بقلم: عبد القادر كعبان*
إعادة التاريخ إلى أذهان الجيل الجديد يعتبر في حد ذاته رسالة فنية هادفة، فإذا كانت دلالة التأريخ عن طريق السرد الروائي تجعلنا نتعرف على أحداث الشعوب والأمم الماضية من خلال عمل فني يجذب المتلقي بكلماته السحرية كما هو الحال في رواية المبدع العراقي كمال السيد "ألم ذلك الحسين"، فما هي الطريقة المثلى التي يجب أن يتعامل بها الروائي مع التأريخ فنيا؟
في العموم لا يستطيع أن يصبح الروائي مؤرخا لأن طريقته تختلف كثيرا عن الباحث المؤرخ في سرد الأحداث، وهذا ما نلاحظه في بعض المقتطفات من رواية "ألم ذلك الحسين" حيث أن كمال السيد قدم حدثا تاريخيا في قالب قصصي، أي أنه اتخذ التاريخ موضوعا للسرد.
حتى أن الرواية بعينها مهما رجعت إلى الماضي فإن وجهتها الحقيقية هي المستقبل وليس الماضي، بينما التاريخ يجسد الواقع ويتجه نحو الماضي.
يبدأ السارد حكايته برؤيا سيدنا الحسين عليه السلام التي تفزعه من منامه حتى يدفعه ذلك للقيام من فراشه لأجل الصلاة، ثم بعد ذلك يحمل جرابا مليئا بالطعام ويخرج ليجوب أزقة المدينة في الظلام: (أحكم لثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سر من أسراره. وضع قدرا من السمن، وشيئا من الدقيق، وأسقط – من كوة صغيرة- صره نقود، ثم طرق الباب، وحث الخطى –قبل أن تنفتح- داخل زقاق غارق في الظلام..)1.
عادت صور جده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذاكرته بعد ما شاهده في المنام، حتى وجد نفسه يحتضن تربته الطاهرة، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: (يملأ صدره بشذى السماء. شعر بأنه يقبل وجه جده.. يمسد شعره المتموج تموج الصحارى، ويداعب سوالفه المتلألئة. وشعر أنه يعانق آدم وابراهيم، ويحتضن الكون كله.)2.
ما نلاحظه أن الكاتب لا يسرد لنا حدثا جافا كما نقرأه في كتب التاريخ بل ينفخ فيه الروح باستحضار شخصيات وأحداث تلازم بطل الرواية، كما هو شأن شخصية مسلم بن عقيل الذي كان رسول سيدنا الحسين عليه السلام إلى الكوفة فوجد نفسه ضائعا فيها بعدما انقطعت به السبل، ليلتجأ في نهاية المطاف إلى بيت العجوز طوعة غير أن الذئاب البشرية اقتحمت بيتها بحثا عنه: (وعجزت السيوف أن تكسر سيفه.. والرجل ما يزال يقاتل.. يقاتل بضراوة اسطورية.. الجراح النازفة.. الظمأ.. الاعياء.. غامت المرئيات أمام عينيه.. وتوالت الطعنات.. طعنات الغدر.)3.
تكمن ايجابية هذا النص الروائي لكمال السيد في مشروع سيدنا الحسين عليه السلام كرمز لإرساء العدل والسلام في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتصحيح الوجهة إلى دين الإسلام والجهاد والكرامة والشرف: (واني لم أخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي، وأبي علي بن أبي طالب. فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين...)4.
يواصل سيدنا الحسين عليه السلام شد ترحاله إلى الكعبة المشرفة وهو يعلم أنهم يريدون قتله وكأنه يرى بقدرة القادر سبحانه ما وراء الآفاق، كما جاء ذلك على لسان السارد:
(- انهم لن يدعوني اعيش بسلام.. انهم يريدون الفتك بي، حتى لو تعلقت بأستار الكعبة.. انهم يطلبون مني شيئا عظيما.. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال؟ هيهات.. هيهات.)5.
يعرض أسلوب كمال السيد المعلومة التاريخية بطريقة مختلفة عن المؤرخ وذلك من خلال تصرفات وسلوكيات وحوار شخصياته مما يجعلها طريقة انسيابية لشد انتباه القارئ، كما هو حال محاصرة جيوش الأرقط لقافلة الحسين عليه السلام وكلها لهفة لتضييق الخناق عليه والفتك به: (كخنزير راح الشمر يجري صوب أحلامه المريضة.. تفوح منه رائحة الموت، وآلاف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة.. ومن عطفيه تنبعث حرائق ودخان، وروائح أجساد محترقة.)6.
جاء سرد الأحداث في رواية "ألم ذلك الحسين" على لسان شخصيات عديدة بطريقة غير مباشرة رغم أن السارد واحد، وذلك باستعانة كمال السيد بتكنيك المشاهد السينمائية للتنسيق بين التاريخ والتخييل، من خلال تجزئة الأحداث وتقديمها وترتيبها في مشاهد، كمشهد دخول الحسين عليه السلام على أخته زينب التي كانت تخشى عليه من نهاية وشيكة شهدتها من قبل في مصرع أبيها واغتيال أخيها: (نسيم هادئ حرك طرف الخيمة.. ربما مسح عليها مواسيا قبل هبوب العاصفة.)7.
ما نلاحظه إجمالا هو غوص الراوي العليم في أعماق شخصيات هذه الرواية لينقل لنا ببراعة نواياهم الدفينة تجاه شخصية سيدنا الحسين عليه السلام وما يجول في تفكيرهم، ليخلق جوا من التشويق لدى القارئ، ويمسرح المشاهد ليضفي عليها طابعا فنيا تاريخيا قبل أن نشهد النهاية الأليمة التي اقترفتها القبائل في قتل ولد فاطمة الزهراء عليها السلام.
في الختام، يمكن أن نقول أن العراقي كمال السيد انتقل في روايته "ألم ذلك الحسين" من مستوى الوثيقة التاريخية إلى مستوى النص –السرد الروائي- من خلال خلق تصورات جمالية ساعدت المتلقي على الاقتراب من ذلك الزمان والمكان، بل ساهمت مخيلته كذلك في ولوجه بعيدا وراء تلك الأحداث الاجتماعية والسياسية وغيرها.
هوامش:
1.كمال السيد، ألم ذلك الحسين ، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر، 2009، ط5، ص:10.
2. المصدر نفسه ص-ص11-12.
3. المصدر نفسه ص26.
4. المصدر نفسه ص21.
5. المصدر نفسه ص 20 .
6. المصدر نفسه ص43.
7. المصدر نفسه ص49.
*كاتب وناقد جزائري
إعادة التاريخ إلى أذهان الجيل الجديد يعتبر في حد ذاته رسالة فنية هادفة، فإذا كانت دلالة التأريخ عن طريق السرد الروائي تجعلنا نتعرف على أحداث الشعوب والأمم الماضية من خلال عمل فني يجذب المتلقي بكلماته السحرية كما هو الحال في رواية المبدع العراقي كمال السيد "ألم ذلك الحسين"، فما هي الطريقة المثلى التي يجب أن يتعامل بها الروائي مع التأريخ فنيا؟
في العموم لا يستطيع أن يصبح الروائي مؤرخا لأن طريقته تختلف كثيرا عن الباحث المؤرخ في سرد الأحداث، وهذا ما نلاحظه في بعض المقتطفات من رواية "ألم ذلك الحسين" حيث أن كمال السيد قدم حدثا تاريخيا في قالب قصصي، أي أنه اتخذ التاريخ موضوعا للسرد.
حتى أن الرواية بعينها مهما رجعت إلى الماضي فإن وجهتها الحقيقية هي المستقبل وليس الماضي، بينما التاريخ يجسد الواقع ويتجه نحو الماضي.
يبدأ السارد حكايته برؤيا سيدنا الحسين عليه السلام التي تفزعه من منامه حتى يدفعه ذلك للقيام من فراشه لأجل الصلاة، ثم بعد ذلك يحمل جرابا مليئا بالطعام ويخرج ليجوب أزقة المدينة في الظلام: (أحكم لثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سر من أسراره. وضع قدرا من السمن، وشيئا من الدقيق، وأسقط – من كوة صغيرة- صره نقود، ثم طرق الباب، وحث الخطى –قبل أن تنفتح- داخل زقاق غارق في الظلام..)1.
عادت صور جده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذاكرته بعد ما شاهده في المنام، حتى وجد نفسه يحتضن تربته الطاهرة، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: (يملأ صدره بشذى السماء. شعر بأنه يقبل وجه جده.. يمسد شعره المتموج تموج الصحارى، ويداعب سوالفه المتلألئة. وشعر أنه يعانق آدم وابراهيم، ويحتضن الكون كله.)2.
ما نلاحظه أن الكاتب لا يسرد لنا حدثا جافا كما نقرأه في كتب التاريخ بل ينفخ فيه الروح باستحضار شخصيات وأحداث تلازم بطل الرواية، كما هو شأن شخصية مسلم بن عقيل الذي كان رسول سيدنا الحسين عليه السلام إلى الكوفة فوجد نفسه ضائعا فيها بعدما انقطعت به السبل، ليلتجأ في نهاية المطاف إلى بيت العجوز طوعة غير أن الذئاب البشرية اقتحمت بيتها بحثا عنه: (وعجزت السيوف أن تكسر سيفه.. والرجل ما يزال يقاتل.. يقاتل بضراوة اسطورية.. الجراح النازفة.. الظمأ.. الاعياء.. غامت المرئيات أمام عينيه.. وتوالت الطعنات.. طعنات الغدر.)3.
تكمن ايجابية هذا النص الروائي لكمال السيد في مشروع سيدنا الحسين عليه السلام كرمز لإرساء العدل والسلام في أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتصحيح الوجهة إلى دين الإسلام والجهاد والكرامة والشرف: (واني لم أخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي، وأبي علي بن أبي طالب. فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين...)4.
يواصل سيدنا الحسين عليه السلام شد ترحاله إلى الكعبة المشرفة وهو يعلم أنهم يريدون قتله وكأنه يرى بقدرة القادر سبحانه ما وراء الآفاق، كما جاء ذلك على لسان السارد:
(- انهم لن يدعوني اعيش بسلام.. انهم يريدون الفتك بي، حتى لو تعلقت بأستار الكعبة.. انهم يطلبون مني شيئا عظيما.. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال؟ هيهات.. هيهات.)5.
يعرض أسلوب كمال السيد المعلومة التاريخية بطريقة مختلفة عن المؤرخ وذلك من خلال تصرفات وسلوكيات وحوار شخصياته مما يجعلها طريقة انسيابية لشد انتباه القارئ، كما هو حال محاصرة جيوش الأرقط لقافلة الحسين عليه السلام وكلها لهفة لتضييق الخناق عليه والفتك به: (كخنزير راح الشمر يجري صوب أحلامه المريضة.. تفوح منه رائحة الموت، وآلاف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة.. ومن عطفيه تنبعث حرائق ودخان، وروائح أجساد محترقة.)6.
جاء سرد الأحداث في رواية "ألم ذلك الحسين" على لسان شخصيات عديدة بطريقة غير مباشرة رغم أن السارد واحد، وذلك باستعانة كمال السيد بتكنيك المشاهد السينمائية للتنسيق بين التاريخ والتخييل، من خلال تجزئة الأحداث وتقديمها وترتيبها في مشاهد، كمشهد دخول الحسين عليه السلام على أخته زينب التي كانت تخشى عليه من نهاية وشيكة شهدتها من قبل في مصرع أبيها واغتيال أخيها: (نسيم هادئ حرك طرف الخيمة.. ربما مسح عليها مواسيا قبل هبوب العاصفة.)7.
ما نلاحظه إجمالا هو غوص الراوي العليم في أعماق شخصيات هذه الرواية لينقل لنا ببراعة نواياهم الدفينة تجاه شخصية سيدنا الحسين عليه السلام وما يجول في تفكيرهم، ليخلق جوا من التشويق لدى القارئ، ويمسرح المشاهد ليضفي عليها طابعا فنيا تاريخيا قبل أن نشهد النهاية الأليمة التي اقترفتها القبائل في قتل ولد فاطمة الزهراء عليها السلام.
في الختام، يمكن أن نقول أن العراقي كمال السيد انتقل في روايته "ألم ذلك الحسين" من مستوى الوثيقة التاريخية إلى مستوى النص –السرد الروائي- من خلال خلق تصورات جمالية ساعدت المتلقي على الاقتراب من ذلك الزمان والمكان، بل ساهمت مخيلته كذلك في ولوجه بعيدا وراء تلك الأحداث الاجتماعية والسياسية وغيرها.
هوامش:
1.كمال السيد، ألم ذلك الحسين ، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر، 2009، ط5، ص:10.
2. المصدر نفسه ص-ص11-12.
3. المصدر نفسه ص26.
4. المصدر نفسه ص21.
5. المصدر نفسه ص 20 .
6. المصدر نفسه ص43.
7. المصدر نفسه ص49.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق