النورس المشتاق
رولا حسينات
علا صوت المضيفة معلنة :" تكرار..
مغادرة الرحلة إلى إسبانيا."
وصدحت أجواء قاعة المنتظرين باسم المسافر "رامز
محمود "مرات عديدة ، وقد اكتظت القاعة بالمغادرين إلى دول شتى، بدأت الأقدام
بالرواح والمجيء من جنب المقاعد التي أخذت بالتشكل في الفراغ، إلا كتلة سوداء
اندست في معطف جلدي يتصاعد شخيرها وقد
تكومت على حقيبة صغيرة سوداء.
اقتربت امرأة في العقد الرابع مرتدية الزي الرسمي الأزرق، التابع لوكالة
الطيران المحلية، ولامست كتفه على استحياء لكنها توغلت في تحسس رأسه ولحيته
السوداء عندما قفز من مقعده وقد انتفضت ذراعه، وضربت قدها المياس المائل بعنف أثار
صرخة مؤلمة، أفاق من صدمته وقد فطن لمكان وجوده ..طأطأ رأسه مرارا باعتذار حار، لم
يبد الاستياء على المضيفة التي بادرته بالسؤال: "رحله 612" المغادرة إلى
اسبانيا؟؟
هز
برأسه بالإيجاب دفعته بكلتي يديها وقالت: اذهب بسرعة إنها على وشك الإقلاع.
بقي
يجري ويجري يقلب وحقيبته أجساد المسافرين قاطعا الطريق، لتنقسم به الأرض فجأة وقد
تلوت الأفاعي بشتى ألوانها تنفث سمومها في وجهه وقد أحاطت به سرمدية، فما استطاع صراخه
أن يسمع أحد، أخذ يصرخ ويصرخ لكن الأفاعي أخذت تتراقص أمامه وقد هوت به قدماه إلى
هوة من جحيم، وابتلعته نار تلظى وهو يمسك بالحواف المنزلقة، والأفاعي تتدافع وإياه
إلى الجورة.
انزلق
في مقعده وجبينه يتصفد من العرق، حين وثق مقعده في الطائرة المحلقة في الأجواء مع
سرب القطا ينطح زفير الريح المعاكس، لأول مرة سيركب السماء دون أن يتسربل بالأفاعي
الملتوية، كلها أضغاث أحلام تمت بدواخله التي تحفظ عليها مقعده السكني وصفده
الحزام الأسود طواعية، تلوت تقرصه أمعاؤه تبيح له القيء لكنه ليس كذاك الذي
استرجعه من قبل، قيئا مقيتا برائحته العفنة، حين تغوط كلب الرئيس أمام قدميه.
حين
بدأت الطائرة تسير بعجلاتها على أرض المطار، وهي تتلقف أحشاءها بقبض عجلاتها إلى
جوفها بأزيز خافت، لم تكن تلك أول مرة يرى فيها كلبا يتغوط ففي قريته كلاب تائهة
بلا بيوت أو قضبان..كلب الحاج عبد الوهاب مثلا، لا، ليس كلبه ولكنه الكلب الذي
أطلق عليه الحاج عبد الوهاب رصاصة، من بارودته البنية ذات الحزام الجلدي الأسود
التي لا تفارق كتفه ليلا أو نهارا، حتى قيل أنه ينام معها لم يكن أحد ليتجرأ
بسؤاله، لكن النسوة بكيدهن وصلن من حديث لحديث مع أم البنين زوجته علية، لقد عرفت
بأم البنين لكثرة إنجابها البنين على رؤوس بعضهم حتى قيل أنها تنجب في العام مرتين،
وبعضهم يقول: لقد تغولت.
كنت
صغيرا حين كانت النسوة يتبادلن أطراف الحديث، ويضعن أفواههن في الشال الأسود
الشفاف يتلصمن به، مسدلا من رأسهن ليغطي منهن العنق، وقد تزين بقطعة من قماش مخملي
مطعم بالورود، ذات الألوان الفواحة.
كنا
يتضاحكن ويخفتن أصواتهن: علية يركبها جوزها كل ليلة. وتبدأ الضحكات.
لم
نكن ندري ما معنى يركبها، فقد كان للحاج عبد الوهاب فرسه الشهباء يركبها في الليل
والنهار، رفض عروض بيعها من تاجر المدينة "الزنديق"، هكذا كانوا يسمونه "الزنديق"
تلك التسمية التي اعتدناها ونحن صغار، عندما نراه من أعلى الجبل قادما على حماره الأبيض
الموشح باللون السكني، لكن كنية الحمار كانت "المغربل"، " الزنديق
على المغربل"، وتسوقنا أقدمنا مثل الطلق نزولا إلى قرية البطين، وليد الذي
غدا اليوم مهندسا في مصلحة الطاقة النووية يؤكد" أنها كما قالت جدته: لها
إبطين، لعلها أقرب التسميات إلى الصحة ، وأقرب من ترهات أحمد الحسن ابن القهوجي
بديوان الشيخ مزيد:"أنها مشهورة بنبتة القطين."
أما الحاج مزعل عاقد الزيجات فأكد: "أنه
قد سمع أباه يقول" أن القرية تقع بين جبلين كالإبط فهي وقعت بين جبلين فهي
بذلك بإبطين، وهي كذلك مختفية تحت الكتف بذلك الالتواء."
حين
وصل في الليل البهيم بمخاوفه.. حلم راوده ، كانت طلقته هي التي أنهت حياة زوجته أم
البنين، لم تكن هي المقصودة بل كان الكلب ، أنهى الكلب حياتها بطلقة استقرت في
جوفها لتوقف قلبها عن مداس الحياة ببساطة، حينها انسلت البندقية من تحت عباءته
السوداء كما بهيمية الليل، عندما دقت فرسه بإيقاعها المعتاد أرض القرية المدفونة
بين جبلين، يدسان حسناء بين قسوتهما يركبانها صبح مساء بريح عاصف، دوامة تخلط
السكون البهيمي، وهي تناطح فجوة الزمن فرجة الانعتاق للحظة التقاط الأنفاس.
حين
دوى صوت البندقية واقتلع الصمت واجتثه من جذوره، فزع ..دمدم كهدير الرعد، فهي سقيا
حياته، في ظله طيلة حياته، كانت منغرسة في جوفها ليتوقف النبض والجنين في الأحشاء
يتلوى لانتفاضة الروح، ما كان يدري أنها ليلة الوداع التي ستخمد حياة أم البنين، عندما
عاد من سهرته على الضوء العويل.
وهو
يجترح الظلمة عندما تناهت خشخشة في قاع داره، المنحنية في الطريق المتعرج بعيدا عن
ضوء المشاعل المستلقية بعجزها تنوس على الطرقات، هو ظنها الكلب الأعور سارق
الدجاجات من عشتها في قاع الدار، وهي كذلك حال الجوع بولد لها عني على باله بيضة،
صغير ويشتهي بيضة، فلن يكون الليل بحلكته ووحشته ليحول بينها وبين أن تبحث تحت
دجاجة عن بيضة.
غفلت
عن لمها في القبعة البرتقالية في الصباح الباكر مع صيحة الديك، لقد توسلت بالدعاء
والاستنجاء من الجن، قرأت ما تعلمته من الشيخ فتحي شيخ الكتاب أيام الصغر، حين لم
يتجاوز عمرها الست سنوات، أيام أبيها حاج خلف وإخوتها السبع وأعمامها ونبض التراث آنذاك:"
لا علام للبنت، الستر مطلوب."
وما أكملت
العاشرة حتى تعشق زنداها بالبقع البنية التي توضأت بين يديها من كثرة التشييد، هي
امتثلت لقانون الطبيعة السيادة لسطوة الرجل، وهو الحبيب تكنس حوش داره الشيخ عبد
الوهاب، ولمِّ الشطط والتشييد وعمل الجفت وغيره من صنعة المرأة، كما هن كانت بيضاء
الزند تحضن تكور بطنها لتحمل جنينا،
الرعشة الأولى الحبلى بنكد الدنيا، ليكون أحد المتعثرين في أم البطين..خاتمة
أولادها الذي أخمد رباطه الوثيق بحبل سري بينهما، ولكن الرصاصة التي أنهت ذلك الحب،
هي من صرحت بوجودها لتسقط جثة بلا أرتال حب وبعقم بلا نهاية.
والوليد هو من صرخ ركل بقدميه طالبا العفو من
سجن في غياهب ثلاث، ليغدو في الدنيا الحر السجين، وشق البطن شقه عبد الوهاب وهو
يجتر الدموع، يشهق في هدير السكون لتعوي الذئاب وتستصرخ الكلاب هجين الوحشة، لقد
فغر الوليد وجه الليل بأنشودة: أني حي.
وقطع
بين الموت والحياة، كان ذلك الوليد الذي نحر الموت من أول صرخة له في الوجود أنا..يدين
للوجود وتماشي الدقائق لإقتياده.
تلك المرأة التي ضحت بروحها لتوقد مشاعل
الشبع قضت وتربع على أنفاسها جنين تعرى عن مفاهيم الصفح، وتقهقرت زلفى الذكريات
ومرارة الحياة العتيقة، وتبددت السطوة للرجل لتكون الوليفة في الخدر والحب والجمال،
كما سلمى بنت الست عيشة الزوجة الثانية، ذؤابتاها تغردان كقناديل الليل تطفوان وأنوار
الصباح، صوتها الندي مع زقزقة العصافير.
هي
الحب الذي تدلت قطوفه في قلب عبد الوهاب عيشة، وابنتها سلمى في قلبي الصغير، حين كبرت
كغصن شجر أطلق العنان لجنونه ليحلق في الهواء، مستنشقا كل عبق لصدى الأكوان، شقيا
خرجت للدنيا..ولود اللحظات، تتوهج الذاكرة وتمحو نصوص الخرافات، كبرت وكبر حلمي
بسلمى، وهاهي طائرتي تزاحم مطبات عالقة في الهواء، لأنتشل مستقبلي بضراوة أسنده
لترف بقائي، لأحتضن علانية سلمى ببيت له سقف وقناديل ومشاعل في الصحو الإبكار،
جاءت البعثة باسمي دون غيري وكأنما دوي رصاصة في آذان الوصوليين، ما يعنى على بالي
أذونات رئيسي أو تقتيره..فسحب السلام تراودني عن نفسي وبي ولوج يشتهي حمرة خديها
سلمى..كنورس مشتاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق