2015/01/27

"الرجل...و الصوت !، كنا معا في الميدان" قصتان بقلم: ياسر محمود محمد

الرجل . . . و الصوت !
ياسر محمود محمد

- لا تتقدم أيها الرجل !
أجاب بصوت خانع خائف مذلول :
- لماذا ؟!
لم يُجب الصوتُ ، فكرر مرعوباً :
- ماذا فعلت ؟!
ثم همس ... :
- الكفن ليس له جيوب !
أتي الصورة مرة أحرى و كأنما يأتي من أسفل بئر عميق :
- أنت اخترت .. مصيرك !
تحرك الرجل خطوة كبيرة للأمام دون أن يشعر .. : " أنا ؟! " قال الرجل .
- نعم أنت ! قال الصوت .
- و بكل تأكيد أنت ! أكّد الصوتُ .
...
      من سراديب اليأس الممتدة بدأ الأمل يشقّ طريقاً إلاّ أنه كان عكس الذي اختاره ذلك الشيخ ذو الأسمال البالية – عكس البذل التي ينقش عليها اسمه في غابر الأزمان – كان الرجل قد اختار سرداباً يمثل يسار المكان الديمومي المجهول في عالمنا هذا ..
بينما ارتسم الأمل في صورة معلقة علي جدار سرداب يأتي من اليمين كُتب تحتها :
(( أول شهيد في الثورة .. من مدينة الأبطال ))
    كان في السرداب الوحيد المُضاء هو سرداب الأمل .. الذي يقود حتماً إلي المستقبل ، كان يسير في عكس اتجاهه – و في السرداب المواجه – الرجل ذو الأسمال البالية الذي يحمل مرضاً عُضالاً في جسده بل ربما جرحاً واسعاً في ضميره . . جعله يتعذب بالكائن و الذي سيكون من الأقدار .
أتاه فجأة من إحدي السراديب صوت يصرخ :
-" لا تتقدم أنت و من معك !"
-" إلا أولادي !" أجاب الرجل يصوت باكٍ تتقطع له قلوب السامعين ( هذا لو كان بالفعل هناك أحد في هذه السراديب في المكان الديمومي المجهول في عالمنا هذا ) .
كرر الرجل و قد شعر فجأة بأمر غريب .. كان لكلماته كلها أيّاً كانت في الماضي صدي .. إلا أن جملته الأخيرة لم يكن لها ذات الشيء فكررها في عذاب
-" إلا ... أولاديييييي !"
جاءه الصدى من أعلي واعظاً :
-" و أولاد الناس ؟!!!"
      لم يدر جواباً ... سكت .. التهمه صمتّه الذي سيدوم و يدوم ، من جوفه شعر يغصة قادمة من أسفل جسده تحولت للمر ذاته في مكان ما من فمه ، ماذا كانت تلك الغصة يا ثريّ ؟! أهي الندم أم الشعور بالعجز أمام ما فات أم هي الخوف مما سيجيء أم ربما ذلك و أشياء أخر ؟!
       استمر في المشي عكس اتجاه كل سهام الزمن المتجهة دوماً و منذ سبعة ألاف عام إلي المستقبل ، يبدو مقلداً لكثيرين قبله بأزمان قديمة و حديثة كما تتضح الصور – رغم ظلمتها الشديدة – حوله في سردابه .
      كانت الصور تتضح من خلال ذلك الضوء القادم من السرداب الموجه / بل الأدق السرداب الوحيد و الذي ينيره ضوء شديد .. ضوء أبيض لامع شديد حتى كأنه الشمس ، و دود طيب ملائكي بزهزهات و رتوش و تموجات و قد اصطفت حوله كائنات نورانية دقيقة تسمي كائنات " البُردُ الثلجي " .
***
-" قف .. لا تتحرك قيد أنملة " قال الصوت للرجل الذي كان قد تحرك عدة خطوات ، تخشب في مكانه الرجل .. بدا رأسه كحمل ثقيل .. ثقيل .. فوق أحمال عجزه و شيخوخته ، بدا من خلفه ظل أنثوي و ظلان آخران لم يُعرف في الخطوات الأخيرة له في السرداب من الذي يتبع الآخر .. الرجل أم الظلال ؟!
      تعملقت الظلال و حولها ارتسمت هلاميات تحاول أن تتسلقها ، حاول الرجل و خلفه أتباعه السير رغم الصوت . تحركت قدمه المتخشبة عدة سنتيمترات نحو المجهول .
علا الصوت أكثر وأكثر ، بدا كصوت العشرات .. بل الملايين يهتفون به وبكل الصور والظلال وما حوله في السرداب :
- ارحل .
 وضع يديه الاثنين فوق أذنيه .. حاول ان يسدهما ويسكت هذا الصوت الذي كاد ان يمزق بل مزق بالفعل – كما خيل له – طلبتي أذنيه الهرمتين .
لكن الصوت سد كل مكان وبدا وكأنه قادم من مكان مبهم .. يسمونه
( التغير – التحرير – التمصير – التكبير – التبكير – التأثير – التدوير – التشفير – التذكير – " التقتير والتوفير " – التزوير .. التزوير .. التزوير .. )
لماذا هذه الكلمة بالذات ترن في اذنه من كل الكلمات التي يهتف بها شيطانه الأعظم – بل ربما ملاكه المشئوم - ؟
بدا الصوت قادما من أماكن متفرقة طوال رحلة الشيخ في السرداب الشديد السواد .
كانت أسماء الأماكن تبدو حول كرة أرضيه تذكرك بمقدمة نشرة الإخبار " تدور في دوائر طويلة وعرضية حول الكرة الأرضية وتحتوي علي أماكن مثل :
( السويس – الإسكندرية – القاهرة – المحلة – بورسعيد ................................)
وغيرها من المدن كم تبدو في النشرة ، بينما أتي شريط اخر يمثل عدد أخر من البلدان :
( درعا – حمص – حماة – بني غازي – مصراته – اللاذقية – حلب – سبأ – حضرموت ..........................)
وبرز فجاة اسم كبير في مخيلة الرجل علي نشرة الأخبار لمع كالبرق في عقله وفي السرداب المظلم ( تونس الخضراء ) ومعه صوت ابي القاسم الشابي :
اذا الشعب يوما اراد الحياة = فلابد ..........
بينما قطع تخيلاته تلك فجاه الصوت وهو يقول :
-" دم الشهيد .. دم الشهيد .. دم الشهيد .........." تكرر حتي وكأنه ينزف علي جدران السراديب ، سقط الرجل علي الأرض وهو يمسك اذنيه بيديه الاثنتين وانبثقت له فجاه أياد أخري تحاول حمايته من كل شئ .. كانت الايادي تحيط بقلبه ( والذي يعاني من مرض غامض ) وعقله ( حالته النفسيه غير مستقره ) وقدميه ( صور التقطت له وهو عاجز عن اللحاق باقرانه ) وصدره ( يقال بانه لا يفارقه الرداء الواقي من الرصاص حتي في غرفة نومه ) .. وحتي اخص خصوصياته .. وغير ذلك .
حاول الرجل ان يقوم .. عجز .. حالو ان يستمر في السير رغم الصوت بل الأصوات بل الملايين من الأصوات بل ربما أكثر ( أذاعت قناة معينة مشهورة تقع في البحر قولا بان حاكم المالديف يطالبه ويناشده بالرحيل .. كانت اللهجة ساخرة حيث كانت المناشدة السابقة بعد شريط طويل من المناشدات كان ابرزها تلك الجملة " نحن بشر .. والبشر الى زوال " )
تزايدت الأصوات .. ملأت كل شئ في الكون الواسع
( الكفن ليس له جيوب )
حاول الرجل ان يزحف رغم كل هذه الأصوات
ارحل .. ارحل .. ارحل ..................
لم يصدق قدميه فجاه حينما التهمته فجوة من العدم ، بينما انغـلقت حوله وكتب فوقها بختم وحيد في سردابه جمله اخذ يرددها الصوت في كل مكان في الوطن المتأزم :
((( الشعب .. يريد .. إسقاط .. النظام )))
((( الشعب .. يريد .. إسقاط .. النظام )))
كرر .. كرر .. كرر ..

الأربعين / السويس


كنا معاً في الميدان
( أقتحمه...أفتش عنه...أنفض غزلته وسباته,أبحث عن شيء معروف / مجهول , أنتظر حبببتى ..تزعق الأنحاء المختلفة بالنداء)
                                      *                 *                  *
بكل خلجات روحها كانت تحبه,لا تدرى لماذا؟لا تدرى كيف؟ لكن تحبه ...
رغم انه ليس كباقي الفتيان , في ملامحه تعب .. ربما من لحظة الخلاص .. ينوء بحمل ثلاثين عاماً من عمره .. ضاعت قبل أن يلقاها ..
رغم ذلك ..كانت تحبه
هو الذي جاء فتغيرت الدنيا وتغير العالم وتبدلت الأحوال العادية للناس , اختلف لون ومذاق الأشياء عن المألوف , فأعطى طعماً للحياة .
قابلته يوم الخامس والعشرين على ضفاف النيل , سارت معه في الميدان .. تتذكر دائماً وتخبره :-
( نحن كنا معاً في الميدان ) . قلت لي كلمات مسحورة .. منحتني مضغة طفل في عناقنا الدائم , طفل قد يكبر .. لولا الناس .
صرخت فيك في استغراب :- الناس .. الناس يعبثون بالكلمات .
(في الحكاية يروى انه في البدء كانت الكلمة .. ثم جاءت بالكلمات .. وتنوعت الكلمات بألوان كل شخص )
قال لها :-نحن نريد ..!!..
و نحن نريد ..!!
لكنها قالت له في شجن :- وأنا أيضا أريد ..!!
تلون كل شئ قبل .. لكنها تذكر من كل هذه المتناقضات إنها فقط تحبه . وتريده. وانه لا يقدر أن يوفيها مثل حبها .
الحب يختلف ..وحبيبته التي ترتدي  في الميدان ألوان البهجة,كانت تفضل أن يقول فقط انه سيظل لها. وان ينسى كلما سوى ذلك من كلمات.
أعطته طفلاً ..ولد.. وقد يكبر رغم عسر مخاضه كما تذكره ..
هي ليست متشائمة , لكن مر بها قبل ذلك كثير ممن يعشقونها , وتعلمت منهم ان الجب هو ذاته وليس أغنية حلوة الكلمات.
وهى الحبيبة التي تذكر فقط . أنهما كانا يسيران وأصابع كفيهما متشابكان .. وأحيانا تقف معه ..
لا تعبأ بالبرد لكن تغنى .. تغنى أغانيا لا تذكرها لكن هو يفعل .
كانا حبيبان في جعبتهما بذرة طفل ..
قد ولد .. وقد يكبر لو اخلص لها ...
طفل بلون الحياة ...
ياسر محمود محمد


ليست هناك تعليقات: