عندما تُلوح "سلمى" بيدها الصغيرة:
إلى اللقاء!
حسام
المقدم
لا
أدري كيف جاءت هذه العادة إلى ابنتي سلمى، هي التي دخلت إلى سَنَتها الثانية منذ
شهر تماما. كانت قد فارقت سَنَتها الأولى بمكتسبات عظيمة، كأن تُجاهد في أن ترفع
نفسها وتمشي بمحاذاة الفراش العالي وتدور معه، فتقع وتُعاود مرة أخرى، إلى أن
تمكنت من الخطو المُتعثر ببضع نقلات متباطئة. هذا إلى جانب أربعة أسنان مجلُوّة في
الأسفل ومثلها في الأعلى، وحصيلة لا بأس بها من تكسير الأطباق والأكواب وغمس اليد
في الطعام لينتهي بها الأمر شبيهة بمُهرّج مُلطخ الوجه. رأيت كل ذلك، وتعاطفت بشكل
حميمي مع أمير شعرائنا "شوقي" في مناجاته الآسرة لابنته
"أمينة" حين استقبلتْ –مثل سلمى- عامها الثاني:
"أتدرينَ
ما مرَّ من حادثٍ
وما
كان في السَّنةِ الماضية؟
وكم
بُلتِ في حُلَلٍ من حريرٍ
وكم
قد كسرتِ من الآنية؟
وكم
سهِرتْ في رضاكِ الجفونُ
وأنتِ
على غضبٍ غافية؟"
ومع أن سلمى لم تَبُل في الحرير؛ إلا
أنها –مثل ابنة أمير الشعراء- لا تدري شيئا من أمر سنتها الفائتة. لا تدري تلك
الفزعات المتقطعة التي تُحدثها في ليال طويلة، طالبة للرضاعة أو كمادات الحُمّى من
أُم ستصحو مبكرا كباقي الخلق لتباشر بيتها وتذهب لوظيفتها. لا تدري ما فعلته فينا
بمتتاليات الصراخ المتواصل، حين نرى وجهها في لون الباذنجانة، ونحتار في التشخيص:
مغص؟ عفريت أزرق؟! ربما أيضا لا تدري عادتها الجديدة التي تستقبل بها عامها
الثاني..
تراني تمددتُ على الفراش وقت الظهيرة، فتحملها
أمها للخروج، فيما تُصر هي على سحب مقبض الباب بيد، والتلويح بالأخرى الصغيرة
الغضة: مع السلامة، باي باي! تأتي حركات اليد المتمايلة ببطء كأنها تُمسد الهواء.
أجاوبها بيدي لأُثبت أنني على اتصال مع ذلك العالم الصغير المخبوء لا يزال. أفكر
كيف تعلمت هذه الرضيعة تلك الإشارة؟ ولمَ تستعجل بدايات الوداع بهذه الصورة؟
ربما يكون الإنسان، منذ مهده، مفطورا على تقبل
فكرة الوداع، بدءا من الخروج الكبير الأول من عالمه المظلم الساكن إلى عالم مضيء
بالبكاء والألم، مرورا بخروج أفقي إلى القرى والمدن والشوارع ووجوه الناس بحثا عن
شيء ما يُكمل به جوهره الإنساني. في النهاية هناك الخروج الرأسي إلى الظلام
والتراب والعودة إلى الأصل. هكذا تتعدد أشكال الخروج الذي يرادف، بشكل ما، إشارة
وداع متواصلة متجددة، لتكتمل الرحلة في دائرة من رحم لرحم. ولعل هذا ما عبّر عنه
مولانا "جلال الدين الرومي" بقوله: "إلى السوق كلنا جئنا من أرحام
أمهاتنا، لنشتري غطاء ثم نعود لقبورنا".
تُلوح سلمى دائما تلويحات رقيقة تجعلني أذهب
إلى عالم بعيد عن عالمها. أفكر في أنني كم أمقت إشارات الفراق والوداع والنهايات،
وأن "إلى اللقاء واصبحوا بخير"، بتعبير شاعرنا "أحمد عبدالمعطي
حجازي"، هي كلمات أليمة تسرق الإنسان من الإنسان. رأيت أنه من المبكر جدا أن
تأتي سلمى بإشارات الفراق وتمني اللقاء، التي نفعلها عادة على أبواب البيوت وفي
المطارات والموانئ ونهايات قصص الحب. عقدتُ النيَّة أن أُدربها من الآن على أشياء
أخرى: افتحي ذراعيك، وابتسمي نحوي وهرولي في تعثر، حين ترينني قادما.. عُضي
الأشياء الحُلوة.. شدي شعورنا.. افعلي كل ذلك، حتى إذا ما جاءت الأيام بإشارات
الوداع الجبرية؛ فلا بأس حينها أن تفعلي.
هناك تعليق واحد:
اذا حل الوداع يوما
و اصبح ضرورة
فلا تضيعى عمرك
فى طقوس استقبالهم
اذا ما عادو يوما
فالراحلون لا يعودون ابدا
لوحى لهم بوداع ابدى
واحترمى استمرار الحياة
من حولك و عيشيها
فلن يقتلنا الفراق يوما
فإن قابض الارواح..... ليس فراقهم
إرسال تعليق