قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
--------------------------------------------
بالرغم من أن هذه المجموعة من القصص والتي تمثل الجيل الشاب من كتاب العالم العربي من العراق وحتى موريتانيا، فإنها لاتختلف بالنسبة لي عن شبان سورية من الكتاب في مشاكلهم الكتابية وطموحاتهم. فقد غلب على هذه المجموعة في أكثرها الانشائية، وفي بعضها التقريرية، بل كان في بعضها نسخ لحكايا شعبية بكل عجائبيتها وسحريتها، دون القدرة على تحويل هذه العجائبية والسحرية إلى قص، أي إلى فن.
- لكن هذه القصص كان فيها عدد من القصص التي استطاعت تجاوز أمراض جيلها، واستطاعت كتابة القص الجميل، وعلى رأس هذه القصص كانت قصة المصري أحمد طوسون، الذي قدم لي قصة الحب الأول بكل استحالتها لفتى في المرحلة الابتدائية يحب من تكبره سناً، فهي طالبة في المرحلة الثانوية وتخالفه ديناً، فهي مسيحية وحتى حين يغامر بالاحتفاظ بشيء من آثارها «القربانة» لا يلبث المجتمع ممثلاً بأمه أن يرميها، فلقد صارت زبالة.
- أما الموريتاني أحمد ولد أسلم، فقد قدم لنا في قصة «ورقة عائمة» قصة جميلة عن الهجرة السرية إلى الغرب، وكان أجمل ما في قصته أنه لم يتقدم بكلمة واحدة عن الهجرة صراحة، بل قدم لنا انعكاساً لهذه التجربة في مرآة قلبه، الذي تخلى مرغماً عن حبه ووطنه من أجل «تحقق حلمي» وهو اسم القارب الذي سينقله إلى الغرب.
- وجاء السوداني عثمان شنفر في قصة «عزلة آهلة بالحشد» في عالم من الصوفية المختلطة بالسحر الإفريقي والمعجزات ولكنه استطاع ضبط هذه الموتيفات كلها في قصة كانت أقرب إلى القص الجميل.
- وقدم لنا السوري عمران عز الدين في قصته «رجلان وحلم واحد» ضمن لغة قصصية أنيقة كابوساً حلمياً يتحول إلى واقع الرجل الصغير الذي يطمح إلى تحقيق أحلامه المادية، على هذه الأرض التي هي للأقوياء فقط.
هذه القصص الأربع التي قرأتها قصص واعدة ومطمئنة إلى أن الكتابة لاتزال بخير، وأعتقد أن ماقاله الثعالبي يوماً إن زمناً يقدم شعراء، وذكر أسماءهم زمن كريم، وهذا ماأستطيع قوله عن هذه القصص الجميلة الواعدة.
بالرغم من أن هذه المجموعة من القصص والتي تمثل الجيل الشاب من كتاب العالم العربي من العراق وحتى موريتانيا، فإنها لاتختلف بالنسبة لي عن شبان سورية من الكتاب في مشاكلهم الكتابية وطموحاتهم. فقد غلب على هذه المجموعة في أكثرها الانشائية، وفي بعضها التقريرية، بل كان في بعضها نسخ لحكايا شعبية بكل عجائبيتها وسحريتها، دون القدرة على تحويل هذه العجائبية والسحرية إلى قص، أي إلى فن.
- لكن هذه القصص كان فيها عدد من القصص التي استطاعت تجاوز أمراض جيلها، واستطاعت كتابة القص الجميل، وعلى رأس هذه القصص كانت قصة المصري أحمد طوسون، الذي قدم لي قصة الحب الأول بكل استحالتها لفتى في المرحلة الابتدائية يحب من تكبره سناً، فهي طالبة في المرحلة الثانوية وتخالفه ديناً، فهي مسيحية وحتى حين يغامر بالاحتفاظ بشيء من آثارها «القربانة» لا يلبث المجتمع ممثلاً بأمه أن يرميها، فلقد صارت زبالة.
- أما الموريتاني أحمد ولد أسلم، فقد قدم لنا في قصة «ورقة عائمة» قصة جميلة عن الهجرة السرية إلى الغرب، وكان أجمل ما في قصته أنه لم يتقدم بكلمة واحدة عن الهجرة صراحة، بل قدم لنا انعكاساً لهذه التجربة في مرآة قلبه، الذي تخلى مرغماً عن حبه ووطنه من أجل «تحقق حلمي» وهو اسم القارب الذي سينقله إلى الغرب.
- وجاء السوداني عثمان شنفر في قصة «عزلة آهلة بالحشد» في عالم من الصوفية المختلطة بالسحر الإفريقي والمعجزات ولكنه استطاع ضبط هذه الموتيفات كلها في قصة كانت أقرب إلى القص الجميل.
- وقدم لنا السوري عمران عز الدين في قصته «رجلان وحلم واحد» ضمن لغة قصصية أنيقة كابوساً حلمياً يتحول إلى واقع الرجل الصغير الذي يطمح إلى تحقيق أحلامه المادية، على هذه الأرض التي هي للأقوياء فقط.
هذه القصص الأربع التي قرأتها قصص واعدة ومطمئنة إلى أن الكتابة لاتزال بخير، وأعتقد أن ماقاله الثعالبي يوماً إن زمناً يقدم شعراء، وذكر أسماءهم زمن كريم، وهذا ماأستطيع قوله عن هذه القصص الجميلة الواعدة.
خيري الذهبي
-----------------------------------------
ورقة عائمةأحمد ولد أسلم (موريتانيا)
تضرب الأمواج الباردة قدمي، رغم وقوفي على بعد ثلاثة أمتار من الشاطئ، أتحسس حقيبة الظهر الصغيرة، أشدها بقوة بحثا عن حرارة اختزنتها من ملامستها محرك سيارة الأجرة المتهالكة التي مازال صدى هديرها يتردد بين الكثبان.
كل من حولي منشغل بنفسه؛ سيدة في الثلاثين تهدهد طفلا، تتمتم بكلمات غير مفهومة،..زنجي يلهو بأعقاب سجائره المتراكمة، طفل يبني أكواخا من الرمال المبللة اعتمادا على حجم قدمه الصغيرة.. فتزيحها الموجة ويعيد بناءها من جديد.. وشاب قمحي اللون يعاند البحر بالكتابة على الرمال، حاولت استراق النظر إليه لمعرفة مضامين رسائله المرتبكة، غير أن الخطوط المتداخلة جعلتني أستسلم لفشلي..فهي لغة لم أدرسها في مراحل تعليمي..
يوحي مشهد الجميع برتابة مقيتة، راودتني جامحة في مناقشة أمر ما مع أحد المخلصين،كان الفراغ هائلا، ومسحة حزن تغشى جانب السماء التي بدت غير راضية عما أفعله، فجلجل عن بعد رعد غاضب، وتسربت السحب الخفيفة من أعماق البحر بعيدا عن أعين القابعين في منازلهم المترفة.
تدريجيا.. فقدت الحقيبة حرارتها، راودتني رغبة في إعادة ترتيب محتوياتها، بالرغم من أني استغرقت في ذلك أكثر من ثلاث ساعات لانتقاء ما يستحق أن تحتويه، كتيب صغير من حصن المسلم، مسواك من الأراك طري، اضطررت لكسر جزء منه كي يلائم حجم الحقيبة، مفتاح لقفل صيني قديم، وقلم جاف، ورزمة من الأوراق اقتطفتها من أحد دفاتري البالية، وسروال جينز ضيق، وأشياء تافهة لا أعرف لمَ اخترتها..ووقعت عيني على صورة، استللتها بلهفة، وكأني أراها لأول مرة، كانت متشققة أثرت فيها الأيادي الخشنة والسنون..
كانت الصورة لمريم وهي تسند ظهرها إلى شجيرة من السدر، تشبك أنامل يديها بقوة وقد أحاطت بهما ركبتها اليمنى في جلسة تأمل نادرة، آثار طلاء الحناء على الأظفار الرقيقة، وملحفتها مشدودة بحزم على رأسها -الذي لا أعرف لون شعره- تنساب برخاوة على ذراعيها، حائلة بذلك دون إظهار تفاصيل قدها، وعن بعد .. تنتصب خلفها نخلة تتدلى عراجينها بثقة، وبين السدرة والنخلة اخترقت خيوط خفيفة لشمس الغروب... كانت الصورة بيضاء وسوداء ما جعل الألوان غير واضحة، وإن كنت بحدسي توقعت أن تكون الملحفة زرقاء فاتحة تتناثر فيها نقاط بيض وبنفسجية وزرقاء غامقة.
كان الوجه القمري يشع بنور خافت ينتصب في وسطه الأنف المترفع قليلا بتعال، والعينان النجلاوان تستظلان بأهداب كثيفة وحاجبين مقوسين..والشفتان اللمياوان ترسمان ابتسامة موناليزية غامضة، تتقاطع في نقطة غير محددة مع النظرة الواثقة، كل ذلك يوهم المتمعن في الصورة أنها تريد الهمس بسر دفين حرصت على كتمانه لسنوات.
ويتربع في الزاوية اليمينية السفلى تاريخ التقاط الصورة الذي مضى عليه أكثر من عشر سنين، عادة سيئة درج عليها قدماء المصورين، إنها تحرمك متعة اختيار التاريخ الذي تريد، فالناس يرغبون دائما في اختلاق تواريخ لذكرياتهم - مهما كانت- تناسب الموقف الآني. ينفث الزنجي من جديد دخان سيجارته الرخيصة الثمن، ويتعالى صراخ الطفل فترفع المرأة صوتها بالذكر في أذنه وتهزه بهدوء، يعود بي كل ذلك إلى لحظتي، يرفع الزنجي ساعده يؤخر قليلا قميصه الشتوي الطويل، فتبرز ساعة رقمية ، ويغمغم بلغة فرنسية رديئة: «مرت ثلاث ساعات».. ويضرب برجله قنينة ماء معدنية فارغة فتحلق بعيدا ثم تسقط بجنب الطفل المصر على تشييد أكواخه.. يلوح الرجل قمحي اللون بقميصه في إشارة استنفار أو استغاثة فيتدافع الجميع نحو زورق يحمل جانبه الموالي لنا عبارة أجنبية، فهمت لاحقا أنها تعني «تحقق حلمي» باللغة الإسبانية، تداخلت مع بسملة كتبت بخط سيئ وبلون أخضر..كان صوت المحرك مزعجا..والشفاه تتحرك بتناغم منتظم..
وعلى بعد ثلاثة أمتار من الشاطئ كانت ورقة بيضاء مستطيلة تتقاذفها الأمواج..لترميها على أطلال كوخ بناه صبي بمقياس قدمه الصغيرة..تبين من شقوقها أنها صورة مريم..
أصرخ : انتظر ..انتظر.. رجاء..
يتطاير لعاب المرأة وهي تدفن بحنان لافت رأس طفل في صدرها..ويهزج الزنجي بصوت شجي يغمر بروحانيته الزورق المبتعد..وتتلاشى في المدى تلك الورقة.
رجلان وحلم واحد..عمران عزالدين أحمد (سورية)
عندما قصدتَ ذلك المطعم الفاخر فور تسلمك للمرة الأولى راتبك الوظيفي، كنت تتضور جوعاً وشوقاً لممارسة طقس من طقوس النبلاء، واتخذت من أقصى ركن فيه كرسياً تهالكتَ عليه بكل ثقلك وعرقك، وبعد الرشفة الأولى من كوب الماء المثلج واللقمة الأولى من أكلتك - الحلم، اصطدمت عيناك بعيني امرأة صارخة الجمال تتأملك وأنت تأكل.
لم تكن متأكداً ما إذا كانت تلك المرأة تتأملك، أم تصوب بؤبؤيها إلى ذلك الرجل القابع وراءك، المشغول بقراءة الجريدة ومداعبة مسدسه، ولكن سرعان ما توضح لك خطأ احتمالك الأخير، بعد أن أطلق ذلك الرجل صرخة وجملة غير مفهومة وأفرغ في رأسه كلّ الرصاصات المحشوة في مسدسه، الأمر الذي أدى إلى إحداث ضجة غير عادية بين زوار ذلك المطعم غير العادي، هرب قسم منهم إلى الشارع، وسارع إلى نجدته قسم آخر، دون أن تتزحزح هي من مكانها. أما أنت فبقيت مندهشاً وحائراً للحظات، لكنك سيطرتَ على ذلك المشهد تماماً عندما اتجهتَ إلى تلك المرأة الفاتنة، وحملتها إلى خارج المطعم لتترككَ هي بعد ذلك ولتصطحب رجلاً كان ينتظرها في سيارة فارهة أمام باب المطعم ولكن دون أن تهنأ أنت للحظات براتبك الأول وبطقس من طقوس الأثرياء وأكلتك الحلم وفاتنة تتأملك وأنت تأكل. وهنا فقط توضح لك أيضاً خطأ احتمالك الأول. كم كان سخيفاً عندما اكتشفتَ بعد ذلك أنك كنت نائماً وكنت تحلم.
لكن ما الذي دفعك في الليلة الأخرى إلى أن تتمنى أن تحلم الحلم نفسه، وتعيشه ولكن بسيناريو مختلف، فهيأت نفسك وفراشك والأجواء نفسها ..؟!
وقد تحقّق لك ذلك، ولكن يا لهول ما تحقق..؟!
كان الحلم مختلفاً هذه المرّة وكان السيناريو مخيفاً.
وقد أصبح يتكرر في كل ليلة بالتفاصيل نفسها والسيناريو ذاته، وعندما عذبكَ نحولك وخوفكَ من دنو حتفكَ، وقفت ذات يأس في مقهى يقع في مركز السوق على الطاولة لتصرخ بأعلى صوتك، وأنت تسرد حلمك المخيف للجمع الملتم من كلّ حدب وصوب في ذلك المقهى أملاً في مخرج ما أو نجاة..
أقسم لك أحدهم أنه يعاني الحلم نفسه منذ مدة قصيرة وشرع يسرد لك ما تبقى من الحلم عند النقطة التي قاطعك فيها. هنا تأكدت من صدقه، فشعرت بالراحة التي سرت في بدنك النحيل، وتنفست الصعداء، بعد أن تحرّرت من سجن كابوسك قليلاً.
عدت بعد ذلك إلى البيت منتشياً، فاحتفلت وأكلت زفراً وشربت كوباً كبيراً من الشاي، ودخنت وقضيت من زوجتك وطراً، وتحمّمت وتعطرت وتهندمت وتجولت في السوق، فتبضعت وفصفصت بزراً وغمزت فتيات جميلات، وتسكعت لتعود في منتصف الليل إلى فراشك، بعد أن تجاسرت وارتأيت هذه المرة خرق طقوسك اليومية، والعودة إلى البيت من طريق المحطة.. محطة القطار.. ليصطادك القطار وتموت تحت عجلاته مثل أي جرذ شارد.
تبّاً... شريكك الذي رأيته صباح اليوم في المقهى، لم يمت مثلك... كان سائقاً للقطار الذي دهسك.
عُزْلَة آهِلَة بالحَشْدعثمان شنقر-(السودان)
طيلةَ عشر سنوات، سكِّينه في ذراعه، ما شَهَرَها في وجه أحد. بَذَلَها لِحَشّ البصل وتقطيع اللحم وسائر أصناف الخدمة في المَسِيد.
حين سار عبد المحمود، مع شيخه النَّايِر في الخلاء، ثلاثة أيام، قاصدين قباب الشّيوخ في بَحَرْ اَبْيَض، لم يتعجَّل شيئاً!. كان مرتخياً؛ سكِّينه في ذراعه ما شَهَرَها. قال له، المريدون في البدء إن المشوار طويل، وجسمك ما عاد يحتمل. أرادوا الخير لأنفسهم. رغم أن الشيخ اختاره هو وليس غيره. قال له: يا عبد المحمود، أنْتَ ما سِرْتَ معي من قبل، وأرَدْتُك هذه السَّنَة في رفقتي. فسار معه، وكان منتشياً. ولكن الشيخ مات في الطريق. مات واستيقظ!، أدخله في التجربة والاختبار. كل المريدين دخلوا في تجارب وأعاجيب مشابهة، ولكن مثل هذه ما سمع ولا رأى!. رفقة الشيخ في الخلاء لا يَعْدِلُها شيء، أسَرَّ له بأشياء لم يكن من الممكن الإفصاح عنها في زحمة المَسِيد ولَهْوَجَة الذِّكْر. ذلك كان مقدَّراً عليه، وإلا ما سبب إصرار الشيخ في رفقة عبد المحمود هذه السَّنَة... حين نَوَى الشيخ مسيرته إلى أجداده؛ شيوخْ بَحَرْ اَبْيَض، هذه السنة، شَدَّ له المريدون جَمَلَه الفارع، وزوَّدوه بالشَّرْمُوط ودقيق الفِيتَرِيتَة والدُّخُن. أركبوا عبد المحمود على حمار أكْتَع، ما كلَّمُوه في شيء في النهاية، وَدَّعُوهما وقَبَّلُوا الشيخ في رقبته وصافحوا عبد المحمود بفتور لَحَظَهُ الشيخ، وتجاهله. وفي ليل الخلاء داهمته كوابيس شديدة، رأى فيها دمه يسيل على الرَّمل، والشيخ يتفرَّج باسماً مسندًا وَرِكَه إلى صدره، في الصَّباح طلب منه شيخه إعداد الفطور على عجل؛ لأن الدَّرِبْ بَانْ في الأفق، وغَايْةَ الوُصُولْ قَدْ قَرَّبَت. أثناء إعداده فطور الشيخ، فاجأه بالسؤال: كيف تفعل إذا مِتُّ لَكَ في هذا الخلاء؟!. السؤال باغت عبد المحمود لكنه ما أراد أن يرى شيخُه ذلك منه. أجاب شيخَه بأنه يفعل ما يفعله أي مسلم في ستر جنازة أخيه، وزيادةْ؛ يقوم بدفنها تحت هذه الشجرة المباركة ، ويجعلها مقاماً وضريحاً له. ضحك الشيخ من فصاحة مريده، لكنه صَمَت حيناً خالَهُ عبد المحمود حَوْلاً بكامله، لكن الشيخ مات بعد قليل من كلامه هذا مع مريده؛ أدخله في التجربة.
... أخذ ينظر إلى شيخه ميتاً فاغراً فمه وعيونه مبحلقة في السماء. جلس إلى جواره، متمحِّناً كفّه على خدّه اليسرى. طقطق عظام رقبته وبصق على الرمل تحت أرجله. يومَ جاء إلى الشيخ تائباً عن سيرته السابقة، لم يَرْضَ الشيخ بسماع قصته، كأنه يعرفها. وَجَدَه في أم درمان. كان الشيخ راكباً البُوكْس ـ دَبُلْ قَبِين ـ استوقفه في الشارع، ناداه؛ يا عبد المحمود. أمَرَه أن يركب ويقود السيارة، وهو لم يَقُد سيارةً في عمره، كان يجب أن يدرك أن الشيخ، منذ ذلك اليوم أراد له درب المغامرة والتجربة. هو عبد المحمود، ود الصَّارْدِيَّة، أحَبَّ الاستقرار في المسيد، لكن الشيخ لم يَرْضَ بسماع سيرته السابقة في سلب الآخرين ونهبهم، كأنه يعرفها!. أمَرَه أن يركب ويقود السيارة، وهو لم يَقُد سيارةً عمره. في زحمة المحطة الوسطى، ويا سبحان الله، ركب وقاد السيارة، والشيخ إلى جواره يتبَسَّم، حتى وصلا المسيد.
والآن.. الآن، الشيخ ميت، وعبدالمحمود متمحِّن؛ ماذا يفعل لميت؟. صحن العَصِيدَة بالشَّرْمُوط كَالَهُ التراب الناعم. الشجرة تلقي برقراق الظل عليهما؛ على رجلين، في الخلاء وحيدين، تحتهما الرمال الناعمة، وفوقهما مظلّة السماء، الشجرة تحنو على رجلين: حيّ وميت.
.... مَرَقُوا له من باطن الرِّمال: سبعة رجال بجمالهم، يلبسون ثياباً بيضاء متلفِّعين، ملثَّمين وقفوا له في رأسه. أناخوا الجمال السبعة، وشَالُوا معه الفاتحة على روح الشيخ، قاموا بغسل الجنازة وتكفينها بسرعة وخبرة، ووسَّدوها تراب الخلاء، وعبد المحمود في محنته ما خرج منها، كفّه على خدّه اليسرى، ينظر إلى الرجال السبعة يفعلون كذا وكذا، شَالُوا معه الفاتحة، ثانية، وغابوا في باطن الرمال. دخل الباب الذي كان قد أغلقه منذ عشر سنوات، وطيلة هذه المدة، ما فتئ الشيخ يُدْخِله في باب، ويُخْرِجه من آخر: أدْخَلَه في السيارة التي لا يعرف كيف يقودها، ثم في ذلك الخريف أمره بشرب جَرْدَل المَرِيسَة، ثم.. ثم، وأخيراً يُدْخِله في هذا الباب. يسأله كيف يفعل إذا مات له في الخلاء، ويموت!، إذا اكتفى بسؤاله عن الموت، في هذا الخلاء، فهذا وحده مأزق، أما إذا مات له فعلاً، فهذا، لا شك، إفحام، أما أن يصحو من موته، فوق هذا وذاك، وكأن الأمر نزهة جميلة، في خلاء لا جمال فيه، فهذا والله، فوق طاقة البشر.
كان الشيخ يجلس جوار عبدالمحمود يطقطق في عظام ظهره، ويتثاءب كأنما استيقظ من نوم هانئ، يده مرتاحة على لحم وركه، وفي عيونه احمرار خفيف، وعبدالمحمود كأنما لم يستوعب المعجزة، حدج الشيخ بنظرة لا أثر فيها لمشاعر، وتشاغل بتحريك سكِّينه في ذراعه، من أسفل إلى أعلى.
قربانة..أحمد طوسون (مصر)
عند شجرة اللبخ الكبيرة بمحطة القطار، كنت أجمع زهرات ذقن الباشا عندما يهزها هواء مارس الدفيء. أضعها في جيب بنطالي الصغير، وأحملها إلى أمي، تخلطها بالماء وترشها بأركان البيت، فيطل الربيع بوجهه الضحوك من نوافذنا المفتوحة على مصاريعها.
حينها رأيتها تهبط من القطار الذي أطلق صفارة طويلة أفزعت العصافير، كانت بين زميلاتها بفيونكتها الحمراء وقميصها الأبيض ومريلتها الزرقاء، تضم كتبها إلى صدرها وتفرش ضحكتها على رصيف المحطة.
لحظتها شعرت بقبضة في قلبي وانغرست بذرة لكائن مجهول بصدري وذابت زهرات ذقن الباشا بين أصابعي، أغمضت عينيّ لأحتفظ بصورتها لأطول فترة ممكنة، حتى علت صفارة القطار من جديد وارتج رصيف المحطة وصرت وحيدا بين جدران المحطة العجوز.
***
أتى قطار ثم عاد..
وأتى قطار آخر فارتجف رصيف المحطة وزقزق كروان وحط فوق شجرة اللبخ وهز أوراقها فسقطت زهرة ذقن الباشا فوق وجهي..
رأيتها تهبط مع صويحباتها، فرش البستاني البذرة التي انغرست في قلبي ورواها بماء الحياة..
قادني الحنين، فسرت خلفهن، وظللت أتبعهن عن بعد حتى افترقنَّ عند ميدان البلدة وودعن بعضهن بالضحكات، وسلكت هي الطريق إلى شارع الكنيسة.
تابعت خطواتها وهي تلمس الأرض بكل خفة، وأقلص الخطوات بيني وبينها، حتى دنوت فشعرت بحرارة القرب.. همست في أذنها:
- أنتِ جميلة جدا.
استدارت ناحيتي..وقبل أن تكمل عيناي الذاهلتان من وهج جمالها دورانهما حول محيطها شعرت باحمرار وجهي والحمى التي تستعر في جسدي، وقبضة في قلبي. تفحصتني من أسفل إلى أعلى، وقالت:
- أنتَ ولد صغير.. وقليل الأدب.
شعرتُ بعرق غزير يغطي جسدي، وبقلبي يدق بعنف وبساقي ترتعشان.. فلم أنبس بحرف. تركتني وواصلت طريقها على وقع خطواتها التي كانت تدهس على قلبي، حتى وصلت إلى باب الكنيسة ودخلت إلى هناك.
***
حين يشدني الحنين أغمض عيني وأستعيد صورتها وصوتها حتى أكاد ألمسهما في انتظار أن يأتي قطارها..
أتبعها عن بعد وهي تسير بين صويحباتها.. تغافلهن وتلتفت خلفها بين برهة وأخرى..
تراني فتبتسم وتمد خطواتها..عند شارع الكنيسة صارت وحيدة.
تباطأت خطواتها، فأبطأت خطواتي لتظل المسافة بيننا كما هي.. عندما توقفتْ في منتصف الشارع، توقفتُ.. لم أعرف ماذا أفعل، هل أستدير وأعود إلى بيتي أم أقف في مكاني كتمثال تجمد من الصقيع؟!
رأيتها تشير بكفها ناحيتي بما يعني تعال..ألتفت حولي فلم أجد أحدا غيري.. أسرعت إليها ووقفت بين يديها وقلت:أناااااااااااا ؟!
تلك المرة لم تكن ابتسامتها معها.. كانت غاضبة كمن كُسِّرَت لعبته للتو وهي تقول:
- أنت عاوز إيه؟
- نتجوز..
ضحكت قبل أن تستعيد صرامتها ويتحول صوتها إلى عصا تلسع وهي تقول:
- أنت عبيط لا تسر خلفي بعد اليوم.
ملت بنظراتي إلى الأرض وشعرت بجفاف حلقي ولم أستطع أن أقول لها شيئا.
حين أيقنت أنني لن أتكلم، تركتني ورحلت بخطوات مسرعة حتى دخلت من باب الكنيسة، بينما عدت إلى بيتي أرتجف من الحمى التي داهمتني.
ليومين لم أبرح فراشي ، كومت أمي الأغطية فوقي، ولم أذهب إلى المدرسة.
في اليوم الثالث ارتديت أكثر من بلوفر وذهبت إليها..
في الفسحة أصحابي كانوا يلعبون بحوش المدرسة حين سمعتهم يقولون إن عامر يسكن بشارع الكنيسة، من حينها صار صديقي، نذاكر معا.. يوماعنده وآخر عندي، عرفت منه إن اسمها زهرة..ظللت أردد اسمها بين شفتي دون أن يسمعني عامر، ولا أعرف لِم اعتقدت أن من الطبيعي أن يكون اسمها زهرة! أبوها عم بولس خادم الكنيسة..وأمها تصنع القرابين وتسكن في الكنيسة.
***
تكررت زيارتي لعامر حتى فاجأتنا أمه ونحن ننظر من بين خصاص النافذة على الشارع.. لسعتنا بعصاها القاسية وقالت:
- يا عديمي الأدب.. بتعاكسوا البنات من ورا الشباك!
من بعدها لم أعد أراها إلا حين عودتها من المدرسة، أتوارى خلف شجرة اللبخ وألمحها تهبط من القطار فيرتجف قلبي ويرشح بالحنين.
أيام مرت بعد أجازة آخر العام ولم أرها..
فكرت أن أزور عامر لكن عصا والدته جعلتني أطرد الفكرة عن رأسي وأبحث عن أخرى.
قررت أن أسير في شارع الكنيسة وحولها ربما قابلتها أو رأيتها صدفة..
لا أعرف كيف قادتني قدماي إلى هناك وعبرتا من باب الكنيسة.. سرت مخدرا بلا وعي، حتى أفقت على صوت أحدهم يشير ناحيتي ويصيح:
- ولد مسلم غريب.. امسكوه قبل أن يسرق شيئا!
جريت بسرعة خوفا أن يمسكوا بي وتراني زهرة.
أيام طويلة مرت وأنا أسير كعادتي حول الكنيسة دون أن أراها.
حين رآني عامر قال: أنت مجنون.. هل تحبها بجد؟!
ملت برأسي ونظرت إلى الأرض ولم أتكلم.
لكنه عاد وضحك قائلا:
- من تظن نفسك.. بنت في ثانوي.. ومسيحية.. تفكر فيك؟!!!
سكت لحظة أخذت فيها نفسا شجيا، وقلت:
- لكنني لم أرها منذ أخذنا الأجازة!
عامر قال: طبعا لأنها تساعد أمها في عمل القرابين.
***
احتفظت بالكرة الجديدة التي اشتراها أبي هدية لنجاحي كما هي ولم أمسها، وحين زارني عامر أخرجتها من مخبئها مددت يدي بالكرة وناولتها له وقلت:
- يمكنك أن تأخذها.. إذا استطعت أن تأتيني بقربانة مما تصنعها زهرة!
غاب عامر لأيام، ثم عاد متهللا، وقال بثقة:أين الكرة؟!
هرعت إليه، وقلت:هات القربانة أولا.. واخرج وانتظرني عند أول الشارع حتى لا يلحظ أبي شيئا.
قبلت القربانة ووضعتها بين ملابسي وأغلقت ضلفة دولابي جيدا.. سحبت الكرة من تحت السرير وخرجت دون أن يشعر بي أحد، وعدت من دونها. كل يوم أفتح دولابي وأُخرج القربانة وأضعها أمامي وأتخيل زهرة وهي تصنعها بيديها، فيهتز الشجر الذي نبت بقلبي وأسمع حفيف أوراقه.
مرت أيام..صحوت على صوت أمي تصيح وتسأل بغضب عمن وضع القربانة في دولابي حتى تعفنت.. أزاحتها وألقتها على الأرض، ثم كنستها.
بينما كان شيء صغير يتحطم في قلبي.
-----------------------------------------
ورقة عائمةأحمد ولد أسلم (موريتانيا)
تضرب الأمواج الباردة قدمي، رغم وقوفي على بعد ثلاثة أمتار من الشاطئ، أتحسس حقيبة الظهر الصغيرة، أشدها بقوة بحثا عن حرارة اختزنتها من ملامستها محرك سيارة الأجرة المتهالكة التي مازال صدى هديرها يتردد بين الكثبان.
كل من حولي منشغل بنفسه؛ سيدة في الثلاثين تهدهد طفلا، تتمتم بكلمات غير مفهومة،..زنجي يلهو بأعقاب سجائره المتراكمة، طفل يبني أكواخا من الرمال المبللة اعتمادا على حجم قدمه الصغيرة.. فتزيحها الموجة ويعيد بناءها من جديد.. وشاب قمحي اللون يعاند البحر بالكتابة على الرمال، حاولت استراق النظر إليه لمعرفة مضامين رسائله المرتبكة، غير أن الخطوط المتداخلة جعلتني أستسلم لفشلي..فهي لغة لم أدرسها في مراحل تعليمي..
يوحي مشهد الجميع برتابة مقيتة، راودتني جامحة في مناقشة أمر ما مع أحد المخلصين،كان الفراغ هائلا، ومسحة حزن تغشى جانب السماء التي بدت غير راضية عما أفعله، فجلجل عن بعد رعد غاضب، وتسربت السحب الخفيفة من أعماق البحر بعيدا عن أعين القابعين في منازلهم المترفة.
تدريجيا.. فقدت الحقيبة حرارتها، راودتني رغبة في إعادة ترتيب محتوياتها، بالرغم من أني استغرقت في ذلك أكثر من ثلاث ساعات لانتقاء ما يستحق أن تحتويه، كتيب صغير من حصن المسلم، مسواك من الأراك طري، اضطررت لكسر جزء منه كي يلائم حجم الحقيبة، مفتاح لقفل صيني قديم، وقلم جاف، ورزمة من الأوراق اقتطفتها من أحد دفاتري البالية، وسروال جينز ضيق، وأشياء تافهة لا أعرف لمَ اخترتها..ووقعت عيني على صورة، استللتها بلهفة، وكأني أراها لأول مرة، كانت متشققة أثرت فيها الأيادي الخشنة والسنون..
كانت الصورة لمريم وهي تسند ظهرها إلى شجيرة من السدر، تشبك أنامل يديها بقوة وقد أحاطت بهما ركبتها اليمنى في جلسة تأمل نادرة، آثار طلاء الحناء على الأظفار الرقيقة، وملحفتها مشدودة بحزم على رأسها -الذي لا أعرف لون شعره- تنساب برخاوة على ذراعيها، حائلة بذلك دون إظهار تفاصيل قدها، وعن بعد .. تنتصب خلفها نخلة تتدلى عراجينها بثقة، وبين السدرة والنخلة اخترقت خيوط خفيفة لشمس الغروب... كانت الصورة بيضاء وسوداء ما جعل الألوان غير واضحة، وإن كنت بحدسي توقعت أن تكون الملحفة زرقاء فاتحة تتناثر فيها نقاط بيض وبنفسجية وزرقاء غامقة.
كان الوجه القمري يشع بنور خافت ينتصب في وسطه الأنف المترفع قليلا بتعال، والعينان النجلاوان تستظلان بأهداب كثيفة وحاجبين مقوسين..والشفتان اللمياوان ترسمان ابتسامة موناليزية غامضة، تتقاطع في نقطة غير محددة مع النظرة الواثقة، كل ذلك يوهم المتمعن في الصورة أنها تريد الهمس بسر دفين حرصت على كتمانه لسنوات.
ويتربع في الزاوية اليمينية السفلى تاريخ التقاط الصورة الذي مضى عليه أكثر من عشر سنين، عادة سيئة درج عليها قدماء المصورين، إنها تحرمك متعة اختيار التاريخ الذي تريد، فالناس يرغبون دائما في اختلاق تواريخ لذكرياتهم - مهما كانت- تناسب الموقف الآني. ينفث الزنجي من جديد دخان سيجارته الرخيصة الثمن، ويتعالى صراخ الطفل فترفع المرأة صوتها بالذكر في أذنه وتهزه بهدوء، يعود بي كل ذلك إلى لحظتي، يرفع الزنجي ساعده يؤخر قليلا قميصه الشتوي الطويل، فتبرز ساعة رقمية ، ويغمغم بلغة فرنسية رديئة: «مرت ثلاث ساعات».. ويضرب برجله قنينة ماء معدنية فارغة فتحلق بعيدا ثم تسقط بجنب الطفل المصر على تشييد أكواخه.. يلوح الرجل قمحي اللون بقميصه في إشارة استنفار أو استغاثة فيتدافع الجميع نحو زورق يحمل جانبه الموالي لنا عبارة أجنبية، فهمت لاحقا أنها تعني «تحقق حلمي» باللغة الإسبانية، تداخلت مع بسملة كتبت بخط سيئ وبلون أخضر..كان صوت المحرك مزعجا..والشفاه تتحرك بتناغم منتظم..
وعلى بعد ثلاثة أمتار من الشاطئ كانت ورقة بيضاء مستطيلة تتقاذفها الأمواج..لترميها على أطلال كوخ بناه صبي بمقياس قدمه الصغيرة..تبين من شقوقها أنها صورة مريم..
أصرخ : انتظر ..انتظر.. رجاء..
يتطاير لعاب المرأة وهي تدفن بحنان لافت رأس طفل في صدرها..ويهزج الزنجي بصوت شجي يغمر بروحانيته الزورق المبتعد..وتتلاشى في المدى تلك الورقة.
رجلان وحلم واحد..عمران عزالدين أحمد (سورية)
عندما قصدتَ ذلك المطعم الفاخر فور تسلمك للمرة الأولى راتبك الوظيفي، كنت تتضور جوعاً وشوقاً لممارسة طقس من طقوس النبلاء، واتخذت من أقصى ركن فيه كرسياً تهالكتَ عليه بكل ثقلك وعرقك، وبعد الرشفة الأولى من كوب الماء المثلج واللقمة الأولى من أكلتك - الحلم، اصطدمت عيناك بعيني امرأة صارخة الجمال تتأملك وأنت تأكل.
لم تكن متأكداً ما إذا كانت تلك المرأة تتأملك، أم تصوب بؤبؤيها إلى ذلك الرجل القابع وراءك، المشغول بقراءة الجريدة ومداعبة مسدسه، ولكن سرعان ما توضح لك خطأ احتمالك الأخير، بعد أن أطلق ذلك الرجل صرخة وجملة غير مفهومة وأفرغ في رأسه كلّ الرصاصات المحشوة في مسدسه، الأمر الذي أدى إلى إحداث ضجة غير عادية بين زوار ذلك المطعم غير العادي، هرب قسم منهم إلى الشارع، وسارع إلى نجدته قسم آخر، دون أن تتزحزح هي من مكانها. أما أنت فبقيت مندهشاً وحائراً للحظات، لكنك سيطرتَ على ذلك المشهد تماماً عندما اتجهتَ إلى تلك المرأة الفاتنة، وحملتها إلى خارج المطعم لتترككَ هي بعد ذلك ولتصطحب رجلاً كان ينتظرها في سيارة فارهة أمام باب المطعم ولكن دون أن تهنأ أنت للحظات براتبك الأول وبطقس من طقوس الأثرياء وأكلتك الحلم وفاتنة تتأملك وأنت تأكل. وهنا فقط توضح لك أيضاً خطأ احتمالك الأول. كم كان سخيفاً عندما اكتشفتَ بعد ذلك أنك كنت نائماً وكنت تحلم.
لكن ما الذي دفعك في الليلة الأخرى إلى أن تتمنى أن تحلم الحلم نفسه، وتعيشه ولكن بسيناريو مختلف، فهيأت نفسك وفراشك والأجواء نفسها ..؟!
وقد تحقّق لك ذلك، ولكن يا لهول ما تحقق..؟!
كان الحلم مختلفاً هذه المرّة وكان السيناريو مخيفاً.
وقد أصبح يتكرر في كل ليلة بالتفاصيل نفسها والسيناريو ذاته، وعندما عذبكَ نحولك وخوفكَ من دنو حتفكَ، وقفت ذات يأس في مقهى يقع في مركز السوق على الطاولة لتصرخ بأعلى صوتك، وأنت تسرد حلمك المخيف للجمع الملتم من كلّ حدب وصوب في ذلك المقهى أملاً في مخرج ما أو نجاة..
أقسم لك أحدهم أنه يعاني الحلم نفسه منذ مدة قصيرة وشرع يسرد لك ما تبقى من الحلم عند النقطة التي قاطعك فيها. هنا تأكدت من صدقه، فشعرت بالراحة التي سرت في بدنك النحيل، وتنفست الصعداء، بعد أن تحرّرت من سجن كابوسك قليلاً.
عدت بعد ذلك إلى البيت منتشياً، فاحتفلت وأكلت زفراً وشربت كوباً كبيراً من الشاي، ودخنت وقضيت من زوجتك وطراً، وتحمّمت وتعطرت وتهندمت وتجولت في السوق، فتبضعت وفصفصت بزراً وغمزت فتيات جميلات، وتسكعت لتعود في منتصف الليل إلى فراشك، بعد أن تجاسرت وارتأيت هذه المرة خرق طقوسك اليومية، والعودة إلى البيت من طريق المحطة.. محطة القطار.. ليصطادك القطار وتموت تحت عجلاته مثل أي جرذ شارد.
تبّاً... شريكك الذي رأيته صباح اليوم في المقهى، لم يمت مثلك... كان سائقاً للقطار الذي دهسك.
عُزْلَة آهِلَة بالحَشْدعثمان شنقر-(السودان)
طيلةَ عشر سنوات، سكِّينه في ذراعه، ما شَهَرَها في وجه أحد. بَذَلَها لِحَشّ البصل وتقطيع اللحم وسائر أصناف الخدمة في المَسِيد.
حين سار عبد المحمود، مع شيخه النَّايِر في الخلاء، ثلاثة أيام، قاصدين قباب الشّيوخ في بَحَرْ اَبْيَض، لم يتعجَّل شيئاً!. كان مرتخياً؛ سكِّينه في ذراعه ما شَهَرَها. قال له، المريدون في البدء إن المشوار طويل، وجسمك ما عاد يحتمل. أرادوا الخير لأنفسهم. رغم أن الشيخ اختاره هو وليس غيره. قال له: يا عبد المحمود، أنْتَ ما سِرْتَ معي من قبل، وأرَدْتُك هذه السَّنَة في رفقتي. فسار معه، وكان منتشياً. ولكن الشيخ مات في الطريق. مات واستيقظ!، أدخله في التجربة والاختبار. كل المريدين دخلوا في تجارب وأعاجيب مشابهة، ولكن مثل هذه ما سمع ولا رأى!. رفقة الشيخ في الخلاء لا يَعْدِلُها شيء، أسَرَّ له بأشياء لم يكن من الممكن الإفصاح عنها في زحمة المَسِيد ولَهْوَجَة الذِّكْر. ذلك كان مقدَّراً عليه، وإلا ما سبب إصرار الشيخ في رفقة عبد المحمود هذه السَّنَة... حين نَوَى الشيخ مسيرته إلى أجداده؛ شيوخْ بَحَرْ اَبْيَض، هذه السنة، شَدَّ له المريدون جَمَلَه الفارع، وزوَّدوه بالشَّرْمُوط ودقيق الفِيتَرِيتَة والدُّخُن. أركبوا عبد المحمود على حمار أكْتَع، ما كلَّمُوه في شيء في النهاية، وَدَّعُوهما وقَبَّلُوا الشيخ في رقبته وصافحوا عبد المحمود بفتور لَحَظَهُ الشيخ، وتجاهله. وفي ليل الخلاء داهمته كوابيس شديدة، رأى فيها دمه يسيل على الرَّمل، والشيخ يتفرَّج باسماً مسندًا وَرِكَه إلى صدره، في الصَّباح طلب منه شيخه إعداد الفطور على عجل؛ لأن الدَّرِبْ بَانْ في الأفق، وغَايْةَ الوُصُولْ قَدْ قَرَّبَت. أثناء إعداده فطور الشيخ، فاجأه بالسؤال: كيف تفعل إذا مِتُّ لَكَ في هذا الخلاء؟!. السؤال باغت عبد المحمود لكنه ما أراد أن يرى شيخُه ذلك منه. أجاب شيخَه بأنه يفعل ما يفعله أي مسلم في ستر جنازة أخيه، وزيادةْ؛ يقوم بدفنها تحت هذه الشجرة المباركة ، ويجعلها مقاماً وضريحاً له. ضحك الشيخ من فصاحة مريده، لكنه صَمَت حيناً خالَهُ عبد المحمود حَوْلاً بكامله، لكن الشيخ مات بعد قليل من كلامه هذا مع مريده؛ أدخله في التجربة.
... أخذ ينظر إلى شيخه ميتاً فاغراً فمه وعيونه مبحلقة في السماء. جلس إلى جواره، متمحِّناً كفّه على خدّه اليسرى. طقطق عظام رقبته وبصق على الرمل تحت أرجله. يومَ جاء إلى الشيخ تائباً عن سيرته السابقة، لم يَرْضَ الشيخ بسماع قصته، كأنه يعرفها. وَجَدَه في أم درمان. كان الشيخ راكباً البُوكْس ـ دَبُلْ قَبِين ـ استوقفه في الشارع، ناداه؛ يا عبد المحمود. أمَرَه أن يركب ويقود السيارة، وهو لم يَقُد سيارةً في عمره، كان يجب أن يدرك أن الشيخ، منذ ذلك اليوم أراد له درب المغامرة والتجربة. هو عبد المحمود، ود الصَّارْدِيَّة، أحَبَّ الاستقرار في المسيد، لكن الشيخ لم يَرْضَ بسماع سيرته السابقة في سلب الآخرين ونهبهم، كأنه يعرفها!. أمَرَه أن يركب ويقود السيارة، وهو لم يَقُد سيارةً عمره. في زحمة المحطة الوسطى، ويا سبحان الله، ركب وقاد السيارة، والشيخ إلى جواره يتبَسَّم، حتى وصلا المسيد.
والآن.. الآن، الشيخ ميت، وعبدالمحمود متمحِّن؛ ماذا يفعل لميت؟. صحن العَصِيدَة بالشَّرْمُوط كَالَهُ التراب الناعم. الشجرة تلقي برقراق الظل عليهما؛ على رجلين، في الخلاء وحيدين، تحتهما الرمال الناعمة، وفوقهما مظلّة السماء، الشجرة تحنو على رجلين: حيّ وميت.
.... مَرَقُوا له من باطن الرِّمال: سبعة رجال بجمالهم، يلبسون ثياباً بيضاء متلفِّعين، ملثَّمين وقفوا له في رأسه. أناخوا الجمال السبعة، وشَالُوا معه الفاتحة على روح الشيخ، قاموا بغسل الجنازة وتكفينها بسرعة وخبرة، ووسَّدوها تراب الخلاء، وعبد المحمود في محنته ما خرج منها، كفّه على خدّه اليسرى، ينظر إلى الرجال السبعة يفعلون كذا وكذا، شَالُوا معه الفاتحة، ثانية، وغابوا في باطن الرمال. دخل الباب الذي كان قد أغلقه منذ عشر سنوات، وطيلة هذه المدة، ما فتئ الشيخ يُدْخِله في باب، ويُخْرِجه من آخر: أدْخَلَه في السيارة التي لا يعرف كيف يقودها، ثم في ذلك الخريف أمره بشرب جَرْدَل المَرِيسَة، ثم.. ثم، وأخيراً يُدْخِله في هذا الباب. يسأله كيف يفعل إذا مات له في الخلاء، ويموت!، إذا اكتفى بسؤاله عن الموت، في هذا الخلاء، فهذا وحده مأزق، أما إذا مات له فعلاً، فهذا، لا شك، إفحام، أما أن يصحو من موته، فوق هذا وذاك، وكأن الأمر نزهة جميلة، في خلاء لا جمال فيه، فهذا والله، فوق طاقة البشر.
كان الشيخ يجلس جوار عبدالمحمود يطقطق في عظام ظهره، ويتثاءب كأنما استيقظ من نوم هانئ، يده مرتاحة على لحم وركه، وفي عيونه احمرار خفيف، وعبدالمحمود كأنما لم يستوعب المعجزة، حدج الشيخ بنظرة لا أثر فيها لمشاعر، وتشاغل بتحريك سكِّينه في ذراعه، من أسفل إلى أعلى.
قربانة..أحمد طوسون (مصر)
عند شجرة اللبخ الكبيرة بمحطة القطار، كنت أجمع زهرات ذقن الباشا عندما يهزها هواء مارس الدفيء. أضعها في جيب بنطالي الصغير، وأحملها إلى أمي، تخلطها بالماء وترشها بأركان البيت، فيطل الربيع بوجهه الضحوك من نوافذنا المفتوحة على مصاريعها.
حينها رأيتها تهبط من القطار الذي أطلق صفارة طويلة أفزعت العصافير، كانت بين زميلاتها بفيونكتها الحمراء وقميصها الأبيض ومريلتها الزرقاء، تضم كتبها إلى صدرها وتفرش ضحكتها على رصيف المحطة.
لحظتها شعرت بقبضة في قلبي وانغرست بذرة لكائن مجهول بصدري وذابت زهرات ذقن الباشا بين أصابعي، أغمضت عينيّ لأحتفظ بصورتها لأطول فترة ممكنة، حتى علت صفارة القطار من جديد وارتج رصيف المحطة وصرت وحيدا بين جدران المحطة العجوز.
***
أتى قطار ثم عاد..
وأتى قطار آخر فارتجف رصيف المحطة وزقزق كروان وحط فوق شجرة اللبخ وهز أوراقها فسقطت زهرة ذقن الباشا فوق وجهي..
رأيتها تهبط مع صويحباتها، فرش البستاني البذرة التي انغرست في قلبي ورواها بماء الحياة..
قادني الحنين، فسرت خلفهن، وظللت أتبعهن عن بعد حتى افترقنَّ عند ميدان البلدة وودعن بعضهن بالضحكات، وسلكت هي الطريق إلى شارع الكنيسة.
تابعت خطواتها وهي تلمس الأرض بكل خفة، وأقلص الخطوات بيني وبينها، حتى دنوت فشعرت بحرارة القرب.. همست في أذنها:
- أنتِ جميلة جدا.
استدارت ناحيتي..وقبل أن تكمل عيناي الذاهلتان من وهج جمالها دورانهما حول محيطها شعرت باحمرار وجهي والحمى التي تستعر في جسدي، وقبضة في قلبي. تفحصتني من أسفل إلى أعلى، وقالت:
- أنتَ ولد صغير.. وقليل الأدب.
شعرتُ بعرق غزير يغطي جسدي، وبقلبي يدق بعنف وبساقي ترتعشان.. فلم أنبس بحرف. تركتني وواصلت طريقها على وقع خطواتها التي كانت تدهس على قلبي، حتى وصلت إلى باب الكنيسة ودخلت إلى هناك.
***
حين يشدني الحنين أغمض عيني وأستعيد صورتها وصوتها حتى أكاد ألمسهما في انتظار أن يأتي قطارها..
أتبعها عن بعد وهي تسير بين صويحباتها.. تغافلهن وتلتفت خلفها بين برهة وأخرى..
تراني فتبتسم وتمد خطواتها..عند شارع الكنيسة صارت وحيدة.
تباطأت خطواتها، فأبطأت خطواتي لتظل المسافة بيننا كما هي.. عندما توقفتْ في منتصف الشارع، توقفتُ.. لم أعرف ماذا أفعل، هل أستدير وأعود إلى بيتي أم أقف في مكاني كتمثال تجمد من الصقيع؟!
رأيتها تشير بكفها ناحيتي بما يعني تعال..ألتفت حولي فلم أجد أحدا غيري.. أسرعت إليها ووقفت بين يديها وقلت:أناااااااااااا ؟!
تلك المرة لم تكن ابتسامتها معها.. كانت غاضبة كمن كُسِّرَت لعبته للتو وهي تقول:
- أنت عاوز إيه؟
- نتجوز..
ضحكت قبل أن تستعيد صرامتها ويتحول صوتها إلى عصا تلسع وهي تقول:
- أنت عبيط لا تسر خلفي بعد اليوم.
ملت بنظراتي إلى الأرض وشعرت بجفاف حلقي ولم أستطع أن أقول لها شيئا.
حين أيقنت أنني لن أتكلم، تركتني ورحلت بخطوات مسرعة حتى دخلت من باب الكنيسة، بينما عدت إلى بيتي أرتجف من الحمى التي داهمتني.
ليومين لم أبرح فراشي ، كومت أمي الأغطية فوقي، ولم أذهب إلى المدرسة.
في اليوم الثالث ارتديت أكثر من بلوفر وذهبت إليها..
في الفسحة أصحابي كانوا يلعبون بحوش المدرسة حين سمعتهم يقولون إن عامر يسكن بشارع الكنيسة، من حينها صار صديقي، نذاكر معا.. يوماعنده وآخر عندي، عرفت منه إن اسمها زهرة..ظللت أردد اسمها بين شفتي دون أن يسمعني عامر، ولا أعرف لِم اعتقدت أن من الطبيعي أن يكون اسمها زهرة! أبوها عم بولس خادم الكنيسة..وأمها تصنع القرابين وتسكن في الكنيسة.
***
تكررت زيارتي لعامر حتى فاجأتنا أمه ونحن ننظر من بين خصاص النافذة على الشارع.. لسعتنا بعصاها القاسية وقالت:
- يا عديمي الأدب.. بتعاكسوا البنات من ورا الشباك!
من بعدها لم أعد أراها إلا حين عودتها من المدرسة، أتوارى خلف شجرة اللبخ وألمحها تهبط من القطار فيرتجف قلبي ويرشح بالحنين.
أيام مرت بعد أجازة آخر العام ولم أرها..
فكرت أن أزور عامر لكن عصا والدته جعلتني أطرد الفكرة عن رأسي وأبحث عن أخرى.
قررت أن أسير في شارع الكنيسة وحولها ربما قابلتها أو رأيتها صدفة..
لا أعرف كيف قادتني قدماي إلى هناك وعبرتا من باب الكنيسة.. سرت مخدرا بلا وعي، حتى أفقت على صوت أحدهم يشير ناحيتي ويصيح:
- ولد مسلم غريب.. امسكوه قبل أن يسرق شيئا!
جريت بسرعة خوفا أن يمسكوا بي وتراني زهرة.
أيام طويلة مرت وأنا أسير كعادتي حول الكنيسة دون أن أراها.
حين رآني عامر قال: أنت مجنون.. هل تحبها بجد؟!
ملت برأسي ونظرت إلى الأرض ولم أتكلم.
لكنه عاد وضحك قائلا:
- من تظن نفسك.. بنت في ثانوي.. ومسيحية.. تفكر فيك؟!!!
سكت لحظة أخذت فيها نفسا شجيا، وقلت:
- لكنني لم أرها منذ أخذنا الأجازة!
عامر قال: طبعا لأنها تساعد أمها في عمل القرابين.
***
احتفظت بالكرة الجديدة التي اشتراها أبي هدية لنجاحي كما هي ولم أمسها، وحين زارني عامر أخرجتها من مخبئها مددت يدي بالكرة وناولتها له وقلت:
- يمكنك أن تأخذها.. إذا استطعت أن تأتيني بقربانة مما تصنعها زهرة!
غاب عامر لأيام، ثم عاد متهللا، وقال بثقة:أين الكرة؟!
هرعت إليه، وقلت:هات القربانة أولا.. واخرج وانتظرني عند أول الشارع حتى لا يلحظ أبي شيئا.
قبلت القربانة ووضعتها بين ملابسي وأغلقت ضلفة دولابي جيدا.. سحبت الكرة من تحت السرير وخرجت دون أن يشعر بي أحد، وعدت من دونها. كل يوم أفتح دولابي وأُخرج القربانة وأضعها أمامي وأتخيل زهرة وهي تصنعها بيديها، فيهتز الشجر الذي نبت بقلبي وأسمع حفيف أوراقه.
مرت أيام..صحوت على صوت أمي تصيح وتسأل بغضب عمن وضع القربانة في دولابي حتى تعفنت.. أزاحتها وألقتها على الأرض، ثم كنستها.
بينما كان شيء صغير يتحطم في قلبي.
مجلة العربي عدد أغسطس 2009
http://www.alarabimag.net/arabi/Data/2009/8/1/Art_90409.XML
هناك تعليقان (2):
ثلاث قصص بالفعل هم الأجمل ، سرد رائع يتصدرهم قربانة والتى قرأتها من قبل أكثر من مرة ، وكل مرة تعيد قرائنها ، تكتشف أنك تقرأها لأول مرة.
كنت في الماضي أجلس عند الاصيل أسترق السمع لإذاعة البي بي سي في إنتظار هذا البرنامج الذي يبث المشاركات القصصية للشباب من العالم العربي ،،،
لك التحية أستاذ أحمد طوسون فقد عدت بنا إلى زمن جميل،،،،
كما أن القصص الثلاث رائعة حقاً
إرسال تعليق