قصص قصيرة جداً
طلال حسن
إلى
من احترق في حريق الموصل الشهيدة
الشمعة
كالشمعة
أضاء ، وأطفىء كالشمعة .
الظلام
من الظلام نأتي ، وإلى الظلام نعود .
الباب
دُفع الباب ، في ظلام الليل ، وانتظرتُ ، لكن
أحداً لم يأتِ .
دموع الشمعة
بكتْ الشمعة ، وراحتْ تذرف الدموع الساخنة ،
حتى انتهت .
الفرح
خذ نصيبك من فرح اليوم ، فقد يأتي الغد ،
وينسى أن يأتي معه بالفرح .
مريم
يا أم المسيح ، يا أم المحبة ، موصل المحبة
تشتعل ، فصلي من أجلها .
حواء
سألت الطفلة أمها : ماما ، لماذا أكلتْ حواء
التفاحة ؟
فردت الأم قائلة :
لأنها حواء ، يا بنيتي .
منارة الحدباء
ازداد انحناء منارة الحدباء في الموصل خجلاً ،
وهي ترى الكتب تمزق ، وتقدم طعاماً للنيران .
إبليس
قال الطفل لأمه : لو كنت إبليس لسجدتُ لآدم .
فقالتْ له أمه : لست
إبليس ، يا بني .
الجني
منذ أن وعيتُ ، وأمي تحذرني من الجنيّ ،
ورحلتْ أمي ، وكبرتُ ، وشختُ ، والجنيّ في داخلي ، لا يريد أن يرحل عني .
الأفق البعيد
نظرت إلى الأفق البعيد ، وسرعان ما فتحت
جناحيّ ، وانطلقت نحوه كالسهم ، فالأفق ـ مهما كان بعيداً ـ لم يوجد إلا لنحاول
الوصول إليه .
تراث
نحن نقدس التراث ، ونحرص عليه ، حتى إننا لم
نخدش واجهة الموصل ، المطلة على نهر دجلة ، بمبنى حديث واحد ، منذ أكثر من قرن من
الزمان .
قنبلة
علمتْ
قنبلة ، بأنها ستُرمى فوق قرية ، فيها نساء وأطفال وشيوخ ، فانفجرتْ غضباً ، وحطمت
الطائرة التي تحملها بمن فيها .
شجيرة
سارتْ دبابة بجنازيرها القاتلة ، فوق شجيرة
ورد مزهرة ، فسحقتْ أزهارها ، لكن شذا تلك الأزهار ، ظلّ يملأ الفضاء .
إجازة
أراد الجنديّ الشاب ، أن يأخذ في إجازته ،
هدية من صديقه إلى أمه في القرية ، لكنه بدل الهدية ، أخذ لها ملابسه الملطخة
بالدماء .
هرّ
ربض هرّ ، وقد أبرز مخالبه ، وكشر عن أنيابه ،
أمام بلبل ، وقال له : غردْ وإلا قتلتك .
لو كنتَ بلبلاً ،
ماذا تفعل ؟
الشمعة القتيلة
أضاءتْ شمعة ، في مواجهة طفلة ، أصيبتْ بشظايا
قاتلة ، ولما أغمضت الطفلة عينيها المنطفئتين ، انطفأت الشمعة ، وتجمدتْ دموعها
الساخنة ، التي سالتْ على جسدها النحيل .
زهرة بابنج
تمنتْ زهرة بابنج ، لو أنها لم تنبتْ هذا
العام ، في جحيم الموصل ، فقد داستها بساطيل الحرب المجنونة ، وسحقتْ جمالها
وشذاها الفواح .
جمبد
وردة جمبد موصلية ، أهدتْ عطرها الفواح ،
لجندي من الناصرية ، حمى فاختة وفرخيها في العش ، من غراب ليلي اللون ، أراد الاعتداء
عليهما .
أم
أم من العمارة ، أرسلتْ رسالة إلى ابنها
المقاتل ، قالتْ له فيها : ولدي ، أنا أمك في الموصل ، فاحمني من النيران السوداء
.
البرد
بردُ الموصل شديد ﻻ يرحم ، هذه الأيام ، وغدا عيد الميلاد ، فتعال أيها السلام ، إن الأطفال في
الموصل بحاجة إلى دفئك .
العاصفة
هبت العاصفة ليلاً ، وطرقتْ بابه ونافذته بعنف
، لكنه لم ينتبه إليها ، فقد كان مستغرقاً في الحديث إلى زوجته ، التي رحلت منذ
سنين ، وهي تضع طفلهما الأول ، عن ولدهما الذي ذهب إلى الحرب ، ولم يعد .
الوعل
خرج الوعل العجوز من ملاذه في سفح الجبل ،
قبيل الفجر ، يبحث في العاصفة عن وعل رآه في منامه ، يمرّ من أمام ملاذه ، من يدري
، لعله صغيره ، الذي قيل له أن الذئاب قد فتكت به ، وافترسته .
وﻻذوا بالصمت
جلس بينهم صامتا ، وهم يتحدثون عن الأعداد
الهائلة لقتلى العدو في المعركة الأخيرة .
والتفت إليه
أحدهم ، وقال : لم تتكلم أنت ، قل شيئا .
فقال : لم
تتحدثوا عن عدد قتلانا .
فلاذ
الجميع بالصمت .
لماذا انقرضت الديناصورات ؟
سُئل حكيم : لماذا انقرضت الديناصورات ؟
فأجاب الحكيم :
انقرضت لأن بعضها كان يأكل البعض الآخر .
وصمت لحظة ، ثم قال
: وسينقرض الإنسان لنفس السبب .
بندقية
نظر الطفل إلى بندقية ، في محل وسط المدينة ،
وقال لأمه : ماما ، اشتري لي هذه البندقية .
وبصورة لا إرادية
نهرته قائلة : كلا .
ونظرت الأم
إلى طفلها ، ورأته حزينا ، محبطا ، فأخذته بين ذراعيها ، وقالت : أبوك ، في الحرب
، قتلته بندقية قناص ، يا بنيّ .
اينانا
زارت إينانا في العقود الأخيرة ، معابدها في
مدن وادي الرافدين ، ووقفت على خرائب إحدى المدن ، وقالت : يبدو أن أختي ايرشكاكال
، إلهة العالم الأسفل ، إلهة الموت ، تمد نفوذها على مملكتي شيئا فشيئا .
اللعبة
سقطت قنبلة فوق بيت ، فأصابت شظية منها طفلة
، كانت تلعب مع طفل في إحدى غرف البيت ، وسقطت الطفلة جثة هامدة .
فهزها
الطفل بيده الطفلة ، وهو يقول : انهضي ، نحن لم نكمل لعبتنا بعد .
برتقالة
اشتهى طفل برتقالة ، فخرج أبوه إلى الحديقة ،
ليأتيه بواحدة من شجرة البرتقال ، ورآه قنّاص ، فصوب بندقيته إليه ، وضغط على
الزناد .
منذ ذلك
اليوم ، والطفل الذي صار أبا ، يكره البرتقال ، وﻻ يقربه أبداً .
المقعد الخالي
في بيتي ، منضدة طعام صغيرة ، حولها ستة
مقاعد ، المقعد الأول لي ، والمقعد الثاني لزوجتي ، ومقعدان لولديّ ، ومقعدان
لبنتيّ ، لكن أحد مقعدي ابنيّ بات خالياً ، فحين
اجتاح ذوو الأعلام السوداء مدينتي ، أخذوا ابني ، ولم يعيدوه لي حتى الآن ،
ترى متى أرى هذه المقاعد الستة كاملة مرة أخرى ؟
النهار
ككل صباح ، استيقظتْ زهرة النيلوفر ، وصعدتْ
من أعماق المياه العذبة ، التي تنبتُ فيها ، وتفتحت أوراقها ، وهمّ الطائر الصغير
، الذي قضى ليلته عندها أن يطير ، لكن الزهرة ضمتْ أوراقها عليه ، إذ رأت السماء
ملبدة بغيوم الحرب السوداء ، وقالت وهي تغوص ثانية في المياه العذبة : أيها الطائر
، ابقَ الآن بين أوراقي ، إن النهار لم يأتِ بعد .
اللعبة
سقطت قنبلة فوق بيت ، فأصابت شظية منها طفلة
، كانت تلعب مع طفل في إحدى غرف البيت ، وسقطت الطفلة جثة هامدة .
فهزها
الطفل بيده الصغيرة ، وهو يقول : انهضي ، نحن لم نكمل لعبتنا بعد .
الذئب
قال الطفل لأبيه ، بعد أن حكى له قصة نوح
الطوفان : لماذا حمل نوح الذئب في فلكه ، يا بابا ؟
وفكر الأب مليا
، ثم قال : ربما لم يكن الذئب ذئبا ، في ذلك الوقت ، يا بني .
جسور
خمسة جسور في الموصل ، تربط الضفة الشرقية
بالضفة الغربية .
خمسة جسور
حطمتها الحرب في الموصل ، تفصل ضفتها الشرقية عن ضفتها الغربية ، ترى متى تلتقي
الضفتان ؟ من يدري ، أسالوا الحرب .
الراء
ثار حرف الراء منفعلاً ، في معمعة الرصاص والإنفجارات
، على كلمة " حرب " ، فانتفض عليها ، ونزع نفسه من بين حرفي "
الحاء والراء " ، وهدأ حين صارت الكلمة " حب " .
نخلة
جندي
من البصرة ، رأى نخلة مقطوعة الرأس في أحد شوارع مدينة الموصل ، فعانقها دامع
العينين ، وقال : أيتها الشهيدة ، لك أخوات شهيدات في مدينتي .. البصرة .
الجسر الحديد
الجسر القديم ، أو الجسر الحديد ، في الموصل
، بعمري تقريباً ، اليوم أعلن الحداد على نفسي
، فالجسر الذي في عمري ، قصفته نيران الحرب من الجهتين ، وعطلت فيه الحياة .
ما العمل ؟
في حيرة ، وندم ، شديدين ، نظر إلى يديه المرتعشتين
الملطختين بالدماء ، وقال : أردتُ أن أكون زارع ورد ، في حديقة واسعة مفتوحة ،
وإذا بي أغدو جزاراً في معركة واسعة مفتوحة ، لا يبدو أن لها نهاية ، يا ويلي ، ما
العمل ؟
الموعد
عند منتصف الليل ، والعاصفة الثلجية على
أشدها ، خرجت من فراشها الدافىء إلى موعدها ، تحت الشجرة الضخمة ، المطلة على
النبع ، تنتظره لتودعه ، فغداً صباحاً سيذهب إلى الحرب ، التي لا يعود أحد منها .
في اليوم التالي ،
وقد أشرقت الشمس حزينة باردة ، رأوها تقف تمثالاً من الجليد ، تحت الشجرة الضخمة ،
المطلة على النبع .
الإطلاقة
خفق قلبه برقة وحنان ، وهو يربض على الساتر
الترابي ، وبندقيته بين يديه ، إذ تراءت له نوره ، وغردت عيناه ، سأصطادكِ يا نوره
، في الإجازة القريبة القادمة ، وأحوّل خاتمك الذهب ، الذي يحمل اسمك الذهب ، من
يميني إلى يساري ، و ..
وكفت عيناه عن
التغريد ، إذ جاءته رصاصة قناص ، أصابته في قلبه .
الكهف
خرج من الكهف ، بعد أن لاذ به هرباً من
الإنسان ، الذي يقتل أخاه الإنسان ، قبل أكثر من خمسة آلاف سنة ، وإذا الإنسان
مازال يقتل أخاه الإنسان لسبب أو لآخر ، فعاد إلى الكهف ثانية ، الذي قد يخرج منه
بعد خمسة آلاف سنة أو أكثر ، لعله يجد أن السلام قد عمّ بين الإنسان وأخيه الإنسان
.
السمكة الملائكية
في جولتها اليوم ، رأت سمكة القوبي الصغيرة السمكة الملائكية
، فتوقفت تتأملها ، كأنها فراشة تشع بألوان قوس قزح ، وما أدهشها منها ، أنها حين
رفعت نظرها إليها ، ورأتها لم تفرّ منها ، كما تفعل الأسماك الأخرى .
وحكتْ
لأمها ما جرى ، فقالت الأم : إن السمكة الملائكية ، لا تأكل غير الأعشاب .
وبدا
للأم أن صغيرتها لم تفهم بالضبط ما تعنيه ، فقالت : الأسماك الأخرى ، التي تقتات
على الأسماك الصغيرة تتجنبنا ، لأننا أسماك سامة .
العاصفة الثلجية
استيقظتْ عند منتصف الليل ، على العاصفة
الثلجية ، تعوي في الخارج كقطيع من الئاب الجائعة ، وتنثر الثلج والبرد في كلّ
مكان .
وتراءتْ لها أمها ، في ليلة كهذه ، وهي تئن من
المرض ، فقالتْ لها : ماما ، سأشعل الموقد ، لعلك تدفئين .
فقالت لها أمها
بكلمات كالأنين : لا يا بنيتي ، تعالي إلى جانبي ، ودفئيني .
ونهضت من فراشها ،
ومضتْ عبر الليل والبرد إلى أسفل التل ، حيث ترقد أمها ، وتمددتْ فوق القبر ،
لعلها تدفىء أمها ، كما كانتْ تفعل دائماً ، عندما تهب العاصفة الثلجية .
الشجرة الملعونة
توقف الشيخ أمام الشجرة ، متوكئاً على عكازه ،
وقد وقف وراءه تماماً رجل ذو لحية كثة ، وملابس سوداء كالليل .
وتساءل الشيخ : أهذه
هي الشجرة ؟
فمال عليه الرجل ذو
اللحية الكثة ، وقال هامساً : نعم ، إنها هي ، يا شيخ .
فصاح الشيخ : اقلعوا
هذه الشجرة .
وتقدم شاب من بين الواقفين
هناك ، واحتج بكلمات مترددة : لكن هذه الشجرة شجرة مثمرة .
فصاح الشيخ ، دون أن
يلتفت إليه : لقد زرعها غريب ، وما يزرعه غريب في أرضنا ملعون ، ويجب القضاء عليه
.
الدراجة الهوائية
فُخخِتُ رغماً عني ، ورُكنتُ إلى جانب الرصيف
، في شارع فرعيّ ، يا للعار ، أنا دراجة هوائية ، ولم أصنع لمهمة قاتلة كهذه .
وأقبل من بعيد ،
يحمل بيده كتاباً ، إنني أعرفه ، هذا الرجل الأشيب ، إنه أديب أطفال ، يحب الأطفال
ويحبونه ، ولم يؤذِ في حياته نملة .
وجنّ جنوني ، لا ،
لن أنفجر ، وانفجرت رغماً عني ، وتطايرت عاصفة من الرمال والشظايا ، يا ويلي ،
كاتب الأطفال ، هدأتْ العاصفة ، وتساقطتُ ذرات رمل وشظايا ، ها هو كاتب الأطفال ،
يقف في مكانه ، وتنهدتُ مرتاحة ، فالأطفال ، الذين أسعدتهم قصصه ، سيستمرون في
قراءة قصصه الجديدة الجميلة .
الوهم
دخل على زوجته المطبخ ، قلقاً ، مربدّ الوجه
، فرمقته بنظرة خاطفة ، وقالتْ : خيراً .
فقال وهو يمسك
بالموبايل : هددني أحدهم في الموبايل .
ورمقته ثانية ، فقال
: الآن .
وانصرفتْ إلى عملها
، وهي تقول : لكني لم أسمع موبايلك يدق .
فقال بشيء من
الانفعال : دقّ ، وفتحته على الفور ، وسمعته يهددني .
ومدت الزوجة يدها ،
وأخذت الموبايل منه ، وحدقت فيه ، ثم قالتْ : لم يحدثك أحد .
وأخذ منها الموباي
مندهشاً ، وحدق فيه ، وقال بصوت متردد : حدثني بصوت لم أسمعه من قبل .
وصمتَ لحظة ، ثم
تمتم كأنما يحدث نفسه : إياكَ أن تخرج اليوم من البيت .
وعادت زوجته إلى
عملها ، وقالت : دعك من هذا ، إنها أوهام .
وقبيل منتصف النهار
، خرج الرجل من البيت ، دون أن تحاول زوجته منعه من الخروج ، لكنه لم يعد أبداً
إلى البيت .
كتب من طين
أفاق الملك الآشوري آشور بانبال ، حين علم أن
الكتب في الموصل تحرق ، فقالوا له : اطمئن
، إن كتبك الطينية ليستْ محفوظة في متاحف الموصل
، الذي دمرته النيران .
فعاد الملك
الآشوري من حيث أتى ، مطمئناً ، فمكتبته التي جمع ألواحها من جميع مدن العراق
القديمة ، لم تدمرها نيران التخلف .
جامعة الموصل
نُسفتْ جامعة الموصل ، بجميع مبانيها ،
وقاعاتها ، وكتبها ، لكن من نسفها نسي ، أن الجامعة هي آلاف الطلاب والطالبات ، الذين تخرجوا منها ، عبر عقود عديدة
من السنين ، ترى كيف يمكن الوصول إليهم ، ونسفهم الواحد بعد الآخر ؟
طفل
وقف طفل ، في حدود الرابعة من عمره ، وسط
حديقة منزله ، ورأى صاروخا متجها إليه ، فرفع يده ، وقال له : توقف .
وتوقف
الصاروخ ، فأشار له الطفل أن يستدير ، ويبتعد ، فاستدار الصاروخ ، ومضى مبتعدا .
قالت له
أمه : لكن الصاروخ القاتل قد يسقط على بيت واحد من الجيران .
فقال الطفل
: ﻻ ، لقد
أشرت له أن يسقط في الصحراء ، خارج الموصل .
النيران
جلس مجموعة من الرجال ، في حفرة طافحة
بالأوحال ، أثناء إحدى المعارك المستعرة ، فقال أحدهم : الحرب غابة تأكلها نار سوداء
.
فرد عليه
رجل : ﻻ عليك ، ستنطفئء هذه النار ، إن عاجلاً أو آجلاً .
ونظر إليه
الآخرون صامتين ، فقال : قد تمطر فتنطفئ النار ، وإذا لم تمطر ، فستنطفئ النار
أيضا ، إذ ﻻبد أن تنتهي الغابة ، مهما كانت كبيرة .
تموز
ركع الكاهن أمام إينانا ، وقال : موﻻتي ، لقد قتل تموز .
فقالت إينانا
: هذه قصة قديمة ، أعرف ، لقد قتله خنزير بري .
فقال
الكاهن : ﻻ يا موﻻتي ، هذه المرة لم يقتله خنزير بريّ ، وإنما قتله كائن طائفي .
فأشاحت إينانا
بوجهها ، وقالت : فليبق تموز في العالم الأسفل الآن .
كلهم أوﻻدي
ذهب
واحد من ذوي الرؤوس السود إلى معبد الإله مردوخ ، وركع أمامه ، وقال : موﻻي ، الكهنة يمتصون دماءنا ، والملوك يحرضون بعضنا على البعض الآخر ، وكلهم
يخدمون الغرباء .
فقال الإله
مردوخ : اسمع يا ولدي ، كلهم أوﻻدي .
متحف التاريخ الطبيعي
دخل طفل مع أمه ، إلى متحف التاريخ الطبيعي ،
في يوم من أيام المستقبل ، ووقف أمام مجموعة من الكائنات الغريبة .
فتساءل
الطفل : ماما ، من هؤﻻء ؟
فقالت الأم
مشيرة إليهم واحدا بعد الآخر : هذا كاهن الإله مردوخ ، وهذا كاهن الإله اوزوريس ،
وهذا كاهن الإله هبل ، وهذا الديناصور ، وهذا الماموث ، وهذا النمر السياف ، وكلها
كائنات انقرضت قبل ملايين السنين .
المطر الأسود
عندما تمطر السماء ، يقول أهل الموصل : خير ونعيم
.
ترى ماذا
يقولون الآن ، والسماء تمطر رصاصا، وقنابل ، ونارا ، ومطرا أسود ؟
رجل من الموصل
رجل تجاوز السبعين ، يجلس وحيدا بباب بيته ،
والمعركة مستعرة في الأحياء القريبة ، اقترب منه جندي شاب ، وقال له : ادخل بيتك ،
يا عمي ، حياتك هنا في خطر شديد .
ونظر الرجل
السبعيني إليه ، وعيناه تكادان تنطفئان ، وقال : ماذا أفعل بحياتي ، يا بني ؟ لقد
قتلوا أبنائي الثلاثة ، وأخذوا زوجتي وابنتي ، إنني وحيد الآن ، أهذه حياة تستحق
أن أحرص عليها ؟
يد بيضاء
يدي بيضاء ، ونظيفة ، وأردتها أن تبقى بيضاء
ونظيفة ، لكنها مع اشتداد الحرب راحت تتلوث
بالدماء ، والآن لم تعد يدي بيضاء ونظيفة ، ماذا أفعل ؟ هل أقطعها ؟
رفض
ألقيتُ على بيت وسط المدينة ، فاخترقتُ السقف
، واقتحمتُ إحدى الغرف ، وتلفتُ في الظلام
باحثة عن الأعداء ، فرأيتُ امرأة مسنة ، وفتاة شابة ، تحضن طفلا وطفلة ، وتحميهما مني بجسدها ، أهؤﻻء هم الأعداء ؟ فإنغرزتُ في الأرض ، ورفضتُ أن انفجر .
جندي
رأى جندي امرأة عجوزا ، تسقط في الشارع ،
فترك موقعه ، وقلبه يخفق عطفا عليها ،
وأسرع لنجدتها ، ورآه قناص ، يتربص وراء بندقيته القاتلة ، فأطلق عليه
النار ، وأصابه في قلبه .
الحارس العجوز
على عادته كل يوم ، استقبل الحارس العجوز ،
طفل الجيران بأعوامه الأربعة ، فوضع بندقيته جانبا ، ومد يديه المحبتين ، وضمه إلى صدره ، و ..
وجمدت عيناه ، فقد برز فجأة مسلح يغطي وجهه
بكوفية ، والطفل الصغير لصق قلبه العجوز ، فأنزل الطفل بهدوء ، وقال للمسلح : أتوسل إليك ، يا ولدي ، دع
الطفل يبتعد عني أولا ..
وقبل أن
يكمل الحارس العجوز كلامه ، أطلق المسلح رصاصة ، أصابت من الحارس قلبه العجوز .
الحرب الدائمة
ابني عمر ، كنا نخبئه في مكان آمن من البيت ،
عندما تأتي الطائرات الإيرانية ، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، والآن
ابني عمر يخبىء ابنه الصغير محمود ، في مكان آمن من البيت ، عندما تتساقط في جحيم
حرب الموصل ، قنابل الهاون وصواريخ الطائرات وزخات الرصاص ، ترى أين سيخبىء محمود
ابنه الصغير في المستقبل من الحرب الدائمة ؟
مدينة الألعاب
مدينة الألعاب في مدينة الموصل ، تطل على نهر
دجلة ، يسودها الآن صمت القبور وحزنها ، وبدل أن تسمع فيها زقزقة العصافير ، وكركرات
الأطفال وأفراحهم ، يصم الأسماع أصوات الرصاص والقنابل والصواريخ والطائرات
الحربية .
بابا نويل
أعياد الميلاد تقترب ، تقترب جدا ، ومن جديد
سيولد الطفل في المغارة ، وستهل أفراح العام الجديد ، وسيمر بابا نويل على أطفال
العالم ، ويقدم لهم هداياه ، لكنه لن يمر بمدينة الموصل هذا العام ، ولن يقدم
هداياه لأطفالها ، فهو ﻻ يمر بالمدن التي
تشتعل فيها نار الحرب السوداء والدمار .
السيف والنغم
وسط الرصاص و القنابل والصواريخ ، وغيوم
المعارك السوداء ، وقف أبو تمام فوق منصته في كورنيش الموصل ، ينشد متحمسا : السيف
أصدق أنباء من ..
ومن منصته ، قرب محطة قطار الموصل ، قاطعه ملا
عثمان الموصلي قائلا : كلا ، يا أبا تمام
، النغم أصدق ، ففيه الخير ، والمحبة ، والجمال ، والسلام .
منارة الحدباء
ازداد انحناء منارة الحدباء خجلا ، وهي ترى
الكتب تمزق ، وتقدم طعاما للنيران ، في الموصل .
الحمامة
جُنت النار مستعرة ، وهي تلتهم الكتب ، التي
ألقيت إليها ، في محرقة الموصل ، وامتدت ألسنتها إلى كتاب للأطفال عنوانه "
الحمامة " ، وما أن مسته ، حتى طارت الحمامة البيضاء من الغلاف ، وحلقت بعيدا
، وهي تقول : لقد قتلني الصهاينة في فلسطين ، ﻻ أريد أن أقتل ثانية في الموصل .
من الاهوار
جاءت امرأة مسنة من الاهوار ، فقد قالوا لها
، إن أبنها أصيب في الموصل .
وقالت
للقائد : أريد ابني .
ونظر
القائد إليها ، ثم وضع بين يديها ملابس ابنها ، وفيها رائحته ، وبقع من دمه ،
فأخذتها ، وقفلت عائدة به إلى الأهوار .
دجلة يجري حزينا
دجلة الخير ، حين كان يمر بالموصل وجسورها الخمسة
، كان يجري شابا فرحا متوثبا ، والآن حين
يمر بها ، يجري شيخا ، مهدما ، حزينا ، محبطا ، فجسورها الخمسة ، التي كان يعبرها
الناس ليلا ونهارا ، قتلتها الحرب ، وحتى القوارب التي تعبر بالناس ، تشق الماء
متوجسة ، قلقة ، خائفة ، إذ تتعرض للنار
بين حين وآخر ، فتغوص قتيلة بمن فيها إلى
الأعماق المظلمة .
لمن تقرع الأجراس ؟
في الموصل تقرع الأجراس الآن ..
لطفل ، ولد في المغارة ، ترج طفولته وهو في
المهد ، قنبلة هاون طائشة .
لطفلة نامت
، ودميتها تنام فوق صدرها ، تفز مرعوبة حين ترى في المنام ، رصاصة قناص تقتل
دميتها الصغيرة .
لصبية ﻻ تنام ، رغم انتصاف الليل ، فحلمها الأول ندى ، يرفرف فوق نيران الحرب في
الموصل .
لزوجة شابة
، تنام على دموع خوفها ، فزوجها الشاب ،
جندي يقاتل في الجبهة الشرقية من الموصل .
لامرأة في
شتاء عمرها ، أخذت حرب إيران زوجها ، وسرقت حرب الكويت ابنها ، وها هو حفيدها
يقاتل في أحد شوارع الموصل .
لأم صبية
تحمل طفلها الأول ، جنينا في رحمها ، وتركض هاربة تحت نيران الحرب ، بحثا عن نخلة تضع طفلها في ظلها الآمن ، فلا تجد ، في حرب
الموصل ، غير أعجاز نخل خاوية .
فارس
فززتُ من النوم ، على ابنتي صفاء ، تنهنه
باكية ملتاعة ، فاعتدلتُ مقترباً منها ، وتساءلت : صفا ، ما الأمر ؟
فأجابتني
من بين دموعها ، وهي تتلفت منهنهة باكية : فارس ، يا بابا .
وهززتُ
رأسي صامتاً ، فقالت صفاء ، وهي مازالت تنهنه باكية : صاح ماما ، وهو في حضني ،
فظهرت ماما في البعد ، وأشارت له أن تعال ، فهبّ من حضني ، وطار إليها ، فمدت يدها
، واحتضنت يده ، وغابا في الظلام .
لذتُ
بالصمت لحظة ، فزوجتي ، أم فارس ، تحت الأنقاض منذ أكثر من ثلاثة أيام ، بعد أن
سقطت قنبلة على بيتنا العتيق ، وهدمته تماماً ، وربتّ على رأس صفاء ، وأنا أقول
لها : فارس عند عمته منذ ثلاثة أيام ، فمنطقتهم أكثر أمناً من منطقتنا .
حمام العليل
صاح القطار قومي انزلي
كوي اوصلنا حمام علي
وحمام علي
هي حمام العليل ، التي كان يقف القطار عندها ، حين يأتي من الموصل ليلا ، متجها إلى
بغداد
فينزل
عشرات المصطافين ، أو المصابين بالأمراض الجلدية ، ليتطببوا بمياهها المعدنية ، أو
يسهروا في الليالي المقمرة فوق " تل السبت " لكن حمام العليل اليوم ،
عليلة ، فمن يعالجها ويشفيها ؟ و تل السبت نفسه
، لم يعد أحد يسهر فوقه ، حتى في الليالي المقمرة .
الكناري
قتلتْ شظية عبوة ناسفة طائرَ كنري ، بكاه صاحبه
الطفل بحرقة ، وحين هدأ قليلا ، سأل أباه : بابا ، هل
يذهب كناريّ إلى الجنة ؟
ونظر أبوه
في عينيه ، ورأى فيهما غيوما سوداء توشك أن تمطر حزناً ، فقال له : نعم ، يا بني ،
كناريكَ سيذهب إلى الجنة ، وسنلتقي به هناك .
حيرة قنبلة
انطلقتْ القنبلة في الهواء ، وتحيرتْ أين
تسقط ، هل تسقط فوق مدرسة ؟ أم مستشفى للأطفال ؟ أم حديقة عامة ؟ أم دار للعجزة
أم .. ومازالتْ القنبلة في الهواء حائرة ،
ﻻ تدري أين تسقط .
طائرة حربية
انطلقتْ الطائرة كالسهم ، عبر سماء الليل
المرصعة بالنجوم ، يقودها طيار شاب ، جاء من بلد بعيد ، عينوا له الهدف ، مدرسة
للأطفال ، حُولتْ إلى مصنع للأسلحة ، وفيها عدد من المسلحين ، وها هو الهدف ، وضغط
على الزر ، وإذا الهدف بمن فيه وما فيه ، شظايا ملتهبة ، تتطاير في الفضاء ،
واستدارت الطائرة ، وعادت عبر سماء الليل المرصعة بالنجوم ، من حيث أتت .
سامحوني
سقطت قنبلة هاون ، فوق دار للأيتام ، فقتلت
حارس الدار ، وثلاثة من المستخدمين ، وخمسة أطفال ، وقطة وصغارها الأربعة ، فشعرت القنبلة
بالحزن والخجل ، وقالت للجميع : سامحوني ، ليس الأمر في يدي .
عد إلينا يا بابا
قبل أن يصعد إلى طائرته ، فتح الطيار الشاب ،
القادم من فرنسا ، تلفونه النقال ، وقرأ فيه رسالة من ابنته في باريس ، تقول له
فيها : عد إلينا ، يا بابا ، إنني أنتظركَ .
وانطلق
الطيار الشاب بطائرته ، وعينا صغيرته
الجميلتان ﻻ تفارقانه ، وألقى صواريخه على الهدف ، دون أن يدري ،
أنه قتل في من قتل طفلة في عمر ابنته ، كانت هي الأخرى تنتظر أباها ، الذي يقاتل
في حرب الموصل .
أم جريح
سمعت امرأة ، أن ابنها جريح في المستشفى
فأخذت علبة حلوى يحبها ، وذهبت إليه ، لم تجده في المستشفى ، ورأت شابا جريحا في
عمره ، فانحنت عليه ، وعيناها غارقتان بالدموع ، وقبلت رأسه الجريح ، وقدمت له
علبة الحلوى .
حزن
حزن جسر الموصل القديم ، الذي تجاوز عمره الثمانين
عاماً ، عندما علم بأن إخوته الأربعة ، الأصغر منه سناً ، قد ضُربوا بقنابل
الطائرات ، وسرعان ما جاءته الطائرات ، وألحقته بإخوته الأربعة ، وضربته من طرفيه
.
اهجم
صاح الضابط بأحد الجنود ، في معمعة المعركة :
اهجمْ ، ﻻ تكن جبانا .
وقبل أن
يهجم ، التفت الجندي إليه ، وإذا عيناه تشبهان عيني ابنه ، وهجم الجندي ، وقتل في
ذلك الهجوم .
وكلما نظر
الضابط في عيني ابنه ، تراءت له عينا ذلك الجندي الشاب ، وأدرك أن تلكما العينين
لن تغيبا عنه حتى النهاية .
رصاصة
طوال سني الحرب ، لم يكن يحذر الرصاص ، ويقول
: أنا سيد ، وجدي رسول الله ، ولن تقتلني رصاصة مهما كانت .
وانتهت
الحرب ، وضجّ الجنود بالفرح ، وراحوا يطلقون النار في الهواء ، وإذا رصاصة طائشة
تصيب السيد ، وترديه قتيلا .
الخاتم
انتظرت الفتاة الشابة ، أن يأتي خطيبها
الجندي الشاب في إجازة ، ويقدم لها نيشان الخطوبة ، ويضع في يدها الخاتم ، الذي
يحمل اسمه .
في المنام
، تلك الليلة ، رأته يغطي رأسها بإشار أسود ، وفي اليوم التالي ، علمت بأن رصاصة
قناص أصابته في قلبه .
الحمام
تعودَ الحمام ، في كل إجازة لصاحبه الجندي ،
أن يرفرف فوقه ، ويتناول الطعام من يديه .
لكن الوقت
مرّ ، ولم تأت الأجازة ، فمن أين له أن يعرف أن صاحبه الجندي ، قد استشهد في مدينة
الموصل .
عصفورة
هبت
العصافير من أعشاشها خائفة ،عندما انفجرت في البستان قنبلة هاون ، عدا عصفورة
واحدة ، ظلت في عشها ، لم تهرب منه ، وكيف تهرب وإحدى بيضاتها الثلاث قد فقست ليلة
البارحة ؟
جامع النفايات
طفل في العاشرة ، يطرق بابي كل يوم ، ويقول :
نفايات .
والنفايات
نعطيها عادة لهذا الطفل ، مع مبلغ صغير من المال ، بدل أن نعطيها لسيارة البلدية ،
سألته مرة : ألست في المدرسة ؟
فرد قائلا : تركت المدرسة ، فأبي مقعد ، وأنا
أعيل إخوتي الصغار .
ومع اشتعال الحرب اختفى الطفل ، وحين عاد الهدوء
بعض الشيء ، لم يعد لجمع النفايات ، وعرفت فيما بعد ، انه مد يده مرة في برميل نفايات
، لعله يعثر على لقمة يسد بها جوعه ، فعثرت عليه عبوة ناسفة ، كانت مزروعة في
البرميل .
بائع الكاز الصغير
البرد قارس اليوم ، والمطر ينهمر بشدة ، وبائع
الكاز الصغير ، الذي ربما تجاوز العاشرة بقليل ، ينقل الكاز من عربته في باب البيت
، إلى برميل كاز فارغ ، في آخر الحديقة .
ولأني خجلت
أن أراقبه ، وهو ينقل الكاز ، في هذا البرد والمطر ، طلبت من زوجتي أن تراقبه ،
فقالت لي :
والله ﻻ أستطيع ، إنني أخجل من مراقبته .
وجاءني
بائع الكاز الصغير ، وماء المطر يقطر منه ، وقال لي : امتلأ البرميل ، وأغلقته .
فنقدته ثمن
الكاز ، وشكرته ، وتمنيت له التوفيق ، و .. وحين هدأ المطر ، وفتحت برميل الكاز ،
لم أتمالك نفسي من الضحك ، فالطفل ، بائع الكاز الصغير ، الذي خجلت أن أراقبه ، لم
يضع في البرميل قطرة واحدة من الكاز .
استجداء باللغة الكردية
في محل لصبغ الأحذية ، في منطقة الدواسة ، جلست
أصبغ حذائي ، وتوقفت بباب المحل صبيتان كرديتان ، ومدتا يديهما ، وراحتا تستجديان
باللغة الكردية ، التي ﻻ افهمها ، وإذا صاحب المحل ، وهو كرديّ ، يصيح بهما ،
ويطردهما بخشونة .
وابتعدت
الصبيتان ، فقلت لصاحب المحل : لماذا طردتهما هكذا ؟ إنهما تستجديان .
فرد صاحب
المحل قائلا : إنهما تشتمانك باللغة الكردية ، يا أستاذ .
مخيم
التقى لاجئان ، من دولتين مختلفتين ، في مخيم
للاجئين ، في إحدى الدول الأوربية ، ونشأت بينهما علاقة وطيدة .
سأل الأول
الثاني : لماذا هاجرت من وطنك ؟
فقال الثاني
: حكومة وطني شيوعية ، وأنا معاد للشيوعية .
وصمت لحظة
، ثم سأل الأول : وأنت ، لماذا هاجرت ؟
فأجاب
الأول : لأن حكومة وطني معادية للشيوعية ، وأنا شيوعي .
مظاهرة
أربعون نبيا ، هم أنبياء الموصل ، جاؤوها عبر
مئات القرون ، خرجوا اليوم من مراقدهم ، وساروا في مظاهرة ، وسط المدينة ، رغم
المعارك التي تمطر عليهم نارا ، يهتفون ضد الحرب ، رافعين شعار .. السلم في الموصل
.
الانفجار
سيارة مفخخة ، انفجرت في سوق شعبي ، وسط
العاصمة ، فتطايرت الحمامات فزعة ، ومعها تطايرت أشلاء الناس ، والدراجات ،
والسيارات ، والمطاعم ، والمقاهي ، وبسطات الباعة الفقراء .
وعلى عجل
جاءت الشرطة ، ووقف شرطي شاب مذهولا ، ووسط الأشلاء المتناثرة المدماة ، رأى امرأة
ستينية تركض متعثرة ، وخيوط الدم تسيل من عباءتها ، فهتف بها : أيتها الخالة ،
تمهلي ، أنت جريحة .
لم تتمهل
المرأة الستينية ، وظلت تركض متعثرة ، فلحق الشرطي بها ، وأمسك كتفيها الضامرين ،
وقال : تعالي معي ، الدماء تسيل منك ، سآخذك إلى المستشفى ..
وتوقف
الشرطي مصعوقا ، وقد جحظت عيناه ، فقد سقط من تحت عباءة المرأة الستينية ، ذراع
فتاة شابة تتلامع فيه أساور ذهبية ، ملوثة بالدماء .
هذه قصة حقيقية ، رواها لي ضابط شرطة في بغداد .
العلم
- مرحبا أستاذ .
توقفتُ ،
والتفتُ إلى مصدر التحية ، ودمعتْ عيناي إذ رأيت شابا ، مازالت ملامح الطفولة على
وجهه ، يقف أمامي مزهوا بملابسه العسكرية الجديدة ، انه تلميذي ، علمته سنوات ،
والتحق بالجيش قبل أشهر .
أجبته :
أهلا بني ، كيف حالك ؟
فرد قائلا
: بخير ، أنا الآن أخدم العلم في الجبهة ..
ثم ضحك
ضحكته الطفولية ، وقال : وراتبي أكثر من راتبك ، يا أستاذ .
وضحكتُ
لتفاخره الطفولي البريء ، وشددتُ على يده ، وقلتُ : أتمنى لك التوفيق ، يا بني .
لكن عينيّ
اللتين دمعتا لمرآه بالثياب العسكرية ، انبثق الدمع منهما حارا ، حين علمتُ بعد
أشهر ، أنهم جاءوا به من الجبهة ، ملفوفا بالعلم .
حوار في الظلام
لم أسمعها تتململ ، رغم الانفجارات القوية المتواصلة
، لكني أعرف أنها مستيقظة ، في عتمة سريرنا العتيق ، الذي تجاوز عمره الخمسين عاما
، والتمع برق في السماء ، فلمحتها متكومة تحت الفراش إلى جانبي ، تتمتم مرعوبة :
يا ويلي ، يا ويلي ، ستقتلنا هذه القنبلة .
ربت على
كتفها المرتعش ، وقلت : هذا رعد ، نامي .
وقالت
شاكية : الانفجارات لم تتوقف الليلة .
وصمتت لحظة
، ثم قالت : لتسقط علينا قنبلة ، وتخلصنا من هذه الحياة .
وصمتت
ثانية ، ثم قالت : حمدا لله ، لم يصر لنا ولد ..
وتابعت كأنما تحدث نفسها : لو كان لي ولد ، أو
بنت ، وأصيب أحدهما بانفجار ، سأجن ..
قاطعتها
برفق : ليس لنا ولد ، نامي الآن ، نحن في منتصف الليل .
وتابعت
قائلة بصوت منفعل ، تخنقه الدموع : سأفقد عقلي ، وأجن تماما ، إذا أصابت قنبلة
ابني أو ابنتي ، و ..
وصمتت ، ثم قالت مرعوبة : أنصت ..
وأنصت ،
فقالت : قنبلة تقترب ..
فقلت: انه
صاروخ طائرة ..
فقالت: إنها
تقترب .. تقترب ..
فقلت :
اطمئني ، سيسقط الصاروخ بعيدا ..
وقبل أن أنهي كلامي ، حدث انفجار هائل ، ثم ..
سادنا الظلام التام والصمت .
الحوت
خرج النبي يونس من نينوى غاضبا ، بعد أن نُسف
مرقده في الموصل ، واتجه نحو البحر مباشرة ، فهتف به محبوه : توقف ، يا يونس ، لا تذهب إلى البحر ، سيبلعك الحوت .
لكن النبي
يونس لم يتوقف ، ومضى قدما نحو البحر .
ﻻ أنام
منذ أيام .. وأيام .. وأيام ، وأنا ﻻ أنام ، فالحرب مستعرة في داخلي ، وفي الموصل ..
ومن الليل
تناهى إليّ صوت طائري ، الكناري : أنت امرأة عجوز ، ووحيدة ، نامي الآن ، نامي ،
لعلك ترتاحين ..
أنا ﻻ أنام ، يا طائري ، لأني أخاف أن تصيب شظية صوتك فتقتله ..
وأنا ﻻ أنام ، خشية أن تسقط قنبلة ، على بيتي العجوز ،
فتهدمه ، وتقبرني تحت ركامه ..
أنا ﻻ أنام ، فابني الوحيد أخذته زوجته مع صغيريه إلى أهلها
، في حي الكرامة ، فهناك كما تقول ، الحرب اخف ..
أنا ﻻ أنام ، فابنتي وأطفالها الأربعة ، في حي الزهور ، وسط القنابل والصواريخ
والرصاص ، والموت ..
أنا ﻻ أنام ، فأختي العجوز الأكبر مني ، في بيتنا القديم ،
في حي الميدان ، قرب النهر ، تعيش وحيدة فيه ، وسينهار بنفخة قنبلة ، قلت لها:
تعالي معي ، فبيتي كبير ، وأنا وحيدة ..
فقالت لي :
لن أترك بيتنا القديم ، ففيه رائحة أمي وأبي .
وأنا ﻻ أنام ..
ربما لأني متعبة .. متعبة .. متعبة .. و.. ونمت .. أخيرا نمت .. وفي منامي سقطت
على بيتي العجوز قنبلة ، أم أنه صاروخ ؟ فتهدم ، وقبرني تحت الركام .
اوتونابشتم
اقبل اوتونابشتم وزوجته من أعالي الأنهار ، حيث
يعيشان خالدين ، ورأى مدن ما بين النهرين
، وإنسان ما بين النهرين ، ورأى ما جرى وما يجري وما سيجري ، فتوقف حزينا ، محبطا ، ثم قال لزوجته : تعالي
نعد من حيث أتينا ، يُخيل إليّ أنني أخطأت
، ربما لم يكن لي أن أبني ذلك الفلك .
الحياة لليث
على عادته ، استيقظ ليث بأعوامه الخمسة ،
وشعره الذهب ، وعينيه الربيعيتين ، ونظر عبر النافذة ، وصاح فرحا : ماما ، الشمس
مشرقة اليوم .
وأدركت
الأم ما يعنيه ، فقالت :لكن البرد شديد ، و ..
وهب ليث من
فراشه ، وقال : ﻻ رصاص وﻻ قنابل وﻻ صواريخ .
وخرج ليث إلى الحديقة ، يلعب بكرته تحت أشعة
الشمس الدافئة ، وأمه تقف على مقربة منه ، وقلبها يخفق خوفا ، فليث ابنها الوحيد ،
وقد جاءها بعد سنين من الصبر والمعاناة ، ووقتها قالت لها الطبيبة : لن يكون لك
طفل آخر .
ومن بعيد جاء صاروخ ، وراح يقترب من الحديقة ،
التي يلعب فيها ليث ، و ..
ورفعت القلم .. لن أستمر بالكتابة ، ونظر القلم إليّ
، فقلت منفعلا : انه وحيد والديه .
وقال القلم
لي : هذا ليس شأنك ، أنت كاتب ، أكتب ما حدث ..
ونهضت
غاضبا ، وكسرت القلم ، وأنا أقول : لن أتم القصة ، ولن أسمح بموت ليث ، مهما كلفني
الأمر .
محمود والصاروخ
بحثت الأم عن ابنها محمود داخل البيت ، دون
جدوى ، وخفق قلبها خوفا ، فهو لم يتجاوز الخامسة من عمره بعد ، والتمعت عيناها ،
انه في الحديقة ، والحرب مستعرة .
وطارت إلى
الحديقة ، وإذا محمود يقف تحت الشمس ، وقد رفع إحدى يديه إلى الأعلى ، يا للويل ،
وصاحت : محمود ..
وقال محمود
، دون أن يلتفت إليها : الصاروخ كان متجها نحو بيتنا ، فرفعت يدي ، وقلت له ، توقف
..
واتسعت عينا الأم رعبا ، وتابع محمود : وتوقف
الصاروخ ، فأشرت له أن يستدير ، ويذهب بعيدا عن بيتنا .
واقتربت
منه أمه ، وقالت : لكن الصاروخ سيسقط على بيوت الجيران .
فنظر محمود
إلى أمه ، وقال : قلت له ، أن ﻻ يسقط على بيوت الجيران ، بل في أرض خالية ،
بعيدا عن الموصل .
أنا أعرف ..
صباح كل يوم ، مع شروق الشمس ، وعلى مدار
السنة ، يخرج من بيته ، متوكئا على أعوام عمره ، التي تجاوزت التسعين ، متجها
بخطواته الثقيلة إلى دار العجزة ، حيث تعيش زوجته منذ ثلاث سنوات تقريبا ، بعد أن
أصيبت بالزهايمر ، وعجز عن العناية بها .
انه يحضر إليها
كل صباح ، ليطعمها بيده ، ويتناول معها طعام الفطور ، وذات يوم ، قالت له رفيقتها
، التي تشاركها في الغرفة : يبدو لي أن مجيئك عبث ، فهي كما ترى مريضة جدا ، وﻻ تعرف
الآن من أنت .
والتفت إلى
زوجته ، التي كانت في عالم آخر ، وتأملها مليا ، ثم قال : نعم ، إنها ﻻ تعرف الآن من أنا ، لكن أنا أعرف من هي .
النغزة
ما إن وقعت عيناي عليه ، مسجى على العشب ،
متمددا كالنائم ، حتى داهمت النغزة قلبي من جديد ، الطبيب سوف يقول لي كالعادة :
انه العمر .
لكنه ﻻ يعرف ، ولن يعرف ، أن هذه النغزة ، داهمتني لأول مرة
منذ سنين بعيدة ، عندما كنت أقاتل مع الأنصار في الجبل ، وأنها رافقتني سنين وسنين
وسنين ، لقد داهمتني لأول مرة ، عندما رايته متمددا كالنائم على مرجة ندية من السفح
، ووجهه مندى بقطرات من دمه ، انه احد أفراد الدورية الحكومية ، التي تبادلت معهم إطلاق
النار ، منذ أكثر من ساعة ، في هذا الطرف المنعزل من الجبل ، وعندما انتهى كل شيء
، انحدرت إلى السفح ، ورايته متمددا على المرجة .
مددت يدي ،
ابحث في جيوبه عن هويته ، وهنا داهمتني النغزة في قلبي لأول مرة ، ولم تفارقني حتى
الآن ، ففي جيب صغير ، خفي ، من قمصلته العسكرية ، فوجئت بوجود العدد الأخير من
جريدة طريق الشعب السرية .
صداع
أقلقه تفاقم صداعها ، وﻻحظتْ قلقه ، فقالتْ له : ﻻ تقلق ، انه ضغط الدم .
ولكي يطمئن
نفسه ، قبل أن يطمئنها ، قال وهو يربت على يدها المرتجفة : ﻻ عليك ، سأذهب إلى الصيدلي ، بعد قليل ، وآتيك بحبوب الضغط ، التي وعدني بها .
وأمسكت يده
، وقالت : المعارك مشتدة اليوم ، أرجىء هذا إلى الغد .
فقال وهو
يغادر البيت بسرعة : أنت بحاجة إلى الدواء هذا اليوم .
وأسرع إلى
بيت الصيدلي ، واخذ منه حبوب الضغط ، ثم قفل
عائدا إلى زوجته ، ستتناول زوجته حبة واحدة ، وكالعادة سينخفض الضغط ، وسيطمئن عليها
، وعلى صغيره الذي ينمو في أحشائها ، ومن بعيد سمع صوت قنبلة هاون ، وارتفع صوت
انفجار هز المدينة ، ياويل من سقطت فوق بيته هذه القنبلة .
وركض نحو
بيته ، وقلبه يخفق بشدة ، وبدل بيته ، الذي تنتظره فيه زوجته ، وصغيره الذي ينمو
في أحشائها ، وجد كومة من الحجارة ، ترتفع من أطرافها سحب من الغبار والدخان .
البحث عن عمل
عرفتُهُ حين دخلتُ الغرفة ، ورأيتهُ جالساً
وراء المكتب ، ويبدو أنه عرفني حالما رفع عينيه ، ورآني عند الباب ، فتساءلت عيناه
البنيتان ، قبل أن تتساءل كلماته : منى !
ابتسمتُ ابتسامة شاحبة ، وقلتُ
: عفواً ، لم أعرف أنكَ تعمل هنا .
ونهض من مكانه ، وقال : تفضلي .
تقدمتُ من مكتبه ، وأنا أقول :
جئتُ في الحقيقة .. أبحثُ عن عمل .
وتمتم بصوت خافت : تخرجنا معاً
..
وقلتُ : أنت عُينت وأنا تزوجت
..
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : أغتيل زوجي ، وترك لي ثلاثة أطفال .
وبدت سحابة حزن في عينيه
البنيتين ، وقال كأنما يحدثُ نفسه : أنا أيضاً ماتت زوجتي ، وتركت لي طفلين .
ولذت بالصمت ، فنظر إليّ ، وقال
: أعطيني رقم هاتفك ، وسأتصل بك إذا وجدت لكِ عملاً يناسبكِ .
لم أنم ، ذلك اليوم ، حتى منتصف
الليل ، وكأني كنتُ أنتظر مكالمته ، وحين دق جرس تلفوني ، وعرفت أنه هو ، قلتُ له
فوراً : يبدو أنكَ وجدتَ لي عملاً .
لم يجب على تساؤلي ، وإنما قال
: لي بيت بسيط ، فيه حديقة صغيرة ، وعندي كما تعرفين طفلين ، انضمي إليّ ، وسيكون
لنا خمسة أطفال .
لذتُ بالصمت ، فأنا لم أتوقع
هذا العمل ، وجاءني صوته دافئاً مطمئناً : أنتظر جوابك .
ومهما يكن ، فها أنا أعيش في
بيت بسيط ، فيه حديقة صغيرة ، وبدل أولادي الثلاثة ، صار لي خمسة أولاد ، وأب طيب
يرعاهم جميعاً .
في انتظار كودو
جاءت بعد انتظار سنين ، فأراد أن يسميها أمل ،
لكن زوجته ، غفر الله لها ، أصرت أن تسميها صبرية ، تيمنا باسم خالتها الحبيبة
الراحلة صبرية .
وكما تنمو فتيات
الحكايات ، راحت صبرية تنمو وتكبر ، ودخلت المدرسة ، وكانت الأولى دائما ، في
الابتدائية والمتوسطة والثانوية ، وحتى عندما دخلت كلية الهندسة ، كانت الأولى على
مجموعتها ، وأخيرا أخذت الشهادة الجامعية ، ووضعتها في إطار زجاجي جميل ، وعلقتها
على حائط غرفتها ، وجلست .. تنتظر جودو .
إلى أين ؟
تألمتُ عندما عنفها الموظف الصحي ، لا لخطاء
ارتكبته ، وإنما لمزاجه العكر ، الذي ﻻ يحتمل ، وخرجتْ المرأة المسنة منكسرة ، دامعة العينين
، وبعد أن أخذتُ دوائي خرجت متعكراً من المستوصف .
وعلى
الرصيف ، رايتها تسير أمامي بحيرة وبطء ، وحين حاذيتها ، قلت لها : ﻻ عليك منه ، انه عكر المزاج هكذا دائما .
وتنهدت
المرأة المسنة ، وقالت : هذا حظي الأسود ..
وصمتت لحظة
، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : لو كان لي شيء من الحظ لبقي زوجي على قيد الحياة ،
كان يدللني ، وخاصة بعد أن صار لنا ولد وبنت ، والآن وقد رحل ، وتزوجت ابنتي ،
وتزوج ابني ، ﻻ احد يريدني ، زوجة ابني ﻻ تحتملني ، وزوج ابنتي ﻻ يريدني ..
وتوقفت ، وراحت
تتلفت حائرة ، وهي تقول : إلى أين اذهب ؟
أبو
فارس
جاءني أبو فارس مرة ، وجلسنا كالعادة في حديقة
منزلي ، وقال لي عبر دخان سكارته ، وفنجان القهوة أمامه : طلال ، يبدو أنني خرفت .
ضحكت
، وقلت : اطمئن ، يا أبا فارس ، أنت آخر من يخرف منّا .
فقال
: اسمع ، كنت اليوم في باب الطوب ، لأستقل سيارة إلى البيت ، وإذا أحدهم ينقض عليّ
، ويأخذني بالأحضان والقبلات الحارة ، وهو يقول : كيف حالك ، يا أبا فارس ؟ مشتاق
جداً إليك .
نظرت
إليه مليّا ً ، لم أعرفه ، أهو يُمثل عليّ ؟ أم أنه صديق قديم ، لم أره منذ فترة
طويلة حتى نسيته ؟ مهما يكن ، وعلى عادتي في حالة كهذه ، قلت له : أخي صدر لي كتاب
جديد ، وأريد أن أهديك نسخة منه ، أعطني اسمك الثلاثي لأكتب لك الإهداء .
فقال
لي مستغرباً : ماذا جرى لك ، يا أبا فارس ؟ أيعقل أنك نسيتني ؟
فقلت
له : أخي لم أنسك ، وكيف أنساك ؟ فقط أعطني اسمك الثلاثي لأهديك الكتاب .
فقال
لي مستنكراً : أبو فارس ، أنا عبد الباري .
وضحكتْ
، فعبد الباري هو صديق عمره ، وهو أيضاً موظف معه في نفس الدائرة لأكثر من "
25 " عاماً ، فهل خرف أبو فارس ؟
رائد
رغم الغبار الكثيف ، وأزيز الرصاص ،
والإنفجارات المتتالية ، تناهى إليّ الصوت الفاجع لجارتنا " أم رائد " :
النجدة .. مات ابني .. مات رائد .
وتفجرتْ الدموع في
عينيّ ، وأسدلت ستاراً أمام نظري ، الذي أغشاه الغبار الكثيف ، والانفجار الهائل ،
الذي دمّر بيتنا وبيوت الجيران .
وخرجت من بين الأنقاض
، التي أبعدتها أمي عن جسدي النحيل ، ووقفتُ والغبار يرتديني فوق ملابسي الممزقة ،
وتحسستني أمي مرتجفة قلقة ، وهي تقول : اطمئني ، يا بنيتي ، أنتِ سالمة .
وارتفع صوت " أم
رائد " المدمى ، المجروح ، فوق أزيز الرصاص ، والانفجارات المتتابعة : رااائد
.
رائد ، الشاب ،
يكبرني ربما بأكثر من سنتين ، انتبهتُ إليه ، وأنا في حدود العاشرة ، يطيل النظر
إليّ بعينيه الخضراوين ، أشحتُ عنه بوجهي في البداية ، لكن مع الزمن استهواني نظره
إليّ ، بل ورحت أبادله النظر بين حين وآخر .
ارتفع صوت " أم
رائد " : رائد .. رائد ..
وارتفع بكائي ، لم
تلتفتْ أمي إليّ ، فقد انهمكتْ بسحب أخويّ من تحت الأنقاض ، وتحسستْ جسديهما
الضامرين ، وهي تغمغم : حمداً لله ، أنتما بخير .
وصاح أحد أخويّ :
بابا .
وكان بابا قد نهض
مترنحاً من بين الأنقاض ، والدماء تغط وجهه ولحيته الكثة ، التي وخطها الشيب ،
وقال : اطمئنوا ، أنا بخير .
ومع ارتفاع عويل
" أم رائد " ، ارتفع بكائي ، وأغرقت الدموع عينيّ ووجهي المغبر ،
فالتفتت أمي إليّ ، وقالت : كفى ، يا بنيتي ، أبوكِ وأخواكِ بخير .
وارتفع بكائي أكثر
وأكثر ، حتى غدا كالعويل ، حين ارتفع الصوت الفاجع : رائد .. رائد .. رائد .
عبد يابا
فزّتْ مرعوبة ، وهي تشهق من أعماقها ، حين زلزل
الدنيا انفجار ، كأن القيامة قد قامتْ ، وهتفتْ مستنجدة بصوتها المختنق : عبد يابا
.
اعتدلتْ في فراشها
الرث ، ومسحت بيديها الشائختين ، اللتين شارفتا على التسعين ، وجهها الذي ملأته
السنون الصعاب بالأخاديد العميقة .
يا له من كابوس ،
وتنهدتْ من أعماقها اليابسة ، متى ينتهي هذا الكابوس ؟ وأغمضتْ عينيها المتعبتين ،
سينتهي ، كما انتهى غيره ، وكما انتهى كلّ من كان حولها ، وغدت حياتها صحراء .
وتلفتتْ حولها ، أهو
الليل ؟ الظلام يعمّ الغرفة ، لكنها عندما غفت ، ربما منذ أقل من ساعة ، كان
النهار في كلّ مكان ، داخل غرفتها ، وفي الفناء ، وفوق أغصان شجرة التوت المعمرة ،
وأوراقها الزاهية الخضرة ، وحتى على زقزقة العصافير .
وتحاملتْ على نفسها ،
ونهضتْ بصعوبة متقطعة الأنفاس ، الهواء هنا ثقيل ، يخنقه الغبار ، ترى من أين جاء
الغبار ؟ فلتخرج إلى الفناء ، وتجلس قليلاً تحت شجرة التوت المعمرة ، وتستنشق بعض
الهواء النقي ، المفعم برائحة أوراق شجرة التوت ، وثمارها الصغيرة ، التي لم تنضج بعد .
وتوقفتْ متلفتة ،
مذهولة ، وقد اتسعت عيناها الكليلتان أين باب الغرفة ؟ وأين الشباك الصغير ،
المطلّ على الفناء ، الذي تتوسطه شجرة التوت المعمرة ؟
ما مرّ بها إذن ، لم
يكن كابوساً ، بل أسوأ من الكابوس ، فالكابوس مهما كان ثقيلاً وطويلاً ، يمكن أن
تفيق منه وينتهي الأمر ، كان إذن حقيقة ، نعم ، حقيقة ، لابدّ أنّ قنبلة طائشة ،
لم تسقط هذه المرة بعيداً ، وإنما سقطت
على بيتها بالذات ، وحدث ما حدث .
عادت إلى فراشها ،
وتهاوت فوقه متمتمة ، مستنجدة من أعماقها : عبد يابا .
وأغمضت عينيها ،
اللتان تكادان تنطفئان ، عبد ، عبد الرزاق ، ابنها الأخير ، جاء على العكس من
أخويه الأبرشين ، أبيض البشرة ، أسود العينين والشعر ، لم تصدق عينيها حين ولدته ،
وبعد أيام أخذته إلى السطح ، حيث الشمس ساطعة ، ومدت أصابعها المرتعشة القلقة ،
وفتحت عينيه ، وحدقت فيهما طويلاً ، وخفق قلبها فرحاً ، إنه طفل طبيعيّ ، وليس
أبرشاً مثل أخويه .
عبدته ، عبدتْ ابنها
عبد الرزاق ، وكلما كانت تعثر ، أو تفاجأ ، كانت تشهق صائحة : عبد يابا .
وتململت في فراشها ،
أين عبد ؟ أين عبد يابا ؟ رأته في أعماقها المتصحرة طفلاً .. صبياً .. يذهب إلى
المدرسة ، وظلت ترضعه حتى السابعة من عمره .. ورأته في شبابه .. وأي شباب ..
وأنّتْ في كابوسها ، حين صكّ سمعها هدير سيارة ، ثم توقف عجلاتها ، وهي تصرخ مدخنة
فوق الإسفلتْ .
واعتدلت في فراشها ،
ها هو ابنها عبد ، ينهض من تحت السيارة ، ويُقبل عليها مسرعاً ، يمدّ إليها يديه
الشابتين المحبتين ، وتناهىت إليها أصوت تقترب ، ومن أعلى السقف ، فُتحت ثغرة ،
أطلّ منها النهار ، فتمتمت بصوت مرتعش : عبد يابا .
الطفل
خرجتُ من الغرفة ، لأحضر كوباً من الماء لزوجي
، الذي كانت الحمى تشويه طوال أكثر من يومين ، وأبقيتُ طفلي الرضيع إلى جانبه
.
وقبل أن أصل إلى
المطبخ ، حدث انفجار هائل ، سبقه أزيز كأزيز العاصفة ، وعلى أثر الانفجار ، وجدتني
أرتفع أمتار في الهواء ، ثم أتهاوى على الأرض مع تهاوي البيت برمته .
بقيتُ خامدة قرب
الأنقاض ، وقد ساد صمت كصمت القبور ، تحاملتُ على نفسي ، وجسمي كله يتصارخ من
الألم ، وتلفتُ حولي ، أين الغرفة ؟ أين زوجي ؟ أين طفلي الرضيع ، الذي انتظرته
سنوات ؟ لا شيء حولي غير ركام من الحجارة كأنه القبر .
تناهتْ إليّ أصوات من
تبقى من الجيران ، يتصايحون ويولولون ، وارتفع أكثر من صوت يصيح : اهربوا ..
اهربوا .. الدواعش قادمون .
هربتُ مع الهاربين ،
وقد طاش عقلي ، فلو رآني ، في تلك اللحظة ، أحد الدواعش ، وأنا أركض كالمجنونة ،
بدون عباءة أو خمار ، حافية حتى بدون جوارب ، لجلدني مائة جلدة ، أو .. أو قطع
رأسي .
لاحقتنا رصاصات رشاش
، فاندفعتُ إلى زقاق جانبيّ ، تداعت جدران بعض بيوته الآيلة للسقوط ، وغطت أجزاء
كبيرة من الزقاق .
وتحت أنقاض أحد
الجدران ، رأيتُ امرأة شابة ، مسحوقة تحت الحجارة ، وإلى جانبها يزحف طفل رضيع ،
في عمر ابني تقريباً .
توقفتُ متقطعة
الأنفاس ، وعيناي المشدوهتان تتابعان الطفل الزاحف قرب جثة أمه المسحوقة ، وهو
يبكي بحرقة ، لاحقتني رشقة من الرصاص ، فانحنيتُ على الأرض ، ولذتُ بالفرار ، لكني
توقفتُ في نهاية الزقاق ، رغم أن الرصاص لم يتوقف ، وقفلتُ عائدة إلى الطفل .
البومة
ـ أو .. هو .. هو .. هو
فزّتْ من نومها ،
وقلبها يخفق بشدة ، آه .. منذ صغرها وهي تكره البومة ، وتتشاءم منها ، كلما سمعت
نعيبها في الليل .
انقبض قلبها ، وتذكرت
ما قالته جدتها يوماً : نعيب البومة البشع إشارة شؤم ، يعني أن أحداً قد مات ، أو
أن أحداً سيموت .
ارتفع نعيب البومة
ثانية ، فتمتْ بصوت مرتعش ، وهي تتلفتُ في الظلام : ضياء ..
لم يغمض لها جفن رغم
شعورها بالوهن ، ومع الفجر تناهى إليها أزيز الرصاص ، وأصوات الانفجارات ، من
أحياء الساحل الأيسر ، القتال الطاحن مستمر ، وسيأتي على المدينة كلها .
تحاملت على نفسها في
الصباح ، وارتدت ملابسها الليل ، ووضعت الخمار على وجهها ، وتسللت إلى ابنها ضياء
في مدينة تلعفر .
وتمزق قلبها ، وهي
تراه في ملابسه الأفغانية ، ولحيته الكثة المغبرة ، فعانقته دامعة العينين ، وقالت
له بصوت مرتعش : بنيّ ، قتل أبوك وأخوك .
وحدق فيها بمرارة ،
وقال : استشهدا ..
وصمت قليلاً ، ثم قال
: أعرف .
وقلت له بصوت مرتعش ،
مغالبة دموعها : تعال معي ، يا بنيّ ، لم يعد لي أحد .
فردّ قائلاً بمرارة
أشد : كلا ، سأبقى في البيت ، الذي دفعتماني إليه .
لم تدرِ مت غفت ، حين
فزتْ فجأة ، وقلبها يخفق بشدة ، وتمتمت : ضياء .
ومن أعماق الليل ،
هدر نعيب البومة : أو .. هو .. هو .. هو .
الفاختة
وقفت الفاختة على حافة عشها ، الذي بنته بين أغصان شجرة
التوت ، التي تتوسط الفناء ، ورفعت رأسها إلى أعلى ، وراحت تهدل : كوكوختي ..
كوكوختي ..
انتبهتْ من غفوتها
القلقة ، وهي في فراشها الدافىء رغم الزمن الذي مرّ عليه ، وأنصتت إلى هديل الفاختة
، الذي يأتيها من الفناء : كوكوختي .. كوكوختي ..
ودمعت عيناها
الشائختان ، آه كم كانت أختها الراحلة أمل تحب هذا الهديل ، هي أيضاً تحب هديل
الفاختة ، ربما لأن الراحلة أمل ، الأكبر منها بسنين قليلة ، كانت تحب الهديل ،
وكانتا في الصغر ، تجلسان تحت الشجرة ، وتهدلان معاً كالفاختة ، فتقول أمل ..
: كوكوختي .. كوكوختي
فتجيبها : عين أختي
تقول أمل : اشتاكلين ؟
فتجيبها : حب الله
تقول أمل : اشتشربين ؟
فتجيبها : ماي الله
ثم تقولان معاً : كوكوختي .. كوكوختي .
وظلتا تهدلان ، تحت
شجرة التوت ، حتى بعد أن رحلتْ أمهما ، ولحق بها أبوهما ، وكأنه لم يحتمل الحياة
بعدها ، آه لو لم يسكتها قناص ، أصابها في صدرها من جهة القلب ، لكانتا الآن
تهدلان تحت الشجرة .
سكتت الفاختة ، حين
ارتفع أزيز رصاص في السماء ، وخيل إليها أن رشقات منه أصابت أغصان شجرة التوت ،
فشهقت متمتمة : الفاختة .
وعلى الفور ، تحاملت
على نفسها ، وخرجت إلى الفناء ، وإذا الفاختة ملقاة على الأرض ، والدماء تغطي
ريشها الرمادي الجميل .
ومدت يديها
المرتعشتين ، ورفعت الفاختة عن الأرض ، وراحت تحدق فيها ، وعيناها غارقتان بالدموع
، وهي تهدل بصوت دامع حزين : كوكوختي .. كوكوختي ..
القناص
تحت إلحاحي حضر معي إلى الحفل ، الذي أقيم سراً
للقناص الغربي ، وقد انتمى إلينا قبل حوالي السنة ، وقنص خلال هذه المدة " 40
" شخصاً .
وجلس إلى جانبي
صامتاً ، في غرفة واسعة مسدلة الستائر ، خوفاً من طائرات الحلفاء ، التي كانت تحوم
فوقنا باستمرار ، وتنزل بنا أفظع المصائب .
وأصغينا إلى القناص
الغربي ، يتحدث بلغة عربية مكسرة ، وقال بأنه كان قناصاً في جيش بلده ، وأحيل على
التقاعد ، لكنه لم يحتمل البطالة بدون قنص ، فتطوع للقتال إلى جانبنا .
والتفتُ إليه ، وقلتُ
له هامساً : لقد قتل سبعة أو ثمانية من جنود السلطة .
ولمحتُ ومضة تبرق في
عينيه ، ثم تساءل بصوت متردد : والبقية ؟
أجبته بصوت خافت :
كما تعرف ، لابدّ أنهم من الهاربين إلى جند السلطة .
وأطرق رأسه متمتماً ،
كأنه يحدث نفسه : هذا القناص الغربي ، يعني قتل أكثر من ثلاثين من أبناء مدينتي
هذه ، بينهم نساء وشيوخ وأطفال .
وهبّ من مكانه ، وقد
إربدّ وجهه ، وغادر الغرفة ، وبعد قليل تناهى إلينا صوت اطلاقة مسدس مكتومة
،فأسرعت إلى الخارج ، ورأيته ملقى في بركة موحلة ، وحول رأسه بقعة من الدم ،
ومسدسه إلى جانبه .
المعجزة
بعد أن هدأ القصف ، وأبعِد القناصون عن الحيّ
، تسلل مجموعة من الجنود بين الخرائب ، وراحوا يتجولون وأسلحتهم بين أيديهم .
وتوقفوا ينصتون ، حين
خيل إليهم ، أنهم يسمعون بكاء طفل رضيع ، صادر من تحت أنقاض أحد البيوت القريبة ،
التي هدمها القصف .
وأسرعوا نحو الأنقاض
، وراحوا ينبشون بأياديهم الملهوفة المشفقة حول مصدر الصوت ، وإذا طفل رضيع في
حدود السنة ، يصرخ مستنجداً ، وقد غطاه الغبار من رأسه حتى قدميه .
انتشلوه برفق من بين
الأنقاض ، ونزعوا عنه ملابسه الممزقة المغبرة ، وجاءه أحدهم برضاعة فيها شيئاً من
الحليب ، من أين جاء بها ؟ لا أحد يعرف ، وراحوا ينظرون إليه مبتسمين فرحين ، وهو
يرتشف الحليب بنهم ، وينظر إليهم الواحد بعد الآخر .
قال أحدهم : هذه
معجزة .
تساءل جندي : والآن ،
ماذا نفعل به .
أجاب أحدهم : الأفضل
أن نأخذه إلى الميتم .
علق آخر : الميتم قصف
، وقتل الكثير ممن فيه ، والتحق الباقون بالمهجرين .
وران صمت ثقيل حائر ،
والطفل مازال ينظر إليهم الواحد بعد الآخر ، فتقدم أحد الجنود ، وقال : لدي ثلاث
بنات ، وطالما حلمت أن يكون لهن أخ .
وربت بحنان على رأس
الطفل ، وقال : هذا أخوهم .
أم ايزيدية
سمعته يلهث ويئن ، وهي فوق ظهره بجسدها
الثقيل المشلول ، خاطبته بصوتها الشائخ المعذب : كفى ، يا بنيّ ، دعني أمتْ هنا .
لم يردّ عليها ،
وواصل طريقه بخطى ثقيلة متعثرة ، بين مئات النازحين من الأطفال والنساء والشيوخ ،
فتابعت قائلة : أنتَ شاب ، والحياة لك أنتَ وليس لي ، أنزلني ، يا بنيّ ، ستموت من
التعب .
ومرة أخرى لم يردّ
عليها ، وهزتْ رأسها المتعب ، إنه عنيد كأبيه الراحل ، فها هو يحملها على ظهره منذ
ساعات ، وسط الجموع الهاربة ، التي لاحقتها على الجبل ، قنابل الهاون ، وبنادق
القناصة ، وكأن لم يكفهم المجازر التي ارتكبوها في القرى القريبة .
ومنذ الفجر ، جاءهم
النذير من كلّ مكان : اهربوا ، اهربوا بسرعة ، إنهم قادمون .
وعلى عجل ، وتحت جنح ظلام
أول الفجر ، لاذ الجميع بالهرب ، متجهين إلى الجبل ، وأسرع ابنها إليها ، وهي جثة
حية ، متمددة في فراشها ، وحملها عنوة على
ظهره ، فصاحت به : بنيّ ، لن تقوى على حملي ، دعني أمتْ هنا .
وقال لها ، دون أن
يتوقف : الجميع يهربون إلى الجبل ، لن أهرب وأتركك هنا .
وتوقف لاهثاً عند
أعلى مرتفع ، يطل على واد سحيق ، وأنزل أمه عن ظهره قرب شجرة وارفة ، وتهاوى على
مقربة منها في ظل صخرة كبيرة ، وأغمض عينيه ، لابد أن يرتاح قليلاً ، إذا أراد أن
يواصل الطرق ، وأمه فوق ظهره .
وانتبه بعد حين ، إلى
أزيز طائرة تحوّم فوقهم ، وفتح عينيه المتعبتين ، وخفق قلبه بشدة ، أين أمه ؟ لقد
وضعها بنفسه قرب الشجرة ، وهبّ من مكانه ، وأطلّ من أعلى المرتفع ، وأبصرها بعينيه
الملتهبتين ، جثة مدماة هامدة في أسفل الوادي .
البيت ـ القبر
رغم
احتجاج زوجته ، ونصائحها القلقة ، وبكائها الخائف ، أصرّ على السفر إلى الموصل ،
إلى الجحيم ، الذي لا يهمد أواره .
قالت له من بين
دموعها : ابق معنا هنا ، الأمور مازالت خطرة .
فقال : لقد توقف
القتال .
قالت : أنت تتركنا
للمجهول .
فقال : لابدّ أن أعرف
مصير أمي .
لقد أصرت أمه ،
بعنادها المعروف ، على أن تبقى في الموصل ، ولا تهاجر معه إلى دهوك ، رغم أن
القتال كان قد اشتعل في الساحل الأيسر من المدينة .
ووصل إلى الموصل بشق
الأنفس ، واستطاع أن يتسلل إلى الساحل الأيمن ، ويصل إلى بيتهم القديم ، في حيّ
قريب من الجامع الكبير ، الذي لم توفر فيه الحرب بيتاً واحداً ، وحولته إلى ركام
من الحجارة .
وعلى مقربة من حيهم ،
رأى امرأة عجوز ، تسير متكئة على شيخوخته ، سلم عليها : مرحباً أم سالم .
توقفت المرأة العجوز
، وحدقت فيه ، وتمتمت : محمود ! بني ، ابن الغالية .
قال للمرأة العجوز :
جئتُ أطمئن على أمي .
هزت المرأة العجوز
رأسها ، فقال : أليست في البيت ؟
فقالت المرأة العجوز
: الغريب أن بيتكم هو الوحيد الذي لم يتهدم .
ورغم أن الخبر كان
مشجعاً ، إلا أنه لم يرتح لنبرة صوتها ، وتابعت المرأة العجوز قائلة بنبرة حزينة :
تركت بيتها ، مع بداية القتال ، وذهبت إلى بيت والدها ، لتطمئن عليه وعلى والدتها
..
وسكتت العجوز ،
فاستأنف طريقه نحو بيت جده ، فقالت المرأة العجوز : لا تذهب إلى بيت جدك ، يا بنيّ
، لقد سقط صاروخ فوقه ، وحوله إلى قبر لمن فيه .
الهرّ العجوز
أفاقتْ منقبضة الصدر ، رغم أنها لم تسمع
" ميو " هرها العجوز ، وهي تسميه العجوز ، ربما لأنها هي نفسها عجوز ،
وربما أيضاً لأنها لا تريده أن يكون " هراً " ، حتى في شباط .
وتحاملتْ على نفسها ،
وخرجت من غرفتها ، التي يسودها الظلام تقريباً ، فالكهرباء مقطوعة ، وكذلك الماء ،
ولو كان الأمر بيدهم لقطعوا الهواء أيضاً ، هذا ما تقوله بينها وبين نفسها ، فهي
مثلها مثل غيرها ، من الرجال والنساء ، تخاف الجلد .
ودارت في فناء البيت
، الذي يغطيه غبار الحرب وسخام نيرانه ، التي لا تتوقف عن الاشتعال ، وتلفتت حولها
، لا أثر للهر العجوز ، اللعين ، يبدو أنه مازالت فيه بقايا " الهر "
الذي كانه .
ونظرت إلى السلم
المتآكل ، الذي يؤدي إلى السطح ، إنه عادة يجلس هنا في الأيام المشمسة ، لكن لا
وجود له اليوم ، آه شباط على الأبواب ، ولابد أنه يتسكع الآن بين خرائب البيوت ،
التي داستها عجلات الحرب ، يبحث عن هرة ساقطة .
وقفلت عائدة إلى
غرفتها ، وهي تتمتم : سيعود إن عاجلاً أو آجلاً ، فلم يعد هناك لا هرّ ولا هرة في
المدينة ، لقد قضت المجاعة عليهم جميعاً .
لم يعد الهرّ في ذلك
اليوم ، ولا في اليوم الذي تلاه ، وإنما عاد بعد أسبوع تقريباً ، وبدل البيت ،
الذي عاش فيه عمره كله ، رأى كومة من الحجارة ، وبحث عن المرأة العجوز ، وعثر
عليها أخيرا ، فقد رأى يدها المسحوقة المدماة تبرز من تحت الأنقاض ، وحاول الوصول
إليها ، لعله يوقظها ، لكن دون جدوى .
الطفل
تعثرتْ بعباءتها مرة أخرى ، وكادت تتهاوى على
الأرض ، لو لم أسرع إليها ، عبر أمواج الناس المتلاطمة ، وأسندها بيديّ .
لكنها أبعدتْ يديّ عنها بغضب ،
وحاولت أن تتماسك ، وتنهض من عثرتها ،
وتواصل ركضها المجنون ، وسط جموع الراكضين ، وتصيح : ابتعد عني .. ابتعد .
لم أبتعد عنها ، وبقيتُ أهرول
خلفها ، خوف أن تسقط على الأرض ، وتسحقها أقدام الهاربين من الهاونات ورصاصات
القناصين ، وقلت لها : ارفعي عباءتك قليلاً ، وإلا تعثرتِ بها مرة أخرى .
وبدل أن ترفع عباءتها ، نزعتها
بيدها المضطربة ، وألقت بها على الأرض ، بل ونزعت الشال الذي يغطي شعرها ، وطوحت
به بعيداً ، فصحتُ بها : أيتها المجنونة ، ماذا تفعلين ؟
وتوقفتْ وسط تدفق الناس ،
رجالاً ونساء وأطفالاً ، الذين يهربون من المسلحين ، محاولين الوصول إلى المواقع
التي وصلت إليها القوات المسلحة .
وسرعان ما استدارتْ ، ثم راحتْ
تسير ضد تيار الناس المتدفق كالسيل العرم ، وعيناها تشتعلان بنيران قلقة مجنونة ،
وهي تتمتم : طفلي .. طفلي .. طفلي .
وجنّ جنوني ، هذه المخبولة
سيقتلها المسلحون ، إذا رأوها تسير بلا وشاح وعباءة ، وهرعتُ إليها ، وطوقتها
بذراعيّ ، فراحت تضربني بكلتا يديها المتشنجتين ، وهي تصيح بجنون : دعني .. لن
أترك طفلي .. يجب أن أنقذه .. دعني .. دعني .
وتوقفت امرأة عجوز ، كانت تسير
متوكئة على عصاها ، وقد اتشحت بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها ، ونظرت إلينا ،
وقالت : يا ظالم ، دعها تذهب إلى طفلها ، وتنقذه من الموت .
فأجبتها ، وزوجتي تتواثب بين
يديّ ، محاولة الانفلات مني : أيتها الجدة ، طفلنا قتل قبل أكثر من شهر ، وهو الآن
مدفون تحت الأنقاض .
الطفلة الضالة
كدتُ اجن من الرعب ، بعد أن تهتُ عن أمي
وأختيّ ، وسط مئات بل آلاف الناس المندفعين ، المتلاطمين كالأمواج ، وهم يفرون من
جحيم القتال ، بحثاً عن مأوى آمن يلوذون به .
لابدّ أن أمي تبحثُ عني الآن ،
كما أبحث أنا عنها ، ورحتُ أنصتُ ، وأنا أركض بين الجموع ، لعلي أسمع صوتها ، وهي
تناديني باسمي .
ورغم أزيز الرصاص ، وأصوات الانفجارات
، وصراخ الأطفال والنساء ، تناهى إليّ صوتها ، نعم ، هذا صوتها ، إنني أميز صوتها
الأشبه بالتغريد من بين آلاف الأصوات ، صحيح إنها لم تكن تغرد ، لكن هذا صوتها ،
وهي تصيح باكية : ماما .. ماما .
وتلاشى ما حولي ، حتى أمي
وأختاي ، وانطلتُ أشقّ أمواج الناس المتلاطمة ، نحو مصدر الصوت الباكي ، لابد أن
أجدها مهما كان الثمن .
ورأيتها ، رأيتها تقف مرعوبة
وسط تيار الناس المنفلت الهائج ، وهي تصيح : ماما .. ماما .
وتوقفت وسط التيار ، أنظر إليها
، نعم ، إنها هي بشعرها الذهبي ، وعيناها الخضراوان ، وبشرتها العسل ، رغم أن
الأتربة كانت تغطيها تماماً ، من أعلى رأسها ، حتى أخمص قدميها .
اقتربتُ منها متردداً ، وتوقفتُ
قبالتها صامتاً ، وما إن رأتني حتى هدأت ، ومسحت عينيها الدامعتان ، فقلتُ متردداً
: ابتهاج ..
وشفتْ ملمحها ، وتمتمت : أنت ..
يبدو أنها لا تعرف اسمي ، رغم
أن بيتنا وبيتم في الحيّ نفسه ، فاقتربت منها قليلاً ، وقلت : أنا .. حسن .واقتربت
مني ، كأنها تلوذ بي من تلاطم الأمواج ، وقالت : أنا أعرفك .. أعرفك جيداً .
فقلتُ لها : أنا أيضاً أعرفكِ ،
لقد رأيتكِ كثيرا .
وتلفتتْ حولها ، وقالت : لقد
ضللتُ ، ولم أعد أعرف أين أمي وأبي وأخوتي .
لم أقل لها ، أنا أيضاً ضللتُ ،
وإنما قلتُ أطمئنها : لا عليكِ ، سنجدهم .
وهنا سقط صاروخ على بناية في
نهاية الشارع ، وأحدث دوياً هائلاً ، وصرخت ابتهاج مرتعبة ، وقد تزايد تلاطم أمواج
الناس حولنا ، وتعالت صرخاتهم ، فمددتُ يدي ، وأمسكتُ بيدها ، وقلتُ لها : لا
تخافي ، الانفجار بعيد ، تعالي نهرب مع الهاربين .
وانقادت لي مستسلمة ، ويدها في
يدي ، واندفعنا مع الأمواج الصاخبة المذعورة ، وسمعتها تهتف بي : حسن ، أرجوك ، لا
تدعني وحيدة .
وأجبتها دون أن أتوقف : لا
تخافي ، لن أدعكِ مطلقاً ، مهما كانت الظروف .
رجل من
الماضي
بعد
انتهاء دوامها في المستشفى ، لم تستقل سيارتها ، وتذهب إلى البيت كالعادة ، وإنما
اتصلتْ بزوجها في المستشفى الخاص ، وقالتْ له : لن أعود هذه الليلة .
وتساءل زوجها مندهشاً : لماذا !
فقالت باقتضاب ، وبصوت حاولت أن
تكتم تأثره : هناك أمر طارىء .
وعند حوالي منتصف الليل ،
جاءتها الممرضة ، التي كانت تسهر على " الأمر الطارىء " ، وقالت :
دكتورة ، يبدو أن الجريح بدأ يفيق .
وأسرعت الطبيبة إلى غرفة الجريح
، وجلستْ إلى جانه ، ورأته يتململ متوجعاً ، وحين فتح عينيه المتعبتين ، ورآها
تجلس إلى جانبه ، كفّ عن التوجع ، وتمتم مذهولاً : بتول !
فمالتْ عليه قليلاً ، وقالت :
الطبيبة بتول ، يا أخ أحمد .
ولاحت ابتسامة شاحبة على شفتيه
المتيبستين ، وقال : مرت سنين وسنين ..
وصمت لحظة ، ثم قال : كنتُ
معلماً .. عندما تقدمتُ إليك أول مرة .
فقالت وكأنها تعتذر : أردتُ أن
أكمل دراستي .
وتابع قائلاً ، وكأنه لم يسمع
كلامها : وذهبتُ إلى الكلية العسكرية ، وبعد أن تخرجتُ ضابطاً ، تقدمتُ إليك مرة
أخرى .
فقالت بصوتها الشبيه بالاعتذار
: كنتُ وقتها طالبة في كلية الطب .
صمت ، وهو يئن ، صمت طويلاً ،
ثم أغمض عينيه المنطفئتين ، وهو يتمتم : لي ابنة اسمها .. بتول .
وران الصمت ، صمت عميق وحزين ،
وتقدمت الممرضة ، وسحبت الشرشف الأبيض فوق وجهه ، ونهضت الطبيبة بتول ، دامعة
العينين ، والألم يعتصر قلبها ، فقد فاتها أن تقول له ، أن أصغر أبنائها اسمه ..
أحمد .
الجرو
الصغير
عرفتُ أنني تحت ركام البيت ، وأنني ـ ربما ـ
مازلتُ حياً ، حين تناهى إليّ ، وكأن ذلك من آخر الدنيا ، نباح جروي الصغير : عو
.. عو .. عو .
تُرى ماذا جرى ؟ لقد سمعتُ أزيز
طائرة ، يرتفع بالتدريج ، بعد أن غادر أبواي البيت ، ليزورا جدتي في الحي المجاور
.
وقالت لي ماما ، وهي تخرج من
الغرفة : بنيّ ، ابقَ هنا حتى نعود .
وقبل أن يغلق بابا الباب عليّ ،
قال لي : الجرو في الخارج ، لا تدعه يدخل إلى البيت .
آه من بابا ، لا أدري لماذا
يكره الجرو ، من يدري ، لعل جرواً مجنوناً عضه ، وهو طفل صغير ، ولم ينسَ تلك
العضة ، حتى بعد أن كبر ، وصار أباً .
أما هذه الجرو ، الذي ينبح الآن
في الخارج ، فقد رأيته في يوم ممطر ، وكنتُ أسير مع أبي ، ويدي الصغيرة في يده
الكبيرة الدافئة ، وهو نفس الجرو ، الذي قال لي أبي قبل قليل : لا تدعه يدخل البيت
.
ونظر إليّ الجرو ، بعينيه
الصغيرتين اللامعتين ، وكأنه يقول لي : خذني معك ، إنني وحيد .
وتوقفتُ ، وعيناي متعلقتان
بعينيه ، فقال بابا : هيا ، تحرك ، أمك تنتظرنا الآن في البيت .
لم أتحرك من مكاني ، وإنما قلت
: بابا ، دعنا نأخذ هذا الجرو المسكين .
وبدا الانزعاج على أبي ، إنه
معادٍ للجراء ، وردّ بصوت حاسم : كلا .
فقلتُ له ، محاولاً إقناعه :
المسكين ، إنه وحيد .
وثانية ردّ بابا : كلا .. كلا .
ونظرتُ إلى بابا ، وقلت : الله
قال ..
وحدق أبي فيّ مندهشاً ، وتساءل
: ماذا قال الله ؟
فأجبته بلهجة معلمة الدين في
مدرستنا ، الست فاطمة : قال الله ، إذا رأيتم جرواً فخذوه .
ولا أدري لماذا ابتسم بابا ،
لكنه جرني بشيء من الحزم ، وقال : الله لم يقل ذلك ، هيا .
وتبعتُ بابا مكرهاً ، وداخلني
شيء من الفرح ، حين رأيت الجرو الصغير ، يهرول ورائي ، وماء المطر يقطر من فرائه
السميك .
وارتفع نباح الجرو ، وهذه المرة
لم يكن من آخر الدنيا ، وإنما من مكان قريب ، وتناهت إلى سمعي ، أصوات معاول
ومجارف تعمل في الركام المحيط بي ، آه إنهم سيصلون إليّ ، وينقذونني إن عاجلاً أو
آجلاً .
3 / 11 / 2017
الجدة ماري
على عادتها كلّ يوم ، تحاملت الجدة ماري على
نفسها ، وارتدت ملابسها السوداء ، التي ظلتْ ترتديها ، منذ أن رحل زوجها سليم ،
قبل خمس وعشرين سنة .
وخرجتْ من البيت ، بعد أن سحبتْ
بابه الخشبيّ الثقيل ، لم تغلقه بالمفتاح ، فمن سيسرقها ؟ وماذا لديها في البيت
يمكن أن يُسرق ؟
ومضتْ بخطواتها الثقيلة الشائخة
نحو الكنيسة ، إنها تمضي في هذا الطريق منذ سنين طويلة ، طويلة جداً ، منذ أن وعتْ
على الدنيا ، وكانتْ أمها تقول لها : ماري ، اركعي أمام الرب يسوع ، واطلبي ما
تشائين ، وسيعطيكِ كلّ شيء ، إنه الرب .
وفي حياتها الطويلة ، طلبتْ
الكثير من الرب ، وأعطاها كلّ ما طلبتْ ، طلبت أن يبقى أبوها وأمها ، وقد بقيا حتى
شاخا ، وطلبت أن تتزوج ابنتها جمبد ، وقد تزوجت ، وأنجبت تسع بنات ، وصبي رقيق
جميل كالبنات أسمته يوحنا .
وطلبتْ من الرب ، وألحتْ في
طلبها ، بل نذرت له خمس شمعات طويلات ، أن يهدي ابنها ياقو ، ويقنعه بعدم الهجرة
إلى أمريكا ، فأمريكا ليست أفضل من بغديدا ، وبناتها لا البيضاوات ولا السوداوات
أجمل من بنات بغديدا .. لكن الرب ، لسبب لا تدريه ، لم يستجب إلى دعائها ، وهاجر
ياقو إلى أمريكا .
ومرتْ الجدة ماري ، وهي تسير
متثاقلة ، متوكئة على شيخوختها ، بثلاث رجال ملتحين ، يرتدون الملابس السوداء ،
ويحملون الرشاشات على أكتافهم ، فتوقفوا حين رأوها ، وراحوا يتابعونها بنظراتهم
الغاضبة ، وبدا أنها لم تلاحظهم على الإطلاق
.
فقال الأول : الجميع غادروا
المدينة ، حال دخولنا لها ، إلا هذه العجوز الخرفة .
قال الثاني : إنها ترفض
المغادرة ، رغم تهديدنا لها ، وهي تعيش وحدها في البيت .
وقال الأول : إنها ليست وحدها
..
ونظر إليه الثالث ، فتابع
قائلاً : إنها مع أمها وأبيها وابنها وابنتها ، التي لها تسع بنات وولد واحد ، هذا
ما تقوله العجوز .
وشدّ الثالث رشاشته على كتفه ،
وقال وهو يسير مبتعداً : لقد صبرنا عليها مدة طويلة ، خذوها ليلاً ، والقوها على
مشارف أربيل .
وعند منتصف الليل ، جاء مسلحون
بثيابهم السوداء ، ولحاهم الكثة المغبرة ، وأسلحتهم الرشاشة ، وأخذوا الجدة ماري
قسراً ، من بيتها الذي عاشت فيه عمرها كله ، وألقوها على مشارف أربيل .
وبعد أكثر من ثلاث سنوات ، عادت
الجدة ماري إلى بيتها القديم في بغديدا ، وقد عانت طويلاً من الفاقة والشيخوخة
والوحدة ، ونامت تلك الليلة مرتاحة في غرفتها العارية ، فقد كان حولها زوجها
وابنها ياقو وابنتها ، ومعها بناتها التسع ، وابنها يوحنا ، الجميل والرقيق
كالبنات .
شيته
على عجل ، ألقيتُ عباءتي السوداء ، على ملابسي
السوداء الخلقة ، وانتعلت " بابوجي " ، وخرجتُ بسرعة من الغرفة ، وفي
الحوش ، رأتني زوجة ابني ، وزجرتني قائلة : خيراً ، إلى أين ؟
وأجبتها دون أن أتوقف : شوهد
الحجي في بابا الطوب ، سأذهب إلى هناك ، لعلي أعثر عليه .
ورغم طرشي ، سمعتها تدمدم :
ابتليتُ بالخرفين .
فتحت الباب الخارجي ، وانطلقتُ
بسرعة نحو باب الطوب ، لقد خرج زوجي الحجي من البيت ، بملابسه الخفيفة ، رغم أننا
في شباط ، وشباط الموصل شباط ، ولم يعد ، وها قد مرّ يومان وربما أكثر ، ولم
يتناول دواءه ، آه لقد خرف تماماً .
ها هو باب الطوب ، وتوقفتُ في
الساحة المكتظة متلفتة ، لقد درتُ في جنباته مرات ومرات ، حتى كلًت قدماي
الشائختان ، ولا أثر له في أي مكان ، ترى أين هو ؟ لا عشتُ عليه .
ومالت الشمس للغروب ، سيحلّ
الليل قريباً ، فنحن في الشتاء ، وقد أتيه أنا أيضاً ، وهممتُ أن أقفل عائدة إلى
البيت ، حين رجّني صوت خشن : حجية ، أين تظننين نفسكِ ؟ في باريس الكفار ؟
فأجبته ، وأنا أحدق في ملابسه السوداء
، ولحيته الكثة السوداء : لا يا ابني ، أنا في الموصل .
واقترب مني ، وقال : لو رآكِ
غيري ، لأخذك إلى الحسبة ، ولجلدتِ عشرين جلدة .
وركضتُ متعثرة ، مبتعدة عن
اللحية السوداء ، وأنا أقول مولولة : يا ويلي ، لن أحتمل خمس جلدات .
ولاحقني صوته الأجش آمراً : غطي
وجهكِ ، الذي سيكوى بالنار في الآخرة ، أنتِ عورة .
آه ، يا لحمقي ، لقد نسيت غطاء
الوجه في البيت ، وزوجة ابني لم تنبهني إلى ذلك ، لابد أنها متعمدة ، تريدهم أن
يجلدوني ، لأموت وتتخلص مني ، لقد طردتني قبل أيام ، والمطر يهطل بشدة ، فأوتني
امرأة طيبة في بيتها عدة أيام ، فلأسرع إلى البيت ، وإلا رآني أحد هؤلاء الملتحين
، وأمر بجلدي .
عند الباب ، وقد حلّ الليل ،
رأتني زوجة ابني قادمة ، فصاحت بي : أيتها الخرفة ، أين كنتِ ؟
فدلفتُ إلى الفناء ، وأنا أقول
: بحثتُ عنه في باب الطوب ، لكني لم أعثر له على أثر .
فأغلقت الباب بعنف ، وقالت :
لقد عثروا عليه .
توقفت متسائلة : أين ؟ أين هو ؟
فقالت بلامبالاة : في الطب
العدلي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق