2015/01/26

رســــــالة قصة بقلم: هدير زهدي

وصلت رساله المؤتمررســــــالة
بقلم: هدير زهدي

"فليعد كل منا إلى دنياه يا رفيقي .. فلا تلك السبيل طريقك ولا طريقي .. فقد ضرب الشيب رأسك، ومازلت أنا على رأس الزهرات برعما .. تصابيت بالحب، فاستأصل من عمرك عمرا، وحولت المرآة بياض شعرك سوادا ! أما أنا فاشتقت لاجتياز أسوار الحب باكرا .. اشتقت لعينين عاشقتين ولمسة حانية، لقلب حنون يحميني بين جنباته من لسعات الشتاء الباردة. ولكن سبلنا المتضادة جمعتنا في مفترق الحاجة الى الحب! فنسيت شيبك، ووجدت أنا من السراب مأملي حين التقينا! زرعنا في اللاشيء بذورا أنبتت ثمارا وهمية .. استأثرنا بها، وآلفناها، وزيناها .. وصدقناها! فلا جرم أنها يمكن أن تتهشم في لحظة، ويختفي ضبابها الزائف إلى الأبد .. أبصر الآن أول نظراتك، أسمع كلمات الغزل الأولى، أشعر بأول لمسة تداعب أصابعي .. وكأنهم الآن هشيما تذروه الرياح! تلك الرياح أفاقتني .. عصفت بي من سحب الأحلام إلى أسفل الواقع .. أطاحت بالغبار الأسود الذي يحجب شعرك الأبيض، فلاح لي مجددا كما كنت قبل البداية! رسمت لي تجاعيد وجهك بوضوح .. تخبرني بأن الزمن قد لعب معك لعبة طويلة تكثر فيها الأبطال .. والبطلات! صديقي .. ظننت أننا يمكننا أن ننجو من تلك الحفرة العميقة .. وقد تبين لي أنه لا نجاة سوى بالحذر منذ البداية! ولكني وأنت قد ضربنا به عرض الحائط .. واسترسلت خطواتنا إلى الحافة حتى وقعنا ، بل وصلنا لأعمق الدرجات ! أحتاج لبرعم مثلي يمد لي يده ، كما تحتاج شجرة عتيقة تأخذك بين أغصانها إلى حيث ترغب .. وأرغب ! يا رفيقي .. لم يدرك الكذب أبدا إلى لساني سبيلا ، كما لم يخدعك كل ما تدفق مني اليك .. ولكن آمالنا العريضة تتسع بينها المسافات والأعمار! وتأبى دائما أن تلتقي كما في نقطة "الحاجة" التقينا ! لم أجد من كتابة تلك الرسالة إليك بدا . بعد ألم القطيعة .. وقد فعلتها بنفسي، ورضيتها .. ولم أحتملها! خاصة حين يصور لي ضميري آلامك وشوقك الملتهب. في تلك اللحظة التي تقرأ فيها خطابي، أكون قد مضيت بعد النظرة الأخيرة .. ولتعدني أن تكون حقا الأخيرة .. وتفكر فيما أفضيت به إليك في رسالتي" طويت الرسالة .. أجرعتها عطري المفضل .. ومضت قدماي تأكل من الأرض خطوات مضطربة .. تكاد تتراجع مرة أخرى .. وقد وضعت الرسالة في جيب معطفي، أتحسسها بيميني، فربما تصل إليه لمسات أناملي حين يطالعها .. وتشرع الأصابع للحظات في تمزيقها ونسيان كل ما فيها من بوح، حتى أرتمي بين ذراعيه ثانية وأتنهد في أذنه : "ها قد عدت إليك" أراه في مخيلتي، ينتظرني بضربات قلبه المتلاحقة .. يعد لي الأزاهير ويتعطر بأرق العطور .. لم يذهب يمينا أو يسارا في سبيل انتظار تلك اللحظة التي يراني فيها صوب عينيه مجددا. أشعر بشيء من الغثيان .. غصات كثيرة في حلقي تلاحق أنفاسي المضطربة، تتسابق مع صدري في الصعود والهبوط ... ها قد وصلت إلى الباب .. سكنت لدقائق أحاول الصمود، ثم أقرعت الباب .. كم أتوق لذاك الباب أن ينفتح، وأستقي من نظراته بحورا دافئة تذيب أطرافي الباردة .. ازداد توترا وحنقا ثانية بعد الأخرى .. تكاد تصرخ نبضاتي : "هيا افتح الباب .. اشتقت إليك" وبعد صراع عدة ثواني .. انفتح الباب برفق، على غير طريقته المعهودة في جذب الباب بعنف! ينفتح الباب أكثر ليكشف ما خلفه من أسرار .. لم يكن ذاك الوجه الذي انتظرته! بتجاعيده وبياض شعره! ولكنه وجها ناعما ذو شعر مسترسل ! وجه امرأة ! يبدو أنها تكبرني بأعوام كثيرة.. متزينه، متعطرة، ترتدي ثوبا أنيقا .. وقفت لبرهة متسعة العينين أتأملها، كما تأملتني .. تتسائل عينا كلينا عن هوية الأخرى وسبب تواجدها! أما أنا فلا أستطيع السؤال، فبادرت هي : "من أنتِ ؟!" تلعثم لساني، يرجوها ضميري ألا يصح ما يرمى إليه الخيال! ثم أجبت بسؤال خافت : "أليس ذلك منزل السيد عبد الرحمن؟" فأجابت في تحد : "نعم، أنا زوجته، ماذا تريدين؟!" ورغم ما جئت من أجله، وما فاض به قلمي في الرسالة .. شعرت وكأنما قد توقف قلبي عن النبض! لا عجب أن يكون الانسان عمليا في دنيا الآلات، ويرمي كل أهوائه في أكبر سلات القمامة حين لا يجد بها نفعا! لقد استخدم في ذاك الموقف كبر عقله وعمره، كما لم يستخدمهما قط منذ رآني! ابتسمت لتلك التي لا إثم عليها برفق .. وأتاني صوته الخشن، يتمدد في الهواء ليدغدغ مسامعي : "ماذا هناك يا سمية؟" أبيت أن أعكر صفو الزوجين في مستهل حياتهما .. وانطلقت راكضة في طريق العودة .. أشد على الرسالة بيميني، وأطبق على معطفي عن شمالي .. أختبئ من عيون المارين، وكأنما يعلمون ما حل بي، وما قذفتني إليه الأقدار ! ألتهم الشارع بساقيََ لاهثة أسابق أنفاسي للحاق بربيع صباي .. أضرب الأرض بقدماي وكأنما أدهس ما تبق من وهم المشاعر! وأخلفه وراء ظهري فيما لا يتعدى محيط الذكريات العقيمة! وهاهي السماء تشاركني، وترسل الأمطار لتطهير ما لا يجدي في مجرى حياتي .. وتتسارع وقع الأقدام مع شدة المطر .. وها قد غرقت خصلات شعري، ولمع الندى في وجهي، وابتل المعطف، وأيضا .. الرســـالة! وقفت مليا أتأمل الرسالة المبللة .. ثم فتحتها وقد ذاب الحبر بين السطور، وكأنما تدعوني السماء لتمزيقها. فرفعت رأسي عاليا، حيث تعانق ملامحي صفاء قطرات المطر وكأنما تقبلني، وتهمس لي بآخر نداها أن افعليها الآن .. ثم ودعتني ! فخضعت لآمالها عن طيب نفس قائلة : "يبدو أن تلك الرسالة كانت لي .. وقد فهمتها جيدا" ثم مزقت الرسالــة الباليــة !
يمكن الاستماع للقصة بصوت الكاتبة من هنا :