2015/05/08

المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة -وقفة مع رؤية حسن المنيعي- بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـــلاقـــة



المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة
-وقفة مع رؤية حسن المنيعي-
بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـــلاقـــة
-جامعة عنابة-الجزائر 
عالج الباحث الأكاديمي الدكتور حسن المنيعي في كتابه«المسرح المغربي-من التأسيس إلى صناعة الفرجة-»الكثير من الإشكاليات،والقضايا المتنوعة التي تتصل بواقع المسرح المغربي وأوضاعه وممارساته.
يتميز كتاب «المسرح المغربي-من التأسيس إلى صناعة الفرجة-» بأنه لا يدرس قضية محددة،بل إنه يحوي بين دفتيه مجموعة من الأبحاث والدراسات التي كتبها المؤلف في فترات مختلفة،وكما يصف الدكتور المنيعي كتابه فهو في الأصل( مداخلات)« ساهمت بها في ندوات ثقافية باستثناء الدراسة التي تعالج الفرجة المسرحية في المغرب.
 لذلك،قررت جمعها في هذا الكتاب لتكون مساهمة متواضعة في إثراء الحديث والكتابة عن المسرح المغربي وتركيز بعض الأضواء الكاشفة على أوضاعه وممارساته.
  ومع أنني قد قمت بهذه العملية في دراسات سابقة،فإني أعتقد مع ذلك أن مسرحنا في حاجة إلى الرعاية المادية والتشجيع الأدبي،لأنه مسرح متطور رغم ما يعانيه من مشاكل هيكلية،ولأنه-كذلك-لم يعد يكتفي باجترار الأساليب المستهلكة،بل عمل على الدخول في مجال الابتكار والتجديد،واحتضان تقنيات بارعة ما أن ترسخت تدريجياً فوق الركح وعلى مستوى الكتابة الدرامية حتى أمست( إغراء)بالنسبة للباحثين والدارسين للمسرح.
  لهذا السبب،أعتبر هذه(المداخلات)شهادة شخصية عن مكتسبات مسرحنا المغربي وإشادة بعطاءات أعلامه من المؤسسين وكل الذين يعملون على تجديد آفاقه وتوسيع ميادينه»)1(.
البدايات والتأسيس في المسرح المغربي:
 في المبحث الأول من الكتاب،والذي وسمه الدكتور حسن المنيعي ب«البدايات والتأسيس في المسرح المغربي الحديث»قدم حصيلة لمجموعة من الآراء التي قُدمت عن بدايات المسرح المغربي،إضافة إلى الاتجاهات التي تحكمت في مساره،وعكست بعض منطلقاته التأسيسية.
  ويرى المؤلف أن البداية الفعلية  له كانت انطلاقاً من دخول  المسرح المغربي بمفهومه الإيطالي إلى سوق الفرجة من خلال زيارة فرق مشرقية للمغرب(محمد عز الدين-نجيب الريحاني- فاطمة رشدي-يوسف وهبي)،وقد لقيت هذه الفرق أمامها جمهوراً لم يتكون بعد،ولكنه كان يحمل في أعماقه استعداداً كبيراً لتلقي وتقبل المسرح،ونظراً لكون هذه الفرق المشرقية كانت حريصة على تبليغ خطاب مسرحي يعبر عن قيم نبيلة،فقد كان تأثيرها تأثيراً كبيراً وعميقاً على مجموعة من الشبان الذين اتجهوا إلى المسرح منذ العشرينيات،واتخذوه سلاحاً لمقاومة الاستعمار إلى درجة أن أحدهم وهو محمد القري راح ضحية فنه،فرواد المسرح المغربي في العديد من المدن المغربية عملوا ضمن قناعات سياسية.
كما يؤكد المؤلف على أن تجذر المسرح في العديد من المدن المغربية اعتمد على نصوص عربية ذات نزعة سلفية(صلاح الدين الأيوبي-نجيب الحداد)،عبرت تلك النصوص عن مواقف وطنية محمومة نادت بالتغيير وطالبت بالاستقلال،وهذا يعني أن بداية المسرح المغربي إبان فترة الاحتلال كانت مرتبطة بالنضال الوطني وإحياء مفهوم الوطنية.ومن ثم –كما يرى المؤلف-فإن الممارسة المسرحية كانت تكشف عن نموذج أسمى للنص المسرحي يهدف إلى« تقريب الخطاب السياسي من الواقع المعاش وإلى إدماج المسرح في التاريخ إلى درجة أن البداية ظلت مضايقة ومضطهدة من جانبين:
أ-جانب الدين الذي اعتبر ممارسي المسرح كفاراً(أحمد محمد بن الصديق في كتابه-إقامة الدليل على حرمة التمثيل-سيصبح الممثلون قردة وخنازير).
ب-جانب الإدارة الاستعمارية التي اضطهدت العاملين في مجال المسرح.
إن هذه المضايقة هي التي أدت ببعض القادة السياسيين إلى الكتابة للمسرح وعن وظيفته(عبد الخالق الطريس: انتصار الحق على الباطل1933)،وعلال الفاسي الذي كتب قصيدة شعرية يمدح فيها مجموعة من الشباب قاموا بتمثيل مسرحية تاريخية)كما أدت ببعض الفقهاء إلى المساهمة في التأليف(عبد الله الجيراري ومسرحيته:تحت راية العلم والجهاد1928).
  وعليه،فإذا كان المسرح المغربي قبل الاستقلال لا يقوم على ممارسة تستند إلى أساليب فنية مستحدثة،فإنه قد استطاع مع ذلك أن يفرض نفسه كمسرح فاعل.ومن هنا إلحاحه على إثارة قضايا هامة كقضية التواصل التي تؤشر إليها بعض الكتابات التي تناولت وضعية الجمهور وقضية اللغة التي دار حولها النقاش خلال الثلاثينيات ثم قضية النقد المسرحي»)2(.
وفي عهد الاستقلال يذكر الدكتور حسن المنيعي أن البداية كانت« تروم إلى خلق ممارسة مسرحية من خلال بناء أسس هيكل عام للفن المسرحي.في هذا النطاق،حاولت مجموعة من المسرحيين المغاربة الخروج بالعمل المسرحي من حدوده الضيقة القائمة على التأثير الشرقي والاتجاه به إلى آفاق أوسع وأرحب عن طريق الاقتباس والترجمة ودراسة طرائق الإخراج الأوروبي.وإذا كان هذا التوجه قد عرف نتائج إيجابية على ضوء الفهم الجديد للمسرح الذي كان حصيلة تكوين مؤطر من لدن الأجنبي( أندري فوزان-لوركا)،فإنه لم يعكس على المستوى الفكري التطلعات السياسية والاقتصادية للشعب المغربي،وذلك ضمن منظومة ثقافية واضحة.وهذا يعني أن المسرح المغربي ظل خلف الأحداث،كما سادته ممارسات تمويهية تساير الوضع القائم دون أن تطرح تصورات مستقبلية على مستوى معالجة القضايا.وتتلخص هذه الممارسات في تصعيد أفق الاقتباس،وتقليد بعض الكتابات المولييرية واللجوء إلى ريبرتوار يتأرجح بين إبداعات أوروبية وأخرى عربية( كولدوني-ابن جونسون-شيكسبير-توفيق الحكيم...إلخ).
-وإذا كان الصديقي قد عانق هموم العمال والكادحين من خلال تجربة المسرح العمالي،فإنه قد تخلى عن هذه التجربة ليغوص في متاهات اللامعقول الذي يكرس التبعية للغرب،كما غاص العلج في مقتبساته التي تكرس الأوضاع القائمة والإيديولوجيا المؤسساتية عن طريق التطريب العاطفي،ودغدغة الجمهور ومداعبة إحساسه دون زعزعته.
-وكبديل لهذا المسرح البوليفاري والتجريدي،ظهر المسرح الجامعي بقيادة فريد بن مبارك الذي قدم عملين هامين( نزهة:لفرناندو أريال وبنادق الأم كرار لبيرتولد بريشت)،ولكن هذا المسرح عرف مضايقة كبيرة مما أدى إلى توقف نشاطه نهائياً.
-وفي أواخر الستينيات،تحول الطيب الصديقي إلى داعية لمسرح عربي-مغربي مغاير يستفيد من معطيات المسرح الغربي ولكنه يؤسس صيغته المستقلة عن طريق اللجوء إلى التراث سواء كان تاريخاً أو شكلاً مسرحياً.وفي غمرة هذا التوجه تولدت نزعة شكلية في الجسد المسرحي المغربي على حساب المضمون الذي فتح المجال أمام توظيفات فنية للأشكال الما قبل مسرحية( الحلقة-البساط..إلخ)والفنون الشعبية( الملحون،التهاليل).
-ومرة أخرى،تتعملق هذه النزعة لدى مسرح القناع الصغير( الممول من لدن وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية والتعليم الأصلي)لتأخذ فيما بعد سمة التجريب من خلال مسرحية مقتبسة( معطف غوغول-اقتباس أحمد الطيب العلج)وأخرى معربة( قنبلة زباطا للكاتب البلجيكي أرتور فيرنكيز).
-وإذا كان هذا المسرح قد بشر بميلاد مخرج طلائعي في شخصية عبد اللطيف الدشراوي،فإن انضمام نبيل لحلو إلى تشكيلته جعله يمارس مسرحاً صدامياً ينزع إلى نقد الأوضاع السائدة.وقد تم له ذلك عبر مسرحيات مثل( السلاحف)و( الموسم).إلا أن استمرار مسرح القناع الصغير سوف يتجسد في عملين هامين هما: ( القاضي في الحلقة)و( الباب المسدود)حيث ركز الدشراوي فيهما على توظيف نقلات تراثية تؤسس لمسرح طلائعي لم يحقق استمراره لأسباب إدارية لا نعرفها»)3(.
 ويذهب الدكتور حسن المنيعي إلى أنه يمكن اعتبار تجربة نبيل لحلو( الثنائية والفردية)امتداداً لتجربته السابقة مع مسرح القناع الصغير،فمن جديد يدخل المسرح المغربي مجال تأسيس مسرح عجائبي يبني فعاليته الصدامية والتحريضية على مشاعر الذات المغربية الجريحة،وقد تم اعتماد تقنية مسرحية متفجرة غير مألوفة و لا مستساغة من لدن أصحاب الأخلاق المهذبة والسلوك المثالي.
  ويصف الدكتور المنيعي فرقة البدوي بالفرقة ذات الحضور المتألق،وإن كان عملها الفني لايسعى إلى تأسيس مسرح مغربي متميز،بقدر ما يرمي إلى ترسيخ منظومة مسرحية ذات بعد اجتماعي وتعليمي.
تحت عنوان«نحو تأسيس فعلي للمسرح المغربي»توقف الدكتور حسن المنيعي مع محاولة الصديقي ومحاولة الهواة،فرأى أن من العلامات البارزة لبدايات المسرح المغربي على الصعيد الفني والجمالي هو اهتمام الصديقي بالتراث المغربي وسعيه إلى الغوص في أعماقه لمسرحته واكتشاف صيغة مسرحية عربية،ويؤكد  على أن لجوء الصديقي إلى منابع التراث المغربي قد تم عن وعي مسبق،ولذلك فقد اتخذ( الحلقة)كفضاء سحري يسمح له تقديم عروض شاملة يوظف فيها العديد من الوسائل التقنية التي تجمع بين المألوف والغريب،وبين الشاعري والمبتذل،وبين السمعي والبصري،والإنساني والشيئي.
 وبالنسبة لمحاولة الهواة فقد رأى الدكتور المنيعي أنه إذا كان الصديقي قد أسس لنفسه وللمسرح العربي عموماً صيغة مسرحية تحقق شبه قطيعة مع المفاهيم المسرحية الغربية،ولا سيما منها استلاب الفنان من لدن الفضاء المسرحي المنغلق،وكذلك العرض كشبه جلسة مغلقة،فإن الهواة سعوا إلى مسايرة فعله والاستفادة من منطلقاته التأسيسية عن طريق ابتكار صيغة مسرحية في الإبداع والانتاج.
وبناء على ذلك«فإذا كانت علاقتهم بالتيارات المسرحية الحديثة في أوربا علاقة اطلاع وتحصيل منذ الحماية إلى نهاية الستينيات،فإن ما نتج عنها هو محاولة تأسيس مسرح مغربي يخضع لمنظور فني جديد يخلخل المفاهيم الفنية السائدة،ومنها على الخصوص المسرح التقليدي المؤسساتي الذي يكتسي شكل لعبة مركبة تفرض تنافساً بين المهارات،واحتضاناً مادياً من لدن الدولة.وهكذا،فبعد مسيرة خضعت لحركات مد وجزر استطاع مسرح الهواة منذ بداية السبعينيات( أي انطلاقاً من المهرجان العاشر)أن يقدم أعمالاً مسرحية استفزت وعي الجمهور والنقاد على السواء،لأنها نهجت طريقاً مغايراً إن على مستوى النص أو على مستوى مواصفات العرض وخلق علاقة جدلية مع الجمهور»)4(.
خلص الدكتور حسن المنيعي في ختام  هذا المبحث الهام الذي رصد«البدايات والتأسيس في المسرح المغربي الحديث»إلى أن المسرح المغربي أصبح حقيقة تاريخية وواقعية تثير«اهتمام الباحثين الجامعيين والمتخصصين في مجال الفن الدرامي.ورغم ما عرفه من لحظات ازدهار وانكسار،وامتلاء وفراغ،فقد سجل بعض الانتصارات في الخارج منذ بدايته الأولى.
 وهذا يعني أن حضور هذا المسرح منذ أزيد من ستين سنة قد خضع بشقيه( الاحترافي والهاوي)إلى شروطه الخاصة.فبقدر ما انصاع المسرح الاحترافي إلى تعاليم المؤسسة والمنظمات الحزبية والشركات،بقدر ما خضع مسرح الهواة إلى التهميش وعدم مبالاة المسؤولين.وربما لهذا السبب مارس سياسة التحدي،للتأكيد على طموحاته ومهاراته التي بلورتها خطاباته الفكرية والسياسية والاجتماعية وكذا تنظيراته وأساليبه المتجددة التي تجاوزت مرحلة التأسيس لتندرج في مجالات تجريبية خلاقة.في حين،ظل المسرح الاحترافي حضوراً وغياباً-مسرحاً يرسم استراتيجية تضع في اعتباراتها الكسب المادي أولاً،ثم العمل على ممارسة المسرح إما بمفهومه الرسمي المأخوذ عن الغرب،أو بتطويع بعض جوانبه التقنية وإعطائها لبوساً مغربياً متميزاً كما يفعل الطيب الصديقي»)5(.
علاقة المسرح المغربي بالتراث الشعبي والطقوس الاحتفالية:
  في المبحثين الثاني والثالث ناقش الدكتور حسن المنيعي علاقة المسرح المغربي بالتراث الشعبي والطقوس الاحتفالية،حيث أشار إلى أن التراث الشعبي أضحى مطية للعديد من الفنانين المسرحيين سواءً على مستوى الكتابة الدرامية،أو على مستوى الإنجاز المسرحي إلى درجة أن تولُّد النظريات الدرامية في المغرب( الاحتفالية-المسرح الثالث-مسرح النقد والشهادة...إلخ)كان مصوغاً لإحياء بعض أشكال التراث الشعبي الفني واعتمادها( سنداً)في عملية تأسيس الفعل المسرحي.
 فالحرص على اكتشاف التراث الشعبي هو الذي دفع الطيب الصديقي في مسرحيته( حفل عشاء ساهر)إلى الاعتراف بأستاذيه( الراوي)الذي هو قاص شعبي،عرض على جمهوره سيرة عنترة وسيف بن ذي يزن وغيرهما من السير.
 وفي منظور الدكتور حسن المنيعي أنه إذا كان المسرح المغربي يعمل في العديد من نماذجه( الهاوية أو الاحترافية)على استرجاع أشخاص التراث الشعبي وسلبياته و محكياته واحتفالاته الطقوسية وأهازيجه وإبداعاته الزخرفية،فإن الغرض من ذلك هو«تجاوز المسرح على الطريقة الإيطالية الذي لم يعد قادراً-بحكم طابعه الإيهامي ومعماريته المنغلقة-على توفير الشروط الجمالية واللعبوية اللازمة التي من شأنها أن تساعد الدراميين على إيجاد مسرح شعبي وثقافي في نفس الوقت،يستقطب جمهوراً واسعاً ويلتصق بقضاياه.
  وبما أن جلهم كان قد تشبع بمفاهيم النظرية الدرامية الغربية وبتطبيقاتها وأبعادها الفنية والإيديولوجية كالمسرح الملحمي البرشتي مثلاً،فإن هذا التجاوز قد فرض البحث عن بدائل فنية أدت إلى تفجير بنية النص والعرض وإلى خلق علاقة جدلية بينهما تهدف إلى إشراك الجمهور المتلقي في الحدث المسرحي وإلى حثه على الانسجام مع كتابة جديدة تردم مواصفات الكتابة الخطية التي كان يقوم عليها المسرح الكلاسيكي التقليدي باعتباره كما تقول آن أوبر سفيلد( مسرحاً يعطي الأولوية للنص ولا يرى في العرض إلا تعبيراً وترجمة للنص الأدبي،الشيء الذي يجعل دور المخرج ينحصر في ترجمة نص إلى لغة أخرى مادام واجبه الأول هو احترامه.وهذا موقف يفترض فكرة أساسية ألا وهي التطابق الدلالي بين النص المكتوب والعرض)» )6(.
 ختم الدكتور حسن المنيعي رؤيته للعلاقة  بين المسرح المغربي والتراث الشعبي بالقول«هذه العلاقة ستظل في رأينا مجرد وسيلة فنية لتأصيل الحركة المسرحية وانتشالها من التبعية للغرب إذا نحن لم نعمل على توطيدها من منظور معرفي وجمالي،إذ لا يكفي أن يكون هدف الرجوع إلى الثقافة الشعبية هو تحقيق كشوفات وابتكارات فنية،بل ينبغي أن تكون له أبعاد أيديولوجية.وهذا يعني أن العلاقة الجدلية بين النص والعرض يجب أن تكون علاقة بين الأيديولوجي والجمالي إن على مستوى توظيف الحكاية الشعبية والنوادر والنصوص السردية،أو على مستوى أسطرة الحدث الدرامي واستحضار الشخصيات التراثية بما في ذلك الشخصيات المألوفة كالمداح،الذي وإن كان مجرد ممثل يعمل في فضاء الحلقة،فإن بإمكانه أن يعبر عن موقف تاريخي أو سياسي في العمل المسرحي.
  وعليه،فإذا كنا نلاحظ حضور ترابط بين الأيديولوجي والجمالي في بعض الكتابات المسرحية المرتكزة على التراث الشعبي المدون والشفاهي والحركي،فإن هذا الحضور لا يتجاوز تأطير الشخوص في ممارسة اجتماعية وفي نطاق حدث معين...أي أن هذه الشخوص تتحدد-في الغالب-وفق مواقف فكرية،في حين أن المطلوب هو اعتماد كتابة ينتظم فيها الموضوع المعالج والرافد أو الروافد الشعبية المستلهمة والبعد الاجتماعي للشخوص وطرق اللعب والسينوغرافيا وبلاغة الجسد...كتابة تولد معانيها ودلالاتها وتضع متلقيها كما هو الشأن مثلاً في المسرح الملحمي البرشتي الذي يراعي مبدأ الجستوس(الحركة)التي تشمل الحكاية( الموضوع)واللغة والشخصيات والأداء المسرحي.و كما قال باقيس( إن الجستوس الاجتماعي هو كل حركة تفترض موقفاً ما لشخوص فيما بينهم وداخل عالم اجتماعي).
  إن كتابة من هذا القبيل تفرض على الكاتب المسرحي أن يعمق ثقافته الشعبية للإلمام بظواهرها وجذورها التاريخية والمعرفية وطرق أدائها التلقائية/الفطرية،كما تفرض عليه أن يكون ذا اتصال مباشر بالحياة العامة وبقضايا الناس.
  من هنا نرى أن كل دراسة عميقة لمخزونات الثقافة الشعبية من شأنها أن تساعدنا على فهم الاحتفالات الشعبية وأبعادها الرمزية والطقوسية.وما دامت هذه الدراسة متعثرة على المستوى الجامعي،فإنه من الضروري إعادة الاعتبار إلى ثقافتنا الشعبية،وتشجيع الطلبة والباحثين على الاشتغال حولها في كل المجالات»)7(.
     وبالنسبة لعلاقة المسرح المغربي بالطقوس الاحتفالية،فقد كان المسرح المغربي-كما يرى الدكتور حسن المنيعي-أول المسارح العربية التي سارعت إلى اعتماد الطقوس الاحتفالية في عملية التأصيل،ذلك أن علاقته بتلك الطقوس هي التي تحدد بدايته الأولى كما أكدت ذلك بعض الدراسات التي تناولت الحركة المسرحية في المغرب،وذهب بعضها إلى القول بأن الحياة العامة في المغرب تتأطر في نطاق فرجات مسرحية دائمة سواء في السهول والجبال أو في ساحات المدن الكبرى.
وأشار الدكتور المنيعي إلى أنه من الصعب الوقوف على كل هذه الطقوس،ومن أهم ما تجلى منها كشكل مسرحي مسرح(عبيدات الرمى)الذي يعود ظهوره إلى القرن الحادي عشر،وتقوم فرجة عبيدات الرمى على الارتجال والتنكيت،وهناك جملة من التظاهرات التي تتوافق في جملتها مع طبيعة الفن المسرحي،كونها تختزن في طياتها عناصر التمسرح،ومواصفات الفرجة الشعبية،كما يشير إلى ظهور مسرح انتقادي في حدود القرن الثامن عشر،ويسمى بمسرح(البساط)،تعرض فيه تمثيليات ساخرة تتعرض لانتقاد ممثلي السلطة وتذمر الشعب من سلوكاتهم المتعجرفة،وقد عمد الطيب الصديقي إلى توظيف فنون البساط ومسرح الراوي والأهازيج الشعبية والألعاب البهلوانية،والنقلات الكاريكاتورية،والحكم والملح،والحكايات،وكذلك فقد عاد الفنان أحمد الطيب العلج إلى فنون الحلقة،وإلى مسرح الراوي لخلق مسرح مغربي متميز،وهو يعتبر –كما يذكر الباحث حسن المنيعي-أول كاتب مسرحي خلخل التوجه السائد في الكتابة  الدرامية المقلدة للغرب،وذلك من خلال إضفائه طابعاً شعبياً على إبداعاته،حيث فسح المجال أمام الهواة الذين حرصوا على تكييف المسرح مع التربة الفكرية والروحية للإنسان المغربي.
فضاء المسرح المغربي:
 انتقل الدكتور حسن المنيعي في المبحث الرابع من الكتاب إلى الحديث عن فضاء المسرح المغربي،إذ يرى أنه لا يمكن دراسة فضاء المسرح المغربي إلا في نطاق علاقة مركبة مع وضعية المسرح في المغرب وتجلياته في مساره التاريخي،وكذا في إطار علاقته بالأوضاع الثقافية المغربية،ونمط الحياة العامة،وما يتحكم فيها من سلوكات وتقاليد فنية،ويشير إلى أن المسرح المغربيقد تهيأت له ظروف ووسائل مختلفة منذ المحاولة الأولى لتأسيسه وصولاً إلى فعل التجريب والتأصيل الذي قاد العاملين في مجالاته إلى الانصهار في الحركة المسرحية العالمية.
 وقد توقف الدكتور حسن المنيعي في مبحثه هذا مع:
1-الفضاء النصي أو الدرامي:الذي أشار في مناقشته إلى أن انفتاح الكتابة الدرامية وارتكازها على التنظير وتشبعها بالأشكال المسرحية الغربية ساعد الدراميين المغاربة على تجاوز النص التقليدي الأحادي البعد لإعداد نصوص رؤيوية تنطوي على فضاءات عديدة ونقلات جديدة لا تحيل على الأدبي فقط،بل تحيل على صور ورموز وخيالات،وهذا ما جعلها(طيعة)في يد المخرج انطلاقاً من بنيتها الدرامية القائمة على تركيبات وتوجيهات إخراجية.
2-الفضاء الركحي:وقد أشار الدكتور المنيعي إلى عدم إمكانية تقديم وصف دقيق له نظراً لتباين التجارب في المغرب،فبعضها يمنح الأولوية إلى التمثيل والحفاظ على بلاغة الكلمة،وبعضها الآخر يروم إلى توظيف أوليات سينوغرافية تحول الفضاء إلى حلبة سحرية.
3-الفضاء اللعبوي.
4-الفضاء الداخلي(الجمهور).
في مبحث خاص ألقى الدكتور حسن المنيعي الضوء على«التأصيل في المسرح العربي من خلال حركية النص-النص الاحتفالي نموذجاً-»،وقدم قراءة في المشروع المسرحي لمحمد مسكين،رأى فيها أن المشروع المسرحي لمحمد مسكين،وهو المشروع الذي تحكمت في تأسيسه قناعات فكرية وفنية حول الممارسة المسرحية تبلور معظمها في كتاباته النقدية والتنظيرية، كان يقوم أولاً على التمرد ضد النص الجاهز،وكان يرى أنه لا يجب أن يبقى النص المسرحي في حدود الكتابة،لأنها تغربه في مسالك الحروف والكلمات،وفي منظوره أن النص المسرحي الحقيقي هو الذي يؤسس جسر(الحلول)بالمعنى الصوفي،أي أنه يدفع اللغة/الحوار لتحل في أجساد الممثلين.
وأكد على أن المشروع المسرحي لدى محمد مسكين«يهدف في الأساس إلى نبذ الفعل المسرحي المبتذل وإلى إعطاء تصور دينامي عن النص المسرحي وعلاقته بالعرض.بل يمكن القول دون مبالغة بأنه خلق(تمسرحه)الذي تجلى في حضوره كفنان مبدع وكذات فاعلة في الحركة المسرحية المغربية».
المتخيل والواقع في المسرح المغربي:
عنون الدكتور حسن المنيعي المبحث السابع من الكتاب ب«المتخيل والواقع في المسرح المغربي»وقد انطلق في هذا البحث من تحديده لتجليات حداثة المسرح المغربي عبر ثلاثة مستويات:
1-حداثة لغوية-أدبية.
2-حداثة أنطولوجية.
3-حداثة جمالية.
 فيما يتعلق بالمسرح المغربي ورصد الواقع-فكما يرى الدكتور حسن المنيعي-فأول ما قام به«المسرحيون المغاربة هو إضفاء الشرعية الثقافية والفنية على أعمالهم.ولهذه الغاية،فقد التزموا تطبيق القواعد الأرسطية للكتابة الدرامية.وهذا يعني أن وحدة الحدث قد فرضت نفسها على النصوص التأسيسية كضرورة منطقية،وكذلك الشأن بالنسبة لوحدة المكان والزمان.وبديهي أن هذا التطبيق للقواعد كان يوازي هيكلة النص وتلاحق أحداثه المنطقية وعدم خرقها لقوانين المحتمل الشيء الذي جعل الخطاب المسرحي يراعي في الأساس مفهوم الإيهام بالواقع عن طريق إنتاج هذا الأخير بطريقة شبه فوتوغرافية، ومن خلال الموضوع الأحادي البعد الذي يعالج قضية من القضايا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية إما بأسلوب كوميدي أو بأسلوب مأساوي،كما يتجلى من خلال عناوين المسرحيات:خطورة الزواج-الرشد بعد الغي-أدب العلم ونتائجه-قف أيها المتهم-اشكون في الخشنة-المنصور الذهبي...إلخ  »)8(.
  ويذكر الدكتور حسن المنيعي أن المسرح المغربي اعتمد في البداية على النص الكلاسيكي الإيهامي الذي يرصد الواقع عبر أبطال من الحياة العامة أو التاريخ،وهو ما ظل سائداً  في مرحلة ما بعد الاستقلال،على الرغم من ظهور كفاءات فنية حاولت الخروج بالعمل المسرحي من الحدود الضيقة التي يقبع فيها،والاتجاه نحو آفاق أوسع وأرحب.
 وفيما يتصل بعلاقة المسرح المغربي بالمتخيل يذكر الدكتور حسن المنيعي أن المسرح المغربي كان في بداياته «يلتزم هدفية المسرح التقليدي التعليمية والتربوية،فإنه كان مطابقة للواقع يطرح علاقة الإنسان بنفسه وبغيره في مجتمع(واقع)محدد:أي أنه كان لا يتعدى حدود استلاب الجمهور ودفعه إلى الانصياع لحدث محتمل وتركيبة سينوغرافية منمقة وعلامات جاهزة وأداء.إلا أن تراكماته واطلاع الفنانين المغاربة على منجزات المسرح الغربي وتنافس الكفاءات الاحترافية والهاوية،كل ذلك قد ساعد على بروز كتابات نصية وركحية تخيل أصحابها جهازاً درامياً متعدد الأصوات تتواجه في نطاقه أحداث وأفعال يختلط فيها الواقعي بالوهمي والفانتازي كما هو الشأن بالنسبة لمسرحيتي(البلغة المسحورة)و(حليب الضياف)لأحمد الطيب العلج و(قربقعة)لمحمد شهرمان،و(الأكباش يتمرنون)للطيب الصديقي وغيرها من الأعمال المسرحية التي ظهر فيها فعل المتخيل بشكل جنيني ساعد على تجاوز انعكاسية الواقع وابتداع نقلات خيالية تؤسس عناصر فرجة شيقة لا تنحصر في خلق مسرح إيهامي على الطريقة الإيطالية،وإنما تنحصر في ابتكار طرق جديدة للتواصل مع المتلقي كان من نتيجتها خرق أصول الكتابة الدرامية التقليدية وفتح المجال أمام المتخيل الذي أتاح للمبدعين(تقنيع الواقع)»)9(.
  ووفق منظور الدكتور حسن المنيعي فالمتخيل لعب دوره في اللعبة الإخراجية التي نبذت مواصفات الإخراج الواقعي ووظيفته القائمة على الزخرفة الخارجية والبعد السيكولوجي الرامي إلى إبراز الطبائع والعواطف في موازاة مع الموقف الدرامي،وقد احتضن المسرح المغربي النموذج البرشتي،أي أنه طبق مواصفات المسرح الملحمي بصفته مسرحاً يروم الركح فيه إلى أن يشمل العالم كله لأنه مسرح منفتح ويتأسس من عناصر لا نهائية ولا تحمله بالضرورة على التقيد بالواقع،وقد تنوعت الكتابة المسرحية بحسب قناعة ممارسيها،إلا أن أساسها ثراء الخيال الذي تحكم فيها عبر فعل الانتهاك للمألوف الذي خول للدارسين ممارسة عملية(خلق)لا عملية(تحضير)للواقع أو إعادة إنتاجه.
صناعة الفرجة في المسرح المغربي:
    تناول الدكتور حسن المنيعي موضوع«صناعة الفرجة في المسرح المغربي»،و أشار منذ البداية إلى أنه من الصعب جداً الوقوف على كل التنظيرات الفنية والجمالية التي لجأ إليها البحث المسرحي المعاصر لمعرفة طريقة إنتاج الفعل المسرحي وتلقيه من لدن المتفرج أو المرسل إليه،ولذلك فإن الحديث عن إنتاج الخطاب المسرحي باعتبار متلقيه يظل مشروعاً معلقاً ما دامت سيميولوجيا التواصل المسرحي لم تصل بعد إلى وضع نظرية لتلقي الفرجة،وذلك رغم إلحاحها على ربط الفن الدرامي بفنون الفرجة.
 ويذهب الدكتور حسن المنيعي إلى القول بعدم إمكانية الوقوف على عينة واحدة من المتلقين، و يفترض بالنسبة للممارسة المسرحية في المغرب وجود نوعين من التلقي:
1-التلقي الخطي: والذي يخضع لإنتاج منطقي زماني،إن على مستوى النص،أو على مستوى العرض،حيث يكون المتلقي من خلاله غائصاً في غمرة الحدث المسرحي،ومندمجاً فيه باعتباره يواجه أحداثاً مماثلة لأحداث تجربته الشخصية دون وساطات بين العمل المسرحي وعالمه.
 وهذا النوع من التلقي يكون في علاقات مع إنتاجات(مسرح الاندماج)أو(المسرح الإيهامي) الذي لا يتطلب إعداد فرجاته اجتهاداً كبيراً،إذ ينحصر الأمر في تقديم عمل واضح على مستوى النص وعلى مستوى الإنجاز الركحي.
  ويؤكد الدكتور حسن المنيعي على أن هذا النوع من التلقي هو الذي صنعه المسرح المغربي(بأساليب متفاوتة)إبان الحماية،وتم تطوير ممارساته غداة الاستقلال إلى حدود بداية السبعينيات.
2-التلقي الجدولي:حيث عرفت نهاية الستينيات وبداية السبعينيات تحولاً جذرياً في الممارسة رافقه فيما بعد تحول في نوعية المسرح،ويرجع الدكتور حسن المنيعي ذلك إلى تمرس المسرحيين على فنون المسرح،واطلاعهم على تقنياته الحديثة،وإلى رهانهم على المتلقي الواعي الذي أصبحت له أهلية ثقافية مسرحية،وإزاء هذه الوضعية ظهرت الحاجة إلى خلق مسرح جديد يبعد كل تشابه مبتذل مع المسرح الغربي في شكله الإيطالي.
 ويشير الدكتور المنيعي إلى أن التعامل مع التراث والتاريخ دفع المخرجين إلى توظيف لمسات فنية ذات بعد إفهامي بالنسبة للمتلقي من خلال(أيقنة) اللغة الركحية،وحملها على القيام بوظيفة إشارية رمزية تهدف إلى تجسيد حالة معينة،أو التلميح إلى فكرة سياسية أو دينية أو أخلاقية،وهذا ما يعني-كما يرى الدكتور المنيعي- أن العرض المسرحي لم يعد إنجازه خاضعاً لطروحات(الإخراج المقنن)المرتبط بحرفية النص،وإنما أصبح مجالاً لاكتشافات فنية عديدة تتحكم فيها(التلقائية)و(الانتقائية) وكذا(الاختيار الإيديولوجي).وفي هذا الصدد يسعى الإخراج الجدلي لدى(جمعية أنوار سوس)بأكادير إلى مجادلة النص في شموليته وتاريخية إبداعه في الزمان والمكان،وكذا في رؤيته وأحداثه وعلائقه وشخوصه ولغاته ورموزه ونمطية تواصله.
   ختم الدكتور حسن المنيعي بحثه عن«صناعة الفرجة في المسرح المغربي»بالإشارة إلى أن«صناعة الفرجةمن منظور حداثي وأصيل قد دفعت بمجموعة من المسرحيين المغاربة إلى(بنينة)جديدة وشاملة للتراث الشعبي الأدبي والفني.ومن الأكيد أن فاعلية هذه البنينة قد أدت إلى خلخلة الممارسة التقليدية للمسرح،وإعادة النظر إلى مفهوم الفرجة التي اندرجت بأشكالها المتفجرة في الحياة الاجتماعية.من هنا نستطيع إدراك القطيعة التي حققها المسرح المغربي مع المسرح على الطريقة الإيطالية،ورفضه لمنظوماته وقواعده خصوصاً وقد ارتكزت بنيته الأساسية على نصوص متعددة الأبعاد تروم إلى إقحام الفعل المسرحي في الثقافة المغربية »)10(.
 كما ناقش قضية تطور النقد المسرحي بالمغرب،وختم كتابه بورقة معنونة ب«من أجل ثقافة مسرحية جامعية».والحق أن رؤية الدكتور حسن المنيعي عن المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة هي رؤية معمقة ومتميزة،وتشكل مرجعية أساسية للبحث المسرحي المغربي،وللدراسات المسرحية العربية،وتعتبر إضافة ثرية للرؤى النقدية المقدمة عن مسيرة المسرح المغربي.
الـهوامش:
(1)د.حسن المنيعي: المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية،ظهر المهراز،1985فاس،المغرب الأقصى،ط:01،1415هـــ/1994م،ص:3.
(2) د.حسن المنيعي: المصدر نفسه،ص:8
(3) د.حسن المنيعي: المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة،ص:9-10.
(4) المصدر نفسه،ص:13 وما بعدها.
 (5)المصدر نفسه،ص:18.
(6)المصدر نفسه،ص:22 وما بعدها.
(7)المصدر نفسه،ص:25 وما بعدها.
(8)المصدر نفسه،ص:76.
(9)المصدر نفسه،ص:78.
(10)المصدر نفسه،ص:93.

ليست هناك تعليقات: