رأس صموت
أحمد طوسون
منذ متى وطأها ذلك الشعور وأرق حياتها ومنامها ؟!
........................
لا تعرف.
ليس الجالس على المكتب المعدني قبالتها بالصموت دائما.
يشاركها ساعات العمل والجدران الأربع الوظيفية.
غالبا ما يأتي متأخرا.
ينفق بعض الوقت مع الزملاء وبين مكاتب الأقسام المختلفة.
حين يجيء تسبقه جلبة تحيات الصباح المجانية على كل من يقابله.
تصنت لتعليقاته وقفشا ته التي تسقط عن الزملاء في الحجرات المجاورة جدية الصباح.
يخف صوته على حين غره وتسمع وقع الهمس.. بعدها ترتفع قهقهات الرجال ـ حتى تفزع وحدتها.. تستنتج أن نكاته أخذت مسارا يستدعى السرية بعيدا عن أسماع الموظفات.. يتأكد ظنها حين تنجح إحداهن في استرقاق السمع.
في طريق عودتهن تروى على أسماعهن المتعطشة ما سمعته ، يكاد يغشى عليهن من الضحك والخجل.
حين يفقن ينظرن إليها ويبتسمن! .
حين يصل إلى مكتبه المعدني يبدو آخرا بعيد الشبه عن رجل الطرقات.
بالكاد يقول : ( صباح الخير ) ويبقى في انتظار كوب القهوة الذي يحضره عامل البوفيه.
بمجرد وصوله يتحرر قليلا من رابطة عنقه الملازمة له.. ثم يستأذنها في إشعال سيجارة.
عادة ما تكون السيجارة الوحيدة التي يشربها بين جدران مكتبيهما.
بين الحين والآخر يترك المكتب ليدخن سيجارة بين الطرقات ومبادلة الآخرين بعض الأحاديث.
باغتته وقالت إن بإمكانه التدخين في المكتب.. لن تتضايق.. زوجها دائم التدخين ولم تعد حساسية صدرها تقلقها.
لكنه لم يستجب لدعوتها.
قال إن سيجارة واحدة تكفيها.. لا يريد أن يتحمل ذنب قتلها.
اليوم الوحيد الذي قطع عادته فيه يوم طلاقها.
لم تسمع ضجيجه المعتاد بين الطرقات حتى ظنت إنه لم يحضر اليوم.
لم يشغل باله بعدد السجائر التي التهمها بين الجدران الوظيفية.. اقتحم سياج الصمت المحيط بالمكتب المعدني وقال:
ـ الطلاق ليس نهاية العالم.
...........................
ربما كان بداية .
.......................................
من أعطى له الحق في انتهاك ضعفها ؟!
في هذه اللحظة لم تكن ترغب في سماع شيء.. ولم ترغب أن يشاركها أحد جدرانها المتهاوية.
ربما استشعر بنفسه أحاسيسها فعاود الصمت، وقبل انتهاء الدوام حرص أن يترك مكتبه لتنعم بخصوصية الحزن.
هل يستوجب لفظ الطلاق أن نقرنه بالحزن؟
لا يعلم.. لكن خيوطا صغيرة من الأسى تتناثر حوله جعلت مثل هذا التفكير يدور برأسه.
الزميلات أول من لفتن انتباهها إلى ذلك الصموت.
ابتساماتهن.
إشاراتهن.
سؤالهن المتكرر لها.
كلها أشياء لا تخلو من مغزى!
حين ضاقت بهن ثارت في وجههن.. هل نسين إنها متزوجة.
تراجعن سريعا .. لبسن ثوب البراءة وقلن :
ـ لم نقصد شيئا..
مجرد ثرثرة لقتل الوقت.
إلحاحهن تسرب إلى نفسها.
داهمت نفسها تفكر فيه وفى صمته الدائم معها.. استغرقت كثيرا في متابعة انهماكه بين الأوراق.. كأن لا وجود لها أو لأنفاسها بين الجدران.
عادة ما تصنع المشاركة في مكان واحد مواضيع شتى للحديث.. لا فرق بين الرجال والنساء.. وبخاصة زمالة العمل.. لكنه عكس الآخرين! .
حاولت أن تقرأ من بين ملامحه ما تردده الزميلات عن حلو حديثه وخفة دمه حين يمر بمكاتبهن.
إذا كان حقا كما يدعين ، فلم هي بالذات لا يسترسـل معـها في الحديث؟!
أفاقت على عينيه وقد رفعهما عن الأوراق وارتطمتا بعينيها المتصلبتين ناحيته.. تلاقى عيونهما أصابها بالارتباك والخجل.
بما يفسر تحديقها فيه ؟
ارتدت منزوية داخل نفسها.. تعبث دون وعى بأي شيء أمامها.
الملعونات نجحن في إيقاعها بفخهن!.
من بعدها حرصت أن تقابل صمته معها بصمت أكبر.
تحية الصباح تعمدت أن تكتفي بهزة من رأسها كرد على كلماته المقتضبة.
بعد طلاقها بأشهر ، الزميلات عاودن الحديث عن رفيق الجدران الوظيفية.
هذه المرة إحداهن صرحت بالمغزى .. قالت إنها جميلة و صغيرة والحياة مازالت أمامها..
وهو مازال أعزيا.
قالتها ولم تكن متأكدة.
الأخريات قلن إنهن يعرفن.
لكن إن كان متزوجا كنا سنعرف .. لا تخفى علينا مثل هذه الأمور!.
كيف لم تعرف طوال هذه الفترة التي قضياها معا إنه أعزب؟
عندما ثار السؤال في رأسها عادت ولامت نفسها.
ماذا سيفيدها إن عرفت أم لا؟!
حين عادت إلى بيتها ضبطت نفسها أمام المرآة.. وقفت طويلا تتأمل ملامحها.. جعلت خصلات شعرها تتناثر على كتفيها وفوق وجنتيها.
جميلة حقا بما يكفى على الأقل بلفت انتباهه إليها.
هذا الصباح تخلصت من غطاء الرأس.. ملامح التأنق بدت زائدة عما اعتادت.. رائحة برفانها خدرت كل من قابلته في طريقها.
سنوات الزواج الثلاث بدت كعقوبة مقيدة للحرية قضتها في حبس انفرادي.
يجب أن تخفى كل هذه الآثار عن جسدها.
باستطاعتها أن تحصى الجمل والكلمات التي قالها زوجها طيلة زواجيهما.
قضت أيامها بين المقاومة والاستسلام حتى غطى جسدها الملح وتكلست مشاعرها .. لكنها أبدا لم تعرف طريق السعادة.
كان عليها أن تضع نهاية.
لم تعد عندها القدرة على المواصلة.
الزميلات تأملن تأنقها وشكلها الجديد وتهامسن فيما بينهن.
لم تعرهن انتباها.
الصموت لم يستطع إخفاء انجذابه.
عيناه ظلتا معلقتين تجاه مكتبها.
لم تلحظ إنه خرج للتدخين كعادته.. باغتته ونطقت بكلمات أشبه بالهمس:
ـ أحيانا ما نحتاج إلى الحديث مع الآخرين.
لا يعرف من أين استمد صوتها القدرة على تخدير جسده.. أمنَّ على كلماتها بابتسامة.
ربما لمحت الكلمات تقف على لسانه لكنها لا تخرج.
تحركت تجاه مكتبه المعدني واتكأت عليه.
رائحة البرفان غطته بسحابة من النسيم والخدر.. برودة المكتب المعدني أصابتها برعشة خفيفة.
ـ هل أنا غير جميلة ؟!
ـ من قال هذا ؟
.....................
ـ صمتك الطويل
كأنك تعيش في جزيرة منعزلة
هنا .. أو في البيت
......................
لا أسمع صوتك إلا بين الطرقات ومع الزميلات.
أفاق من خدره.
لم يعرف ما قصدته بكلماتها.
ماذا عليه أن يقول؟!
أسقط عينيه عنها، ومد يده إلى علبة التبغ وحاول الخروج لإشعال سيجارة.
منعته بجسدها فانسحب عائدا إلى كرسيه.. سحبت السيجارة من بين أصابعه وأخرجت عود ثقاب وأشعلتها.
أسقطت نظراتها عنه و ارتدت في خطوات متخاذلة إلى مكتبها.
أول مرة يراها تدخن.
...................................
أخرج سيجارة أخرى وأشعلها.
سحابة كبيرة من الدخان والصمت خيمت على سقف الحجرة الباردة.
أحمد طوسون
منذ متى وطأها ذلك الشعور وأرق حياتها ومنامها ؟!
........................
لا تعرف.
ليس الجالس على المكتب المعدني قبالتها بالصموت دائما.
يشاركها ساعات العمل والجدران الأربع الوظيفية.
غالبا ما يأتي متأخرا.
ينفق بعض الوقت مع الزملاء وبين مكاتب الأقسام المختلفة.
حين يجيء تسبقه جلبة تحيات الصباح المجانية على كل من يقابله.
تصنت لتعليقاته وقفشا ته التي تسقط عن الزملاء في الحجرات المجاورة جدية الصباح.
يخف صوته على حين غره وتسمع وقع الهمس.. بعدها ترتفع قهقهات الرجال ـ حتى تفزع وحدتها.. تستنتج أن نكاته أخذت مسارا يستدعى السرية بعيدا عن أسماع الموظفات.. يتأكد ظنها حين تنجح إحداهن في استرقاق السمع.
في طريق عودتهن تروى على أسماعهن المتعطشة ما سمعته ، يكاد يغشى عليهن من الضحك والخجل.
حين يفقن ينظرن إليها ويبتسمن! .
حين يصل إلى مكتبه المعدني يبدو آخرا بعيد الشبه عن رجل الطرقات.
بالكاد يقول : ( صباح الخير ) ويبقى في انتظار كوب القهوة الذي يحضره عامل البوفيه.
بمجرد وصوله يتحرر قليلا من رابطة عنقه الملازمة له.. ثم يستأذنها في إشعال سيجارة.
عادة ما تكون السيجارة الوحيدة التي يشربها بين جدران مكتبيهما.
بين الحين والآخر يترك المكتب ليدخن سيجارة بين الطرقات ومبادلة الآخرين بعض الأحاديث.
باغتته وقالت إن بإمكانه التدخين في المكتب.. لن تتضايق.. زوجها دائم التدخين ولم تعد حساسية صدرها تقلقها.
لكنه لم يستجب لدعوتها.
قال إن سيجارة واحدة تكفيها.. لا يريد أن يتحمل ذنب قتلها.
اليوم الوحيد الذي قطع عادته فيه يوم طلاقها.
لم تسمع ضجيجه المعتاد بين الطرقات حتى ظنت إنه لم يحضر اليوم.
لم يشغل باله بعدد السجائر التي التهمها بين الجدران الوظيفية.. اقتحم سياج الصمت المحيط بالمكتب المعدني وقال:
ـ الطلاق ليس نهاية العالم.
...........................
ربما كان بداية .
.......................................
من أعطى له الحق في انتهاك ضعفها ؟!
في هذه اللحظة لم تكن ترغب في سماع شيء.. ولم ترغب أن يشاركها أحد جدرانها المتهاوية.
ربما استشعر بنفسه أحاسيسها فعاود الصمت، وقبل انتهاء الدوام حرص أن يترك مكتبه لتنعم بخصوصية الحزن.
هل يستوجب لفظ الطلاق أن نقرنه بالحزن؟
لا يعلم.. لكن خيوطا صغيرة من الأسى تتناثر حوله جعلت مثل هذا التفكير يدور برأسه.
الزميلات أول من لفتن انتباهها إلى ذلك الصموت.
ابتساماتهن.
إشاراتهن.
سؤالهن المتكرر لها.
كلها أشياء لا تخلو من مغزى!
حين ضاقت بهن ثارت في وجههن.. هل نسين إنها متزوجة.
تراجعن سريعا .. لبسن ثوب البراءة وقلن :
ـ لم نقصد شيئا..
مجرد ثرثرة لقتل الوقت.
إلحاحهن تسرب إلى نفسها.
داهمت نفسها تفكر فيه وفى صمته الدائم معها.. استغرقت كثيرا في متابعة انهماكه بين الأوراق.. كأن لا وجود لها أو لأنفاسها بين الجدران.
عادة ما تصنع المشاركة في مكان واحد مواضيع شتى للحديث.. لا فرق بين الرجال والنساء.. وبخاصة زمالة العمل.. لكنه عكس الآخرين! .
حاولت أن تقرأ من بين ملامحه ما تردده الزميلات عن حلو حديثه وخفة دمه حين يمر بمكاتبهن.
إذا كان حقا كما يدعين ، فلم هي بالذات لا يسترسـل معـها في الحديث؟!
أفاقت على عينيه وقد رفعهما عن الأوراق وارتطمتا بعينيها المتصلبتين ناحيته.. تلاقى عيونهما أصابها بالارتباك والخجل.
بما يفسر تحديقها فيه ؟
ارتدت منزوية داخل نفسها.. تعبث دون وعى بأي شيء أمامها.
الملعونات نجحن في إيقاعها بفخهن!.
من بعدها حرصت أن تقابل صمته معها بصمت أكبر.
تحية الصباح تعمدت أن تكتفي بهزة من رأسها كرد على كلماته المقتضبة.
بعد طلاقها بأشهر ، الزميلات عاودن الحديث عن رفيق الجدران الوظيفية.
هذه المرة إحداهن صرحت بالمغزى .. قالت إنها جميلة و صغيرة والحياة مازالت أمامها..
وهو مازال أعزيا.
قالتها ولم تكن متأكدة.
الأخريات قلن إنهن يعرفن.
لكن إن كان متزوجا كنا سنعرف .. لا تخفى علينا مثل هذه الأمور!.
كيف لم تعرف طوال هذه الفترة التي قضياها معا إنه أعزب؟
عندما ثار السؤال في رأسها عادت ولامت نفسها.
ماذا سيفيدها إن عرفت أم لا؟!
حين عادت إلى بيتها ضبطت نفسها أمام المرآة.. وقفت طويلا تتأمل ملامحها.. جعلت خصلات شعرها تتناثر على كتفيها وفوق وجنتيها.
جميلة حقا بما يكفى على الأقل بلفت انتباهه إليها.
هذا الصباح تخلصت من غطاء الرأس.. ملامح التأنق بدت زائدة عما اعتادت.. رائحة برفانها خدرت كل من قابلته في طريقها.
سنوات الزواج الثلاث بدت كعقوبة مقيدة للحرية قضتها في حبس انفرادي.
يجب أن تخفى كل هذه الآثار عن جسدها.
باستطاعتها أن تحصى الجمل والكلمات التي قالها زوجها طيلة زواجيهما.
قضت أيامها بين المقاومة والاستسلام حتى غطى جسدها الملح وتكلست مشاعرها .. لكنها أبدا لم تعرف طريق السعادة.
كان عليها أن تضع نهاية.
لم تعد عندها القدرة على المواصلة.
الزميلات تأملن تأنقها وشكلها الجديد وتهامسن فيما بينهن.
لم تعرهن انتباها.
الصموت لم يستطع إخفاء انجذابه.
عيناه ظلتا معلقتين تجاه مكتبها.
لم تلحظ إنه خرج للتدخين كعادته.. باغتته ونطقت بكلمات أشبه بالهمس:
ـ أحيانا ما نحتاج إلى الحديث مع الآخرين.
لا يعرف من أين استمد صوتها القدرة على تخدير جسده.. أمنَّ على كلماتها بابتسامة.
ربما لمحت الكلمات تقف على لسانه لكنها لا تخرج.
تحركت تجاه مكتبه المعدني واتكأت عليه.
رائحة البرفان غطته بسحابة من النسيم والخدر.. برودة المكتب المعدني أصابتها برعشة خفيفة.
ـ هل أنا غير جميلة ؟!
ـ من قال هذا ؟
.....................
ـ صمتك الطويل
كأنك تعيش في جزيرة منعزلة
هنا .. أو في البيت
......................
لا أسمع صوتك إلا بين الطرقات ومع الزميلات.
أفاق من خدره.
لم يعرف ما قصدته بكلماتها.
ماذا عليه أن يقول؟!
أسقط عينيه عنها، ومد يده إلى علبة التبغ وحاول الخروج لإشعال سيجارة.
منعته بجسدها فانسحب عائدا إلى كرسيه.. سحبت السيجارة من بين أصابعه وأخرجت عود ثقاب وأشعلتها.
أسقطت نظراتها عنه و ارتدت في خطوات متخاذلة إلى مكتبها.
أول مرة يراها تدخن.
...................................
أخرج سيجارة أخرى وأشعلها.
سحابة كبيرة من الدخان والصمت خيمت على سقف الحجرة الباردة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق