مصر وديموقراطياتها الغريبة
قاسم مسعد عليوة
عرفت مصر نوعين من أغرب الديموقراطيات، وأظنها قد انفردت بهما دون سائر دول العالم. هاتان الديموقراطيتان هما: "ديموقراطية المفرمة" و"ديموقراطية الطناش". ابتكر السادات ديموقراطية الفرم، ووضع الشعب المصرى بأكمله: يمينه ويساره، أحزابه وجمعياته، تجمعه ووفده، علمائه وأدبائه، مفكريه وفنانيه، عماله وطلابه، متطرفيه ومعتدليه داخل هذه المفرمة، واستمر على مدى عقد كامل، هو العقد السبعينى، فى تشغيل هذه المفرمة دونما هوادة، إلى أن اغتيل بأيدى بعض ممن استخدمهم فى إدارتها.
أما "ديموقراطية الطناش" فمبتكرها خليفته، وريثه وحامل جيناته وكروموزوماته محمد حسنى مبارك، واستن مبارك لهذه الديموقراطية شعاراً سرياً تبناه وطبَّقه، هو وأسرته وأشياعه، على مدى ثلاثة عقود من عمر الزمان؛ وشعاره هذا مستمد ـ مع تحريف كبير ـ من شعار البرجوازية الأوربية "دعه يمر.. دعه يعمل"، بل هو تحريف بالغ البشاعة والرداءة مبنى ومعنى لهذا الشعار؛ وهل هناك ما هو أبشع وأردأ من شعار"دعه يقول.. دعنا ننهب"؟.. ثلاثة عقود ونحن محبوسون فى حروف صحفنا، محاصرون بين جدران أحزابنا، فإن خرجنا من أيها قمعنا ضرباً واعتقالاً وتنكيلاً وتشويه سمعة.
وها هى الثورة الفتية قد قامت.. الثورة التى أشعل الشباب فتيلها وفجرها الشعب نهار الثلاثاء 25 يناير 2011م، انفجرت الثورة وزلزلت أركان النظام الباطش، فسقط رأسه وبُترت أعداد من أذرعه، وما زالت الثورة ماضية على نهجها لم تحد عنه قيد أنملة من أجل تنفيذ أهدافها وتحقيق مطالبها، وجميعها تفصيلات لهدف أسمى هو إسقاط النظام المستبد الفاسد، وإحلال نظام جديد محله، نظام ديموقراطى وطنى وعادل، نظام يترجم شعار الثورة الذى لم يختلف عليه أى فصيل من فصائلها أو فرد من أفرادها "خبز.. حرية.. عدالة اجتماعية" إلى حقيقة وواقع معاش؛ ومن ثم لا يستقيم بأى حال من الأحوال أن يبقى فى سدة الحكم صُنَّاع مآسى الشعب من صنائع النظام المنهار، أولئك الذين نهبوا خبزه، وقيدوا حريته وحرموه من نعمة العدالة. لا يستقيم، ولا يحق، ولا يجوز أن يبقى واحد منهم لا فى الوزارة، ولا فى أى مؤسسة من مؤسسات الدولة، كبرت هذه المؤسسة أو صغرت.
وهنا تتجه الأنظار إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسنعيد الأذهان العهد الذي قطعه هذا المجلس على نفسه أمام الشعب وأكد فيه على أنه ضامن لتحقيق أهداف ثورة 25 يناير كاملة، لكن الملحوظ أن المجلس تبنى ديموقراطية تكمل مثلث الديموقراطيات الغريبة، وهل يمكن لـ"ديموقرطية القطَّارة" إلا أن تكون كذلك؟..
هذا ما تدل عليه الشواهد المعاشة منذ أمسك المجلس بمقاليد الأمور فى مصر حتى الآن، إنها ديموقراطية القطرة.. قطرة.. فلا رَوَى المجلس، بالإجراءات التى اتخذها، عطش الشعب إلى العدل والحرية، ولا بلل شفتيه حتى.. الأكثر من هذا أنه لا يواصل الضغط على القطَّارة لتهمى القطرات سراعاً، وإنما يضغط بتمهل وبطء شديدين.. يُنزل قطرة وبعد طول انتظار ينزل القطرة التى تليها، وبين كل قطرة وأخرى يستطلع مدى الإصرار الشعبى وحجم مظاهراته، هل هى مليونية أم دون المليون؟.. أى الشعارات أكثر تردداً؟.. من هم رافعوها؟.. وما هى أهميتهم النسبية؟.. ليقرر أى من مطالب الثورة يمكنه الاستجابة له ليُنزل فى الفم العطِش قطرة أو بعض قطرة من قطراتها.
حدث هذا من المجلس مع الحكومة التى خلفها وراءه النظام المنهار، وحدث مع مواقفه مع مطالب الثورة بحل مجلسى الشعب والشورى، وتغيير الدستور، ومحاكمة الفاسدين المفسدين. الشكوك بدأت تسرى فى نفوس الشعب الثائر، وأمانى الإفلات من العقاب بدأت تتعاظم لدى كثيرين من الفاسدين، بل بدأوا فى تنظيم أنفسهم وتغيير أقنعتهم وملابسهم والنزول إلى الميدان، ميدان الثورة المضادة بطبيعة الحال.
إنَّ تَرَفع المجلس عن الاستمرار فى السلطة هو ترفع محمود بلا شك، لكن لا يجوز أن يُتخذ هذا الترفع مبرراً لعدم الوفاء بما تعهد به أمام الشعب.. كل ما تعهد به.. والشعب لا ترضيه أبداً ديموقراطية القطرة.. قطرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق