2008/05/20

الطريق إلى القللي


الطريق إلى القللي

أحمد طوسون

مقهى المثقفين فكرة تطارد الكاتب منذ تشكل وعيه وثقافته ، بمجرد أن يقرأ عن مقاهي المثقفين في العاصمة التي يقصدها كبار الكتاب والمفكرين وتجتذب حاملي حقائب السفر من الأدباء الذين يحلمون بمكان تحت شمس العاصمة وأنوارها ، وتصبح أسماء مثل ريش والفيشاوي ومتاتيا وايزوفيتش والأوبرا والجريون والبستان واسترا وغيرها أسماءً لصيقة بروادها الذين صنعوا شهرتها وأدخلوها ذاكرة الكتابة بداية من نجيب محفوظ ، مرورا بصلاح عبدالصبور وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله والغيطاني وليس انتهاءً عند جيل بعينه ولا تخص كتابة بعينها .
لكن القللي لم يختارها المثقفون بالفيوم بل هي التي اختارتهم .
اختارت لنفسها موقعا بالقرب من محطات السفر سواء محطة القطار ذات الطراز الإنجليزي العتيق أو مواقف السيارات التي يحرص كل محافظ جديد على تغيير أماكنها ، لكنها تظل في متناول القللي وبخاصة لمن يعرفها .
ثم بنداءٍ خفي اجتذبت إلى جوارها قصر الثقافة من مكانه القديم بشارع البوستة إلى مكانه الحالي بمبناه الهائل وهرمه المقلوب .
ربما لهذا السبب أحببنا القللي أكثر ، لأنها عفوية وبسيطة ولا تحب مساحيق التجميل ، ربما لأننا تربينا بقصر الثقافة القديم بقشور طلائه وحوائطه المتآكلة ، ببساطته وحميميته ولم نعتد على الفخامة التي يتحلى بها القصر الجديد .
في اعتقادي أن القللي هي التي اجتذبت المرحوم عبد المعطي ورفاقه كما اجتذبتنا من ضواحي الفيوم ، هي التي اختارتنا ولم يختارها أحد .
والقللي كغيرها من المقاهي أحد الأماكن المحدودة التي تجمع عادة بين صنوف البشر باختلاف طبقاتهم وأفكارهم ، حتى وإن اشتهرت بكونها مقهى للمثقفين .
فهي تعبير عن المجتمع ، تتيح لمرتاديها رصد الحياة والناس وأفكارهم والالتقاء ما بين الأصدقاء والفرقاء ، تشهد الأفراح والأطراح والأوجاع ، وتتشكل بين طاولاتها الأحلام وتطير كأسراب حمام في السماء .
لا أتذكر بالضبط أول مرة حملتني قدماي إلى هناك ، أصبحت الذاكرة ملأى بالسنين وسحب الدخان التي تحجب التفاصيل ، لكني اعتقد أن التأريخ لا يهم كثيرا .
القللي شهدت لقاءاتنا لنعد لمؤتمرات الفيوم واحدا بعد الآخر ، نستقبل ضيوفنا وأصدقاءنا من أدباء العاصمة والأقاليم ، تفتح لهم حضنها الواسع وتزرع فيهم نبتتها الساحرة التي تجعلهم يعودون إليها من جديد .
شهدت نجاحاتنا مؤتمرا بعد آخر ، شهدت إصداراتنا تولد بين يديها فتتلقفها بفرح وتحوطها بالعناية والحب .
شاركتنا بأمسيات أدبية بين طاولاتها ، وشاركتنا فجيعتنا في شهداء بني سويف ثم شهدت أول عروض فرقة الفيوم المسرحية بعد الحادث والذي أهدته لأرواح شهداء حادث قصر الثقافة بعنوان ( أخر الشارع ) بساحة المقهى في تجربة طالب رئيس الهيئة بتعميمها في باقي الأقاليم .
شهدت انقساماتنا وخلافاتنا وشهدت توافقنا من جديد ، شهدت الذين غابوا يعودون إليها بنفس الحب ونادت من هجروها بقسوة ليعودوا إلى مقاعدها من جديد .
كل ما أستطيع أن أقوله إن كل خطوة أخطوها بمحاذاة بحريوسف وباعة الترمس وسائقي الحنطور - الذين يختفون من الشوارع والميادين يوما بعد آخر - في الطريق إلى القللي تجعلني أقترب أكثر من أشيائي الأليفة التي فقدتها مع دوران الزمن .
اتخذ مقعدا بين الأصدقاء وأشاركهم الضجيج والغبار والدخان والقرف وابحث عن وجه محمد عبد المعطي في وجوه أصدقائي فأجده يطل من عيونهم بنفس المرح .
المقهى يتسع لما تضيق به المؤسسة من أفكار أو رؤى أو اختلاف .
لو عرفت الحكومات طريق المقهى لعرفت البشر وعرفت مشاكلهم وحلولها ، لكننا لم نر أبدا حكومة تحتسي الشاي بمقعد على رصيف القللي وتدخن النرجيلة وتلعب الطاولة وحين تنهزم تدفع الحساب .

ليست هناك تعليقات: