هيولية الوجود في مرآة
العدم
رؤية عن رواية
( يَزَن .. حَجَرُ القمر )
للأديبة / ابتهال
الشايب
إعداد : أيمن رجب طاهر
بدء :
إنها الحيرة, تنتابك منذ أن تضع
الرواية أمامك, فالعنوان ( يَزَن ) معلق في أجواء نورانية منبعثة من سماء كموج
البحر, والعنوان يزن يترأس وجها لإنسان غائب الملامح تستر جسده زهور الياسمين
ببتلاتها اليانعة وأوراقها الخضراء وأفعى ناعمة تزحف على الذراع اليمنى والكف
اليسرى تحاول إيقافها ثم أرضية مظلمة وكأن هذا الإنسان غير مكتمل الملامح هو خط
التماس بين عالمين, عالم النور وعالم الظلام, تربطهما علاقة ضدية في آن واحد
.
الاستهلال :
استهلالان مهدت بهما الأديبة للقارئ
عما سيُصدم به بعد صفحتين فالأول " وحين تتقبّل الظلام وتعاشر
النور .. " والثاني
" الآن وفي مكان غير محدد, هناك موتى فاقدو النطق والذاكرة ... "
بهذين التمهيدين, تهيئ الكاتبة لقارئها
عدم الاستغراب لعوالمها التي خلقتها فلا مقاييس متعارف عليها في أرض الموتى, كل
شيء مختلف؛ فاليوم ليس اليوم الذي نعيشه والزمن غير معتاد عليه والطبيعة التي
ستقابلنا متباينة, فالأحداث التي ستواجهنا قد تكون حلما استيقظت الكاتبة لترويه أو
عالما واقعيا خلقته الكاتبة أو عالما خياليا عاشته, الأهم من ذلك أن تلك العوالم
قد أصبحت واقعا بين دفتي رواية لها خصوصيتها وعالمها المتفرّد .
متن الرواية :
على خط التماس بين عالمين, تقف الكاتبة
على التخوم الفاصلة بين الحياة وعدمها فلم يطل بها التفكير إلى من تنحاز فخطت نحو
العالم الآخر, عالم الموتى بكل ما دار في مخيلتها من أحداث قد تقع ومشاعر قد تُحس,
وترهات قد تنتابها, وكوابيس تنتظر الاستيقاظ من شرها وتنفضها عن نفسها المغمومة,
وحزن يعشش بين حنايا شخوص الرواية حتى عصف بالجميع, ذلك الحزن الذي رافق (يزن) منذ
أن استقر به المقام داخل أحد تجاويف الصخرة الكبيرة الذي لا يشبه أي مكان رآه من
قبل و بذاكرته المسلوبة يتجوّل في رحاب ذلك العالم الغريب وألم الموت لا يزال يضج
بعظامه فيكتشب غرابة الأشياء والأشخاص والطبيعة من حوله فيبدأ في تكوين مترادفات
للأشياء التي تقع عليها عيناه كوصف الموتى " العديد من الرجال لهم شعور طويلة
ولحاهم تغطي صدورهم .... " (ص13) ويساعده على إعادة تسمية الأشياء شخوصٌ تظهر
تباعا مثل : أيما , وسام, الأطفال, فهد, بتول, سامو ... إلخ
أما الطبيعة من حوله فتفصح عن نفسها
لمعرفة مكانه " أشرقت ملامح الأشياء من حوله, الصخرة والبحر والسماء والسحاب
وبدأت حواسه تستشعر الهواء ... " (ص13)
ترصد الكاتبة الحياة اليومية المرتبكة
التي يحياها الموتى أو يشعرون بها فيتفاهمون معا بلغة الإشارة وأصابع اليد
ويحاولون شرح غرابة الأشياء من حولهم, حتى لغتهم التي تنبس بها شفاهم غير مفهومة
أو متراكبة " حو .. حم .. حف .. " (ص76) لا عمل لهم غير أنهم يستقبلون
موتى جدد, يهيئون لهم أماكن بتجاويف الصخرة الكبيرة, وينامون ويستيقظون ولا جديد
" أول شيء أدركه حين نهض. لا كلمات جديدة ولا أفكار " (ص28) فالحزن
كشجرة عجفاء تظلل نفوسهم المأزومة بفعل الضياع, لا يشعر يزن بوجوده إلا عندما
يقرّب من أنفه زهر الياسمين " قرّب يزن زهر الياسمين من أنفه, رائحة عطرة
ولجت بداخله... كانت رائحة زكية جعلت يزن يشعر بالأمان والسكينة والصفاء, يقربها
يزن من أنفه ويحيا ..." (ص45)
في تصاعد درامي لبحث يزن عن مخرج من
أرض الموتى وهو في حقيقة الأمر يجاهد كي يستيقظ من كابوسه الذي استطال أمده وجد
الجدار الزجاجي الفاصل بين حياتين، خلف الجدار رجل أبيض البشرة .... إلخ وقد أسهب
يزن في وصف ذلك الرجل القريب البعيد وكأن تلك الصفات يعرفها جيدا وأشار يزن إلى
الرجل خلف الجدار الزجاجي كي يلفت نظره لكن الرجل لا يسمعه فأدرك يزن " إنها
الحياة " (ص52 ) وعندما سقط هذا الرجل عاد يزن إلى أرض الموتى وقد رسخ في
نفسه المهزومة بارقة أمل لكسر ذلك الحاجز بينه وبين الحياة " قريبا سأعود ..
لا يفصلنا عن الحياة سوى جدار زجاجي " (ص53)
حياة كل الشخوص بالرواية مأزومة,
مهزومة، مغلوبة على أمرها, مقهورة بفعل الشعور بفناء الموت, يكاد الواحد منهم لا
ينتصر لنفسه " حاول يزن أن يحرك قدميه وجسده لكي ينهض فعجز ... " (ص67)
, فأصبحت الحياة سوداء غريبة غامضة فكل ما يتذكره سيف هو جملة الفتاة الأخيرة
" حب منته " ثم لا شيء بعد ذلك سوى السكون أما يزن المجاهد, نفسه تواقة
ومثابرة ومتشبثة ببصيص أمل في الحياة؛ لكنه يصدم بالحقيقة التي يعاني شرها؛ فإنه
يحاول الزحف على تراب أرض الموتى البارد ولا تساؤلات معبأ بها وتغرز أنيابها في
نفسه التي طحنتها رحى الفناء سوى " إننا أموات وهذه أرض الموتى " (ص68)
حقيقة تيقنتها نفس يزن التي محاها اليأس ..
يتهادى تصاعُد الأحداث في بطء ممزوج
بالإحباط متناسقا مع كتل المرارة التي يتجرعها شخوص الرواية حتى الثمالة فمحاولة
قتال سامو ليزن فقط ليؤكد سامو لنفسه أنه يستطيع مواصلة ما كان يفعله قبل موته فلا
أمل لأحد منهم سوى ذكراه القريبة التي يتعزّى بها في غربة أرض الموتى عن ثكل
الحياة نفسها " ظلت بتول ترسم وجه نزار ... اكتفت برسمه فقط والنظر إليه ...
بعض الموتى اكتفوا مثلها أيضا بذكراهم الوحيدة ... فقط كل ما يريدون هو أن تنظر
رسوماتهم إليهم " (ص84)
في أرض الموتى لا يحسن الواحد منهم غير
تأمل الموتى الجدد ومساعدتهم على إيجاد مكان لهم في تجاويف الصخرة الكبيرة ثم قرر
الموتى القدامى عمل بيوت لكل ساكني أرض الموتى وهي عبارة عن ثكنات ومكعبات صنعوها
من خشب الأشجار الكثيرة التي تم قطعها والتي يحاولون سد فتحة البركان ببعضها, ذلك
الوحش الرابض والذي لا يستطيع أن يحادثهم لكنه يريد مساعدتهم بشكل ما فصنع لهم
الجبل المخروطي لكن يزن أصر على غلق تلك الفتحة وحجر القمر يلمع على أطراف الفوهة
وسط الأحجار الصغيرة وعندما لمحه يزن التقطه " قطعة من القمر سقطت في هذا
المكان, أو ربما أخرجه الوحش حين انفجر ورسم لنا وأعطانا في نفس الوقت شيئا لامعا
وسط الاغتراب الذي نموت فيه .." (ص123) ثم تأتي المعرفة مع حجر القمر حين
أدرك " هذا ليس وحشا, هذا بركان " (ص123) تلك المعرفة يتوق كل من بأرض
الموتى إلى استجلاء غموضها؛ كي يفهموا ماذا حدث لهم وما الذي وصلوا إليه في ماضيهم
القريب وما الذي سيصلون إليه في مستقبلهم الملفوف بالمجهول أما حاضرهم المعيش
فيحوطه ضباب الموت .
يزن هو الوحيد الذي لامست نفسه نهايات
المعرفة, " نزل سريعا إلى سفح الجبل, تلفت من حوله في ذهول مدركا, هذه أشجار,
وهذا تراب ..... أنا يزن , أنا أعرف نفسي جيدا " ( ص123)
يزن هو الباحث عن وطن نفسه ليسكنها
" سأتحمّل أي وطن آخر أجده " (ص126) وعندما اقترب من الجدار وجد نفس
الرجل وعندما تأمله وتذكر ملامحه " إن الشخص الحي الواقف خلف الجدار هو نفسه
يزن " ( ص126) فقد شاهد يزن نفسه يبحث عن الحياة بين طيات الذكريات وأدرك
أيضا أنه لم يغادر أرض الموتى ولكن اليوم اختلف وقد أصبح يوما آخر في أرض الموتى
لميت سعيد أكثر من ذي قبل, أخيرا حقق انتصارا وهو الانتصار على الحزن الرابض في
نفسه, وعندما تذكر ابتسامة أيما الدائمة أدرك سرها " تبتسم لأنها وجدت الظل
هنا بعيدا عن الحزن .. " (ص126)
منتهى :
تفجر الرواية تساؤلات كثيرة تجوس في
نفس كل إنسان لكنه يتناسها في غمرة الحياة أو لنقل يجهل كنهها ويجعل كل همه هو
الحياة بكل ما فيها من مباهج ومحاولة الانتصار دائما على كل ما يعكر تلك المباهج,
أما من يوقعه حظه الفريد ويلهث وراء أحداث رواية [ يزن .. حجر القمر ] فإنه
سيتساءل بعد أن ينتهي من قراءتها :
هل الحياة هي ما أعيشه الآن ؟ وهل
العدم ما أعيشه الآن ؟ هل الحياة هي عدم طويل أم العدم هو حياة طويلة ؟ وهل سيحدث
لي فعلا شيءُُ مما قرأته ؟
عندها, لن يجيبه عن كل هذه التساؤلات
سوى ( يزن .. حجر القمر ) الذي سيرافقه
إلى التجويف الصخري يتأملان معا : أيما, وسام, الأطفال, فهد, بتول, سامو, فوهة
البركان والجبل المخروطي وعندما يستقران معا سيروي له يزن بسعادة كيف وصل إلى
المعرفة .
****
أيمن
رجب طاهر
الاثنين
6/6/2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق