الخروج من سجن الذات دراسة عن: (كعب داير) لعمرو الرديني
بقلم: أيمن رجب طاهر
تقديم:
قد يستغرب البعض هذا العنوان، ولا يعرف معناه..
لكنه تعريف لغوي (كلبوشي) لذلك السجين مجهول الهوية الذي يُعاقب بالتجوال المستمر على أقسام الشرطة، حتى يمكن التعرف على شخصيته..
وقد صرّح الكاتب عن مكنون عنوان المجموعة في الإهداء الذي استهل به مجموعته القصصية: «إلى كل قدم يغلفها غبار الشقاء.. في كل محافظات مصر»
وقد اخترت عنوان تلك الرؤى المتواضعة حول المجموعة ألا وهو (الخروج من سجن الذات) تلك الذات المهمومة بما يدور في نفسها وما يدور من حولها, تلك الذات المقهورة من الأنا الرافضة لحالها, والمنبوذة من الآخرين المحيطين لها بأسوار من الزيف, تلك الذات التي تريد أن تصنع عالمها الخاص وتتحرر من سيطرة الآخرين..
ففي قصة (لعنة)
من عنوان القصة يصب البطل جام غضبه على الآخرين الذين انزرق بينهم صانعا لنفسه مكانًا وسطهم بين كهل وطفل وكأنه اختار المكان الأوسط بين عمرين متضادين، ثم لعن الحاضرين جميعا في نفسه: «اللعنة على تلك النظرات البلهاء» تلك النظرات المحشورة في حجرة انتظار داخل بيت قديم اتخذه الطبيب عيادة له, فالحجرة التي تضم صنوف من البشر صنفهم بطل القصة بالسباع آكلة اللحوم والغزلان والبهائم الجميع محشور في الحجرة ويحدد الزمن بمنتصف أغسطس, ذلك الوقت شديد الحرارة من السنة؛ كان يجب أن يكون مع أسرته بالعجمي لكنه لا يظفر ولو بالقليل من الماء البارد وسط رفاق غرفة الانتظار..
تزكم أنفه رائحة عفونة قدم لا يدري مصدرها رغم أنه ظن بادئ الأمر أنها من قدم عجوز لكن الرائحة بقيت بعد أن نهض العجوز من موضعه مما جعله يتيقن أن مصدر الرائحة شخص آخر, بكلتا يديه قبض على حبال الصبر حتى حل دوره في الولوج لغرفة الطبيب، ويجد نفسه الأخير كما اعتاد في مراحل حياته التي تواترت مواقفها في ذاكرته, أما من جاء بعده فقد تملكهم اليأس وأجلوا موعد الكشف تاركين له لعنة الرائحة العفنة, بمجرد خلع حذائه في غرفة الكشف يغشى على الطبيب ويهرب سكرتيره ويدرك أخيرا أن تلك الرائحة هي لعنته هو!.
في قصة (بنت حلال)
يتجلى دوران الحياة المعتاد من تقديم طلب الوظيفة لاستغراب الآخرين لاسم البطلة "حلال" وسأمها من توضيح الاسم باستمرار, ومعاكسة الآخرين لها, تلك المعاكسة التي نسيت طقوسها وبحرفية بالغة يتقن الكاتب استعراض الكوميديا السوداء من خلال عرض أسئلة الفتاة "حلال" على الشاب وفراره منها ونبذه إياها عندما سألته عن أشياء تعتبرها من جدية الحياة وأخيرًا سألته عن وظيفة من أجلها، وتختلط دموعها بالضحك من رد فعل الشاب وكأنه في قرارة نفسه يقول لها: لو أن لي وظيفة لما تسكعتُ في الشوارع ومارستُ مغازلتك, ثم تركن حلال إلى قضبان حديد لسور حديقة وقد أغمضت لها الدنيا بعد أن تعبتْ من الدوران للحصول على شبرٍ لها تكون فيه ذات قيمة ولكن بعد العسر يأتي اليسر، ويأتيها صوت غريب يخبرها أنها قبلت في الوظيفة وكأن لسان حال الكاتب يقول أنها ستتخطى الآن سور الحديقة الحديدي؛ لتلج الحديقة نفسها بكل ما فيها من مباهج الحياة.
قصة (بَدِي)
في حوار مفعم بالصراع يكون البدي هو البطل الصامت المحتار بين المتحاورين, حوار بين رغبة وفقر وإحساس بالظلم يبين المحاولات اليائسة للخروج من قبضة (الذات) المسكونة بشتى أنواع الحرمان.
قصة (معلم قبل الظهر)
من بين طقوس الفعل الحياتي اليومي من فتح الورشة وكنسها ورش الماء تبزغ من تكسر صمت المعتاد وتخرج ذاته المشتاقة من روتين اليوم ولكن كما يقول المثل «تروح فين الشمس من قفا الفلاح» يعود لروتينيته، ويتناسى صاحبة الصباح الجميل في آخر الشارع.
قصة (ابن كلب)
إنها الحياة الأسرية المتفجرة بالشجار الدائم التي التقط القاص بمهارة فائقة طقوسها المفزعة المؤلمة والتقط أيضًا خيط الانتقام الذي سيناله الخال المسكين في سنه المتأخرة و«كله سلف ودين» على رأي المثل الشائع، فالزوجة متأهبة للخروج من (سجن) حياتها بالثورة على زوجها العجوز والانتقام مما كان يفعله بها ابن الكلب.
قصة (تمر هندي)
يسرد القاص موقفًا مع رفيقه "حسام" الذي منعه من الارتواء بالتمر هندي أثناء سفرهما بكل فنون العذار التي يبديها، وتأتي لحظة المفارقة وهو استيقاظه ليرى رفيقه "حسام" يعب التمر هندي! لكن استيقاظه هذه المرة ليست يقظة من النوم فحسب بل إلماحًا استيقاظه من علاقة باكملها و قراره باتخاذ موقف منه لكن بهدوء وبلا انفعال.
قصة (عازف الأحذية)
"إيناس" تلك الفتاة بطويتها البريئة تريد أن تطبق ما سمعت من الأستاذ عن موهبة كل إنسان فتفجر رغبتها في إخراج موهبة ماسح الأحذية الماهر التي توقعت أن بداخله موهبة ستساعده على استثارتها بإدخاله معهد الموسيقى لكنها تفشل من الخروج من (سجن ذاتها) عندما عرض عليها الشاب ماسح الأحذية الزواج، فتمادتْ في إبراز الفوارق بينهما فقرر "راضي" أن يخرج من سجن الموهبة التي أحكمتْ "إيناس" إدخاله فيها إلى العودة لحاله، وأعلن ذلك عندما قعد ليمسح أحذية المدعوين أمام الأوبرا التي كان من المقرر أن تصطحبه إيناس لحضور عرض هو بطله، ولسان حاله يقول: «كما قررت ذبحي بالفوراق التي بيننا, سأذبحك بتدمير مشروعكِ في جعلي عازفا ماهرًا..»، ففضل ممارسة العزف على أوتار الأحذية بدلاً من الحياة على أوتار الفوارق الزائفة.
قصة (ضغط)
متن القصة يحوي قمة التمنى والرجاء بالخروج من (سجن الذات) المضغوطة، والتي أفصح القاص عن مكنونها من بداية العنوان واسترسل في عرض أحداث الضغط اليومي إلى أن تفتقت لحظة التصوير في الوقت المناسب لتبدد سحب الضغط الحلمي لاستقبال ضغط اليقظة والواقع المرير الذي يعيشه البطل.
قصة (أحد أيام الصيف)
يتبارى القاص في إبراز معاناة البطل من ذاته الفاشلة في إسعاد الآخرين من حنان رفيقة الطفولة, و"سحر" زميلته وما بينهما.. يتذكر استحسان أساتذته له وتبشيره بمستقبل مبهر، ثم سجنه في ذلك الكرسي الخشبي داخل المبنى الحجري، ولذلك الوصف الدقيق أثره الرائع فمقر العمل أشبه بزنزانةٍ حجرية، ثم تمنى الخروج من (سجن الذات) المقهورة بالواقع متمثلاً في احتضان الهاتف المحمول، أو الأمل في زيارة تاريخية وقد اعتبرها تاريخية لأنها ستغير من تاريخ حياته القادمة.
قصة (الدقة الثالثة)
موقف لا نفقده خصوصية الحدث اللا متوقع وهو وهو طرق من سيد الخلق أجمعين(ص)، أو تخيل طرقًا منه (ص) ومحاولة رب الأسرة اليائسة من احتواء موقف أسرته الفوضوي ليقدمهم بشكل مشرف للطارق الكريم حتى ينهار ذلك الأب، ويستعرض القاص تقريرًا عما حدث بعد ذلك من:
- الأب المسجّى.
- الزوجة في ملابسها الخفيفة.
- الأبناء في ورطتهم.
وكأن محاولة ذلك الأب لتخليص نفسه من (سجن) أسرته المتقوقع داخله ككائن رخوي لا قيمة له بزيارة سيد الخلق (ص) له باءت بفشل ذريع والسبب هم أفراد عائلته الذين حالوا بتصرفاتهم التافهة وغير المجدية دون سرعة فتح الباب مما أدّى لكارثة فقدان وعيه!.
قصة (رياض والصالحين)
إنه "رياض", ولذلك الاسم دلالة الوقار وسكينة الحدائق والبساتين, موظف يعيش حياته اللولبية المختصرة أسريًا أحيانًا، والمتفاعلة مع زملائه الصالحين في كثير من الآحايين, يعجز عن (الخروج) من أسوار حياته حتى بعد أن أهداه زملاؤه لوحة الآية القرآنية التي تقبلها بعاطفة العِشرة الأخوية بينه وبين زملاء العمل لكن أيديولوجية زوجته رفضت تلك الهدية وأصرتْ على إعادتها أو التخلص منها، وعندما فشلتْ رغم الضغوط التي مارستها على زوجها المسكين "رياض" بما في ذلك ضغط ولديها في الخارج، هجرت البيت وفضل "رياض" التقوقع داخل (ذاته) يلتمس الدفء باجترار الذكريات من: صورة السيدة مريم العذراء, صورة تخرجه, صورته بزيه العسكري, زملائه, زفافه, أولاده, صورة حفيدته "سارة"، وأخيرًا في "القلب" الآية القرآنية هدية أصحابه له.. وقد عبّر الكاتب في دقة عن موقع تلك الهدية بأنها في القلب وليست في مكان آخر، ولهذا الموطن جلالة قاطعة بمكانة زملائه من نفسه.
قصة (كلب فوق المقابر)
هنا, نقف عند قيمة الرمز الثمينة والغامضة في آن, رمز وفاء الكلب لموتى المقابر وظهوره المتكرر أثناء دفن الموتى.. لكنه يتلاشى عند دفن شهيد مظاهرات الثورة وظهوره بميدان التحرير، وكأن لسان حال الكاتب يقول: الوفاء ليس لمن فارق الحياة فقط، لكن أيضًا للثائرين عليها، فيتضامن الكلب مع ثوار التحرير!.
قصة (ورقة بيضاء)
إنه تمني الحياة خارج الحياة, ففي لجنة الامتحان التي يعتبرها البعض الزمن الذي يكرم المرء فيه أو يُهان يشعر البطل بحميمية لا يشعر بها في بيته, ذلك البيت الذي يضم بين أكنافه أباه وأمه دائمي الشجار، وفي لجنة الامتحان يقرأ رسالة صديق يقاسي ما يعانيه، فينصحه بالثورة على حياة البيت المفعمة بالكآبة وترك الورقة بيضاء حتى يبقيا معًا عامًا آخر بلا افتراق, تلك الورقة البيضاء ما هي إلا رمز للحياة التي اختارها صديقه كاتب الرسالة ونصحه بها.
قصة (العبارة)
من عنوان القصة, إلى استهلالها بتلك العبارة: «ابعد عنهم..» يستدرجنا القاص إلى ثورة من نوع خاص, ثورة على نصيحة الأب بالابتعاد عن أولئك المتشردين، وحلمه الغريب الذي لم يفصح عنه القاص ليترد للقارئ تفسير ذلك الحلم وخروج الصبي من المنزل (المتصدع) فقد (خرج من ذاته) المنكسرة بعبارة الأب المكرورة إلى هؤلاء المتشردين وألحق بهم شر الهزيمة, عادت إليه ثقته بذاته وهو يردد: «ما هم إلا بشر عاديون.. ما هم إلا بشر مهزومون..».
قصة (انتظار)
من اسم بطلها "سلطان" يمكن أن نحكم على شخصيته, فهو سلطان على نفسه المتسرعة دائمًا منذ ولادته حتى في حبه الأول والأخير الذي تسرع ونال غرضه بالاغتصاب والعقاب بالاعدام لكن الانتظار الذي لم يجربه طيلة حياته كان هو عقابه الأقسى، فقرر أن ينتصر عليه أيضًا بإعدام نفسه المتسرعة والمتشوقة لمعرفة ما بعد الموت.
قصة (وجبة الصباح)
يقرر البطل أخيرًا أن يرحل من الحارة وساكنيها الذين يستقبلونه كل صباح بأكياس قمامتهم إفطار قطط الحارة، وفي الصباح الأخير حيث سيودع الحارة تلتقط أذناه صوت إلقاء كيس القمامة المعتاد، وعندما اقترب من الكيس يجده تلك السيدة التي تلقي كيس القمامة، أو هذا ما تمنى البطل أن يراه قبل رحيله من الحارة.
قصة (رضا)
إنها "رضا", نفس تعذبت بين جدران المصحة النفسية، وبعد خروجها قاست آلام التشرد وعندما التحقتْ بالعمل لدى محل جزارة المعلم "شحطيط" لم يرأف بحالتها بل تمادى في السخرية منها، ويطلق عليها "خلل", قررتْ "رضا" أن (تخرج من سجن ذاتها) المعذبة من قهر الآخرين بالتخلص من سبب عذابها واستخدمت ساطور المعلم في الإجهاز عليه، وهي تقنع نفسها بحياتها الجديدة واسمها الجديد "خلل"!.
قصة (احمرار)
يروي القاص قصة حبة طماطم انتترتْ من سلة السيدة إلى الشارع، وما في الشارع من حوادث تواجهها.. حتى استولى عيها متشرد، لكنها تحررتْ منه بعد اصطدام عربة به ويلمحها الراوي في عنفوان احمرارها رغم الغبار الذي حط عليها ورغبتها الأكيدة في التمرد على الحياة ومن يعيشها بشكل مكرور.
قصة (شر البلية)
يلتقط القاص لحظة فارقة في مشروع الزواج ألا وهي لحظة الاتفاق على مسكن الأسرة المرتقب، وما يلزمه للمعيشة.. وبدلاً من أن يتفهّم والد الفتاة حالة الشاب المجاهد سخر من مسكنه المؤقت، ووظيفته المؤقتة، والشاب في آخر المطاف يضحك بعد مزحة مؤقتة، ولسان حالة يقول أن الحياة نفسها مؤقتة.
قصة (حاجز زجاجي)
يجسد الكاتب علاقة ضدية بين مهندس ومتسولة.. حيث يعطف عليها ويتوهج العطف إلى حالة حب مستعرة ويجنح به الخيال فيتخيلها وقد استجابت لتلك العلاقة, وانخدع بها فاقتنصت لحظة ضعفه وهاجمته وسرقت مكتبه.
***
بعد تلك الرؤى الخاطفة لقصص المجموعة بقي أن نتأمل الكتاب ككل متكامل.. * الغلاف:
رائع، وينم عن حرفية في تصميمه: (كهل يولينا ظهره يسير وسط عربات، بين بنايات قديمة)، وكأن هذا المتجول كبير السن بخبرة سنين عمره التي عركتها التجارب الحياتية هو راوي تلك القصص التي استمتعتُ بمرافقة أبطالها.
* الفضاء الزمكاني:
ترك القاص أزمنة قصصه مفتوحة وكأنه يدلي لنا بسره أن هذه القصص بشخوصها الحية يمكن أن تحدث في أي زمان أما المكان فقد اختار القاص مطارح لقصصه واقعية بشكل كبير مع ذكر تلك الأماكن والمدن والقرى أيضا فيذكر: العجمي, ديروط, دمنهور، بنها، قويسنا، العياط، دسوق، شبه جزيرة سيناء، قرية المسين، ميدان التحرير، بني سويف،حلوان، بورسعيد، السويس، المعمورة، طنطا، شبرا الخيمة، مطروح..
أمكنة متنوعة في قصص متنوعة أيضًا جعلت أبطاله حية ومؤثرة في عوالم زمانية غير محددة، وأخرى مكانية محددة في جلِّ القصص مما تدهشنا تلك الضدية بين زمان مفتوح، ومكان مغلق على أبطاله!.
* اللغة:
من العنوان يعلن القاص "عمرو الرديني" عن ثورته اللغوية (كعب داير) لغة عامية موحية بما سيمهد له الكاتب من لغة قصصه الناطقة بلغة الشارع السحرية غير المخلة، فالكاتب تناول شخوصًا عادية تتكلم بلغة عادية في أماكن عادية، فيؤكد لنا أنه التقط قصصه التي يعيشها العوام ببراعة ومهارة كبيرتين فلم يطعم قصصه بألفاظٍ وتراكيب تخل بالسياق البسيط لأحداث ومواقف أبطاله بل جعل لغته انسيابية متناغمة لحالات شخوصه ومواقفهم التي يعيشونها.
* الشخوص:
جل شخوص المجموعة تعكس علاقات ضدية متصارعة بين النفس وما ومن حولها، وتريد الثورة على سجن النفس أولاً والثورة على الآخرين إما بالمواجهة الحاسمة –على سبيل المثال- مثل قصة: (رضا)، و(شر البلية)، وإما بالهروب مثل: (وجبة الصباح)، وإما بالصمت والمراقبة مثل: (احمرار)..
فالشخوص مغلوب على أمرها لكن بداخل كل منها ثورة من نوع ما يريد الإفصاح عنها إذا سنحت الفرصة، أو اصطنع بنفسه سنوحها.
* أخيرًا..
أمتعنا القاص بقصصه الواقعية الخيالية النفسية التجريبية الحاكمة والمحكوم عليها، وليوفقه الله تعالى في مجموعات أخرى إن شاء الله.
تقديم:
قد يستغرب البعض هذا العنوان، ولا يعرف معناه..
لكنه تعريف لغوي (كلبوشي) لذلك السجين مجهول الهوية الذي يُعاقب بالتجوال المستمر على أقسام الشرطة، حتى يمكن التعرف على شخصيته..
وقد صرّح الكاتب عن مكنون عنوان المجموعة في الإهداء الذي استهل به مجموعته القصصية: «إلى كل قدم يغلفها غبار الشقاء.. في كل محافظات مصر»
وقد اخترت عنوان تلك الرؤى المتواضعة حول المجموعة ألا وهو (الخروج من سجن الذات) تلك الذات المهمومة بما يدور في نفسها وما يدور من حولها, تلك الذات المقهورة من الأنا الرافضة لحالها, والمنبوذة من الآخرين المحيطين لها بأسوار من الزيف, تلك الذات التي تريد أن تصنع عالمها الخاص وتتحرر من سيطرة الآخرين..
ففي قصة (لعنة)
من عنوان القصة يصب البطل جام غضبه على الآخرين الذين انزرق بينهم صانعا لنفسه مكانًا وسطهم بين كهل وطفل وكأنه اختار المكان الأوسط بين عمرين متضادين، ثم لعن الحاضرين جميعا في نفسه: «اللعنة على تلك النظرات البلهاء» تلك النظرات المحشورة في حجرة انتظار داخل بيت قديم اتخذه الطبيب عيادة له, فالحجرة التي تضم صنوف من البشر صنفهم بطل القصة بالسباع آكلة اللحوم والغزلان والبهائم الجميع محشور في الحجرة ويحدد الزمن بمنتصف أغسطس, ذلك الوقت شديد الحرارة من السنة؛ كان يجب أن يكون مع أسرته بالعجمي لكنه لا يظفر ولو بالقليل من الماء البارد وسط رفاق غرفة الانتظار..
تزكم أنفه رائحة عفونة قدم لا يدري مصدرها رغم أنه ظن بادئ الأمر أنها من قدم عجوز لكن الرائحة بقيت بعد أن نهض العجوز من موضعه مما جعله يتيقن أن مصدر الرائحة شخص آخر, بكلتا يديه قبض على حبال الصبر حتى حل دوره في الولوج لغرفة الطبيب، ويجد نفسه الأخير كما اعتاد في مراحل حياته التي تواترت مواقفها في ذاكرته, أما من جاء بعده فقد تملكهم اليأس وأجلوا موعد الكشف تاركين له لعنة الرائحة العفنة, بمجرد خلع حذائه في غرفة الكشف يغشى على الطبيب ويهرب سكرتيره ويدرك أخيرا أن تلك الرائحة هي لعنته هو!.
في قصة (بنت حلال)
يتجلى دوران الحياة المعتاد من تقديم طلب الوظيفة لاستغراب الآخرين لاسم البطلة "حلال" وسأمها من توضيح الاسم باستمرار, ومعاكسة الآخرين لها, تلك المعاكسة التي نسيت طقوسها وبحرفية بالغة يتقن الكاتب استعراض الكوميديا السوداء من خلال عرض أسئلة الفتاة "حلال" على الشاب وفراره منها ونبذه إياها عندما سألته عن أشياء تعتبرها من جدية الحياة وأخيرًا سألته عن وظيفة من أجلها، وتختلط دموعها بالضحك من رد فعل الشاب وكأنه في قرارة نفسه يقول لها: لو أن لي وظيفة لما تسكعتُ في الشوارع ومارستُ مغازلتك, ثم تركن حلال إلى قضبان حديد لسور حديقة وقد أغمضت لها الدنيا بعد أن تعبتْ من الدوران للحصول على شبرٍ لها تكون فيه ذات قيمة ولكن بعد العسر يأتي اليسر، ويأتيها صوت غريب يخبرها أنها قبلت في الوظيفة وكأن لسان حال الكاتب يقول أنها ستتخطى الآن سور الحديقة الحديدي؛ لتلج الحديقة نفسها بكل ما فيها من مباهج الحياة.
قصة (بَدِي)
في حوار مفعم بالصراع يكون البدي هو البطل الصامت المحتار بين المتحاورين, حوار بين رغبة وفقر وإحساس بالظلم يبين المحاولات اليائسة للخروج من قبضة (الذات) المسكونة بشتى أنواع الحرمان.
قصة (معلم قبل الظهر)
من بين طقوس الفعل الحياتي اليومي من فتح الورشة وكنسها ورش الماء تبزغ من تكسر صمت المعتاد وتخرج ذاته المشتاقة من روتين اليوم ولكن كما يقول المثل «تروح فين الشمس من قفا الفلاح» يعود لروتينيته، ويتناسى صاحبة الصباح الجميل في آخر الشارع.
قصة (ابن كلب)
إنها الحياة الأسرية المتفجرة بالشجار الدائم التي التقط القاص بمهارة فائقة طقوسها المفزعة المؤلمة والتقط أيضًا خيط الانتقام الذي سيناله الخال المسكين في سنه المتأخرة و«كله سلف ودين» على رأي المثل الشائع، فالزوجة متأهبة للخروج من (سجن) حياتها بالثورة على زوجها العجوز والانتقام مما كان يفعله بها ابن الكلب.
قصة (تمر هندي)
يسرد القاص موقفًا مع رفيقه "حسام" الذي منعه من الارتواء بالتمر هندي أثناء سفرهما بكل فنون العذار التي يبديها، وتأتي لحظة المفارقة وهو استيقاظه ليرى رفيقه "حسام" يعب التمر هندي! لكن استيقاظه هذه المرة ليست يقظة من النوم فحسب بل إلماحًا استيقاظه من علاقة باكملها و قراره باتخاذ موقف منه لكن بهدوء وبلا انفعال.
قصة (عازف الأحذية)
"إيناس" تلك الفتاة بطويتها البريئة تريد أن تطبق ما سمعت من الأستاذ عن موهبة كل إنسان فتفجر رغبتها في إخراج موهبة ماسح الأحذية الماهر التي توقعت أن بداخله موهبة ستساعده على استثارتها بإدخاله معهد الموسيقى لكنها تفشل من الخروج من (سجن ذاتها) عندما عرض عليها الشاب ماسح الأحذية الزواج، فتمادتْ في إبراز الفوارق بينهما فقرر "راضي" أن يخرج من سجن الموهبة التي أحكمتْ "إيناس" إدخاله فيها إلى العودة لحاله، وأعلن ذلك عندما قعد ليمسح أحذية المدعوين أمام الأوبرا التي كان من المقرر أن تصطحبه إيناس لحضور عرض هو بطله، ولسان حاله يقول: «كما قررت ذبحي بالفوراق التي بيننا, سأذبحك بتدمير مشروعكِ في جعلي عازفا ماهرًا..»، ففضل ممارسة العزف على أوتار الأحذية بدلاً من الحياة على أوتار الفوارق الزائفة.
قصة (ضغط)
متن القصة يحوي قمة التمنى والرجاء بالخروج من (سجن الذات) المضغوطة، والتي أفصح القاص عن مكنونها من بداية العنوان واسترسل في عرض أحداث الضغط اليومي إلى أن تفتقت لحظة التصوير في الوقت المناسب لتبدد سحب الضغط الحلمي لاستقبال ضغط اليقظة والواقع المرير الذي يعيشه البطل.
قصة (أحد أيام الصيف)
يتبارى القاص في إبراز معاناة البطل من ذاته الفاشلة في إسعاد الآخرين من حنان رفيقة الطفولة, و"سحر" زميلته وما بينهما.. يتذكر استحسان أساتذته له وتبشيره بمستقبل مبهر، ثم سجنه في ذلك الكرسي الخشبي داخل المبنى الحجري، ولذلك الوصف الدقيق أثره الرائع فمقر العمل أشبه بزنزانةٍ حجرية، ثم تمنى الخروج من (سجن الذات) المقهورة بالواقع متمثلاً في احتضان الهاتف المحمول، أو الأمل في زيارة تاريخية وقد اعتبرها تاريخية لأنها ستغير من تاريخ حياته القادمة.
قصة (الدقة الثالثة)
موقف لا نفقده خصوصية الحدث اللا متوقع وهو وهو طرق من سيد الخلق أجمعين(ص)، أو تخيل طرقًا منه (ص) ومحاولة رب الأسرة اليائسة من احتواء موقف أسرته الفوضوي ليقدمهم بشكل مشرف للطارق الكريم حتى ينهار ذلك الأب، ويستعرض القاص تقريرًا عما حدث بعد ذلك من:
- الأب المسجّى.
- الزوجة في ملابسها الخفيفة.
- الأبناء في ورطتهم.
وكأن محاولة ذلك الأب لتخليص نفسه من (سجن) أسرته المتقوقع داخله ككائن رخوي لا قيمة له بزيارة سيد الخلق (ص) له باءت بفشل ذريع والسبب هم أفراد عائلته الذين حالوا بتصرفاتهم التافهة وغير المجدية دون سرعة فتح الباب مما أدّى لكارثة فقدان وعيه!.
قصة (رياض والصالحين)
إنه "رياض", ولذلك الاسم دلالة الوقار وسكينة الحدائق والبساتين, موظف يعيش حياته اللولبية المختصرة أسريًا أحيانًا، والمتفاعلة مع زملائه الصالحين في كثير من الآحايين, يعجز عن (الخروج) من أسوار حياته حتى بعد أن أهداه زملاؤه لوحة الآية القرآنية التي تقبلها بعاطفة العِشرة الأخوية بينه وبين زملاء العمل لكن أيديولوجية زوجته رفضت تلك الهدية وأصرتْ على إعادتها أو التخلص منها، وعندما فشلتْ رغم الضغوط التي مارستها على زوجها المسكين "رياض" بما في ذلك ضغط ولديها في الخارج، هجرت البيت وفضل "رياض" التقوقع داخل (ذاته) يلتمس الدفء باجترار الذكريات من: صورة السيدة مريم العذراء, صورة تخرجه, صورته بزيه العسكري, زملائه, زفافه, أولاده, صورة حفيدته "سارة"، وأخيرًا في "القلب" الآية القرآنية هدية أصحابه له.. وقد عبّر الكاتب في دقة عن موقع تلك الهدية بأنها في القلب وليست في مكان آخر، ولهذا الموطن جلالة قاطعة بمكانة زملائه من نفسه.
قصة (كلب فوق المقابر)
هنا, نقف عند قيمة الرمز الثمينة والغامضة في آن, رمز وفاء الكلب لموتى المقابر وظهوره المتكرر أثناء دفن الموتى.. لكنه يتلاشى عند دفن شهيد مظاهرات الثورة وظهوره بميدان التحرير، وكأن لسان حال الكاتب يقول: الوفاء ليس لمن فارق الحياة فقط، لكن أيضًا للثائرين عليها، فيتضامن الكلب مع ثوار التحرير!.
قصة (ورقة بيضاء)
إنه تمني الحياة خارج الحياة, ففي لجنة الامتحان التي يعتبرها البعض الزمن الذي يكرم المرء فيه أو يُهان يشعر البطل بحميمية لا يشعر بها في بيته, ذلك البيت الذي يضم بين أكنافه أباه وأمه دائمي الشجار، وفي لجنة الامتحان يقرأ رسالة صديق يقاسي ما يعانيه، فينصحه بالثورة على حياة البيت المفعمة بالكآبة وترك الورقة بيضاء حتى يبقيا معًا عامًا آخر بلا افتراق, تلك الورقة البيضاء ما هي إلا رمز للحياة التي اختارها صديقه كاتب الرسالة ونصحه بها.
قصة (العبارة)
من عنوان القصة, إلى استهلالها بتلك العبارة: «ابعد عنهم..» يستدرجنا القاص إلى ثورة من نوع خاص, ثورة على نصيحة الأب بالابتعاد عن أولئك المتشردين، وحلمه الغريب الذي لم يفصح عنه القاص ليترد للقارئ تفسير ذلك الحلم وخروج الصبي من المنزل (المتصدع) فقد (خرج من ذاته) المنكسرة بعبارة الأب المكرورة إلى هؤلاء المتشردين وألحق بهم شر الهزيمة, عادت إليه ثقته بذاته وهو يردد: «ما هم إلا بشر عاديون.. ما هم إلا بشر مهزومون..».
قصة (انتظار)
من اسم بطلها "سلطان" يمكن أن نحكم على شخصيته, فهو سلطان على نفسه المتسرعة دائمًا منذ ولادته حتى في حبه الأول والأخير الذي تسرع ونال غرضه بالاغتصاب والعقاب بالاعدام لكن الانتظار الذي لم يجربه طيلة حياته كان هو عقابه الأقسى، فقرر أن ينتصر عليه أيضًا بإعدام نفسه المتسرعة والمتشوقة لمعرفة ما بعد الموت.
قصة (وجبة الصباح)
يقرر البطل أخيرًا أن يرحل من الحارة وساكنيها الذين يستقبلونه كل صباح بأكياس قمامتهم إفطار قطط الحارة، وفي الصباح الأخير حيث سيودع الحارة تلتقط أذناه صوت إلقاء كيس القمامة المعتاد، وعندما اقترب من الكيس يجده تلك السيدة التي تلقي كيس القمامة، أو هذا ما تمنى البطل أن يراه قبل رحيله من الحارة.
قصة (رضا)
إنها "رضا", نفس تعذبت بين جدران المصحة النفسية، وبعد خروجها قاست آلام التشرد وعندما التحقتْ بالعمل لدى محل جزارة المعلم "شحطيط" لم يرأف بحالتها بل تمادى في السخرية منها، ويطلق عليها "خلل", قررتْ "رضا" أن (تخرج من سجن ذاتها) المعذبة من قهر الآخرين بالتخلص من سبب عذابها واستخدمت ساطور المعلم في الإجهاز عليه، وهي تقنع نفسها بحياتها الجديدة واسمها الجديد "خلل"!.
قصة (احمرار)
يروي القاص قصة حبة طماطم انتترتْ من سلة السيدة إلى الشارع، وما في الشارع من حوادث تواجهها.. حتى استولى عيها متشرد، لكنها تحررتْ منه بعد اصطدام عربة به ويلمحها الراوي في عنفوان احمرارها رغم الغبار الذي حط عليها ورغبتها الأكيدة في التمرد على الحياة ومن يعيشها بشكل مكرور.
قصة (شر البلية)
يلتقط القاص لحظة فارقة في مشروع الزواج ألا وهي لحظة الاتفاق على مسكن الأسرة المرتقب، وما يلزمه للمعيشة.. وبدلاً من أن يتفهّم والد الفتاة حالة الشاب المجاهد سخر من مسكنه المؤقت، ووظيفته المؤقتة، والشاب في آخر المطاف يضحك بعد مزحة مؤقتة، ولسان حالة يقول أن الحياة نفسها مؤقتة.
قصة (حاجز زجاجي)
يجسد الكاتب علاقة ضدية بين مهندس ومتسولة.. حيث يعطف عليها ويتوهج العطف إلى حالة حب مستعرة ويجنح به الخيال فيتخيلها وقد استجابت لتلك العلاقة, وانخدع بها فاقتنصت لحظة ضعفه وهاجمته وسرقت مكتبه.
***
بعد تلك الرؤى الخاطفة لقصص المجموعة بقي أن نتأمل الكتاب ككل متكامل.. * الغلاف:
رائع، وينم عن حرفية في تصميمه: (كهل يولينا ظهره يسير وسط عربات، بين بنايات قديمة)، وكأن هذا المتجول كبير السن بخبرة سنين عمره التي عركتها التجارب الحياتية هو راوي تلك القصص التي استمتعتُ بمرافقة أبطالها.
* الفضاء الزمكاني:
ترك القاص أزمنة قصصه مفتوحة وكأنه يدلي لنا بسره أن هذه القصص بشخوصها الحية يمكن أن تحدث في أي زمان أما المكان فقد اختار القاص مطارح لقصصه واقعية بشكل كبير مع ذكر تلك الأماكن والمدن والقرى أيضا فيذكر: العجمي, ديروط, دمنهور، بنها، قويسنا، العياط، دسوق، شبه جزيرة سيناء، قرية المسين، ميدان التحرير، بني سويف،حلوان، بورسعيد، السويس، المعمورة، طنطا، شبرا الخيمة، مطروح..
أمكنة متنوعة في قصص متنوعة أيضًا جعلت أبطاله حية ومؤثرة في عوالم زمانية غير محددة، وأخرى مكانية محددة في جلِّ القصص مما تدهشنا تلك الضدية بين زمان مفتوح، ومكان مغلق على أبطاله!.
* اللغة:
من العنوان يعلن القاص "عمرو الرديني" عن ثورته اللغوية (كعب داير) لغة عامية موحية بما سيمهد له الكاتب من لغة قصصه الناطقة بلغة الشارع السحرية غير المخلة، فالكاتب تناول شخوصًا عادية تتكلم بلغة عادية في أماكن عادية، فيؤكد لنا أنه التقط قصصه التي يعيشها العوام ببراعة ومهارة كبيرتين فلم يطعم قصصه بألفاظٍ وتراكيب تخل بالسياق البسيط لأحداث ومواقف أبطاله بل جعل لغته انسيابية متناغمة لحالات شخوصه ومواقفهم التي يعيشونها.
* الشخوص:
جل شخوص المجموعة تعكس علاقات ضدية متصارعة بين النفس وما ومن حولها، وتريد الثورة على سجن النفس أولاً والثورة على الآخرين إما بالمواجهة الحاسمة –على سبيل المثال- مثل قصة: (رضا)، و(شر البلية)، وإما بالهروب مثل: (وجبة الصباح)، وإما بالصمت والمراقبة مثل: (احمرار)..
فالشخوص مغلوب على أمرها لكن بداخل كل منها ثورة من نوع ما يريد الإفصاح عنها إذا سنحت الفرصة، أو اصطنع بنفسه سنوحها.
* أخيرًا..
أمتعنا القاص بقصصه الواقعية الخيالية النفسية التجريبية الحاكمة والمحكوم عليها، وليوفقه الله تعالى في مجموعات أخرى إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق