأمسى القلب أوراقًا مِنَ التّينِ/ أنا أرضٌ أنا شجرٌ أنا زرعٌ/ دمُ الزّيتونِ بعضٌ مِن شراييني/ فكيفَ تُصادرُ الشّريانَ مِن قلبي/ وكيفَ تَجُزُّ مِن جسدي بساتيني
أمّا المقاومةُ فهو المحورُ الثّاني مِن موضوعاتِ الشّعرِ المَحلّيِّ، ويرتبطُ ارتباطًا عضويًّا بالأرضِ والصّمودِ والتّشبّثِ بها، ولأنّ شعرَ المقاومةِ عبَّرَ عمّا يعتلجُ في وجدانِ الجماهيرِ، وعمّا يجيشُ في أعماقِها مِن مشاعرَ وطنيّةٍ ملتهبةٍ، فقد أصبحَ ولاسيّما في العقدِ السّادسِ والسّابع مِنَ القرنِ الماضي، بمثابةِ الهُويّةِ للشّعرِ الفلسطينيِّ المَحلّيِّ، فكانَ لهُ صدًى واسعٌ في العالم العربيِّ كلِّهِ، ولعلّ راشد حسين وتوفيق زياد ومِن ثمّ محمود درويش وسميح القاسم، هم مِن أهمّ رموزِ شِعرِنا المقاوِم، ولعلّ قصيدة راشد حسين "سنُفهِمُ الصّخر"، وقصيدة محمود "سجّلْ أنا عربيّ"، وقصيدة "سأقاوم" لسميح القاسم، وقصيدة "أناديكم" لتوفيق زياد، هي نماذجُ حيّةٌ لقصائدِ المقاومةِ الّتي أصبحتْ تتردَّدُ على شفاهِ الجماهيرِ مَحلِّيًّا وفي العالم العربيِّ كلِّهِ، ومِن نماذجِ شعر المقاومةِ. يقولُ راشد حسين في قصيدتِهِ "الثّوّارُ ينشدون":
سنُفهمُ الصّخرَ إنْ لم يفهَمِ البَشرُ/ إنّ الشّعوبَ إذا هبّتْ ستنتصرُ/ مهما صنعتـم مِنَ الـنّيرانِ نُخمدُها/ ألَمْ تـرَوْا أنّنا مِن لـفْحِها سُمُرُ؟/ ولو قـضيتُم علـى الثـّوّارِ كلِّهمُ/ تمـرّدَ الـشّيخُ والـعكّازُ والحجرُ
أمّا توفيق زياد فيقولُ في قصيدتِهِ: أناديكم/ أناديكم/ أشدُّ على أياديكم/ أبوسُ الأرضَ تحتَ نعالكم/ وأقول: أفديكم/ وأهديكم ضيا عيني/ ودفءَ القلبِ أعطيكم/ فمأساتي الّتي أحيا/ نصيبي من مآسيكم/ أناديكم/ أشد على أياديكم/ أنا ما هُنتُ في وطني ولا صغّرتُ أكتافي/ وقفتُ بوجهِ ظُلاّمي/ يتيمًا عاريا حافي/ حملتُ دمي على كفّي/ وما نكّستُ أعلامي/ وصُنتُ العشبَ الأخضر/ فوقَ قبورِ أسلافي
يقول محمود درويش: سَجِّلْ أنا عربيّ/ سجِّلْ أنا عربيّ/ ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألف/ وأطفالي ثمانية/ وتاسعُهم سيأتي بعدَ صيف/ فهل تغضب/ سجِّلْ أنا عربيّ/ وأعملُ مع رفاقِ الكدح في محجر/ وأطفالي ثمانية/ أسُلُّ لهم رغيفَ الخبزِ والأثوابَ والدّفتر/ مِنَ الصّخر/ ولا أتوسّلُ الصّدقاتِ مِن بابِك/ ولا أصغرُ أمامَ بلاطِ أعتابِكَ/ فهل تغضب/ سجِّلْ أنا عربيّ/ أنا اسمٌ بلا لقب/ صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها/ يعيشُ بفورةِ الغضب/ جذوري/ قبلَ ميلاد الزّمانِ رَسَتْ/ وقبلَ تفتُّحِ الحقب/ وقبلَ السّرو والزّيتونِ/ وقبلَ ترعْرُعِ العشب/ أبي مِن أسرةِ المحراثِ لا مِن سادةِ نجب/ وجدّي كانَ فلاّحًا بلا حسب.. ولا نسب/ يُعلّمُني شموخَ الشّمسِ قبلَ قراءةِ الكتب/ وبيتي كوخُ ناطورٍ مِنَ الأعوادِ والقصب/ فلا ترضيك منزلتي؟/ أنا اسمٌ بلا لقب !/ سجِّلْ أنا عربيّ/ ولونُ الشّعرِ فحميّ/ ولونُ العينِ بنّي/ وميزاتي: على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّة/ وكفّي صلبةٌ كالصّخر.. تخمشُ مَن يُلامسُها/ وعنواني: أنا مِن خِربةٍ عزلاءَ منسيّة/ شوارعُها بلا أسماء/ وكلُّ رجالِها.. في الحقلِ والمحجر/ فهل تغضب؟/ سجِّلْ أنا عربيّ/ سُلبتْ كرومُ أجدادي وأرضًا كنتُ أفلحُها/ أنا وجميعُ أولادي/ ولم تتركْ لنا ولكلِّ أحفادي/ سوى هذي الصّخور/ فهل ستأخذُها حكومتكُم.. كما قيلا/ إذن!!/ سجِّلْ…/ برأسِ الصّفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ النّاسَ/ ولا أسطو على أحد/ ولكنّي… إذا ما جعتُ/ آكلُ لحمَ مغتصبي
أمّا شاعرُنا سميح القاسم والّذي لا يملكُ مِن ميراث أبيهِ وجدّهِ إلاّ أن يتحدّى، كما قالَ في قصيدةِ "أتحدّى"، ويقولُ أيضًا في قصيدتِهِ "سأقاوم":
ربّما أفقدُ - ما شئتَ – معاشي/ ربّما أعرضُ للبيع ثيابي وفراشي/ ربّما أعملُ حجّارًا وعتّالاً وكناسَ شوارع/ ربّما أبحثُ في روْثِ المواشي عن حبوب/ ربّما أخمد.. عريانا.. وجائع/ يا عدوَّ الشّمس .. لكن .. لن أُساوم/ وإلى آخِرِ نبضٍ في عروقي/ سأقاوم../ ربّما تسلبُني آخرَ شبرٍ مِن ترابي/ ربّما تُطعمُ للسّجنِ شبابي/ ربّما تسطو على ميراثِ جدي/ مِن إثاث.. وأوان وخواب/ ربّما تحرقُ أشعاري وكتبي/ ربما تطعم لحمي للكلاب/ ربّما تبقى على قريتِنا كابوس رعب/ يا عدوَّ الشّمس/ لكن.. لن أساوم/ وإلى آخِر نبضٍ في عروقي.. سأقاوم/
أمّا المحورُ الثّالثُ فهو الغزليّ أو الوجدانيّ، فقد احتلَّ حيّزًا واسعًا مِن شِعرِنا المَحلّيِّ، ولا مجالَ لذِكرِ الأمثلة.
والمحورُ الرّابعُ هو الإنسانيّ، والّذي تجلّى بشكلٍ راقٍ ورائعٍ لدى جميع شعرائِنا، رغمَ ظروفِ القمْعِ والاضطهادِ الّتي عانى منها شعبُنا. لقد بقيَ التزامُ شعرائِنا بالقضايا الإنسانيّةِ جليًّا وساطعًا، وليسَ عفوًا أن يُخاطِبُ الرّئيسُ عرفات الشّاعرَ محمود درويش قائلاً: "لولا أشعاركم لتحوَّلَتِ الثّورةُ إلى عصابةٍ ولتحوّلنا إلى قطّاعِ طرق"، فقد جسّدَ الشّعرُ الفلسطينيُّ البُعدَ الإنسانيَّ للثّورةِ الفلسطينيّةِ وللوجدانِ الفلسطينيِّ كلِّهِ.
يقولُ درويش: "أنا لا أكرهُ النّاس/ ولا أسطو على أحد/
ويقول توفيق زياد: وأعطي نصفَ عمري/ للّذي/ يجعلُ طفلاً باكيًا/ يضحك/ وأعطي نصفَهُ الثّاني/ لأحميَ زهرةً خضراءَ أن تهلك/ وأمشي ألفَ عامٍ خلفَ أغنية/ وأقطعُ ألفَ وادٍ/ شائكِ المَسلك/ وأركبُ كلَّ بحرٍ هائجٍ/ حتّى ألمّ العطرَ/ عندَ شواطئِ اللّيلك/ أنا بشريّةٌ في حجم إنسانٍ/ فهل أرتاحُ/ والدّمُ الزّكيُّ يُسفَك!/ أغنّي للحياة/ فللحياةِ وهبتُ كلَّ قصائدي/ وقصائدي/ هي كلُّ../ ما أملك!
مشاركة د. بطرس دلّة عن القصّةِ القصيرةِ وتطوّرِها في الأدبِ المَحلّيّ
مشاركة هيام قبلان: الرّوايةُ في الأدبِ الفلسطينيِّ المَحلّيّ
مشاركة آمال عوّاد رضوان: مجْدُ حيفا ويافا وعَكّا حنينٌ محفورٌ على حافرِ مأساة!
مشاركة نزيه حسّون: الشِّعرُ الفلسطينيُّ المَحلّيُّ وتطوّرُه
واختمَ اللّقاءُ بقراءاتٍ شعريّة، وشكرِ د. مواسي للضّيوف والحضور.
د. بطرس دلّة عن القصّةِ القصيرةِ وتطوّرِها في الأدبِ المَحلّيّ:
تعريفُ القصّةِ: هي سردٌ واقعيٌّ أو خياليٌّ لأفعالٍ، قد تكونُ نثرًا أو شِعرًا يُقصدُ بهِ إثارةُ الاهتمامِ والامتناع، أو تثقيفُ القارئِ أو السّامعِ إلى ما يريدُ أن يقولَ الكاتبُ القاصّ، أمّا القصّةُ القصيرةُ فهي سردٌ قصصيٌّ قصيرٌ نسبيًّا، يهدفُ إلى إحداثِ تأثيرٍ مفردٍ مهيمنٍ واحدٍ وفي لحظةٍ واحدة، فالوحدة إذن هي المبدأُ الموجّهُ لها، والتّوتّر هو أحدُ العناصرِ البنائيّةِ للقصّةِ القصيرة. وهنا يطرحُ السّؤالُ نفسه: لماذا نكتب؟
يجيبُ أحدُهم: "أنا أكتبُ مِن أجلِ الخلود"! ويقولُ آخرُ: "أكتبُ كي يكونَ لي اسمٌ معروفٌ"! ويقولُ ثالث: "أكتبُ كي أفيدَ الآخرين، وأدافعَ عن الوطن"! وكتبَ آخر: "أنا أكتبُ للشّمس والحياةِ والمستقبل، للعاملِ في مصنعِهِ وللفقيرِ لقمةَ عيْشِهِ، وللمساكينِ عزاءَهم وللاّجئينَ في خيامِ الذّلّ والغربةِ أكتبُ الأملَ بالعودة، أمذا الجياع فأكتب لهم خبزَهم كفافَ يومِهم، وللعطشى ماءَ عطشِهم، وللفلاّح الّذي يتباركُ بالمطرِ ويطربُ للرّعدِ وله شيء يضيءُ وجهَهُ الحزين في ظلماتِ شيخوختِهِ، أكتبُ للعنق الأعزلِ الّذي لا يستطيعُ الانتصارَ على سكاكين ومخالبِ المفترسين سلاحَهُ، أكتبُ للحرّيّةِ والاستقلال ومِن أجل الحياة"!
ويقولُ د. فاروق مواسي: "أكتبُ لأنّني مضطرٌّ أن أقدّمَ الثّمراتِ وكأنّني شجرة، قد تكونُ عذبةً شهيّةً وقد لا تكون، ولكنّي أحسّ أنّ هناك مَن يَسعَدُ بها، أعيدُ تركيبَ الأشياء والعناصر كطفلٍ، وأحطّم مسؤوليّتَها كرَجل وأنقدُ طبيعتَها، كشيخٍ أكتبُ كي لا أموت"!
تطوّرُ القصّةِ: بدأت القصّةُ في أدبنا المَحلّيِّ بعدَ النّكبة بشكلٍ بطيءٍ، وقد يكونُ سبب ذلك القطيعة الّتي كانتْ قائمةً معَ العالم العربيذِ الأرحب، وقد يكونُ قلّة عددِ القرّاء، أو بسببِ الانقطاع عن الأدبِ العالميّ، لأنّ ما تُرجمَ منه كانَ قليلاً جدًّا، وبالمقابل قد يكونُ نجاحُ الشّعراءِ في إبداعِهم بشكلٍ مُلفِتٍ للنّظر خاصّة، لأنّ الشّعراءَ عالجوا مواضيعَ اللاّجئينَ والهزائمِ والانتفاضاتِ والحُكم العسكريِّ ومُصادرةِ الأراضي، والإحباطِ بسبب الصّدامِ مع حضارةِ العولمة، الّتي تتّهمُ حضارتَنا العربيّةَ الإسلاميّةَ بأنّها حضارةُ عنفٍ وإرهاب، إلاّ أنّ انتشارَ الصّحافةِ، ودَوْرَ الحزبِ الشّيوعيِّ، وازديادَ المتعلّمينَ وأساتذةِ الجامعات، وظهورَ بعضِ المجلاّتِ والصّحفِ والتّرجماتِ، كلُّ ذلك أثّرَ في ظهورِ القصّةِ وحتّى الرّوايةِ لتُنافسَ الإبداعَ الشّعريّ، وقد يكونُ سببُ عدمِ انتشارِها، أنّ معظمَ القاصّين الأوائل كتبوا بلغةِ الوعظِ والخطابِ، وتغليبِ المضامين على الشّكل، ممّا جعلَ هذا الأدبَ وثيقةً اجتماعيّةً للدّارسين، وكانتِ القصصُ الأولى بعدَ النّكبةِ ذاتَ طابعٍ رومنسيٍّ واقعيّ، هكذا ظهرتِ الإرهاصاتُ الأولى للقصّةِ بعدَ النّكبة، وكانتْ القصصُ في الغالبِ سطحيّةً تقريريّةً واعظةً، ومواضيعُها كانتْ في الغالب باهتةً وبعيدةً عن الواقع، مع افتقارِها إلى العناصرِ والمقوّماتِ الفنّيّةِ للقصّة.
في سنواتِ السّبعين والثّمانين ظهرَ نشاطٌ قصصيٌّ روائيٌّ غزيرٌ وتغيُّرٌ في الشّكلِ والمضمون، قصصٌ طرحتِ القضايا الجوهريّةَ الّتي تهمُّ الأقلّيّةَ العربيّةَ الفلسطينيّةَ في إسرائيل، بالإضافةِ إلى بروزِ قصصٍ تدورُ حولَ همومِ الفردِ والذّات، وذلك لأسبابٍ اجتماعيّةٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّة، وعلى الرّغمِ مِن هذا التّطوّرِ الكبيرِ، فقد ظلّتْ موضوعاتُ القصّةِ القصيرةِ الفلسطينيّةِ لعربِ الدّاخل تلامسُ المأساةَ الفلسطينيّةَ وتداعياتِها المختلفة. ومعظمُ قصصِ رحلةِ ما قبلَ الثّمانيناتِ تمحورتْ حولَ الأرض الّتي يفلحُها، ويُدافع عنها ويَمنعُ مصادرتَها.
عناصر القصة القصيرة التقليدية؟
تبدأ القصصُ عادةً بمقدّمةٍ قصيرةٍ تُعِدُّ القارئَ لِما سيأتي بعدَها، ومن ثمّ الفكرةُ أو المغزى؛ الهدفُ الّذي يحاولُ القاصُّ عرْضَهُ في قصّتِهِ، والحَدَث؛ وهو عملٌ أو مجموعةُ أعمالٍ ووقائعَ مرتّبةٍ ترتيبًا سببيًّا، تدورُ حولَ موضوعٍ عامٍّ، وتُصوِّرُ الشّخصيّةَ وتكشفُ عن صراعِها معَ الشّخصيّاتِ الأخرى، والعقدةُ أو الحبكة؛ وهي مجموعةُ الحوادثِ المرتبطةِ زمنيًّا، ومعيارُ الوحدةِ هو وحدتُها، لأنّها تحكي عن الصّراع الّذي تدورُ حولَهُ، والشّخصيّةُ أو الشّخوص؛ هي أحد الأفرادِ الخياليّين أو الواقعيّين، الّذينَ تدورُ الأحداثُ حولَهم، والشّخصيّةُ تسمّى البطلُ أو الأبطال، يختارُهم القاصُّ عادةً ويَعرضُهُم بشكلٍ واضحٍ خلالَ السّرد، والشّخصيّةُ قد تكونُ مسطّحةً أو مدوّرةً أو جامدةً لا تتغيّرُ طوالَ عمليّةِ القصّ، والسّردُ؛ هو لغةُ النّصّ، له أهمّيّةُ بالغةٌ لأنّهُ أحدُ الأسسِ العامّةِ في القصّة، والوصف؛ يُصوِّرُ العالمَيْن الدّاخليَّ والخارجيّ مِن خلالِ العباراتِ والألفاظ، وتدخلُ فيهِ بعضُ البلاغةِ كالاستعارات والتّشابيهِ الّتي تُغني فنّيّةَ اللّغة، والحوار؛ إذا لجأ إليه الكاتبُ، فإنّهُ يُكسبُ السّردَ حيويّةً خاصّة.
القصّةُ القصيرةُ جدًّا: يختلفُ هذا النّوعُ عن القصصِ في بنائِهِ وشكلِهِ، فالتّفكيرُ في القصّةِ القصيرةِ جدّا يجبُ أن يكونَ مكثَّفً،ا ولكن القصّةَ تُكتبُ ببطءٍ، لأنّ القاصَّ يختارُ كلماتِهِ بدقّةٍ متناهية، وظهرَ هذا النّوعُ في التّسعيناتِ مِن القرن العشرين، بسببِ الحاجةِ إلى السّرعةِ، فالحياةُ باتتْ سريعةً ومضطربة.
ميزاتُ القصّةِ القصيرةِ جدًّا: قِصَرُ حجمِ القصّة؛ فقد لا تتعدّى صفحةً واحدةً. والمعيارُ الكيفيُّ أو الفنّيُّ؛ الّذي يكونُ ساخرًا أو موجزًا أو ترميزيًّا أو تلميحيًّا، والمعيارُ التّداوليُّ؛ وهو يعني إرسال رسائل مُشفّرة مع انتقاداتٍ كاريكاتوريّةٍ ساخرةٍ عن النّكباتِ والهزائم والإحباط، وهي أشبهُ بفلاش سريع كما تلمعُ كاميرا التّصوير، فلحظةٌ مِنَ الضّوءِ الغامرِ نشعرُ بعدَها بحدوثِ شيء، وأخيرًا كثافة اللّغة.
يقولُ د. حسين محمود حمزة في كتابهِ "صور المرايا" 1999، إنّ التّغييراتِ الّتي طرأتْ على القصّةِ العربيّةِ تدورُ حولَ ثلاثةِ مساراتٍ هي: تطويرُ السّماتِ الإيجابيّةِ والمواقفِ الثّوريّة، كمواجهةِ الاستقلالِ وقتلِ الهُويّةِ العربيّة، وتأكيدُ الهُويّةِ في ظروفِ الاحتلال، وتطويرُ المواقفِ والأوضاعِ واستشرافُ المستقبل، بإسقاطِ النّكراتِ التّافهة، فصورةُ البطلِ تغيّرتْ خاصّةً في قصص باط بوط للقاصّ خليل بيدس 1993، ومدار الجدار لوليد فاهوم 1995، والشّيخ مبروك لمحمد علي سعيد 1997، وباب الحمير لزكي درويش 1991، والحصان الأبيض لرافع يحيى 1996 وإلخ.. فالبطلُ لم يَعُدِ الإنسانَ المناضلَ الّذي يُمثّلُ المجموعَ، ويُضحّي مِن أجلِ الآخرين، أو ذلك الفلاّحَ البسيطَ، فتعظيمُ البوط لدى خليل بيدس جعلَ القارئَ يقفُ مشدوهًا، أمام هذا البطلِ غيرِ المألوف، فالسّخريةُ كانتْ مِن عاداتِ وتقاليدِ العربِ الاجتماعيّة، وقد توافقتْ مع مجموعةٍ مِنَ الأمثال والنّصوصِ الذّاتيّة، يُكسبُها دلالاتٍ جديدةً يمكنُ تسميتها بالتّناص الآيْرونيّ، والايرونيا هنا ليست السّخرية فقط والمفارقة للنّصّ أو للفظٍ معيّن، فالمعنى الظّاهرُ يختلفُ عن المعنى الباطن، فيضيف في قولِهِ: "قلْ لي أنتَ أيّها الصّديق، أُي حذاءٍ تحتذي أقُلْ لكَ مَن أنت"! كذلكَ فإنّ حمارَ القاصّ محمّد علي سعيد يُصبحُ مبارَكًا، بعدَ أن تحوّلَ قبرُهُ ليُصبحَ مزارًا، فهو يحملُ دلالةَ الانصياعِ الأعمى، وهنا يعتمدُ الكاتبُ على بنيةٍ تتقاطعُ مع قصّةٍ تراثيّةٍ، تحكي أنّ اثنيْن كانا في سفَرٍ وماتَ حمارُهُما، ولمّا لم يكنْ لديهما وسيلةٌ للسّفر، فقد غطّيا الحمارَ كي يوهِما القافلةَ المارّة، بأنّ الميت هو إنسانٌ صالحٌ ورعٌ ولهُ حسنات، فقامتِ القافلةُ بالتّصدّقِ على الميت، ومن هنا نشأتْ فكرةُ بناءِ مزارٍ فوقَ قبرِ الحمار، ولمّا اختلفا حَلَفَ أحدُهما بالوليّ الصّالح "الحمار"، فأجابَهُ الثّاني: لقد دفنّاهُ معًا، فيحاولُ القاصّ تحميلَ الحمارِ دلالةً سياسيّة، عندما لا يَشي الحمارُ بمكانِ كيسِ التتن الدّخان، بينما يَشي العملاءُ والأقزامُ بأسرارِ الوطنيّين الأحرار، كذلك يلجأ الكاتبُ إلى الحوار، فالبرّغمِ مِن بساطةِ التّقنيّةِ، إلاّ أنها تُضفي ديناميكيّةً على تطوّرِ النّصّ، وهنا يُكرّسُ الكاتبُ مكانةً خاصّةً للمكان، حيثُ يلعبُ مُراوِحًا بينَ قطبَي المنفى والوطن، فهو في كلتا الحالتيْن يُبقي جزءًا كاملاً في النّصّ مؤثّرًا في مستوى الخطاب، وهكذا يظلُّ المكانُ بلا أهمّيّةٍ، إلى أن يتشابكَ معَ الشّخصيّاتِ والمواقفِ والزّمان.
أمّا مجموعاتُ القاصّ محمّد علي طه وزكي درويش ود. فاروق مواسي وغيرهم، فتتعدّدُ لديهم دلالاتُ الكلمةِ في النّصّ الواحد، ولو أخذنا كلمةَ الخروج في مجموعة زكي درويش، في الخروج من الضّباب، لوجدنا أنّها مشحونةٌ بالدّلالاتِ الذّهنيّةِ العربيّة، وذلك لأنّنا نستطيعُ ربْطَها بالسّياق الحضاريّ، وهو سِفرُ الخروج الّذي في التّوراة، كما انّها تتقاطعُ مع لفظةِ الخروج في روايته، "الخروج من مرج بن عامر" عام 1983، فالخروجُ هنا تمّ مِن مكانٍ محدّد هو مرج بن عامر، أمّا الخروجُ مِنَ الضّبابِ فهو حالةٌ بيئيّةٌ، كما أنّ الماءَ والمطرَ يتشابكان في اجتياز حدودِ اليهود للبحر عندَ الخروج مِن مصر، هنا وجدنا انزياحًا في المعنى مِن دلالةٍ إلى دلالةٍ جديد،ة وفي الحالتيْنِ هو انزياحٌ عن المعنى القاموسيّ.
في مجموعة القاصّ محمّد علي طه "النّخلة المائلة" 1995 نجدُ تصويرًا، فيوسف العليّ الّذي ترك نخلتَهُ عام 1948 وهُجِّر، يعودُ الآن إليها ليجدَها كما هي فيُسمّيها المبروكة بقوله: "مبروكة يا مبروكة.. ياعين أمّك وأبوك، بالدّم زرعناكِ وبالدّمع سقيناكِ، وإجا الغُرَبا سرَقوكِ" ص 10، ويضيف القاصُّ للنّخلةِ دلالاتٍ تراثيّةً، ففي سورة مريم للنّخلة مكانةٌ خاصّة، ولدى الإنسانِ العربيِّ في الصّحراءِ للنّخلةِ مكانةٌ كبيرةٌ في حياتِهِ الصّحراويّة، وهي عندهُ رمزٌ لذاكرتِهِ حيث يقولُ: "أتذكرينني؟ أتذكرينَ أترابي وإخوتي، ونحن ندُورُ حولَكِ ونرقصُ ونغنّي؟" ص 14.
تطوُّرٌ آخرُ حصلَ في موضوع الزّمنِ، فالزّمنُ في النّصّ الأدبيِّ الحديثِ لم يَعُدِ الزّمنَ التّقليديّ، بل باتَ مُهمَّشًا ومُحطَّمًا، وتحوّلَ مِن خلفيّةٍ تجري أمامَها الأحداثُ، إلى أن يكونَ أحدُ الشّخصيّات الرّئيسيّةِ في بعضِ قصصِهِ، والزّمنُ في بعضِ القصص يكونُ سريعًا كالضّوء، بحيث تتضاءلُ إزاءَهُ أهمّيّةُ المكان، فيَمُرُّ الزّمنُ سريعًا كما يكبرُ ابنُ الحكايةِ حسبّ مشيئةِ الكاتب، لا بحسبِ الشّكلِ الزّمنيِّ البطيءِ.
اللّغةُ؛ ابتعدتْ عن الصّورِ المستهلَكةِ والقوالبِ اللّفظيّةِ، بحيث تعدّدتْ مستوياتُها، فبعضُهم يلجأ إلى العامّيّةِ يُطَعِّمُ بها نصوصَهُ، والبعضُ يُحلِّقُ حتّى تكاد تشعرُ أنّهُ شِعرًا، أمّا البعضُ الآخرُ فيلجأ إلى المُحسِّناتِ البلاغيّة، فيُكثرُ مِنَ الاستعاراتِ والتّشابيهِ والمقابلاتِ والتّضمينِ، بحيثُ تتعدّدُ الدّلالاتُ نتيجةً لذلك، ولا نقصدُ ترصيعَ اللّغة بهذه المحسّنات البلاغيّة فقط، بل نعني أنّ الكاتبَ أو القاصَّ إنّما يبحثُ عن خلقِ صراعٍ بينَ المضمون والأسلوب، وقد ينحتُ مصطلحات جديدة ككلمة المتشائل؛ المركّبة مِن المتشائم والمتفائل لدى اميل حبيبي، أو شكْسْبَرَتني مِن شكسبير، في مثلِ هذه المنحوتات نجد لدى بعضِ القصصيّين في كسر الطابو لقواعد اللّغةِ العربيّة، واستعمال مبدأ القياس اللّغويّ في مواطنَ يجدرُ بها ذلك، ومواطنَ أخرى قد لا يجوز بها ذلك، حتّى عندَ المهجريّين وجدنا خروجًا على قواعد اللّغة، فجبران يتساءل في قصيدته "أعطني النّاي وغنِّ" بقوله: "هل تحمّمتَ بعطرٍ وتنشّفتَ بنور"، فوجّهَ له أصحابُ اللّغة انتقادَهم بقولهم، هل استحممتَ بدلاً تحمّمتَ؟ وكيف يتحمّمُ الإنسانُ بالعِطر ويتنشّف بالنّور؟
كذلك الأمر بالنّسبة لتعامل الكاتب مع البطل، بحيثُ تختلفُ نظرةُ الكاتب المُحْدِثِ إلى البطل، عن نظرتِهِ إليه في المرحلة السّابقة لكتابة القصّة، لذلك نخلُصُ إلى القول: إنّ المرحلةَ الثّانيةّ أي بعدَ الثّمانينات، انتقلتْ فيها القصّةُ إلى رؤيةٍ فنّيّةٍ جماليّةٍ للنّصّ الأدبيّ لدى الكثيرين مِنَ الأدباءِ المُخضرَمين والجُدُد، فالمرحلةُ الثّانيةُ لم يَعُدِ البطلُ ذلكَ الإنسانَ الفلاّحَ البسيط، أو المناضلَ الّذي يُمثّلُ المجموعَ، أو الّذي يُضحّي مِن أجلِ الآخرين، لأنّ هذا البطلَ التّقليديَّ كان فيما مضى يحملُ هذهِ الصّفات، أمّا بطل هذه المرحلةِ فقد يكونُ حمارًا كما في قصّة الشّيخ مبروك لمحمد علي سعيد، وقد يكون ذلك الإنسان الّذي يلتفُّ حولَ نفسِه، كما عندَ رجاء بكريّة في مزامير ايلول 1991، فهو لديها البطلُ الّذي قد يكون فكرةً تدافعُ عنها، مثل الشّرف وحرّيّة المرأة، فالبطلُ الجديدُ ليس نموذجيًّا ولا تقليديًّا، إنّهُ بطلٌ مُجدَّدٌ مِن نوع جديدٍ رفيعِ المستوى.
ماذا فعلَ معَ الأسطورة؟ يُحاولُ الأديبُ حنّا أبو حنّا في كتابِهِ "تجرّعتُ سُمَّكَ حتّى المناعة"، توظيفَ أسطورةِ البعل وعناة الكنعانيّة، ذات الدّلالاتِ الواضحةِ كمادّةٍ أوّليّةٍ للكوْن، باعتبارِها أسطورة، فهو يُحاولُ أن يُحمِّلَها تجربةً معاصرةً ارتقى بها إلى مستوى الشّعر، بكلِّ ما تمتازُ بهِ مِن رموز، فالإنسانُ عندما يضعُفُ في موقفٍ ما، يلجأ إمّا إلى الحُلم وإمّا إلى الأسطورة، مع أنّ مثلَ هذا اللّجوءِ لا يُعتبرُ ابتعادًا عن الواقع، بقدْرِ ما هو تجذيرٌ له، فحنّا أبو حنّا في شِعرِهِ هذا ينجحُ في توظيفِ بعض الآياتِ القرآنيّةِ والإنجيليّة، وحتّى الأغاني الفلسطينيّةَ الشّعبيّة، مِن أجل فضْحِ الواقع الظالم الّذي يعيشُهُ الإنسانُ الفلسطينيّ، وهذا ما يسمى بالتّناصّ.
ماذا وكيفَ سيكونُ مستقبلُ هذا الجانر الأدبيّ؟
يقولُ د. حبيب بولس في كتاب "عيون المرايا": يواجهُ القاصُّ العربيُّ أسئلةً لا تحتملُ التّأجيلَ بسببِ المأزق الّذي يعيشُهُ مجتمعُنا العربيّ، خاصّة حولَ قضايا القِيَم والمُثُلِ والمبادئِ والمُراهنات، فالقاصّ يصطدمُ بواقع فيه الكثير مِنَ الظّواهر المَرَضيّةِ والسّلوكيّةِ والاجتماعيّةِ والأخبار، الأمر الّذي يمنعُ القاصَّ مِن السّرْدِ بنفْسِ النّبرةِ والوتائر السّابقة، فكيفَ يعملُ القاصُّ فوقَ أرضٍ ساخنةٍ مليئةٍ بالنّدوبِ والبثور، وبتقنيّاتٍ تنهارُ مِن جهةٍ وتُبرعِمُ بالمقابل؟"
مِن هنا كانَ على القاصِّ أن يُراقبَ المجتمع، ويرى ما طرأ عليهِ مِن تطوّراتٍ ومستجدّاتٍ كي يُطوِّرَ معها قِصصَه، ومعلومٌ أنّ مجتمعَنا قد بدّلَ الكثيرَ مِنَ القِيم برؤيةٍ جديدة، فمثلاً كانوا في زفّةِ العريس يُغنّونَ: "طالع مِن الخمّارة وبيدُو اليمين سيجارة"، فهل تصلح هذه القِيم لعالمِنا اليوم؟ إنّ معظمَ مبدعينا يعيشونَ في حالةٍ مِن القلق وشعورٍ بالغربة، بسببِ التّمييز القائم ضدّ الإنسانِ العربيّ، لذلك فقد أدّى الواقعُ الجديدُ إلى تقليصٍ كبيرٍ في إمكانيّةِ التّعبيرِ القصصيّ والتّعبير اللّفظيّ، وضرورة إيجادِ تقنيّةٍ جديدةٍ لكتابةِ القصّة، هكذا باتت القصّةُ المدماكيّةُ القديمة غيرَ مناسِبةٍ لعالمِنا الحاضر، ونحن نتطلّعُ اليوم إلى قصّةٍ انفجاريّةٍ مفصليّةٍ أو مُركّبةٍ، ذات نظرةٍ عموديّةٍ مكثّفةِ التّفاصيل، بعيدةٍ عن اللّغةِ الإخباريّةِ لغةِ الصّحافة، والوعظيّةِ والتّعليميّةِ الجامدة، إنّما قصّة متحررة مِن التّرهّلِ السّرديّ، ومع ذلك فقد بدأنا نلمسُ في الآونةِ الأخيرة تقدُّمًا ملموسًا في عالم القصّة والرّواية، بحيث باتتا تُنافسان عالمَ الشِّعرِ وبقوّة، ككتاب د. راوية بربارة "شقائق الأصيل" 2009.
بعضُ كُتّاب القصّةِ المميّزين في بلادنا القاص الأديب حنّا أبو حنّا، له مجموعتان "صوت من الشاغور"، و"نشيد للناس" عام 1994 و"ذكريات شاب لم يتغرب" 1996 وغيرها، ويركّز على الموضوع أكثر مِن الشّكل، سميح القاسم الشّاعر والقاصّ، له قصّة الصّورة الأخيرة في الألبوم، وهي قصّة مطوّلة، وزكي درويش أسلوبُهُ أنيقٌ لغتُهُ بسيطة ولكن بعُمق، ولا يتلاعبُ بالألفاظ ولا يَلفُّ ولا يدور، ويُقِلُّ في استعمالِ حروف العطف، ولا يُطعِّمُ لغتَهُ بألفاظٍ عامّيّةٍ، آخر إصداراتِهِ كتاب ثلاثة أيّام، وله الجسر والطوفان 1973 وشتاء الغربة 1971 والرجل الذي قتل العالم وغيرها. محمّد نفّاع سياسيّ كبير وقاصّ، له مجموعة كوشان وريح الشمال 1979 وغيرها، وأبطالُ قصصِهِ مِن واقعِهِ القرويّ، يوظّفُ اللّغة المحكيّة، فقصصُهُ أشبه بالخبز السّاخن مع الزّيت والزّعتر ومتبّل بالبطم. نبيه القاسم ناقدٌ وقاصٌّ وباحثٌ، له ابتسمي يا قدس و آه يا زمن. توفيق فياض له الهُويّة المميّزة لقصّتنا والشّارع الأصفر، وهذه القصص القصيرة تحوي المأساة الفلسطينيّة بكافة أبعادِهان وتُعبّرُ عن ارتباط الإنسان الفلسطينيّ بأرضِهِ رغم تجرُّعِهِ العلقم. ليانة بدر لها النّهار الّذي سيأتي. حكم بلعاوي مواليد 1934 له الحاجة رشيدة. توفيق زياد 1932 حكاية جدي 1994، أشهر أعمالِهِ إلى جانب الشّعر عن الأدب الشّعبيّ الفلسطينيّ 1970، يوميّات في السّاحة الحمراء 1973، حال الدّنيا حكايات فولكلورية 1975، وله 11 ديوانًا أوّلها أشدُّ على أياديكم. مصطفى مرار له الخيمة المثقوبة 1970 وطريق الآلام 1970 وقلادة الأفعى 1974. إميل حبيبي سياسيّ وأديب، ترك أثرًا كبيرًا في إبداعِنا المَحلّيّ، فهو الّذي اكتشف مواهبَ أمثال محمود درويش وسميح القاسم وحسين مهنّا وغيرهم، وكانت له مدْرسةٌ خاصّة في الكتابةِ والخطابة، له المتشائل 1974 يصفُ فيها ضائقةَ المواطنين العرب في إسرائيل، امتاز أسلوبُهُ بالجدّيّة والحذاقة والسّخرية، فرفع مكانة الأدبِ العربيِّ الإسرائيليّ في العالم العربيّ، خاصّةً لأنّ طابع قصصِهِ كانَ أصيلاً ومتفرّدًا، فكانتْ لغتُهُ مساهمة حقيقيّةً وأصليّة في الأدب المُعاصر، هذا أمرٌ أغضبَ اليمينَ المتطرّفَ الإسرائيليّ، لأنّهُ رفعَ مِن مكانةِ الأدب العربيّ الفلسطينيّ للعالميّة. محمّد علي سعيد له أحمد مردخاي وغيرها، تُرجمت بعض قصصه إلى الإنجليزيّة. محمود عباسي أصدر مؤخّرًا مجموعة من 20 قصة مأخوذة من القرآن الكريم، له أكثر من سبعين كتابا منها 47 مترجمًا، وهو مؤسّس مجلّةِ الشّرق الأدبيّة الفصليّة منذ 1970. د. فاروق مواسي النّاقد والشّاعر والباحث وصاحب كتاب هدي النّجمة، وهو مجموعة دراسات وأبحاثٍ في الأدب العربيّ، حيث يتحدّثُ في القسم الثّاني من الكتاب عن مواضيع القصة والرّواية، له مجموعةٌ مِن القصص القصيرة جدًّا بعنوان مرايا وحكايا. هناكَ أحدُ المفكّرين السّعوديّين يدّعي، أنّ القصّة القصيرة في طريقِها إلى الزّوال، بسبب الخروج عن قواعدِها التّقليديّة، وأنا أعتقد أنّنا إزاءَ رأي غير ناضج، لأن مثل هذه الفوضى جاءتْ نتيجةَ القلق والإحباط الّذي يعيشُهُ إنسانُنا العربيّ، ومع ذلك فإنّ هذه المقولة لا تنطبق على أدبنا المَحلّيّ مُطلقا.
هيام مصطفى قبلان/ الرّوايةُ في الأدبِ الفلسطينيِّ المَحلّيّ
تعريفِ الرّوايةِ كجانر أدبيّ Roman/ رواية: الكلمةُ عُرّبتْ من كلمة "روما"، وهي من اللّغةِ الرّومانيّةِ العامّيّةِ، وليسَ كما يُقال في اللاّتينيّةِ الفصحى، الرّوايةُ فنُّ السّردِ النّثريِّ لمغامراتٍ خياليّةٍ، وتتميّزُ عن الأقصوصةِ مِن حيثُ مداها الزّمنيِّ وغزارةِ الأحداثِ فيها، وإبرازِ صورةٍ كاملةٍ لنفسيّةِ الأبطالِ، وتتميّزُ عنِ الحكايةِ الشّعبيّةِ، بأنّها نوعُ منَ السّردِ المختلَقِ أو المتخيّل، أو تتألّفُ مِنْ مُركّباتٍ وعناصرَ واقعيّةٍ أو وهميّةٍ، حيثُ تُصوِّرُ العاداتِ والأخلاقَ، فيُشيرُ الكاتبُ إلى جانبٍ مِنَ الحياةِ الإنسانيّةِ، ويضعُ شخصيّاتِهِ داخلَ إطارٍ اجتماعيٍّ معيّنٍ، وقد يَشحنُها بغايةٍ خلقيّةٍ أو فلسفيّةٍ أو دينيّةٍ أو سياسيّةٍ أو تاريخيّةٍ أو علميّةٍ، أو مغامرةٍ إنسانيّةٍ تُثيرُ الأحاسيسَ. لذا مِنَ الممكنِ تعريفها: أنّها وثيقةٌ بشريّةٌ مستقاةٌ مِنَ الخيالِ والتّأمّل، ومُمَثِّلةٌ لواقعٍ خياليٍّ أو حقيقيٍّ. لقدِ اختلفَ النّقّادُ في أصلِ الرّوايةِ، فللرّوايةِ اتّجاهان: بأنّ جذورَها عربيّةٌ، أو لا علاقةَ لها بالجذورِ العربيّةِ، إنّما هي شكلٌ أخذناهُ عن الغربِ. يتّضحُ أنَّ الرّوايةَ الغربيّةَ نشأتْ على خلفيّةِ الأدبِ العربيِّ، والرّحلةُ الّتي قامَ بها الأدبُ العربيُّ بعدَ سقوطِ بغداد، وانتقالِهِ إلى أوروبّا كانَ لهُ الأثرُ الكبيرُ، في نشوء هذا "الجانر" المعروف، وإذا عُدنا إلى تاريخِنا العربيِّ، نجد الكثيرَ مِن بذورِ العربيّةِ، مثلَ أيّام العربِ مِن حروباتٍ بينَ القبائل، حيثُ تواجدتْ قصصٌ وحكاياتٌ عن الزّير سالم، وسيف بن ذي يزن، وعنترة بن شدّاد، وإن اطّلعنا على القصائدِ العربيّةِ، نجدُها تحملُ نفَسًا قصصيًّا مثلَ مُعلّقةِ امرؤ القيس وغيرها.
الخلاصةُ؛ أنّ الجذورَ القصصيّةَ عندَ العربِ قائمةٌ، لكن لم يهتمّ العربُ بها، بل اهتمّوا بالأدبِ الرّسميِّ المبنيِّ على الغزل والحماسة والفخر والمدْح في بلاط الأمراء، ككتاب "ألف ليلة وليلة"، الّذي أدهشَ الغربَ، ومنهُ استمدّ الغربُ مئاتِ القصص. الرّوايةُ لا تخلو مِنَ الحكايةِ، لكن ليستْ حكايةً عاديةً، إنّما فيها إثارةٌ وتشويقٌ، ومرتبطةٌ بالزّمن والقِيم بينَ الحياةِ اليوميّةِ الزّمنيّةِ، وبينَ حياةٍ في القِيمِ والعودةِ إلى الماضي، أمّا الحكايةُ فتقتصرُ على الزّمن.
ماذا عن هذا الجانر الرّوائيِّ في فلسطين ال48؟
انّ فنَّ الرّوايةِ في أدبِنا المَحلّيِّ ما زالَ في البدايةِ، أي في التّجريب، إذ أنّ معظمَ ما نُشِرَ مِن رواياتٍ تفتقدُ للعنصرِ أو للمُركّبِ الرّوائيِّ الأساسيِّ، لكن قد نتساءلُ: لماذا هذا الجانر بالذّاتِ تأخّرَ عن الأجناسِ الأدبيّةِ الأخرى كالقصّة والشِّعر؟ هل لذلكَ علاقةٌ بالواقعِ الاجتماعيِّ والسّياسيِّ مَحلّيًّا؟ وهل كلُّ ما نُشِرَ يفتقرُ إلى مُقوّماتٍ عديدةٍ هي الأساسُ في كتابةِ الرّوايةِ؟
تظهرُ على السّاحةِ الأدبيّةِ بينَ الفترةِ والأخرى رواياتٌ، تكادُ تكونُ تاريخًا وتوثيقًا خاليًا مِنَ الدّهشةِ وتَفجُّرِ اللّغة، إذ إنّ كتّاب الرّوايةِ لم يستطيعوا حتى الآن الخروجَ مِن إطارِ الكتابةِ الخطابيّةِ التّاريخيّةِ، وهناكَ مَن يُحيلُ ذلكَ إلى أسبابٍ منها؛ الظّروفُ الّتي يعيشُها الفلسطينيُّ، والّتي أدّتْ إلى إشكاليّةٍ كبيرةٍ في قدرةِ الكاتبِ، بالتّعاملِ معَ الخطابيْنِ التّاريخيِّ والأدبيِّ. لكن، بينَ هذا وذاك نتساءلُ:
أينَ قدرةُ الكاتبِ في التّوازنِ ما بينَ الخطابِ التّاريخيِّ والإبداعيّ؟
للأسفِ الشّديدِ، أكثريّةُ الإنتاجاتِ الأدبيّةِ سيطرَ عليها الخطابُ التّاريخيّ، وكانَ ذلكَ على حسابِ الخطابِ الأدبيّ، وهنا تبرزُ هذهِ الإشكاليّةُ بالأدبِ السّياسيّ، بسببِ الوضعِ القائمِ محلّيًّا مِن صراعٍ وعدمِ استقرارٍ، بعد أن ذاقَ شعبُنا الاحتلالَ والتّهجيرَ عبْرَ هذا التّاريخ، ليَحملَ أدباؤُهُ جمراتٍ محترقةً كرَدِّ فعلٍ ودفاعٍ عن القضيّةِ، مِن أجل إلهابِ الجماهيرِ، وتحريكِ نفوسهم العطشى للمقاومةِ والإصرار، وبما أنّ الإبداعَ "فانتازيا" وتحليقٌ بعالمٍ آخرَ متخيّلٍ وساحرٍ، فيدخلُ المبدعُ في حالةٍ بينَ الوعيِ واللاّوعي، لذا؛ ليسَ مِنَ المعقولِ تخطيطُ وبرمجةُ قوانينٍ، ووضْعُ العملِ الإبداعيِّ داخلَ أطرٍ مهندسةٍ، عندَها سيفقدُ العملُ فنّيّتَهُ، ومِن هنا ندركُ أن على المبدعِ أن لا يضعَ أمامَهُ معادلةً للموازنة، بل عليه استشراق الجوانب الكاملة للحدث، ولا أن يكتبَ الحدث كما هو، بل يحاول تكوينَهُ مِن جديد، فينفخ فيه روحًا جديدةً متناغمة، كتعبيرٍ عن أيِّ حدثٍ وكأنّه شاملٌ للحدث، وذلك بالخروج مِن كلاشيه التّقريريّة أو الكتابة الصّحفيّة، وباحتواءِ وإدراكِ ما يكتبُه. ونتساءلُ.. هل للرّواية في أدبنا المحلّيِّ هُويّة أو بطاقة تعريف؟ وهل دوْرُ النّقدِ سلبيًّا فقط؟
علينا الاعتراف أنّ حركةَ النّقدِ غائبةٌ كقيمةٍ أدبيّة، لأنّ معظمَ النّقدِ في الرّواية هو عمليّةُ استعراضٍ للعمل، أو عدمِ الالتفاتِ لِما يجري في الحركةِ النّقديّةِ في الإبداع المَحلّيّ، وإن تمّ الالتفاتُ فالنّاقدُ لديهِ مِن أسماءِ الرّوائيّين مَن يعرفُهُ ليُبرزَ اسمَهُ، وتُغيّبُ أسماءٌ أخرى في ظلِّ الأسماءِ المعروفةِ والكبيرة، وخاصّةً في شعرِ المقاومةِ، الّذي طغى على الرّوايةِ والقصّةِ القصيرة.
أقتبسُ مِن مقالٍ للكاتبِ والنّاقدِ نبيل عودة في هذا الجانب إذ يقول: "إنّ الكثيرَ مِن أدبائِنا قيمتُهم تكوّنتْ بانتمائِهم وموقعِهم السّياسيّ وليسَ بأدبِهم"! وأضيفُ: إنّهُ مِن مميّزاتِ نقدِنا المَحلّيِّ هو التّأثّرُ بالعائليّة والعلاقاتِ الشّخصيّة، ممّا يفقدُ الكثيرَ مِن مقوّماتِ النّقدِ والصّدقِ الأدبيّ والإخلاصِ المِهنيِّ. وربّما لهذا السّببِ يبتعدُ النّقّادُ ذوو القدراتِ النّقديّةِ مِنَ الولوجِ لمعترك الحياة الأدبيّةِ المَحلّيّة، لذلك؛ صحيح إن قلنا: إنّ أدبَنا المَحلّيَّ يحتاجُ إلى ناقدٍ فدائيٍّ وربّما انتحاريّ، فهل نحنُ أمامَ مهمّةٍ مستحيلة"؟ ممّا تقدّمَ نصلُ إلى القول، إنّ الأحداثَ السّياسيّةَ مِن تقلّباتٍ وتحوّلاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ، وأيضًا قلّةِ الموروثِ الرّوائيِّ مِن ناحيةٍ فنّيّة لهذا الجانر في أدبنا المّحلّيّ، ربّما أدّتْ جميعُها إلى ما وصلتْ إليه الرّوايةُ المحلّيّةُ مِن هضم حقّ، أو مِن تعتيمٍ على كتّاب، لو قرأنا لهم وشرّحْنا، وحاولنا كنُقّاد تفكيكَ الرّوايةِ مِن جوانبَ عدّةٍ، وليسَ فقط الموضوع أو فحوى الرّواية.
لا ننكرُ أنّها ظهرتْ على السّاحةِ الأدبيّةِ الرّوائيّةِ إسهاماتٌ قبلَ عام 1948، لكنّها قليلةٌ، لم تُضِفْ للإبداع الحقيقيِّ الّذي كُتب في العالم العربيِّ حينَها. بعدَ الخمسيناتِ ظهرتْ رواياتٌ، لكنّها لم تُشكّلْ مرجعًا فنّيًّا مِن حيثُ المستوى، وحتّى وإن كانتْ ناضجةً، لذا فالجوابُ على بطاقةِ الرّوايةِ، أنّ قلّةٌ مِن الرّواياتِ خرجتْ عن الإطار المألوف، والّتي غلب عليها الخطابُ التّاريخيّ، ولم ترتَقِ بالعملِ إلى التّشويقِ والإدهاش، لذا فالانتقالُ أدّى إلى ركودٍ نقديٍّ، وأيضًا إلى محاولاتٍ أخرى باءتْ بالفشل وعدم الاستمراريّة! والسّؤال المطروحُ سابقًا عن قضيّة التّوازن بينَ الخطابيْن، هل استطاعَ أدباؤُنا الوصولَ إلى طريقةٍ لا تُغيِّبُ أحدَ الخطابيْن في ظلِّ الآخر؟
للأسفِ.. لا، بل إنّ الصّوتَ التّاريخيَّ كانَ غالبًا في معظمِ الأعمالِ الرّوائيّة، وكأنَّ العمليّةَ الفنّيّةَ تُقتلُ إزاءَ الواقع المُعاش، ولا أدري إذا كانتْ هناك علاقةٌ بينَ عمليّةِ النّضوج عندَ الكاتب، كي يصلَ إلى مرحلةِ الفنّيّةِ والتّغييرِ، والخروج عن الإطار المألوفِ في العمل الرّوائيّ، وهل كلُّ ما كُتبَ حتّى الآن في أدبِنا المَحلّيّ في فلسطين، لا يَرقى لأنْ نُطلقَ عليه عملاً روائيًّا إبداعيًّا، يَحملُ عناصرَ ومكوّناتِ الرّوايةِ الفنّيّةِ الّتي بإمكانِها أن تحكي عن الواقع، بالكثيرِ مِن الدّهشة والتّعبير والمشاعرِ وكذلك الأسلوب؟ اليومَ نرى أنّ هناكَ حركةٌ أدبيّةٌ نشطةٌ، إن كانَ شعرًا أو قصّةً أو رواية، لكن تبقى الجوانبُ الأهمّ، وهي المؤسّساتُ الثّقافيّةُ ودُور النّشر ووسائلُ الإعلام، والسّياسةُ الدّاخليّةُ في دمْجِ حضارتيْن داخلَ ثقافةٍ واحدة، وماذا عن الكاتب نفسِهِ وقضيّة التّوزيع؟ وأين وكيف؟
الرّواية كجانر أدبيٍّ فنّيٍّ تحتاجُ لوقتٍ كبيرٍ، واليومَ وفي زحامِ هذه المعمعةِ بينَ التّطوّرِ والحرّيّةِ، وبينَ التّحدّي الّذي كانَ مِن نصيبِ مَن عاشروا وعاشوا زمنَ النّكبة، وتحدّوْا للظّروفِ الصّعبة، للحفاظِ على اللّغةِ العربيّةِ مِن القمع؟ هل نحنُ اليومَ بحاجةٍ لجسمٍ سياسيٍّ لولادةِ روايةٍ، نطلق عليها "أدب المقاومة" كما "شعر المقاومة"؟ برأيي؛ إنّنا بحاجةٍ لعملٍ روائيٍّ فيه اختراق، ولغةٍ روائيّةٍ تدهشُنا وتنقلُنا مِنَ المكان وتتصاعد، بحيث تُعزّزُ فكرةَ الواقع التّاريخيّ وفنّيّةَ اللّغة، دونَ هضْمِ أحدِ الجانبيْن، فما الّذي يمنعُ روائيًّا مبدعًا خلاّقًا أن يجمعَ بينَ الخطابيْن، حتّى لو كانتِ الرّوايةُ بمضمونِها تحكي تاريخَ فلسطين ومعاناتِهِ؟ وأحيانًا كتوثيقٍ لذاكرةِ شعبِنا، ما الّذي يمنعُ روائيًّا أن يخوضَ هذا الجانر من الفنون ويستمرَّ في الكتابة، وهو لا يمكنُهُ الخروج مِن تلبُّسِ لغةِ الخطابة والأسلوب التّقريريّ في أعمالِهِ الرّوائيّة.
لستُ هنا بموقفِ المقارنة ولا بالنّاقدة، لكنّني أتابعُ ما يُنشرُ محلّيًّا وعالميًّا، وأرى كم تفتقرُ الرّوايةُ المحلّيّة لمن يُخرجُها مِن ركودِها ويُحييها مِن جديد، وأنا أؤكّدُ أنّ المبدعَ في أيِّ عملٍ أدبيٍّ كان، يستطيعُ أن يسمُوَ بلغتِهِ الفنّيّةِ، فاللّغةُ ليستْ جمادًا ولا حِكرًا لقاموسٍ ومُعجمٍ معيّن، بل على المبدعِ أن يُواكبَ عمليّةَ الحداثةِ في حياتِنا اليوميّة، اجتماعيًّا ثقافيًّا وسياسيًّا، ليُطوّرَ أساليبَهُ الفنّيّة، وهنا لا أطالبُ الرّوائيَّ في أدبِنا المَحلِّيِّ بالتّخلّي عن إنتاجٍ أدبيٍّ يَحكي تاريخَ أرضِنا، ويُوثّقَ ذاكرةَ شعبِنا، لكن بإمكانِ هذا العمل الرّوائيِّ أن يكونَ مكتمِلاً، إذا استطاعَ الرّوائيُّ أن يُوازنَ بينَ التّاريخ وفنّيّةِ الكتابة، ومِن هذا المنطلق ارتأيتُ تقديمَ بعضِ النّماذج، علّ المتلقّيَ يَصلُهُ ما أعنيه. مِن الطّبيعيِّ أن أستشهدَ ببعضِ الفقراتِ مِن رواياتٍ محلّيّة، حملتْ طابعَ الخطابِ التّاريخيِّ أو الخطابِ الرّوائيِّ الفنّيِّ وهي قليلة، لكنّني أذكرُ مِن أسماءِ الرّوائيين في أدبِنا المحلّيّ، وسأختارُ مِن بينِها نصوصًا كمقاطعَ مِن روايات:
*إميل حبيبي/ المتشائل/ سرايا بنت الغول/ *د. حنا أبو حنا/ ظلّ الغيمة (سيرة) اعتبرت رواية * د. فؤاد خطيب/ ذاكرة العنقاء/ طاحون الزمن *رجاء بكرية/ عواء ذاكرة/ امرأة الرّسالة/ والصندوقة " قصص" * نبيل عودة/ حازم يعود هذا المساء/ المستحيل/ المرأة على الطرف الآخر *فاطمة ذياب/ رحلة في قطار الماضي/ الخيط والطّزيز *هدية صلالحة/ أجراس الرّحيل *معين حاطوم/ زمهرير الكرملي يكشف أسرار الكون، بجزئين *نجيب سوسان/ صدى الأيام *هيام مصطفى قبلان/ رائحة الزمن العاري * سهيل كيوان/ المفقود رقم 2000/ عصيّ الدمع * هادي زاهر/ السّرّ الدفين .....
وهناكَ أسماءٌ أخرى لكنّني سأكتفي، كي أقتبسَ مقاطعَ مِن روايات، وأختار (ظلّ الغيمة) للد. حنّا أبو حنّا، وهي ربّما سيرةٌ ذاتيٌة أو توثيقيّة، والّتي بسردِها تعتبرُ روايةً، بأسلوبِهِ السّرديِّ والوصفِ إذ يقولُ في عدلة وفارس:
"كانتْ عدلة واقفةً تنشرُ الغسيلَ على الحبل، ويداها ترفّانِ كجناحَي النّحلةِ، والقامة الجمريّة يتراقصُ لهبُها حينَ تنحني تلتقطُ الثّوبَ مِن اللّجَنِ، وتنتصبُ تنشرُهُ على الحبل، وتثبّتُهُ بالملاقطِ لتحضنَهُ النّسماتُ الرّبيعيّة، وعلى شجرةِ الرّمّانِ وتحتها عصافيرُ الدّوريّ تتقافزُ وتزقزقُ، والشّمسُ تسري في الشّرايينِ دفئًا ظامئا".
وفي مكانٍ آخرَ في وصْفٍ: "ذاكرةٌ للعينِ وذاكرةٌ للفم وذاكرةٌ للأنفِ وأخرى للأذن". أمّا عن القبلةِ الأولى في سيرته يقول: "كانتْ مكتنزةَ الجسم، بياضُها كالحليبِ الّذي تعشقُهُ موجةٌ شقراءُ مِن العسل، في صوتِها غنجٌ يحتضنُكَ فترافقُه إلى حيث يشاء، وشَعرُها الخرّوبيُّ أطفالٌ سُمْرٌ يَلهونَ بالرّكضِ على شواطىءِ الجبينِ والخدّيْن، لم يَرَ ذلك قبلَ زلزالِ تلكَ القبلة، حينَ احتضنَتْهُ قبلَ يوميْنِ وقبّلتْهُ على خدّيْهِ لم يَجفلْ عصفورٌ، ولم تتحرّكْ حبّةُ رمل".
مِن هذهِ الصّورِ والمشاهدِ ما يُلغي أحيانًا التّسمياتِ ما بين (السّيرةِ والرّواية)!
وهذا مقطعٌ مِن روايةِ "المتشائل" لأميل حبيبي: "أقبَلَ العسكرُ فبقيتُ في موضعي بلا حراكٍ، سوى أنّي وضعتُ يدي فوق عيني فأغمضتها، حتّى لا أرى النّهايةَ كما رأيتُ البدايةَ، وأسمعُ مِن فوق في منزلي صراخًا أنثويًّا، وصوتَ لطماتٍ وركلٍ وجلبةٍ، وأرى معركةً حاميةً تدور بين "يعاد" والعساكر، وأراها تقاومُ وتصرخُ وتركلُ بقدمِها، وأراهم يتكاثرون عليها ويدفعونَها أمامَهم إلى سيّارةِ التّرحيل".
ويتكرّرُ الموقفُ معَ العمّةِ نزيهة العجوز في "سرايا بنت الغول"، التي تُفتَّشُ وتُعرّى في مطار بن غوريون.
النّصُّ الثّالثُ هو مِن رواية (عواء ذاكرة) للرّوائيّة رجاء بكريّة: "أهو العراء؟ فزَعُ التّساؤلِ يشُطُّ قلبي بصنّارةٍ تطير، تحسّستُ ساقيَ السّليمة، أتمضينَ أنتِ أيضًا؟ أمرّرُ أصابعَ راجفةً فوقَ موتي السّفليّ، تقيسُ مساحةَ النّقصِ الّذي يتّسعُ هناك، يتمزّقُ الشّيءُ الّذي لا أعرفُ شكلَهُ داخلَ قارورتي ببطءٍ يحشرج، وتتكوّرُ عضلاتُ وجهي المسمومةُ كراتٍ تتهيّأ للتّفرقع، تنزلقُ مركبي عن شاطئِها هاربةً لعرضِ البحر، تتابعُ نعيقَ البجع واستغاثاتِ السّنونو، لتتوقّعَ شكلَ حصنِها القشّيِّ بعيدًا عن عينِ الرّقباء، لكنّهم يُحطّمونَ مقدّمتَها، لخرْقِها قوانينَ الحظْرِ المفروض، ويعيدونَها لمرفأ حزنِها القديم، وألمحُها سبّابتَك تشيرُ بمحاذاةِ الزّجاج الشّفّافِ لحاملةِ الطّائراتِ في طريقِها للرّسو في ميناء حيفا، "هل تعرفين ماذا يُسمّونها؟ "أتخابث، "خبّرني يا قاموسي الحربيّ". تهمسُ بحّتُكَ، وعيناك ترحلان عكس إبحارها: "إنّها حاملةُ الطّائرات".
في مكانٍ آخرَ في الرّواية تقول: "سيقتلُني شبقُكَ المجنون.. سيقتلني". تحدّقُ في عل "ستقتلُني حموضةُ تفّاحِكِ يا غجريّة". يجب أن ننتهي/ لن ننتهي/ اِمضِ إلى مجهولِكَ، وإن عُدْتَ برغمي لن تجدني/ نحن لنا/ لستَ مرفئي/ أنتَ مرسايَ/ أكرهُكَ.. أحبّكَ/ أريدكَ / أحبّكَ/ حبيبي أنا/ أمقتُكَ بعددِ شعرِ جسدي/ لا شعرَ لجسدِك – سأذهبُ إليه – لن تذهبي – الرّعبُ الّذي يفترسُ أطفالَهُ أحقُّ بوقتي منك، أنت طالق - لن ترحلي- وجودُنا هباء/ وجودُنا حقيقةٌ وواجبةٌ حقيقة، هل تفهمين؟"
وبما أنّنا نقفُ أمامَ نماذجَ مِن رواياتٍ لم تخرجْ عن موضوعِ الذّاكرةِ الفلسطينيّةِ والتّاريخ للشّعبِ الفلسطينيّ، خاصّة في حدود عام 1948، على المتلقّي أن يعي أنّنا نملكُ القدرةَ ككتّابٍ محلّيّين في التّوازن بينَ الخطابيْن التّاريخيِّ والأدبيّ، إن كنّا نملكُ حقًّا الفطرةَ الإبداعيّة، إذ إنّه لا زمانَ ولا مكانَ للإبداع، والتّجربةُ لا تفرضُ قانونَها على معاقرةِ المبدعِ لعملٍ فنّيٍّ مدهشٍ حقيقيٍّ بينَ الواقع والمتخيَّل، وخاصّةً في الكتابةِ الرّوائيّةِ، وأتركُ سؤالاً لن يكونَ خاتمةَ الأسئلة: ما هو دوْرُ النّقد العربيِّ في الرّوايةِ المحلّيّة داخل حدود ال48؟ وهل يهتمُّ الإعلامُ العربيُّ بإظهارِ مبدعينَ غَيّبتْ أسماءَهم وسائلُ الإعلام؟
الشِّعرُ الفلسطينيُّ المَحلّيُّ وتطوّرُه/ نزيه حسّون
"اللّغةُ تورَثُ كالأرض، "وإذا كانتِ الأرضُ تُجسّدُ هُويّةَ وجودِنا وسِرَّ بقائِنا، فاللّغةُ بدَوْرِها تُجسّدُ هُويّتَنا الثّقافيّةَ والفكريّة، وتطوّرُ اللّغةِ إنّما يُشيرُ بالتّالي إلى تطوّرِ الشّعوبِ الّتي تنطقُ بها، فاللّغةُ تورَثُ كالأرضِ كما قال شاعرُنا محمود درويش، ولنا أن نُضيفَ أيضًا، أنّها تتطوّرُ بتطوّرِ النّاطقينَ بها.
أسوقُ هذهِ المقدّمةَ القصيرةَ لأؤكّدَ بادئَ ذي بَدءٍ على أهمّيّةِ اللّغةِ في حياةِ الشّعوبِ، فهي إضافةً لكوْنِها أداة تَخاطُبٍ هامّة، تُمثّلُ وعاءً للأدبِ بشقّيْهِ النّثريِّ والشّعريّ، والشّعريِّ بالذّات، لِما لهُ عندَ العربِ من أهمّيّةٍ مميّزةٍ منذُ الجاهليّة حتّى يومِنا هذا، وليس عفوًا أنّه قيل: "الشِّعرُ ديوانُ العرب". والشِّعرُ الفلسطينيُّ بالتّالي هو أحدُ روافدِ الشّعرِ العربيِّ العامّ، وإذا ما انفردَ بميزاتٍ خاصّة، فإنّما تكونُ انعكاسًا للأحداثِ والتّطوّراتِ الّتي مرّتْ بالشّعبِ بشكلٍ خاصّ، وقد يفرضُ المكانُ أيضًا ميزاتٍ خاصّةً على هذا الأدب، ولكنّنا لا نستطيعُ أن ننظرَ إلى هذا الشِّعرِ بمَعزلٍ عن الشّعرِ العربيِّ كلِّهِ، فقد تأثّرَ بهِ وأثّرَ فيه.
وطالما موضوعُنا اليومَ ينحصرُ في مواضيعَ تطوّرِ الشّعرِ الفلسطينيِّ المحلّيِّ منذ عام 1948 حتّى يومنا هذا، ففي ذلك العام انشطرَ الوطنُ وانشطرَ الشّعب، وآل هذا الانشطارُ إلى نشوءِ حركةٍ شعريّةٍ خارجَ فلسطينَ الوطن، أمّا في الدّاخل هنا، فمثلما تشبّثْنا ببقائِنا في وطنِنا، تشبّثْنا أيضًا بهُويّتِنا ولغتِنا، واستطاعَ مبدعونا أن يخلقوا حركةً أدبيّةً راقيةً وهامّة، لفتتِ انتباهَ النّقّادِ في العالم العربيِّ وفي العالمِ كلِّهِ، واستطاعَ شعرُنا المَحلِّيُّ بالذّات أن يتجاوزَ المَحلّيّةَ والإقليميّةَ ليرقى إلى مشارفِ العالميّةِ، متمثّلاً بأشعار محمود درويش وسميح القاسم وغيرهم، وكانَ لهذا الشّعرِ حضورٌ عميقٌ ومميّزٌ في العالم العربيّ كلِّهِ، ولا سيّما شعرِ المقاومةِ منه، وكُتبتْ عنهُ دراساتٌ مِن قِبل خيرةِ النّقّادِ في مختلفِ أرجاءِ الوطن العربيّ، أمثال: غسّان كنفاني، فيصل الدّرّاج، ورجاء النّقّاش وغيرهم، وقد كانَ لهُ أثرٌ بالغٌ في نفوس الجماهيرِ العربيّة، لاسيّما أنّه بدأ يصلُ إلى العالم العربيّ، ويتوهّجُ في سمائِهِ مباشرةً بعدَ ليلِ النّكسةِ الّتي كان لها الوقعُ السّيّءُ والتّأثيرُ السّلبيّ، الّذي كادَ يصلُ بها إلى مرحلة يأسٍ كادَ يُسطيرُ على مزاج ووجدان الجماهيرِ العربيّة آنذاك، فجاءتْ أشعارُ المقاومةِ لتكونَ نبراسًا لإعادةِ الثّقة، وكانَ لها الدّوْرُ الأساسيُّ في زرْع الثّقةِ والتّحدّي في نفوس الجماهير، وإخراجِها مِن ليل النّكسةِ الدّامس، ولهذا أصبحتِ الجماهيرُ تُردّدُ هذهِ الأشعارَ عن ظهْرِ قلب، ونُشرتْ في كثير مِن الصّحفِ في كافّةِ أرجاءِ الوطنِ العربيّ، ولاقتِ التّبجيلَ والتّهليلَ الكبيرَينِ مِن النّقّادِ العرب، ممّا حدا بشاعرِنا محمود درويش أن يقول مقولتَهُ المشهورة "أنقذونا مِن هذا الحبّ".
أمّا بخصوصِ المواضيعِ الّتي تمحورَ حولَها هذا الشّعر، فقد تجسّدتْ في أربعِ نقاطٍ أساسيّة، طغتْ على شِعرِنا المَحلّيِّ عبْرَ كلِّ مراحلِهِ منذُ النّكبةِ حتّى اليوم:
المحورُ الأساسيُّ هو الأرض، بكلِّ ما تُمثّلُهُ الأرضُ مِن أبعادٍ وطنيّةٍ ووجوديّة، ولا أظنُّ أنّ هنالكَ شاعرًا مَحلّيًّا لم يتطرّقْ للأرض في قصائدِهِ، بل إنَّ الكثيرَ مِن شعرائِنا جعلوا الأرضَ جزءًا لا يتجزّأُ مِن ذواتِهم حتّى درجةِ التّجسّد، وكثيرًا ما استُعملتِ الأمُّ والمرأةُ بشكلٍ عامّ كرمز للأرض، والامثلةُ كثيرةٌ جدًّا، وأسوقُ مقطعًا قصيرًا مِن قصيدةِ إلى سحابة للشّاعر راشد حسين، لِما فيه مِن تجسيدٍ لهذا الالتحام بالأرض:
أنا الأرضُ/ لا تحرميني المطر/ أنا كلُّ ما ظلَّ منها/ لذا.. زرعتُ جبيني شجر/ وحوّلتُ شعري كرومًا/
وقمحًا.. ووردًا/ لكي تعرفيني، فجودي مطر/ أنا يا سحابةُ عمري.. جبالُ الجليل/ أنا صدرُ يافا/ وجبهةُ يافا/ فلا تهمسي.. مستحيل/ ألا تسمعينَ خطى طفلتي القادمة/ على عتباتِ فؤادِكِ/ ألا تبصرينَ عروقَ جبيني/ تحاولُ لثْمَ شفاهِكِ/ أنا في انتظارِكِ أصبحَ شعري ترابًا/ وصار حقولاً/ وأصبح قمحًا/ وأضحى شجر/ أنا كلُّ ما ظلَّ ممّا عشقتُ/ فجودي../ وجودي.. مطر.
وليسَ أروع مِن محمود درويش حين يقولُ في قصيدةِ الأرض:
أنا شاهدُ المذبحة/ وشهيدُ الخريطةِ/ أنا ولد الكلماتِ البسيطة/ رأيتُ الحصى أجنحة/ رأيتُ النّدى أسلحة/
عندما أغلقوا بابَ قلبي عليّا/ وأقاموا الحواجزَ فيّا/ ومنْعَ التّجوّلش/ صارَ قلبي حارةْ/ وضلوعي حجارةْ/ وأطلَّ القرنفل/ وأطلّ القرنفل
الأمثلةُ كثيرةٌ في هذا المجال، فهنالكَ شاعرٌ مِن الجيلِ الجديدِ يقولُ:
تبرعمَ لوزُكِ الزّهريُّ في جسدي/ وأمسى القلب أوراقًا مِنَ التّينِ/ أنا أرضٌ أنا شجرٌ أنا زرعٌ/ دمُ الزّيتونِ بعضٌ مِن شراييني/ فكيفَ تُصادرُ الشّريانَ مِن قلبي/ وكيفَ تَجُزُّ مِن جسدي بساتيني
أمّا المقاومةُ فهو المحورُ الثّاني مِن موضوعاتِ الشّعرِ المَحلّيِّ، ويرتبطُ ارتباطًا عضويًّا بالأرضِ والصّمودِ والتّشبّثِ بها، ولأنّ شعرَ المقاومةِ عبَّرَ عمّا يعتلجُ في وجدانِ الجماهيرِ، وعمّا يجيشُ في أعماقِها مِن مشاعرَ وطنيّةٍ ملتهبةٍ، فقد أصبحَ ولاسيّما في العقدِ السّادسِ والسّابع مِنَ القرنِ الماضي، بمثابةِ الهُويّةِ للشّعرِ الفلسطينيِّ المَحلّيِّ، فكانَ لهُ صدًى واسعٌ في العالم العربيِّ كلِّهِ، ولعلّ راشد حسين وتوفيق زياد ومِن ثمّ محمود درويش وسميح القاسم، هم مِن أهمّ رموزِ شِعرِنا المقاوِم، ولعلّ قصيدة راشد حسين "سنُفهِمُ الصّخر"، وقصيدة محمود "سجّلْ أنا عربيّ"، وقصيدة "سأقاوم" لسميح القاسم، وقصيدة "أناديكم" لتوفيق زياد، هي نماذجُ حيّةٌ لقصائدِ المقاومةِ الّتي أصبحتْ تتردَّدُ على شفاهِ الجماهيرِ مَحلِّيًّا وفي العالم العربيِّ كلِّهِ، ومِن نماذجِ شعر المقاومةِ. يقولُ راشد حسين في قصيدتِهِ "الثّوّارُ ينشدون":
سنُفهمُ الصّخرَ إنْ لم يفهَمِ البَشرُ/ إنّ الشّعوبَ إذا هبّتْ ستنتصرُ/ مهما صنعتـم مِنَ الـنّيرانِ نُخمدُها/ ألَمْ تـرَوْا أنّنا مِن لـفْحِها سُمُرُ؟/ ولو قـضيتُم علـى الثـّوّارِ كلِّهمُ/ تمـرّدَ الـشّيخُ والـعكّازُ والحجرُ
أمّا توفيق زياد فيقولُ في قصيدتِهِ: أناديكم/ أناديكم/ أشدُّ على أياديكم/ أبوسُ الأرضَ تحتَ نعالكم/ وأقول: أفديكم/ وأهديكم ضيا عيني/ ودفءَ القلبِ أعطيكم/ فمأساتي الّتي أحيا/ نصيبي من مآسيكم/ أناديكم/ أشد على أياديكم/ أنا ما هُنتُ في وطني ولا صغّرتُ أكتافي/ وقفتُ بوجهِ ظُلاّمي/ يتيمًا عاريا حافي/ حملتُ دمي على كفّي/ وما نكّستُ أعلامي/ وصُنتُ العشبَ الأخضر/ فوقَ قبورِ أسلافي
يقول محمود درويش: سَجِّلْ أنا عربيّ/ سجِّلْ أنا عربيّ/ ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألف/ وأطفالي ثمانية/ وتاسعُهم سيأتي بعدَ صيف/ فهل تغضب/ سجِّلْ أنا عربيّ/ وأعملُ مع رفاقِ الكدح في محجر/ وأطفالي ثمانية/ أسُلُّ لهم رغيفَ الخبزِ والأثوابَ والدّفتر/ مِنَ الصّخر/ ولا أتوسّلُ الصّدقاتِ مِن بابِك/ ولا أصغرُ أمامَ بلاطِ أعتابِكَ/ فهل تغضب/ سجِّلْ أنا عربيّ/ أنا اسمٌ بلا لقب/ صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها/ يعيشُ بفورةِ الغضب/ جذوري/ قبلَ ميلاد الزّمانِ رَسَتْ/ وقبلَ تفتُّحِ الحقب/ وقبلَ السّرو والزّيتونِ/ وقبلَ ترعْرُعِ العشب/ أبي مِن أسرةِ المحراثِ لا مِن سادةِ نجب/ وجدّي كانَ فلاّحًا بلا حسب.. ولا نسب/ يُعلّمُني شموخَ الشّمسِ قبلَ قراءةِ الكتب/ وبيتي كوخُ ناطورٍ مِنَ الأعوادِ والقصب/ فلا ترضيك منزلتي؟/ أنا اسمٌ بلا لقب !/ سجِّلْ أنا عربيّ/ ولونُ الشّعرِ فحميّ/ ولونُ العينِ بنّي/ وميزاتي: على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّة/ وكفّي صلبةٌ كالصّخر.. تخمشُ مَن يُلامسُها/ وعنواني: أنا مِن خِربةٍ عزلاءَ منسيّة/ شوارعُها بلا أسماء/ وكلُّ رجالِها.. في الحقلِ والمحجر/ فهل تغضب؟/ سجِّلْ أنا عربيّ/ سُلبتْ كرومُ أجدادي وأرضًا كنتُ أفلحُها/ أنا وجميعُ أولادي/ ولم تتركْ لنا ولكلِّ أحفادي/ سوى هذي الصّخور/ فهل ستأخذُها حكومتكُم.. كما قيلا/ إذن!!/ سجِّلْ…/ برأسِ الصّفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ النّاسَ/ ولا أسطو على أحد/ ولكنّي… إذا ما جعتُ/ آكلُ لحمَ مغتصبي
أمّا شاعرُنا سميح القاسم والّذي لا يملكُ مِن ميراث أبيهِ وجدّهِ إلاّ أن يتحدّى، كما قالَ في قصيدةِ "أتحدّى"، ويقولُ أيضًا في قصيدتِهِ "سأقاوم":
ربّما أفقدُ - ما شئتَ – معاشي/ ربّما أعرضُ للبيع ثيابي وفراشي/ ربّما أعملُ حجّارًا وعتّالاً وكناسَ شوارع/ ربّما أبحثُ في روْثِ المواشي عن حبوب/ ربّما أخمد.. عريانا.. وجائع/ يا عدوَّ الشّمس .. لكن .. لن أُساوم/ وإلى آخِرِ نبضٍ في عروقي/ سأقاوم../ ربّما تسلبُني آخرَ شبرٍ مِن ترابي/ ربّما تُطعمُ للسّجنِ شبابي/ ربّما تسطو على ميراثِ جدي/ مِن إثاث.. وأوان وخواب/ ربّما تحرقُ أشعاري وكتبي/ ربما تطعم لحمي للكلاب/ ربّما تبقى على قريتِنا كابوس رعب/ يا عدوَّ الشّمس/ لكن.. لن أساوم/ وإلى آخِر نبضٍ في عروقي.. سأقاوم/
أمّا المحورُ الثّالثُ فهو الغزليّ أو الوجدانيّ، فقد احتلَّ حيّزًا واسعًا مِن شِعرِنا المَحلّيِّ، ولا مجالَ لذِكرِ الأمثلة.
والمحورُ الرّابعُ هو الإنسانيّ، والّذي تجلّى بشكلٍ راقٍ ورائعٍ لدى جميع شعرائِنا، رغمَ ظروفِ القمْعِ والاضطهادِ الّتي عانى منها شعبُنا. لقد بقيَ التزامُ شعرائِنا بالقضايا الإنسانيّةِ جليًّا وساطعًا، وليسَ عفوًا أن يُخاطِبُ الرّئيسُ عرفات الشّاعرَ محمود درويش قائلاً: "لولا أشعاركم لتحوَّلَتِ الثّورةُ إلى عصابةٍ ولتحوّلنا إلى قطّاعِ طرق"، فقد جسّدَ الشّعرُ الفلسطينيُّ البُعدَ الإنسانيَّ للثّورةِ الفلسطينيّةِ وللوجدانِ الفلسطينيِّ كلِّهِ.
يقولُ درويش: "أنا لا أكرهُ النّاس/ ولا أسطو على أحد/
ويقول توفيق زياد: وأعطي نصفَ عمري/ للّذي/ يجعلُ طفلاً باكيًا/ يضحك/ وأعطي نصفَهُ الثّاني/ لأحميَ زهرةً خضراءَ أن تهلك/ وأمشي ألفَ عامٍ خلفَ أغنية/ وأقطعُ ألفَ وادٍ/ شائكِ المَسلك/ وأركبُ كلَّ بحرٍ هائجٍ/ حتّى ألمّ العطرَ/ عندَ شواطئِ اللّيلك/ أنا بشريّةٌ في حجم إنسانٍ/ فهل أرتاحُ/ والدّمُ الزّكيُّ يُسفَك!/ أغنّي للحياة/ فللحياةِ وهبتُ كلَّ قصائدي/ وقصائدي/ هي كلُّ../ ما أملك!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق