الذات والعالم في "ليس القميص أبيض
"لبستاني النداف
مقاربة سيميائية تأويلية
بقلم:
ناصر خليل
رفعت السيميائية- التي خرجت من رحم البنيوية - شعار "سلطة النص " وسخرت مناهجها وأدواتها في تحليل النص من رموز وإشارات وعلامات وأيقونات
ولم تول اهتماما بالحمولة المرجعية والمقصدية لتلك العلامات والإشارات ، حتى
ظهرت نظرية " الهرمينوطيقا" فأعادت للحمولة المرجعية والمقصدية وكذلك
الذات والعالم الخارجي فاعليتها في تأويل النص .
اشتقت كلمة (الهرمينوطيقا) من الفعل
اليوناني
(Hermeneuein) و يعني (يُفسر) و(يوضح)، و الاسم (Hermeneia) يعني (التفسير) و (التوضيح). و
الأصل اليوناني للكلمة " استعمال آليات و مساعدات لغوية
للوصول إلى كُنْه الأشياء، و اللغة هي الآلية الأولى لعملية الفهم." (1)
الهرمينوطيقا محاولة لتأويل النص أو كما
يقول شلاير ماخر "إن
مهمة الهرمينوطيقا هي فهم النص كما فهمه مؤلفه، بل أفضل مما فهمه" (2)، إذن
مع (الهيرمنيوطيقا) يتم التوجه إلى شخص القارئ وقدراته في استيعاب معطيات النص
الدلالية والبحث عن الآلية التي ساعدته على إدراك ذلك.
السيميائية التأويلية التي تجمع بين السيميائية المهتمة ب"كيف
يعبر النص عما يقول" والتأويلية
المعنية ب "كيف يفهم القارئ ذلك النص" ترى أن النص عالما رمزيا مفتوحا متعدد المعاني
والدلالات ولا يتأتى هذا إلا عبر الرموز والإشارات والعلامات (سيمياء الحقول ) ،إذن يمكن القول " التأويليون يبدءون من حيث ينتهي السيميائيون
"
تعتمد
هذه المقاربة على منهج هرمينوطيقا ريكور و سيميائية التأويل في تناولها لنصوص مجموعة "ليس القميص أبيض
" التي تتألف من اثنتا عشر (12)قصة يحويها كتاب من القطع المتوسط في ست
وتسعون صفحة للقاص بستاني النداف .
عندما
تكتمل التجربة الإبداعية و ينهي الكاتب قصته أو قصصه يكون هناك شيئا جديدا قد تشكل
مغاير ورافض لأن يضاهى بما سبقه فلقد
خُلق شيء جديد ،عالم فريد يسعى المتلقي
بدوره إلى إدراك مغزى ومقصدية ما أنتجه
هذا الكاتب في إطار التجربة الإبداعية التشاركية ،إنها عملية تفاعلية و "هذا التفاعل كفيل بجعل القراءة
فاعلة ومنتجة كما انه يضمن التواصل المطلوب بين الطرفين.. والقارئ في علاقته بالنص
يكون موجهاً بطريقة ما من النص عبر مجموعة من الصيغ والإشارات وما إلى ذلك مما
يتضمنه النص المقروء. لكن هذا لا يعني أن النص يقمع نشاط القارئ ويوقفه، بل هناك
مجال يتحرك فيه القارئ أيضاً"(3)
إذا
أخذنا في الاعتبار دائرة ريكور
الهرمينوطيقية وهي ما قبل الفهم ، التفسير ، التأويل في تعاملنا مع هذه المجموعة القصصية نلاحظ أن العلاقة بدأت باكرا بحقل سيميائي ( عتبة العنوان )"ليس القميص
أبيض " فالمؤول هنا رغم أنه في مرحلة توقع الدلالات أو ما يصفه ياوس بـ (أفق
التوقعات ) ولم تكتمل فرضياته التأويلية إنما يمده هذا الحقل السيميائي بإشارة مرجعية إلى أن هناك علاقة ما بين
الذات (ذات المؤلف – ذات المتلقي )
والعالم ويقصد بالعالم هنا- سياق
يحتوي المكاني المحدد والجغرافي بالإضافة إلى المتخيل واللامرئي - قد تبدو جدلية حول مدلولات كون القميص أبيض من عدمه ويبدوا واضحا في التفسير الحرفي أو سياقها اللغوي والنحوي وذلك لأن "المجال اللساني للغة شرطا في الإمكانية
التي تحمل التأويل إلى اللغة وتهيئ استقبالية المعنى الذي يتأسس وجودا عندما
تتعاين ألفاظه في السياق اللساني لخطاب ما" (4).
(
ليس) فعل ماض جامد يفيد النفي و تعطل عمل فعلها ، وكلمة (أبيض ) الممنوعة من
الصرف بما يثيره المنع من جو الحرمان
والقهر في هكذا حالة ، ولكن ما تحمله
الجملة من حمولات وإشارات مرجعية ، فهل
تنفي الذات عنها الأمل والتفاؤل أو تنفي عنها تهمة العالم لها بالجنون حال القميص
الأبيض المقلوب ، أم هي منسحقة ومقهورة تحت وطأة هذا العالم وتقرر في
خنوع أن (ليس القميص أبيض ) وتحاول سحب
المتلقي إلى بؤرتها بإعطائه وسيطا رمزيا وقناة تواصل لنقل واقع محتوم حتى يحفز
نشاطه التأويلي عبر إرهاصة العنوان قبل
المعطى السيميائي الأكبر (النص ) .
لكل
سارد قارؤه الضمني الذي
يكتب القصة معه في لا وعيه لأنه " ليس هناك من هو حر على الإطلاق ،كلنا نكتب لجمهور
ما ولأناس نتوجه إليهم في أذهاننا " (5)، يفاجأ السارد هؤلاء بعتبة نصية مستحدثة حيث ينحت في فضاء بداية مجموعته القصصية نصبا
تذكاريا لذات متماهية مع ذات السارد
لعامل اليومية الذي فقد حياته وهو
يعمل في حفرة لكسب قوت يومه دون أن يثير
ذلك ضجيجا أو يشعر به العالم اللاهي ، تلك الإشارة السيميائية ستمد المتلقي بحمولة دلالية عن صراع الذات مع
قسوة العالم وبلادته الذي لا يأبه ولا يتوقف للحظات أمام حادثة موت هذا العامل
المسكين ، إنها كغيرها من العتبات النصية رسالة موجهة من ذات المؤلف إلى الذات
الجمعي حيث أن " للعتبات أهمية كبرى في
قراءة النص وتأويله والإلمام بجميع تمفصلاته البنيوية المجاورة من الداخل والخارج ، التي تشكل عمومية
النص ومدلوليته الإنتاجية والتقابلية ..."(6)
ثم
يتبعها بعتبة نصية أخرى "الإهداء
" يهدي إلى ذلك العامل الذي لا يعرف
الكاتب اسمه مجموعته بل يتمادى ويهديه
اسمه ويتبادل معه موقعه فيصير هو العامل
والعامل هو الكاتب في إشارة إلى اتحاد هما في ذات واحدة ووقوفها في وجه العالم البغيض الكريه .
علاقة الذات والعالم في هذه المجموعة تتخذ أشكالا متعددة في طبيعة تلك
العلاقة أو أدوات التعبير عنها ففي قصص
"دخان " و"ليس القميص أبيض "
العلاقة جدلية وأداة التعبير عنها سرد
درامي قاتم ، في قصة "دخان "
يلقي العنوان بظلال ضبابية على الذات
(ذات البطل ) التي هي ليست في حاجة
لما يزيد من حيرتها وعدم قدرتها
على رؤية العالم بوضوح ويعمق داخلها أن
محاولة الهروب من قيود الواقع ستبوء بالفشل ، تظهر " الأنا " فتجسد تلك الحالة بمقطوعات سردية منها " بيته يطل على الشاطئ الموحش الذي
يتلقى ضربات الأمواج في غضب ، النافذة المختبئة وراء الستائر تتدثر بها في صبر وأناة ، الأمواج الخائفة من الليل
والرعد ترسل صرخاتها المرعبة تحت ستار البرق لتخيف منازلنا القابعة تحت ظلام الليل
، تلك المنازل المرتجفة من برد الشتاء القارص الذي يملأ الطرقات التي تخلو من
المارة – إلا ما ندر – والتي أصبحت مرتعا للكلاب الضالة التي أعلنت سيطرتها على كل الأماكن التي تعانق
جيوش الظلام . الأعمدة العمياء المتفرقة في المكان الشاسع تبحث عن لمبات تضئ لها
طريقها المعتم ، الأسلاك المهترئة تحتضر تحت أزيز الأمطار ." (ليس القميص أبيض ص 9)
العالم
الذي يسيج أسوارا حول الذات ويحرمها من
حبها إلى الأبد
" ـ سامحني حبيبي،أنا لا أستطيع الوقوف
ضد رغبة والدي .
ـ هل تقبلين أن تتحولي لبضاعة رخيصة!
ـ نحن نمر بضائقة مالية،ولا يوجد حل للخروج من أزمتنا غير الزواج من هذا
الثري العربي .
ودعها في ذلك اليوم وودعت كل أفراحه ولحظاته
الجميلة التي أقلعت معها في الطائرة وتركت له بعض سحب الدخان في الأفق"
(ليس القميص أبيض ص 12)0
يستمر
الجدل الصاخب بين الذات والعالم في قصة "ليس القميص أبيض " ،لقد فاقت
مأساوية الذات الواقعية الحدود ،فالعالم من حولها متوحش يمارس صنوف القهر بإتقان مما أوقع الأنا في ارتباك فهذا القهر
يفوق قدرتها على تجسيده ووصفه ولكنها تسير
بمحاذاته ترسم صورة للذات " تحتدم المعركة بيني وبين الكوابيس الشرسة التي
ترسل إلي آلاف الكلاب المسعورة، التي تطاردني وأنا أركض مذعورا منها ،تلاحقني
الكلاب ،وما بين فك أولها وجسدي طرفة عين وزفرة باهتة لأسير تأكد أنه واقع كفريسة
في شرك صياديه لا محالة ." (ليس
القميص أبيض ص 21)
ثم
ترسم صورة للعالم " أنظر حولي، أجد أقداما وأجسادا فارعة تحيط بى
وعيونا مستعرة تكاد أن تفتك بجسدي الضئيل المنهك الذي لم يستطع أن يحملني فوق
الأرض ، تنهال على أياديهم بالضرب المبرح ،أمارس عليهم آخر حيلي الدفاعية عندما أبلل
ملابسي ، وكأني الثعلب أخرج رائحة نتنه تجعل الآخرين يهرولون بعيدا عنى بعد أن
يكتموا أنوفهم ويلعنون قائمة أهلي حتى جدي
السابع عشر ." (ليس
القميص أبيض ص 22)
لا
تجد الذات سبيل خروج لها في القصتين وظهر
ذلك في النهاية "
ثم تحتدم المعركة بيني وبين الكوابيس
الشرسة التي ترسل إلي آلاف الكلاب المسعورة التي تطاردني وأنا أركض مذعورا منها ،باحثا
عن حضن أمي . "(ليس
القميص أبيض ص 30)
"الأنا " المعذبة من رؤية "الذات " تئن من
وطأة دهس العالم لها ومن تجرعها
كئوس الظلم والعذاب وإن اتفقت مع سابقتها في
العلاقة الجدلية مع العالم إلا أن أداة التعبير عنه اختلفت فجاء السرد ممزوجا بروح السخرية في قصص " عبد المنعم العجل " و"
عبده القمع " و" أن تموت أو لا تموت " و " لسه في أوله "
و "سأ ...سأ..." ،هناك سخرية دون ضجيج منفر من تشوهات أفرزها واقع سياسي
أليم، في قصة " عبد المنعم العجل
" إنها محاولة لتوشيج الصلة بين القارئ والنص حيث "إن جوهر منظور التلقي هو إعادة الصلة الحميمية
والضرورية بين النص ومتلقيه"(7) ، الأم رغم شظف العيش والفقر المدقع تحاول أن تفرض على حفيدها محاولة هروبها من
واقعها إلى ماض هي تعلم أنه لن يغير شيئا
في واقعها من تشبيه الجد "عبد المنعم العجل " بعبد
الناصر " ـ تعال نحطهم في الميزان سوا جدك ضرب الباشا
التركي بالقلم وعبد الناصر طار ورا الملك إللي جده بياع مدغه ،جدك وعبد الناصر زي
بعض كده،وتشير بيديها الاثنتين ويلامس سبابة اليمني سبابة اليسري ."
(ليس القميص أبيض ص 17)
لم
يغير شيئا من طبيعة العلاقة الجدلية بين
ذاتها والعالم "
أنظر
إليها فأراها تسرح في صمتها ثم تسقط دمعة علي خدها لتجاور رماد" الكانون" فأعرف أن الحزن بدأ
يستبد بها وأن فعل السنين وشظف الحياة
وبؤسها بدأ يظهر في بؤبؤ عينيها" المجموعة ص 18
في قصة " أن تموت أو
لا تموت " الذات متشظية أمام
العالم تحاول ألا يسحقها وتثبت له أنها
مازالت تقاوم بحيلها ومن السخرية
منه " أمام
شاشة التليفزيون المشطورة لنصفين
حاولت الصمود ،على اليمين صورة الرئيس
الذي يلقي خطابا ، وعلى اليسار كان المتظاهرون يلقون بالحجارة والمولوتوف على قوات
الأمن ، والتي كانت هي بدورها ترد عليهم الصاع صاعين بينما عربات الإسعاف تعمل في
دأب . لم استطع الصمود والمتابعة ، غلبني النوم ؛ فنمت . في اليوم التالي انقسم أصدقائي نصفين" (ليس
القميص أبيض ص 39)إنها محاولة من السخرية من
واقع سياسي أفرزته وقائع معينة .
قصص " شي لله يا سيدنا " و"إلا
ما ندر " و "طيران منخفض " و"القادم " محاولة
للتمرد علي الواقع الذي يفرضه العالم
لا التعامي عن وجوده أو إنكاره بالكلية.
في
قصة شي لله يا سيدنا تحاول الذات التمرد
على واقعها بمحاولة الهروب إلى عالم غيبي غير مرئي يكون فيه الحل بالنسبة لـ "شامخة " و"أبو السكيان "
زوجها لا إراديا عن طريق أحد الأولياء – الخضر - "تأخذ الأشياء وتدخل تقبل ابنها الخضر وتضع شق
التمرة في فمها فتجد لها طعماً رائعاً ورائحة فيها كل طيب الدنيا، تغمض عينيها من فرط حلاوتها ،ينسال اللبن من
صدرها فيلتقم الرضيع حلمتها فتدحجه بنظرة ونصف ابتسامة وتقول:
-
شي لله يا سيدنا ."
(ليس القميص أبيض ص 92)
و تستمر المحاولات في باقي
النصوص لخلق بيئة مناسبة للمتلقي و" وضمان قراءة فاعلة تفسح المجال
للقارئ قصد التجول في مدائن النص وسراديبه"(8)
ورغم أن الخطاب مفتوح لآفاق التأويل والفهم
مما يصعب مهمة التأويل ،والعقل
التأويلي يتعامل مع النص من منطق أنه لا يمكن احتواؤه لأنه تتقاطع عنده التأويلات
وفيه تنفجر الدلالات إلا أن هذا لا يمنع من قراءات تأويلية متعددة للنص ، فالعبرة
بالمؤول ومدي امتلاكه لأدواته وجهوزية سفينته التي ستمخر عباب النص .
المصادر والمراجع
بستاني النداف ، "ليس القميص أبيض
" دار إبداع للنشر والتوزيع " س نشر إقليمي ،القاهرة 2016
(1) عادل مصطفى: فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا،
نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامير،رؤية للنشر و التوزيع، القاهرة، 2007، ص34.
(2) عيد توفيق: في ماهية اللغة و فلسفة التأويل،
مجد المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت، 2002، ص87.
(3) أثر استقبال نظرية التلقي على النقد العربي
الحديث: د. إسماعيل علوي إسماعيل، مجلة الأقلام، عدد 4، سنة 1998،ص30.
(4)-
رجاء عيد، ما وراء النص، مجلّة علامات، السعودية، المجلد الثامن، ع:30 ، شعبان،
ديسمبر 1999 ،.
(5)- انظر شهادة أحمد طه في كتاب "شعراء
السبعينيات " ص32
(7) محمود عبّاس عبد الواحد، قراءة النص وجماليات التلقي،دار الفكر العربي،
القاهرة، ط:01، 1996، ص:17.
(8) - رجاء عيد، ما وراء النص، مجلّة علامات، السعودية، المجلد الثامن، ع:30
، شعبان، ديسمبر 1999،.