2015/01/27

" أبو غريب " قصة قصيرة بقلم: ياسر محمود محمد

" أبو غريب "
ياسر محمود محمد
" صوت بلادي .. بلادي .. بلادي ... بيدوي عبر الأجيال ... "
ترات تا ... تا .. را را
ترات تا ... تا .. را را
ترات تا ... تا .. را را
كان صوت الموسيقى العسكرية ينبعث من إذاعة صوت العرب " المصرية " في صباح يوم حزين من أيام أغسطس عام 1990 ، كنت أهندم ملابسي استعدادا للذهاب إلى دكان جدي في شارع صدقي في حي الأربعين ، دكان جدي الذي كان يخبرني دائما أننا على خط حرب ، و أننا قد نهجر في أي وقت .
تذكرت كلماته هذه و أنا أسمع  صوت الموسيقى التي تعتبر إيذانا بحدث مهم .
حدث في الوطن ... بامتداده .
انقبض قلبي ، ارتعشتُ بين يدي أمي ، و أنا المراهق الصغير ذو الثلاثة عشر عاما الذي وُلد في أعقاب زيارة الرئيس السادات لإسرائيل .
توقفت الموسيقى .. جاء صوت المذيع يعلن أن الإذاعة الكويتية قد أعلنت " أن قواتا من الجيش العراقي عبرت الحدود ما بين الدولتين العربيتين .. و أنها تستنكر هذا الحدث ... و تدعو القوات العراقية للإنسحاب من الكويت فورا .. و أن الأسرة المالكة .. في مكان آمن و بخير ... "
اندهشت ... " هل تأتي الضربة من خلٍّ لك ؟ " كنتُ أدرسُ في كتاب اللغة العربية نصوصا عن العروبة .. و في كتاب التاريخ أقرأ عن ماض مشترك و حاضر يجمعنا .. و مستقبل ينتظرنا ، و كان اهتمامي بالإذاعة و التلفزيون خاصة الأخبار و التحليلات السياسية يجعلني أجزم أن الضربة لا تأتي من خلٍّ ؛ فالعدو يرقد هناك ... يبدو واضحا كالنجمة التي غزت أعلام العالم فجأة ... و بالتأكيد الكل يعرفه .

***
تطورت الأحداث كما يعرفها كل أفراد جيلي بعد ذلك بشدة .. و غزت كلمات جديدة غير التي تعودتها (( أمجاد يا عرب أمجاد )) ، (( و طني حبيبي الوطن الأكبر )) إلخ .. ، إلى (( متغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا )) .
كانت الكلمات هذه المرة تقول :
بيتي و بيقول : بيته ...  اللي جـاه يعتدي
و مسجـد لله بـنـيـته ...  بيقول دا مسجدي
تحكي عن قصة كويتي مع عراقي و قد كتبها " الأبنودي " الذي قدم من أبنود في صعيد مصر ، و يغنيها عبد الله الرويشد ... بينما دموع الجمهور من كل الجنسيات التي تنطق الضاد في المسرح في تلك الليلة التي كانت أساسا لمناسبة الليلة المحمدية ... ذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه و سلم الذي جاء متحديا ببلاغته كل من نطق العربية في كل زمان .
***
لم يكن ذهابي للعراق .. في عام 2004 البداية لعدد لا نهائي من الأحداث ، كانت البداية في عام 1978 عندما اعتلى صدّام حسين سُدَّة الحكم في العراق ..
كانت البداية في أغسطس 1990...
كانت البداية في 9 إبريل عام 2003 يوم سقوط بغداد .. و تحطيم تمثال صدام حسين " المشهد الذي ما زال يرسخ في كل أذهان من شاهده " ...
كانت البداية و النهاية هي دائما هنا في أرض العراق ، حيث يمتد نهران متعانقان و وادٍ خصب ، كان ذهابي مراسلا حربيا قد يقتل في أي لحظة على يد أيٍّ من الطوائف المتناحرة حتى ربما من أحفاد مؤيدي " أبي نوّاس " الأمريكي الذي بُعث من جديد .
***
لم أكن دائما مع سني أو شيعي .. أو حتى كردي .. لم أكن إلا محايدا ، كل ما أرجوه هو العراق كما كان قبل أغسطس 1990 ليس أكثر و لا أقل ..
العراق و فقط العراق (( أنا أهوى فقط السياب )) .
" يا ابن عمي .. يا ابن عمي ... يا اللي دمك هو دمي .. " كانت أغنية لمحمد قنديل (الذي غنّى أيضا بجانب أغنيته هذه في مناسبة تحرير الكويت غنى أغنية من كلمات شاعر سويسيّ هي يا ريس البحرية المصري ).
ما الفرق يا تُرى بين الأغنيتين ؟!
و الغنوة يتمحي حدود ...  و وطنها هي القلب .....
جايز ظلام الليل    ...   يبعدنا يوم إنما .....
و يكمل الوطن العربي الأغنية أحد من اشترك في تلحينها " حميد الشاعري "      - الليبي الذي يعيش بمصري - التي كانت مارش الحداد العسكري لكونشيرتو القومية العربية .
لم أكن أبدا إلا عربيا .. لكنني عشقت بلادي من المحيط إلى الخليج .. ربما هذا وحده حدث قريب جعلني فجأة في سجن " أبو غريب " .
***
(( الحلم الجميل ليس كالحلم الأمريكي ))
كان كل هم المجندة الأمريكية ألا نصرخ ، الإنفجارات في بغداد كانت أعلى صوتا منا ، الكل يقتل الكل ( هل هذا مشابهٌ للبنان في فترة الحرب الأهلية ؟! ) .. صوت كمان حزين صوت بوق قوي فجاة .
عندما يرفع الكيس الأسود عن وجهي .. ثم يوضع من جديد .. و أرقد رغما  عني تحت صنبور من المياه .. لا أشعر بعدها بكميات من المياه شديدة البرودة تغمر الكيس الأسود و وجهي   و يالله من اختبار التعذيب لمحاكة الشعور بالغرق .. و إنك يا إلهي رحيم ، لكن شيطان الإنسان يوسوي بكل الشرور .
الهولوكست .. ما الهولوكست بجانب ما نحن فيه ؟ .. الصليب مصلوب بين يدي جلاد منتش بلذة النصر على عصفور ضعيف ..
الهلال يشكو إعوجاجه إلى عالم لا يحس إلا بالشفقة .. و بحذر !
الدم ينسال أنهارا أطول من المسيسبي ذاته ..
***
المجندة الأمريكية .. تنظر إلى عُريي بشبق ..
( عربيٌّ أنا ..
ويلٌ إذا أحببتني )
كانت أغنية ليوري مرقدي .. على ما أعتقد يدعو الشقراء لتحبه .. لكن الشقراء " خاصة من المارينز " لا ترحم ..
الشقراء تبعد كلاب الخوف عن جسدي .. الرعب يسيطر عليّ .. الكلاب تنبح .. تمسك بحزام مقودها .. تبعدها .. تقربها ..
ويلٌ لي .. المظاهرة في الأفق .. في مصر.. فوق كباري القاهرة .. ما دخلها بما يحدث هنا ؟! هل يدري أفراد الجامعة مشتركون مع أبطال قصيدة الكعكة الحجرية ما يحدث لنا ؟!
الكلاب المسعورة .. الكلاب تنهش وطني .. تبعد الكلاب و تركلني فوق كومة آدمية عارية إلا من الحزن و تلتقط لها المجندة الأخرى و هي تبتسم فوق أنات المساجين في كومة اللحم !
ثم تهتف بها .. و بإنجليزية تختلف عن لهجتها الأمريكية .. إنها بلهجة الحليف البريطاني تهتف بها كما يترجم المترجم  العراقي :
(( سأسجل هذا على ظهر الصورة
                             " حَدَثَ هَذَا فِي أبُو غَرِيْبٍ "  ))


الأربعين / السويس

ليست هناك تعليقات: