بقلم: عبد القادر كعبان
تختلف تجربة القاص والروائي السعودي ماجد
سليمان في عمله الروائي الثالث الموسوم "طيور العتمة" (2014) عن باكورته
الروائية "عين حمئة" (2011) لأنها تنتمي إلى ما يسمى بأدب السجون، أين
تستوقفنا قصة البطل برهان ورفاقه المأساوية كونهم وقعوا ضحية لمخطط انقلابي في قاعدة
الجيش لا صلة لهم به، وبالرغم من ذلك وجدوا أنفسهم خلف القضبان.
يعتبر الغلاف الخارجي من أهم العتبات النصية
الأولى الذي يواجه القارئ قبل لذة النص التي تنتج عن قراءة متأنية لأي عمل أدبي
مهما كان جنسه أو كاتبه، وفيما يخص غلاف "طيور العتمة" فهو بدوره يعكس
رؤية لغوية ودلالية بصرية لفهم محتوى النص ولو سطحيا منذ البداية.
ما يلفت الانتباه للوهلة الأولى في هذا
الغلاف هو ذلك السواد الداكن عند صورة مدخل نفق للسيارات مع صورة لشخص مجهول
الملامح يمشي نحو تلك العتمة، التي تعكس بدورها نورا يتدفق خارج النفق، كما جاءت
البيانات على الغلاف كالآتي:
عنوان الرواية بخط واضح عريض"طيور
العتمة" بلون أصفر، ثم يظهر اسم المؤلف ماجد سليمان واضحا كذلك
للقراء ويليه نوع الجنس الأدبي "رواية" بخط رفيع أقل حجما من العنوان
وفي الأسفل يظهر اسم الدار التي نشرت هذا العمل الأدبي "دار الساقي".
جاء عنوان رواية سليمان ليكشف أغوار النص
العميقة التي لا تبدو واضحة الملامح إلا من خلال قراءة الصفحات الأولى لهذا العمل
الذي يمزج بين الرمزية والوضوح في آن واحد.
يتكون هذا الأخير -عنوان الرواية- من كلمتين
"طيور" و"العتمة" تختزل مضمون النص، فالأولى تسعى للحرية كما
يعلم الجميع أما الثانية فهي تعني الظلام الدامس، ولكن أي حرية وأي ظلام يعنيه
الروائي؟
نفتح الرواية لتواجهنا تلك الإضاءة التي
تنقلنا بدورها إلى هدف المبدع ماجد سليمان المبني على الخيال الذي لا يخلو من
الحقائق المرة لوضعية السجين العربي إجمالا، وهذا ما سيكتشفه القارئ حتما خلال
عملية القراءة.
تتكون رواية "طيور العتمة" من 126
صفحة من القطع المتوسط، متضمنة عشرة أجزاء جاءت على شكل كراريس، كل واحد فيها يحمل
عنوانا موحيا في مضمونه كما يلي:
- الكراسة الأولى: يد الموت تتحسس الأحياء.
- الكراسة الثانية: نافذة أكبر على الشقاء.
- الكراسة الثالثة: أشباح تطل من الشقوق.
- الكراسة الرابعة: أعين معصوبة بالجمر.
- الكراسة الخامسة: غربان تنقر العتمات.
- الكراسة السادسة: أمنيات مقلوعة الأعين.
- الكراسة السابعة: أفئدة متخمة بالألم.
- الكراسة الثامنة: حديد يئن في المعاصم.
- الكراسة التاسعة: زمرة تدير ظهرها
لأحلامها.
- الكراسة العاشرة: سجون تدحرج النزلاء.
يسعى الكاتب من خلال روايته لنقل صراعات
السجناء مع الجند السجانين الذين تخلوا قلوبهم القاسية من ذرة الإنسانية، وهذا ما
يبدو واضحا من خلال عبارة تشد القارئ منذ الصفحات الأولى كتبها سليمان وكأنها ملصق
إعلامي يجب أن يلفت انتباه الجميع في الصفحة 14: (رفقا بالسجناء فهم آدميون)
وهي عبارة عن لافتة صغيرة علقت على باب السجن.
ينطلق الروائي ليسرد لنا قصة بطله برهان
بضمير المتكلم ليجعله متحكما في السرد منذ البداية، أين نلمس كقراء نفسيته المحبطة
والمنهزمة في آن واحد حين تلمس رجله عتبة السجن رفقة أصدقاؤه، أين يصبح الموت حلما
يبزغ نجمه في أفق خلاصهم من التعذيب: (لم أسمع غير قطرات الماء التي تسقط من
سقف الممر الفاصل بين السجون، لا أثر لوقع أقدام، صمت يخالط رائحة الجثة وينطق
بالموت الذي لا يجيء:
- أين الموت؟
رددها ميمون فصحت به:
- ألا تكف عن مناداته... هو لن يجيء قبل أن
يشبعونا عذابا...) ص 20.
امتد الحديث عن الموت في العديد من صفحات
الرواية بل ربما في الكثير من مشاهدها الأليمة، وكأننا بصدد تصوير أحداث هذه القصة
المأساوية في أحد السجون الصهيونية لشدة قسوة مشاهد التعذيب والتنكيل كتلك التي
يعيشها للأسف الشديد أخي الأسير الفلسطيني إلى يومنا هذا في ظل غياب الضمير العربي،
فإلى متى يا ترى؟.
موجة التعذيب التي عرفها البطل برهان جعلت
ذاكرته تسحبه بعيدا ليرمي به بحر خياله في شواطئ الأمان، ليجد حبيبته كاتلين
تواسيه ولو بحضور صورتها الجميلة كما جاء على لسان السارد: (وهم يضربونني
بالخيزران الندي كانت كاتلين خيالا اضطجع جانبي، تلثمني كي أغيب عن حرارة اللسع
الهاوي على عريي الهزيل. لم أفهم وقع اللثم والجلد علي لحظتها: لثم حذو الجلد وجلد
حذو اللثم، وغالبا ما يقعان علي سويا، حتى غبت ولست أدري أكانت غيبوبتي من شدة
الجلد أم شدة اللثم.) ص 29.
يحاول برهان فهم ما يجري من حوله هو ورفاقه
ولكن دون جدوى حتى يتم استجوابهم قصد اعترافهم بذنب لم يقترفوه في حق وطنهم
الحبيب. ظل الجميع خلف تلك القضبان حتى أن الانتحار راود أحد أصدقاء برهان ليريح
نفسه المعذبة: (أيقنت أنه ينوي الانتحار مذ جيء بنا، لكن الوسيلة لم تكن جاهزة
لفعل ذلك، أخذت الآلة من يده فإذا هي قطعة الحديد الحادة التي تسقط بين دافع الماء
وسلك السحب، كان قد اقتلعها ليريق دمه بيده ويريح نفسه المعذبة وجسده المحروق.) ص
57.
أما آخر -أحد رفاق برهان- دفعه التعذيب ليقع
ضحية في شباك الجنون للأسف الشديد كما نقرأ ذلك كما يلي: (...أما عبد السلام
فلم يعد عقله إليه بعد ضحكته تلك، حيث أنزلوه من العربة يرقص ويغني ويهتف للسلطة
ببذاءات لا تقال غالبا، وأودعوه المصحة العقلية، كسجين استوفى حكمه كاملا بفقدان
عقله.) ص 85.
أشارت قصة برهان ورفاقه المساجين لتلك
الأعمال الشاقة التي مارسوها إجباريا كما يقول السارد: (أنزلونا كالخراف وأشار
أحدهم لنا:
- قضوا من الصخور بكل الاحجام، واملأوا أحواض
العربات جيدا، وإياكم ومحاولة الهرب، فستكون العاقبة مؤسفة.) ص 64.
استطاع المبدع سليمان أن يكشف عن الصفات
النفسية لحالات المساجين ببراعة لا توصف، وكأننا أمام ممثلين حقيقيين من سينما
هوليود تعكس الحزن واليأس والظلم والقهر خلال فترة التعذيب داخل السجن.
تأتي خسارات البطل برهان متراكمة، فقد خسر في
البداية زوجته كاتلين ثم حريته وفي نهاية المطاف رفاقه الذين وقعوا ضحايا للموت
المبتذل داخل السجن إن صح التعبير بعدما نكل بهم وذاقوا قساوة التعذيب.
تحمل لغة الرواية جمالية وفنية لا تخلو من
اللكنة التقريرية التي تعكس قضية سياسية بشكل غير مباشر وهي حالة السجين المثيرة
للشفقة في أي دولة عربية، وقد جاءت اللغة فصيحة تتناسب مع الخطاب السردي عموما.
في الختام، لا تخلو رواية "طيور
العتمة" من وعي سياسي هادف يدور جله حول قضايا السجن العربي بشكل غير مباشر،
أين كشف الروائي ماجد سليمان بذكاء عن المكونات الفكرية والسيكولوجية للشخصيات
السجينة التي عانت من واقع مرير حتى استسلمت للموت بينما سيطر العنف على نفسية السجانين بشكل عنصري متطرف لا
يمت للإنسانية بصلة.
المصدر
(1) ماجد سليمان: طيور العتمة، دار الساقي،
2014.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق