للدكتور عبد الملك مرتاض.. الجزء الثاني
بقلم: عبد
الله لالي
في الأسلوب
الفنّي وجمالياته
بعد أن قطفنا نماذج شذيّة
ورائقة من أسلوب الدّكتور عبد الملك مرتاض تمثل الطريقة القديمة، لكن في أسمى
صورها وأبهاها وفي شكلٍ هو من ( الأجدّ ) الذي لا يذهب رونقه بكرّ الأيّام
واللّيالي؛ نأخذ نماذج أخرى عن الأسلوب الذي ارتدى لباس الحداثة في أجمل أشكالها
وأكثرها تكاملا مع الأسلوب القديم فتكون بذلك الصّورة الأخرى أو الوجه الثّاني
للأسلوب ( الأجدّ )، دون تصادم أو تناقض ودون الولوج في دوّامة الصّراع ( المفتعل
) بين الجديد والقديم، بين الحداثي والتقليدي.
فتن الدّكتور مرتاض
بالأساليب الحداثيّة وأوغل في تمثّلها إيغالا جعله ابنَ بجدتها، ولكنّها لم تستلبه
ولا محت شخصيّته الأصيلة، بل هو طوّعها فصارت ملك يمينه، ووظّفها كأحسن ما يوظّف
الكاتب أو الأديب النّاقد الأساليب الفنيّة بمختلف أشكالها وألوانها، وراح يقدّم
لنا نماذج رائعة على التعانق الروحي بين القديم والجديد، ونسوق لذلك أمثلة تجلّي
الأمر وتبينه:
يقول في صفحة 19 معلّقا
على كتاب صديقه محمّد ولد عبدي الذي بعنوان ( السّياق والأنساق ):
" ..والحقّ أنّ
السياق ضروريّ لفهم الظّاهرة الأدبيّة، وحتّى الظّاهرة الاجتماعيّة، لأنّه
المتحكّم الخارجيّ فيما يمثُل لنا ذهنيّا أو حسيّا من قيم وأشياء، وما جاءت به
المدرسة النّقديّة الجديدة، الشّكليّة، من إصرارها على تناول الظاهرة النصيّة
خصوصا نسقيّا لا سياقيّا – أي: تناول الظّاهرة الأدبيّة بمعزل عن وسطها الاجتماعي
– لا ينبغي له أن يعقّدنا فيجعلنا نُهمل فائدة الإجراء السّياقي لفهم العمل الأدبي
بصبّه في مجتمعه وتاريخه ومكانه. فمثل هذه الأسس التقليديّة تظاهر المحلّل على فهم
الظّاهرة المحلّلة حتما " .
في هذه القطفة من كتاب (
هؤلاء أصدقائي ) يمثُل – لنا بتعبير مرتاض – أسلوبه الحداثي في النّقد أو في
القراءات النّقديّة، فهو يأخذ المصطلحات والأفكار ويبسطها بطريقة فنيّة تساير
الجديد فيستعمل مثلا ( الظاهرة الأدبيّة/ نسقيّا / سياقيّا / الإجراء السياقي )،
ولكن بغير تعمية أو غموض ومحاولة غشّ القارئ بالألفاظ الاصطلاحيّة ومحاولة (
تعقيده ) بالمُعميّات من منحوت المصطلح النّقدي الحديث. بل يفكك ويحلل ويناقش
ويحاور في أدقّ تلك المصطلحات والأساليب بطريقة جليّة بيّنة تفضي إلى الهدف
المقصود في سلاسة رائعة.
ومن تلك النّماذج أيضا
نأخذ قوله من صفحة 290 حول شعر إبراهيم الجرادي ( سوريا ):
" وفي هذا المستوى (
يشير إلى المستوى البنائي للّغة الذي ذكره في العنوان الفرعي ) نلاحظ أنّ الشّاعر،
إبراهيم الجرادي، يعذّب اللّغة، ويقسو عليها بأن يزعجها، ويؤذيها، ويلذعها لذعا،
وذلك بحيث يتنآى بها عمّا ألفت أن تمثُل فيه، لا يدعها تستقرّ في مستقرّها من
الجملة التي تعوّدت أن تقبع فيها، فلا ترى أحدا يزعجها، فكأنّ الشّاعرَ كان موكّلا
بتعذيب لغته الشّعريّة، ومضايقتها على نحو لا يترك لها لحظة واحدة للتنفّس، أو
لِتتلفّت، أو لتستجمّ من المضايقة، ولتنطلق في تشكيل شعريّ آخر بديع... إنّ
الشّاعر يُعنت لغته إعناتا، فتراه ينصّها نصّا..."
وفي هذه الفقرة النقديّة
البلاغيّة مزجٌ غريب ومدهش بين حداثة اللغة وقدمها لا يتسطيعه إلا أُولو العزم من
حرّاس اللغة الأشاوس، فطريقة لفت النظر إلى استخدام اللغة بشكل جديد ومختلف عن
المألوف؛ عبّر عنها بألفاظ تمتح من معين اللغة القديم القويّ في سياق فنّي هو (
الأجدّ ).
أستاذ النّقد
الأوّل..
إذا قلنا أنّ
عبد الملك مرتاض هو أستاذ النّقد الأوّل في الجزائر ويكتب في قائمة النّقاد
الأوائل في العالم العربي الذين يتصدّرون قافلة النّقد الحديث لم نبعد كثيرا، وقد
لا يختلف معنا حول ذلك إلا قلّة قلية جدّا من المثقّفين أو أهل الاختصاص، عبد
الملك مرتاض ( أستاذ النّقد الأوّل ) تنظيرا وتطبيقا، فهو لم يُنَظِّر وحسب بل
طبّقَ نظريته النقديّة على مستويات عدّة، وبمساحة تكاد تشمل الوطن العربي كلّه..
بل الأمر تعدّى النّقد؛ إلى نقد النّقد ونقدِ النّقّاد أنفسهم وإبطال كثير من
آرائهم وطرائقهم في النّقد الفنّي..
في كتاب (
هؤلاء أصدقائي ) كثير من الآراء النقديّة، و( الأجرأة ) النقديّة أيضا، وقد شَغَل
النّقد مساحة هامّة من صفحات الكتاب، ويستطيع الدّارس من خلاله أن يكتشف أسلوب
الدّكتور عبد الملك مرتاض في النّقد ومنهجه فيه ونظريّته المعتمدة أو نظريّاته فيه
فهي ليست نظريّة واحدة.
ومرتاض نفسه
بصرّح في هذا الكتاب أنّه يعتمد أكثر من نظريّة نقديّة في تحليل النّصوص، ففي
حديثه عن ذكرياته مع الشّاعر العراقي عبد الوهّاب البياتي يقول من ص 342:
"
ولإعجابنا بهذه القصيدة[1]
العجيبة قرّرنا أن نكتب عنها بطريقتنا، فنحلّلها " بتجريب آخر من الكتابة (
غير الطريقة المستوياتيّة ) التي كنّا دَأَبْنا على سلوكها في تحليلاتنا للنّصوص
الشعريّة خصوصا، فقرأنا هذا النّص قراءة متعددة في واحدة، وهو ما قد نطلق عليه (
القراءة المندمجة ) بحيث اجتهدنا في ركم عناصر قراءتنا وأجزائها ومراحلها، ضربة
واحدة..."
فمرتاض يلقي
نظرة أولى فاحصة على النّصوص قبل أن يباشر نقدها أو تحليلها، ومن ثمّ يحدّد
النّظرية الأمثل في قراءتها والأسلوب الأجدى في تفكيك عناصرها ليستخلص مستويات الجمال
والإبداع فيها ويشير إلى مكامن الضّعف والخلل، وقد يقرأها أكثر من قرءاة..
فهو مثل
الفيلسوف الذي يحلّل كلّ نصّ بالطريقة الأنسب للإشكالية أو المشكلة أو السؤال
المطروح، كما يروق لأصحاب الفلسفة أن يفصّلوا في ذلك، وفي الواقع كلّ نصّ فنّي
يطرح قضيّة فلسفيّة، سواء على المستوى الفكري أو الفنّي الجمالي، فبينه وبين
الفسلفة تشابك كبير لا يصل إلى مدخلاته إلا النّاقد البصير.
ويبدو من خلال
النّص السابق المستشهَد به أنّ لعبد الملك مرتاض نظريّةً يستعملها في نقد النّصوص
الشعريّة غالبا، هي النّظريّة ( المستوياتيّة ) ، وهي تنظر إلى النّصّ من مستويات
عدّة ولا تعتمد على نظرة واحدة ( قاصرة )، لا تبلغ أن تحيط بكلّ مناحي النّص
الفنيّة والجماليّة، كما أنّ مرتاض برغم مَتْحِه من النّظريّات النقديّة الحديثة (
الغربيّة خصوصا )، لا يعتمد عليها كليّا بل كثيرا ما يرجع إلى النظريّات النقديّة
العربيّة، فيستند إليها في كثير من آرائه النّقديّة. هذا ما استخلصته من كتابه
المدهش هذا ( هؤلاء أصدقائي )..
وأردت
الاستئناس برأي غيري في الأمر عسى أن أعزّز فهمي وأدعم نظرتي، فنقرت نقرات عجلى
على مواقع بعينها فوقعت على كلام نفيس في مقالة كتبها عبد السّلام مرسلي ونشرها
بمجلّة ( عود النّد ) بعنوان ( المنهج
المركّب والقراءة المتعدّدة للنص الأدبي من منظور النّقد ) جاء فيها:
" إنّ المسار النّقدي لعبد الملك مرتاض
حافل بلا ثبات المنهج، فقلقه المعرفي الّذي يساير مشروعه النّقدي جعله لا يطمئن
لمنهج واحد في مقاربة أو تحليل نص أدبي، سرديا كان أو شعريا، لافتقار هذا الأخير
لتقنيات يسدّ بها متطلّبات النّص الأدبي، حيث يرى أنّه "لا يوجد منهج كامل،
مثاليّ، لا يأتيه الضّعف ولا النّقص من بين يديه ولا من خلفه، وإذن، فمن التّعصب[...] التّمسك
بتقنيات منهج واحد على أساس أنّه، هو وحده، ولا منهج آخر معه، مَجدَرَةٌ أن
يُتّبع.."
ولعلّ عبد الملك مرتاض يطبّق نظريّة ( الأجدّ ) على نفسه
التي تعني مسايرة العصر والإتيان بكلّ جديد، من غير التنكّر للقديم الأصيل القائم
على أسس سليمة؛ يطبق ذلك على منهجه النّقدي أيضا، فهو يسعى إلى أن يلبس لكلّ حالة
لبوسها، ويعطيها حقّها من العناية والبحث، وما مشاركته في مسابقة أمير الشعراء إلا
من هذه ( البابة )، وهي مسابقة كان يُخال أنّ شيخا من شيوخ النّقد العربي برزانته
ووقاره يستنكف أن يشارك فيها وفي مثل برنامجها الإعلامي الذي يعتمد كثيرا على
الارتجال، والصّخب الإعلامي، وربّما شيء من الفبركة الفنيّة، خلاف النّقد الرصين
الذي يعتمد، نوعا من الخلوة والدّراسة المتّأنيّة وتقليب الأمر على كلّ وجوهه.
والأمر لا يعتبر جديدا بأتمّ معنى الكلمة بل إنّ له
سابقةً في العصر الجاهلي وإن اختلفا في الصورة والبهرج، فقد استطارت الروايات
بقصّة خيمة النقد الشعري التي كانت تضرب للنّابغة ..
روى ابن قتيبة فقال:
" أن نابغة بني ذبيان كان تضرب له
قبّة من أدم[2] بسوق
عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء؛ فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى وقد أنشده
شعره، وأنشدته الخنساء قصيدتها التى مطلعها:
قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ
عُوّارُ * * * أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ
فقال: لولا أن أبا بصيرٍ – يقصد الأعشى
وهو شاعر مشهور من أصحاب المعلقات - أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس !!
فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها.
قال: حيث تقول ماذا؟
قال: حيث أقول:
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ
بِالضُحى * * وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما
وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَاِبني
مُحَـــرَّقٍ * * فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِذا اِبنَما
فقال: إنك لشاعر لولا أنك قلّلت عدد
جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت " الجفنات " فقللت العدد ولو قلت " الجفان " لكان أكثر. وقلت " يلمعن في الضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى ". لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت: " يقطرن من نجدة دماً " فدللت على قلة القتل ولو قلت " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسراً منقطعاً.. "
وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت " الجفنات " فقللت العدد ولو قلت " الجفان " لكان أكثر. وقلت " يلمعن في الضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى ". لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت: " يقطرن من نجدة دماً " فدللت على قلة القتل ولو قلت " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسراً منقطعاً.. "
والعجيب ( ونقول هذا استطرادا للفائدة ) أنّ قدامة بن
جعفر( ت 337 هـ ) في كتابه ( نقد الشّعر ) قلب هذا النّقد الذي جاء به النّابغة
رأسا على عقب، فخطَّأَ النّابغة فيه، وجعل كلّ مأخذةً أخذها النّابغة على حسّان،
مأثرةً من مآثره وقيمة فنيّة عالية في شعره[3].
وهذا نوع من القراءة المتعدّدة الوجوه التي كثيرا ما
نبّه ّإليها الدّكتور عبد الملك مرتاض، وطبّقها هو نفسه على كثير من النّصوص، مما
يجعل من النّص ذا وجوه كثيرة من العطاء الفنّي والجمالي، قد يرى كلّ ناقد بعضها
ويخفى عليه بعضها الآخر، يقول مرتاض في ( هؤلاء أصدقائي ) في ص 470:
" ..ثمّ طرأ على هذا الأمر ما جعلني أعيد قراءة
قصيدة " أشجان يمانيّة " قراءة فنيّة ثانية فخرجت في حجم كتاب آخر
عنوانه: " شعريّة القصيدة، قصيدة
القراءة ".."
النّقد يُعطي للنّصوص الفنيّة حياة جديدة ومدى أوسع
للانتشار ومصافحة جمهور أكبر من القرّاء والمتابعين، بينما الصّمت النّقدي كثيرا
ما يُعتبر حكما بالإعدام على تلك النّصوص بلا شفقة أو رحمة، وكثيرا ما يكون صائبا
في ذلك الحكم.. فالنّصوص التي تولد ميتة لا ينبغي أن تنقد أصلا..
الحداثة من
منظور مرتاض:
يضع الدّكتور مرتاض الحداثة في جيبه بكلّ تمكن واقتدار،
ويُقَوْلِبها كيفما شاء، وله فيها صولات وجولات، مارسها تنظيرا وتطبيقا، وابتدع
فيها مصطلحات خاصّة به لم يسبقه إليها أحد، كما له آراء في ترجمة كثير من
المصطلحات النّقديّة، واقترح تعديلات عليها يرى أنّها أدقّ وأكثر دلالة على المعنى
الذي أنشئت له، وسنبسط الحديث عن كلّ ذلك بشيء من التفصيل الذي يسعف به القلم..
وقد أبدى رأيه في الحداثة بشكل متوازن في كثير من فصول
الكتاب، إلا أنّ القلم يشطّ به أحيانا، فنحسبه حداثيّا أكثر من الحداثيين أنفسهم
ومن آرائه القيّمة في الحداثة قوله:
" .. في حين أنّ النّاس جميعا، من غير العرب، لا
يميّزون بين التراث والحداثة، لأنّ الحداثة الحقّ لا تكون إلا بالتعويل على تراث
الأمّة وثقافتها وفِكر أجدادها، فالحداثة الصّحيحة هي أبدا استمرار للثقافة التراثيّة
وامتداد لها وتكملة لمسارها، لأنّ الحداثة مجرّد محاولة لتجديد الفكر، وبعبارة
أخرى هي بناء جديد ينهض على بناء قديم.." [4]
لكنّ موقفه أحيانا يبدو معقّدا
إن لا نقل متناقضا، إذ هو يعتبر الحداثة تقويضا للقديم وإعادة بنائه من جديد، وفرق
بين الاستفادة من الموروث القديم والبناء عليه؛ وبين تقويضه والبناء على أنقاضه،
وذلك الموقف الغريب منه هو ما جعلني أرتبك وأعيد قراءة رأيه في الحداثة مرّة
واثنتين وثلاثا، ولكن في كلّ مرّة يبقى عندي التناقض قائما، والعقدة تزداد شدّة
واستحكاما، ففي ص 135يقول:
" ولقد غاب، فيما يبدو عن
الزملاء من النّقاد العرب المعاصرين أنّ الحداثة الغربيّة نشأت بعد الحرب
العالميّة الثانية في ظروف مدلهمّة في غاية القسوة والعنف، وبعد أن ذهب من المجتمع
الغربيّ كلّ القيم، وبعد أن تمزّق حبل الأسرة، وبعد أن لم يبق شيء لديهم من القيم
الرّوحيّة التي كانوا يؤمنون بها.."
ونرى من خلال هذا النّصّ أنّ
سبب ظهور الحداثة؛ هو نوع من التّمرّد على الأوضاع السّائدة في الغرب بعد الحرب
العالميّة الثانية وسخطٌ على العادات والتقاليد والأعراف التي رأى بعض الفنّانين (
خصوصا ) والكتّاب والشعراء فيما بعد أنّها تمثل جمودا قاتلا يحطم كلّ مواهبهم
وطاقاتهم المتفجرة. وبالتّالي فهي ابنة بيئة غير بيئتنا وظروف غير الظروف التي
مرّت بها أمتنا، ونتاج فكر غير فكر أبناء جلدتنا، وعندما نحاول تطبيقها على
إبداعات كتّابنا وشعرائنا نكون قد جانبنا الصّواب وأجحفنا في حقّ أدبنا العربي كلّ
الإجحاف.. !!
في المصطلح النّقديّ:
ولمرتاض اجتهادات كثيرة في مجال
نحت المصطلح النّقدي وترجمته، بل وله رأي في ترجمات الآخرين لتلك المصطلحات، فهو
مثلا يرى أنّ مصطلح ( السيميائيّة ) و( النيويّة )، ينبغي أن يكون ( السيمائيّة )
بحذف الياء قبل ألف المدّ، وكذلك ( البنويّة ) بدل البنيويّة ويقول أنّ ترجمته
أكثر دقّة وأكثر تعبيرا عن المصطلح النّقدي فيما وضع له عند المنظِّرين والنّقاد
الغربيين، كما يرى أيضا أنّ الصواب في ترجمة مصطلح (التفكيكيّة ) هو ( التقويضيّة
)، ليدلّ على المعنى المقصود في نشوء هذا المصطلح بشكل أكثر دقّة. وله في هذا
الميدان نظائر كثيرة لقيت قبولا ورواجا معتبرا في الوسط النّقدي، حتى قال عنه
الدّكتور مصطفى ناصف لمّا قرأ كتابه
" بنية الخطاب الشعري " ص155:
" مرتاض منّا " أو
لنا ! والذي أعرفه أنّه صارم المزاج،
وكأنّه غير مصري"
وقد علّق مرّة على ترجمة كتب
بعض أصدقائه لكتاب غربي؛ فداعبه بعبارة أنّ ( الحكاية هي الأصوب والأكثر دقّة من
الخرافة )، وذلك وفقا لما قصده صاحب الكتاب الأصلي، ولنَسُقْ نصّ كلامه بالحرف ص
37:
" وممّا يمكن أن نداعب به
الصّديق إبراهيم الخطيب أنّ أصل عبارة العنوان باللغة الفرنسيّة: "morphologie du cont "، وتعني لفظة " cont " في لغتهم " الحكاية "، لا
الخرافة التي هي في لغتهم: " légend " فكان ينبغي، في رأينا،
إذن، أن تكون ترجمة عنوان كتاب بروب بالعبارات الآتية " مرفولجيا الحكاية
"..."
ولمرتاض أيضا رأي في النّقد
والنّقاد العرب بصفة عامّة، ولكنّه وقع فيما يشبه التناقض حين قال أنّ زمن الألقاب
والأسماء الكبيرة قد زال وانقضى وأنّه لم يعد يؤمن به، لكن بعد بضعة أسطر فقط؛ قال
عن الجاحظ أنّه شيخ العربيّة الأوّل، وقال عن صلاح فضل النّاقد المصريّ المعروف
أنّه شيخ النّقاد المصريين بلا منازع، ومن هنا نرى أنّ الألقاب والمسميّات
المشهورة التي تستطير في الآفاق تُعرِّف ببعض الأشخاص والمبدعين؛ لا مناص منها ولا
يمكن أن يخلو منها زمن، صدقت فيمن قيلت فيه تمام الصّدق أم كذبت.
ومن أشهر النّقاد الذين ذكرهم
الدّكتور عبد الملك مرتاض ونوّه بمكانتهم في سماء النّقد الأدبي:
الدّكتور عبد الله الغذّامي وهو
كاتب وناقد سعوديّ مشهور جدّا، وله راية مرفوعة لا يخطئها النّاظر، لاسيما في
المشرق العربي، وكذلك صلاح فضل وجابر عصفور في مصر، وعبد العزيز المقالح في اليمن
الذي يقول عنه عند حديثه عن اليمن:
" يَمَن المقالح "
فقد صارت اليمن تعرف به بعد أن كان يعرف بها.. ومثل هذا من النّوادر التي تعدّ على
الأصابع في التّاريخ، تذكّرنا بقول المتنبّي:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
** وبنفسي فخرت لا بجدودي
في سَاحِ
الوَغَى ناقد لم يترجّل:
قالت العرب قديما ( ولا يزالُ
قولُها حيّا يرزق ): " من غربل النّاس نخلوه "، ولكن قبل أن نصلَ إلى
مرحلة النّقد في حديثنا هذا، نتعرّف أوّلا على رأي مرتاض حول مفهوم النّاقد
الأدبي، ولكي يعرّف لنا النّاقدَ وفقا لتصوّره يستنجد بمصطلح خاصِ هو من وضع أبي
عثمان الجاحظ ( شيخ الأدباء العرب في كلّ العصور [5]
كما يسمّيه ) يقول في ص 172:
" الخرّيت[6] يستطيع أن يبصر الأشياء من
خلال سَمِّ الخياط، فالنّاقد الخرّيت،كالطّبيب الخرّيت، هو من له القدرة الكاملة
على معرفة الأشياء بدقائقها ولطائفها، وجلائلها وعظائمها.."
فالنّاقد عند عبد الملك مرتاض ليس مجرّدَ قارئ جيّد وحَسْب، وليس طبيبا
عاما يشخص العوارض المرضيّة في النّصوص وينبّه إليها بشكل عام، بل هو طبيب متخصّص،
وحكيم ذو نظرة ثاقبة، يشير إلى مكامِن الجمال والإبداع في النّصوص قبل مكامِن
الخلل والنّقص، كما يرى الدقائقَ والخوافي التي لا يبصرها القارئ العادي، وهو على
كلّ حال " خِرّيت " يَهدي القارئ في صحراء اليباب فلا يَضلّ ولا يُضل..
ونحن لا نجازف إن قلنا أنّ عبد
الملك مرتاض نفسه ( ناقد خرّيت ) قد عَجَم عودَ النّقدِ، وعرف من أين تؤكل كتف (
الإبداع الفنّي )، فقد مارس النّقد دهرا ليس باليسير، مارسه باحثا وأديبا وأستاذا
جامعيّا، كما مارسه مبدعا ومخترعا لأساليبَ وطرقٍ ولمصطلحات جديدة في النّقد
الأدبي.
وقد كان من شيوع اسمه وذيوع
صيته في بداية أمره أن طلب منه الأديب الشّاعر
حسن الأمراني ( المغرب ) طالبا منه أن يكتب في مجلّة المشكاة فساهم ببحث
حول ( التأويل في القرآن الكريم )، ثمّ أرسل هو لحسن الأمرّاني بعدد من مجلّة (
تجليات الحداثة )، وذكر أنّ الأمراني أثنى عليها ثناء حسنا..
شارك الدّكتور عبد الملك مرتاض
في عشرات النّدوات الأدبيّة والنّقديّة في مختلف دول العالم العربي، ومنها في
المغرب؛ عدّة ندوات كندوة الرواية المغاربيّة[7]
التي قال عنها ص41:
" كانت تلك النّدوة كأنّها
خرجت من إطار الزمن المغاربي، المعقّد اليائس البائس..."، ولكنّ أكثر الندوات
ثراء وأكثرها فائدة وتأثيرا في نفس مرتاض هي ندوة جدّة النّقديّة، والتي قال عنها
بكلّ انبهار ص 178:
" ثمّ انعقدت ندوة أخرى
بجدّة، وهي أكبر ندوة انعقدت عن النّقد العربي في القرن العشرين على وجه الإطلاق،
في رأينا، فقد حضرها زهاء ثلاثين ناقدا من معظم الأقطار العربيّة النّاقدة... وكان
موضوع الندوة التي دامت أسبوعا كاملا " قراءة جديدة لتراثنا النّقديّ "
وقد نشرت أعمالها في جزئين ضخمين[8]
بمدينة جدّة على نفقة النّادي الأدبي الثقافي لهذه المدينة.. "
ومشاركته في تلك الندوات كانت
على الدّوام تترك أثرا مميزا لا يختلف عليه اثنان، ولعلّ ندوة جدّة كانت بسبب نقده
لندوة سبقتها، قُدّمت فيها جملةٌ من الأبحاث والدّراسات الأدبيّة، تتناول كلّها
النّقد الغربي ولم تخصّ النّقد العربي ولا بكلمة واحدة، فاعترض مرتاض على ذلك
وأبدى سخطه، فجاءت ندوة جدّة تصحيحا للمسار وتداركا للأمر.
وعندما يقول ناقدٌ كبير بحجم
عبد الملك مرتاض عن ندوة جدّة أنّها أكبر ندوة على الإطلاق في القرن العشرين،
فإنّه ليس ذلك بسبب ضخامة العدد وحسب بل يعني ( القيمة ) أيضا والأثر الأدبي الذي
نتج عنها، فقد كرّر الحديث عن هذه الندوة مرارا في هذا الكتاب ( هؤلاء أصدقائي )،
وأشار في كثير من المواضع إلى قيمتها الأدبيّة في تاريخ النّقد العربي، وشارك
بعدها وقبلها في ندوات كثيرة لاسيما في مصر والمغرب واليمن ولبنان، وهي منارات
الإبداع الأدبي والفكري في وطننا الكبير؛ إلّا أيًّ من تلك المشاركات لم تترك
الأثر البالغ الذي تركته ندوة جدّة في نفسه.
وله رأي لطيف حول استعمال بعض
المصطلحات النّقديّة بنوع من التبذّل، قال فيه ص 193:
" ولدى مشاركتي في ندوة
الترجمة العالميّة التي قُسّمت أنشطتها إلى ما يسمّى " ورشات "، وهي
مصطلح رذل هجين لا يليق بالقيمة الفكريّة لما يتناوله المفكّرون والمثقّفون
والعلماء فيها، وهي من موروثات العهود الاشتراكيّة التي كانت تجعل، في مغالطة
بادية، من العمل الفكريّ واليدويّ شأنا واحدًا... وأولى للأدباء والثَّقِفِينَ أن
يُنْشِئُوا هم مصطلحاتهم.. "
ولعبد الملك مرتاض آراء نقديّة
قيّمة جاءت في دَرَجِ كلامه عن ذكريّاته مع أصدقائه من الكتاب والأدباء العرب،
نسوق منها بعض ما عَلِقَ بالقلم وترك أثره في النّفس من القراءة الأولى الفاحصة:
جدليّة ( الشاعر والكاتب )
قضيّة طالما حيّرت أهل الاختصاص وشغلت أقلامهم زمنا طويلا. رجلٌ مثلُ العقّاد مثلا
أو الرّافعي أو الشيخ الإبراهيمي، عرفوا بالنثر وبراعتهم فيه إلى درجة الأستاذيّة،
بل وصلوا إلى قمّة سامقة حتى قيل أنّ أسلوبهم لا يكاد يقلَّد أو يُنسَج على
منواله، لاتسامه بخصائص فنيّة لا يمكن أن تصدر إلّا عن أصحابه فقط، ورغم أنّ هؤلاء
العمالقة نَضَموا الشعر وبرعوا فيه إلا أنّ إطلاق كلمة شعراء عليهم يُعتبر فيه
كثير من التجوّز.
وشعراء مثل نزار قبّاني وأحمد
شوقي وحافظ إبراهيم ومحمّد العيد آل خليفة، ومحمود درويش ومفدي زكرياء؛ لا يمكن أن
يُطْلَق عليهم أنّهم كتّاب رغم اقتدارهم على الكتابة وامتلاكهم لناصية اللّغة، فهم
أمراؤها، لكن بينهم وبين النثر بون شاسع ومسافة قصيّة، لا يسمح لهم النّقد الأدبي
بطيّها أو اختصارها، فهم الشعراء لا غير في مسمّى التصنيف الأدبي الجازم.
ولمرتاض في ذلك رأيٌ يبدو
موضوعيّا، كما يبدو حكما قاسيا على الشعراء إلى حدّ ما، قال عن كتابة الشعراء
للنثر في ص 276:
" فلقد كان المقالح نحا في ذلك الدّيوان
منحىً مزدوجا بحيث وزّع نسج الكلام في كلّ قصيدة على الشعر والنّثر، على سبيل
التّساوي. ولمّا كان الشعراء فيما يبدو، لا يجيدون كتابة النّثر، فإنّ نثرهم الذي
يزعمون ليس، في حقيقة أمره، إلا شعرا ! " وهذا الكلام هو مدح في
صيغة ذمّ، فلو قلنا لشاعر، أيّ شاعر أنت لا تجيد كتابة النثر لغضب واستطار، ولكن
لو قلنا له أنّ نثرَك لا يمكن إلّا أن يكون شعرا منثورا كلّه، لأعجبه ذلك وفرح به،
فرح الطّفل تهدى له لعبة جديدة.
وتعرّض الدّكتور عبد الملك
مرتاض إلى بعض الهجمات النّقديّة كما يتعرّض كلّ كاتب أو مبدع إلى نقد الآخرين
واعتراضاتهم على عمله وإبداعه أو بعضه على الأقلّ، فيزيد ذلك من شهرته ويطيّر اسمه
في أفق الإبداع الأدبي أو الفكري، وقد يحطّ ذلك من شأنه ويزري به إن كان فيما
يقوله ناقدوه الحقُّ والصّواب ولم يكن أمرا تُتَجَاذب فيه أوجُه النّظر.
وذلك جريا على القاعدة التي
بسطناها آنفا.. " من غربل النّاس نخلوه "
من غربل
النّاس نخلوه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمن النّقد الذي تعرّض له
المؤلّف وابتدأ به مجالس كتابه ما أُخذ عليه من بعض أدباء موريطانيا الشباب، إذ
لاحظ عليه أنّه كان يقسو في نقده في مسابقة أمير الشعراء بأبي ظبي، وأنّه يغض
الطرف عن أخطاء غيرهم، وضَربوا مثلا بأحد المشاركين من غير الموريطانيين أخطأ في
استعمال ( حتّى ) حيث رفع المضارع بعدها، ولم يعقّب مرتاض على خطئه ذلك.
وردّ الدّكتور عبد الملك مرتاض
ردّا قويّا وبالحجج الدّامغة، برغم قوله أنّه لا يذكر الشّاعر ولا الحادثة، ولكن
إن كان ذلك صحيحا فَلِحتّى[9]
أحوال كثيرة في اللّغة، وقد يجوز رفع المضارع بعد حتّى على قول بعض اللّغويين،
وحتى لو أخطأ الشّاعر فإنّ لجنة التحكيم في المسابقة ومنهم مرتاض لا يتتبّعون كلّ
خطإ ولا يعقّبون على كلّ زلّة من الشعراء. ثمّ قال أنّه رغم انزعاجه من هذا
الانتقاد المتحامل عليه من بعض الشباب الموريطانيين؛ إلّا أنّ ذلك لم يغيّر من
محبّته لهم وإعجابه بتبحّرهم في اللّغة العربيّة وعلومها.
وكنت قرأت قديما نقدا شديدا
لعبد الملك مرتاض لا أذكر بالضبط هل هو مجلّة العربي الكويتيّة أم في مجلّة الدوحة
القطريّة، وكان ردّ الدّكتور مرتاض مزلزلا، أعجبني حينها، وشعرت بالفخر والاعتزاز
أن يكون للجزائر قلمٌ يكتب بتلك الفخامة اللّغويّة والفصاحة المدهشة.
وقرأت مؤخرا نقدا لاذعا من شاعر
أثير لديّ همت بشعره وقصائده الرّائعة أيّما هيام، وكان في نقده للأستاذ مرتاض
شديد القسوة مجانبا للصّواب في نظري مجانبةً بيّنة، إذ قال عنه أنّه ( يلحن )،
وهذه لعمري أعجوبة الأعاجيب أمرتاض يلحن.. !؟ إذا كان شيخ العربيّة في
الجزائر يلحن، فماذا نقول عن غيره ممن يَتَّعتع في العربيّة ولا يجد لبيانها مسلكا
في لسانه. وصدق الشّاعر حين قال[10]:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة * *
على النّفس من وقع الحسام المهنّد
جاء النّقد هذه المرّة من الجزائر دار الأهل
وذوي القربى، ولكنّ النّقد لا يعترف بالأهل ولا القرابة، ولا يفترض بالنّقد أن
يحابي أحدا وفي الوقت ذاته لا ينبغي له أن يكون متحاملا، ومن أمارات التّحامل أن
يخفي النّاقد اسمه، أو ينتحل اسما وهميّا لا وجود له في واقع النّاس. ومن التّحامل
الأشدّ والأنكأ أن يصادر النّاقد العمل المنقودَ وصاحبه كليّةً، وينسب الاثنين إلى
الدونيّة والسّخف.
ولقد ذكر الدّكتور عبد الملك
مرتاض أنّه تعرّض لهجمة شرسة ونقد لاذع من رجل يزعم أنّه ( مغربيّ يعيش بالمهجر،
وسمّاه ( الكتبوب )، وقال عن ذلك في ص 377:
" .. مقالة كتبها كاتب
مغمور يزعم أنّه من بلاد المغرب. وقد اتّهمنا فيها بالجهل والأميّة والرّكاكة في
اصطناع المصطلح، وفي تركيب العربيّة أيضا !! .." ( إلى أن يقول ):
" وكان يفترض أن لا نلتفت إلى هذا الرّجل، إن كان رجلا، فعلا،وحقّا، أصلا،
وذلك على أساس أنّ حاله وحالي يصدق عليهما مضرب المثل العربي القديم: " لو
ذاتُ سوار لطمتني " ! ولكنّا أومأنا إليه، في هذا
المقام، تواضعا منّا وتكرّما، فليعلم ذلك ! وكان على ذلك الكتبوب أن يعدّ
للهجاء سلاحا شائكا، وقلبا حديدا، وفؤادا شجاعا، وإلا تهاوى في أوّل مصاولة !.."
وفي أحد ملتقيات الفكر الإسلامي
ذكر أنّه كان يجلس قريبا من الشيخ محمّد أبو زهرة، العالم المجتهد الشهير، وقال
أنّه كان نجمَ تلك الملتقيات بلا منازع، وفي تلك الأثناء كان شاعر الثورة
الجزائريّة مفدي زكرياء يلقي بعضا من شعره فلمّا أنهى ونزل مرّ بالشيخ أبي زهرة
فقال له الشيخ متسائلا:
- ماذا كنت تقول..؟
فقال مفدي
زكريا:
- كنت ألقي شعرا .
فقال أبو
زهرة
- هذا نظم.
وهذا حكم
نقديّ في منتهى القسوة، شاعر بمثل قامة مفدي زكرياء يقول عنه علامة عصره أنّه يلقي
نظما وليس شعرا، لكنّ مفدي زكرياء لم يردّ بكلمة واحدة، ربّما لأنّ الموقف غير
مناسب للردّ، وربّما لأنّ هيبة الشيخ حالت بينه وبين الرّد، إلّا أنّ مرتاضا علّق
قائلا:
" وواضح أنّ حكم الشيخ أبي
زهرة، النّقدي، ولم يك ناقدا معترفا له بهذه الصّفة، كان قاسيا، وكنت أوّل مرّة
مقتنعا بأنّ حكمه النّقدي كان صحيحا، لكن حين تقدّمت بي السّن والمعرفة لم أعد
مقتعا بذلك الموقف من الشيخ..."
نلاحظ هنا
كيف يعترف مرتاض بتطوّر حكمه النّقدي بعد أن عركته السّنون، وزادته الأيّام علما
ومعرفة. وله في ذلك فلتات مشابهة هي من طرائف ما يجده القارئ في كتاب ( هؤلاء
أصدقائي ).
الأسلوب
القرآني..
"
وتَعْرُوك لذاذةُ المتعة الروحيّة التي تُنسيك عالمَك الماديّ الذي تشقى فيه فلا
تزايلك". عبد الملك مرتاض.
إنّ أكثر ما
يميّز حرّاس اللّغة العربيّة والواقفين على حدودها الذّابّين عن حياضها، استئخاذهم
( بتعبير مرتاض ) لغةَ القرآني حِلْية توشّى بها كتابتهم، وتبعث فيها ماء الحياة،
وذلك ما أخذ على الرّافعي ذات يوم من قبل بعض أدباء المهجر الذين هم في غالبيّتهم
مسيحيّون، وزعموا أنّ أسلوبه جيّد لولا أنّه يستخدم فيه الجملة القرآنيّة.
ومن أمثلة ذلك
الأسلوب الحيّ المشرق؛ قوله في 19:
" فبما
إحساسه بضرورة فهم القارئ.."
" فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ
لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ "آل عمران 59
60. " ومثلها في القرآن الكريم قوله
تعالى:
"وهذه
الآية قلّما نجد من الكتّاب من ينسج على منوالها أو يحذو حذوها في براعة التعبير،
وبداعته، وقوله أيضا في ص 28:
" وبعد،
فهاؤمّ اقرأوا، " ديوان ذات البدع " لأبي شجّة .." وهي كذلك مأخوذة من قوله تعالى:
" فَأَمَّا
مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ
" الحاقّة الآية 19.
وهنالك تعابير كثيرة على هذا النّسق
نذكر منها طائفة أخرى، مجرّد ذكر للتمثيل:
" يريد
أن ينقضّ .." ، " في حيرة وسمود " ، " هي مدينة بدع من المدن
".
وفي تعبير آخر
ينسج على منوال الحديث النبويّ بشكل مختلف تماما عن المتن، إذ يسمّي النّبي صلّى
الله عليه وسلّم اليمين الكاذبة أنّها اليمين الغموس، أي أنّها تغس صاحبها في
النّار، وقال مرتاض:
" خشاة
الوقوع في الظنّ الغموس.." وهي صورة فنيّة بديعة للغاية، فإذا كان الإنسان
يُقْسِم قَسمًا غموسا يغمسه في النّار، فإنّ الظنّ كذلك وقد قال عنه الله تعالى:
" إنّ
بعض الظنّ إثم.."
ويعزز مرتاض
أسلوبه القرآني العذب باقتباسات شتّى من أمثال العرب وحكمها، من مثل قولهم:
( حال الجريض
دون القريض )، و قولهم ( كماء ولا تصدآء )، و( لو ذات سوار لطمتني )، وغيرها من
عيون التراث العربي التي تؤنّق أسلوبه وتؤثثه ( بتعبير الحداثة ) بجمالها الفنّي
الرّائق.
قطوف سقطت من
المتن:
وقبل أن نطوي
صفحات هذا السّفر العظيم ( هؤلاء أصدقائي )؛ لابدّ من حديث نستدرك به ما يكون قد
سقط من متن تدويناتنا حول هذا الكتاب، ولم يسعف القلم بذكره في حينه، فتكون لنا
قطوفا من بستان مرتاض في ذكرياته مع أصدقائه المثقّفين، ونتملّى منها ما يلذ من
طيب الحديث أو طريف القصص، أو جمال الأسلوب، وتمايز المنهج النّقدي الأجدّ.
فممّا لفت
انتباهي في أسلوب المؤلّف من الصّفحات الأولى تقريبا؛ هو تعبيره عن قولنا (
السبعينيّات )، و( الثمانينيات ) بطريقة ملفتة تماما تمثل أسلوب الأقدمين الرصين
في التعبير، إذ يقول:
" سنوات
السّبعين "، " سنوات الثمانين "..
ومن لطائف ما
يصرّح به مرتاض في كتابه أنّه يقول بأنّه ليس شاعرا.. ناقد الشعر الأوّل، وزعيم
مدرسة حديثة في النّقد يعترف بكلّ أريحيّة بأنّه ليس شاعرا، وهل يكون ذلك منافيّا
لمهمته في نقد الشعر، ليس ذلك ضروريّا فيما أعلم فيكفي أن يكون للنّاقد ذائقة
أدبيّة وذائقة شعريّة، يميز بها جيّد الشعر من رديئه.
وكذلك من
طرائفه ما ذكره وقال أنّه ندم عليه، هو كتابته لبعض الصّحفيين، ما ينتحلونه
لأنفسهم، واستغفر الله على هذا الأمر، ويذكّرني ذلك بما قاله الرّافعي أنّه كان
يكتب مقالات لأناس يعيشون منها ولا يريد أن يذكر أسماءهم.
وفي ميدان
النّقد الأدبي أراد مرتاض مرارًا أن يوائم بين الحداثة والأصالة، وأوغل في مدح
الحداثة إيغالا كبيرا، إلى درجة أنّه يسوق أحيانا نماذج تسيء إلى الحداثة أكثر ما
تحسن إليها، لاسيما ذلك النّص الذي ساقه لنا في صفحة 303، وكان في نظري - رغم
انبهاري الشديد بالدّكتور عبد الملك مرتاض – أسوأ نصّ يمثلّ به للحداثة وهو للشاعر
إبراهيم الجرادي ( سوريا ) من ديوانه ( عويل الحواس) يقول فيه:
"
الغزالة التي كانت، كما تكون، عادة، متعبة
على فراش
بعلها، وكان وعل البحر، كان
عطش، وكان بئر
الدّم، كان دمها ملطّخا
بالدّم، كان
شالها، ولم تلن ... وكان أن
عطّرت الفراش
وردة اللّبلاب، كان أن
تصوغ نفسها
النيران، كان أن...وكان شيئا
غامضا، وربّما
يكون شيئا واضحا، وكان ربّما
يكون كان، كان أن شبّت على ا"لأغصان
وردة العويل،
كان..."
كلّ ما قاله
الدّكتور مرتاض عن ضرورة أن تكون الحداثة هي النّص الإبداعيّ الأجدّ؛ مات في هذا
النّص الهيروغليفي المسماريّ، وربّما من السّهل على القارئ الذوّاقة أن يفكّ رموز
اللغة الهيروغليفيّة أو المسماريّة على أن يفكّ طلاسم هذه القطعة من ( الشعر
الحداثي )، التي لا تزيد - في نظري - على أن تكون هذيانا و( سخفا )، وعبثا
باللّغة. مع كلّ تقديري وإجلالي لأستاذنا الدّكتور مرتاض، والذي شعرت في هذا
النّصّ بالذّات إنّما كان يجامل صديقا في لحظة ضعف حميمي، وإلا فما هذا الشعر وما
هذه الحداثة التي جاء بها ( !!؟ ).
ومن نقده لبعض
الكتّاب قوله الصريح الفصيح في محمود أمين العالم:
" كان
الرّجل يدافع عن الشيوعيّة حتّى كأنّه كان موكّلا هو بذلك دون العالمين، وكان يرفض
في ضيق أفق مدهش، كلّ منهج نقديّ إلا منهج الواقعيّة الاشتراكيّة، فكان يهاجم كلّ
المناهج النقديّة التي عداها، فعاداها.."
ووجّه نقدا
موجعا كذلك لنخبة الكتّاب المصريين وقال أنّهم يشعرون بمركزيتهم أكثر مما ينبغي،
وأنّهم يبالغون في ذلك – على ما لهم من مكانة وقدر – بطريقة فجّة وفظّة[11]
غالبا. ولاحظ أنّ النماذج الكثيرة التي يسوقنها في دراساتهم النقديّة، رغم
عناوينها التي تشير إلى العالم العربي كلّه، إلا أنّ النمذجة لا تكون بالنّسبة
الأكبر إلا من مصر.
كما نقد مرتاض
جائزة نوبل وقال عنها خلال حديثه عن رواية الطّيب صالح ( موسم الهجرة إلى الشمال:
" ونحن
نعجب، أشدّ العجب، من نصّ روائيّ ترجم إلى معظم اللّغات الإنسانيّة ثمّ لا ينال به
صاحبه جائزة نوبل التي كأنّها مخصّصة للكتّاب " الخواجة " وحدهم ! "
ورغم كلّ هذا التألّق الأدبي
والنّقدي فإنّ الدّكتور عبد الملك مرتاض يقول عن نفسه بتواضع بيّن، متمثلا بقول
الشّاعر:
خلت الديار فسدت غير مسود * * ومن
الشقاء تفردي بالسؤدد
وإن كان في البيت نوعا من المدح
الخفيّ للنّفس، إلا أنّه لا ينفي أنّ الدّكتور عبد الملك مرتاض أحد عمالقة الأدب
والنّقد في الجزائر، بل هو شيخ النّقاد فيها بلا منازع، ويأتي كتابه هذا قطعة
أدبيّة مطوّلة ذات نفع كبير، وفوائد لا تتجلّى من جولة قراءة واحدة، برغم انطلاقه
فيه على سجيّته، وتحرّره من كلّ صرامة عمليّة أو منهجيّة فجّة، وقد حفل بالدّرر،
وازدان بفواكه الأدب وثماره اليانعة، ترصّعُ خزانة المكتبة العربيّة كما ترصّعُ
الجوهرةُ اليتيمةُ العقدَ الثمين.
ا.ه
23/ ربيع الأوّل 1436 هـ يوافق 14 / جانفي 2015
م
[1]
- عنوان القصيدة ( قمر شيراز ) وهي عنوان الدّيوان في
الوقت نفسه.
[2]
- خيمة عظيمة من جلد
[3]
- فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: الغر، أن يجعل
الجفان بيضاً، فإذا قصر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله:
الغر، المشهورات، كما يقال يوم أغر ويد غراء، وليس يراد البياض في شيء من ذلك، بل
تراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، أنه لو
قال: بالدجى، لكان أحسن من قوله: بالضحى، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق
وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد
الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك
الكواكب، وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا، دائماً تلمع بالليل ويقل، لمعانها
بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل
تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تخال ناراً.
. وأما قول النابغة، أو من قال: إن قوله في
السيوف: يجرين، خير من قوله: يقطرن، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة،
وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك
بأن يقولوا: سيفه يقطر دماً، ولم يسمع: سيفه يجري دماً، ولعله لو قال: يجرين دماً،
لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به. .
[4] هؤلاء
أصدقائي ص 389.
[5] - هذا الرأي فيه
نوع من المجازفة النّقديّة، بأنّ نقول ( في كلّ العصور ) ولعلّ الأستاذ مرتاض هنا
أرسل الحكم على عواهنه بقصد المبالغة، وإلا فإنّ في العصر الحديث من النّقاد من
يقاس بالجاحظ وقد يفوته، وما تزال الأيّام تتمخض عن كلّ جديد باهر يُنسي القديم
وبهرجه.
[6] - يقول مرتاض
استنادا لابن منظور في لسان العرب:" الخرّيت على وزن السّكّيت، كما هو معروف،
لفظة وضعتها العرب لتطلقها، أصلا، على كلّ دليل حاذق بالدّلالة على الكلإ أو
الطّريق.. "
[7] - هي الندوة التي توفي على
إثرها الكاتب الجزائري المشهور ( مولود معمري ) في حادث مرور أليم وهو على مشارف
العاصمة عائدا من تلك الندوة.
[8] - وأنا أخطّ هذه الأسطار (
بتعبير مرتاض )، قلت في نفسي لو أنّ هذا الكتابَ كان متوفّرا على الشابكة لقمت
بتحميله وقراءته، وما إن استفتيت الشيخ غوغل حتّى أجابني بأن نعم.
[9] - يقال: ( مات سيبويه وفي نفسه شيء من حتّى )،
وذُكر في بعض المراجع أنّها للفرّاء.
[10] - هو للشّاعر طرفة بن العبد، وقد سرى مسرى
الحكمة والمثل، وكان من الشعر ( الأَجَدّ ) الذي يموت أبدا.
[11] - هذا تعبيري وألفاظي أنا وفقا لما فهمته من
كلام الدّكتور مرتاض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق