محرز راشدي
باحث تونسي - اختصاص أدب حديث
لقد مثّل الجنون مفتاحا من مفاتيح الاطّلاع على المعرفة الأسراريّة ومأتى
من مآتي القول البديع، بل« إنّ قدماء اليونان ربطوا بين الجنون والنّبوءة »،
ولذلك لا يمكن أن نعتبر وضعيّة الجنون حرجة أو متأزّمة، حتّى في حال وقع طرد
الشّعراء من مدينة أفلاطون(Platon) الفاضلة بدعوى أنّ أقاويلهم الشعريّة بعيدة عن
الحقيقة.
فالجنون وإن شرُّح غالبا من منظور ميتافيزيقي، فإنّه
حظي بحقّه في الوجود والحضور محاطا بدارة من القداسة، وكما قالت شوشان فلمان: «
مفهوم الجنون في العصور الوسطى، مفهوم كوني دراميّ تراجيديّ...»، ورغم ذلك
فإنّ الحداثة بصفة عامّة ستكرّس منظورا وحيدا تطلّ منه على العالم والأشياء، هو
منظور العقل محدّدا للذّات الإنسانيّة. وذلك كان تأسيسا على الطّرح الدّيكارتي
الّذي دشّن مركزيّة الذّات بوصفها جوهرا مفكّرا، معتبرا التّفكير أرضًا صلبةً
يتأسّس عليها الوجود الإنساني، وماعدا ذلك في حكم المعدوم.
ولعلّ كتاب ميشال فوكو)FoucaultMichel("تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" أفضل دليل على سقوط الثّقافة الغربيّة في التّمركز،
والاحتفاء بتاريخ العقل، فيما سكتت عن الجنون وأهملت القطاع الهامشي. ففي تعليقه
على الكوجيتوالدّيكارتي )cartésienCogito( ذهب دريداإلى أنّ « ديكارت في تأمّله الأوّل، قد لفظ
الجنون خارج حدود الثّقافة وانحدر به إلى مستوى الصّمت»، بمعنى أنّ
الكوجيتو نسيان لتاريخ الجنون وتدشين لحقبة العقل، واستتباعا فإنّه يمثّل تعاميا
عن الآثار الفنّية والأدبيّة والثّقافيّة المنتسبة إلى الجنون. وفي المحصّلة «بات
تاريخ الثقافة الغربية تاريخ فتوحات العقل وتاريخ إمبريالية العقل، ولذلك فهو
تاريخ قمع وطمس الجنون »، إذ أنّ الحيف الّذي مورس على الجنون، ثمّ
نفيه من منطقة الوجود إلى فراغ اللاّوجود، ليس إلاّ مدخلا إلى محو لغته وتبكيت
صوته. وحينئذ، ليس من المغالاة أن يقع اعتبار الجنون الكلاسيكي منتميا قهرا إلى
مناطق الصّمت، لأنّه لا وجود لأدب في العصر الكلاسيكي خاصّ بالجنون.
وإذا كانت وضعيّة الجنون في العصر الكلاسيكي
حرجة إلى هذا الحدّ، فإنّ طبّ الأمراض العقليّة سيكون صفحة مضافة إلى سرديّات الإكراه
والإخضاع والإقصاء المتبلورة في سياق
الحتميّة الموضوعيّة المضمّخة بارتكاس الجنون وخنق ضجّته.
وإذا كان في السّابق منطق الإقصاء هو صاحب الغلبة،
والمسلك السّالك إلى دحر الجنون، فإنّ
العقلانيّة العلميّة بمناهجها الوضعيّة ستعمل على إنتاج خطاب مفهومي بخصوص الجنون
قصد تدجينه، واحتوائه من جهة أنّه مرض عقلي. والجليّ أنّ مفهوم المرض العقلي
( Maladiementale) لا يغطّي مفهوم الجنون، بل إنّ فوكو ذاته وهو يؤرّخ
لأركيولوجيا الصّمت ساقط في المطبّ عينه، لأنّه إذ يقارب مفهوم الجنون إنّما ينشئ
بشأنه منطوقا متلائما مع العقل، وسلامة المنطق، تجلّيه الأبين ماثل في حبك الجملة
السّليمة نحويّا، الحاملة للمدلول السّوي والضّامنة له، وعلى حدّ تعبير جاك
داريدا)DerridaJacques( «أيّة فلسفة للجنون هي فلسفة
مستحيلة، ذلك أنّ الجنون في جوهره صمت، ولا يمكن أن يقال في لغة العقل logos »، والرّأي عنده أنّ السّبيل الأوحد لإعادة صوت الجنون هو
لغة المتخيّل أو متخيّل اللّغة. ويقول تعليقا على "تاريخ الجنون في العصر
الكلاسيكي":« إنّ صمت الجنون لم يقل ولا يمكن أن يقال في عقل هذا الكتاب،
بل يستدرج بكيفيّة مخاتلة [....] في وجدان – وأنا أشغّل هذه الكلمة في مدلولها
الأمثل – هذا الكتاب ». ولا مراء أنّ المجاز والوجدان ولغة المتخيّل أركان
ركينة في الأدب الّذي يحضر خفية ملاذا للجنون. وليس من حجّة أمتن على جدارة الأدب
وجدواه في هذا المضمار من أنّ فوكو ذاته لم يجد أفضل من الأدب شاهدا على الجنون،
يقول:« منذ نهاية ق 18 لم تعد حياة اللاّعقل تكشف عن نفسها إلاّ من خلال
التّجسّد في أعمال كأعمال هولدرلين ونير فال ونيتشه وأرتو ...»، وفي هذا
المقام يتقدّم الأدب خطابا وسطا بين الفكر والجنون، في كنفه ينطلق صوت
اللاّعقلمستعيدا حقّه في التّعبير، بل سيكون إبّان الفترة الرّومنطيقيّة في
أدب القرن التّاسع عشر "انفجارا غنائيّا" (Éclatement lyrique)تناقضا مع المرسوم الدّيكارتي القاضي بـ " استحالة
غنائية اللاّعقل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق