الناقد صلاح فضل: المثقف الحقيقي ليس قطاً وديعاً
القاهرة - محمد الصادق
الناقد صلاح فضل عضو في لجان جوائز عربية ودولية كثيرة، ورغم ذلك وجّه انتقادات حادة إلى هذه الجوائز، وقال إنها تخضع لأيديولوجيا القيّمين عليها، مؤكداً ألا جوائز «بريئة» في عالمنا العربي. كذلك وجّه عبر حديثه إلى «الجريدة» انتقادات حادّة إلى الواقع الأدبي والحركة النقدية، متهماً الأخيرة بالكسل، لكنه دافع في الوقت نفسه عن المبدعين، خصوصاً الشعراء.
فضل أحد أبرز النقاد الذين أدخلوا مناهج النقد الغربي إلى الثقافة العربية، وله مساهمات فاعلة في المجال عبر كتبه «مناهج النقد المعاصر، نبرات الخطاب الشعري، شعرية السرد، الإبداع شراكة حضارية».
التقيناه وكان الحوار التالي.
أعلنت أخيراً نتائج جوائز أُثيرت حولها خلافات كثيرة. لماذا لم يرض كثر بها؟
أولاً، لا بدّ من التأكيد على أن الموضوعية المطلقة منعدمة في مظاهر الحياة كافة. حتى إن الأديب لا يسعد إذا أطلقنا صفة «البراءة» عليه، فذلك يوضح أن كتاباته ساذجة وسطحية.
أمّا الجوائز فتتفاوت في ما بينها من ناحية الموضوعية. ثمة جوائز تتحكّم فيها الأيديولوجيا، مثلاً جائزة «فيصل للآداب»، لم يحصل عليها كاتب طليعي يساري أو حداثي طوال عقدين لأن عمله يُمنع أساساً، ولا يُرسل إلى المحكّمين. وتقترب جوائز أخرى من {البراءة} قليلاً، من بينها «العويس» التي حصل عليها مبدعون من مختلف التيارات. وثمة جوائز محدودة، لكن فاعلة، وأنا مستشار لأبرزها، وأحدثها جائزة «الشيخ زايد للكتاب» التي نتوخى في تحكيمها وفي خطواتها الموضوعية، وقد حصل عليها هذا العام جمال الغيطاني في الأدب، سعد مصلوح في الترجمة، الدكتور ماهر راضي في الفنون، ومحمد عصام عن «الدار المصرية اللبنانية في النشر»، وأظن أن هذه النتائج لا يُطعن إطلاقاً في جديتها وموضوعيتها.
النقاد متّهمون بالابتعاد عن الشعر والتحوّل إلى الرواية منذ إطلاق جابر عصفور مقولته «زمن الرواية». كيف تنظر إلى هذا الاتهام؟
المقولة مقتبسة عن كتاب تُرجم إلى العربية بعنوان «عصر الرواية». وتشير العبارة إلى ازدهار الرواية في الفترة الحديثة، وتلك حقيقة نلمسها من خلال ازدياد عدد المشتغلين في الإنتاج القصصي والروائي، الذي يفوق بأضعاف عدد الشعراء، إضافة إلى كثرة جمهور الرواية، رغم غياب إحصاءات دقيقة في هذا المجال. ووفق تصريحات الناشرين، الروايات تحتل الصدارة في المبيعات، ناهيك أنها ترتبط بفنون معاصرة تقتبس عنها الأعمال مثل السينما والتلفزيون، ما يجعل درجة انتشار مجالات السرد عموماً (القصة، الرواية، الدراما والسينما) أكثر جماهيرية.
ذلك كله لا يلغي حقائق أخرى مقابلة، أركز عليها دائماً، وهي أن الشعر جوهر الفنون اللغوية، والموسيقى جوهر الفنون التشكيلية. فالرواية ترقى إلى مستويات عالية في الإبداع كلما حضر الشعر فيها، لذلك أتحدث كثيراً، حتى في كتاباتي النقدية البسيطة، عمّا أُطلِق عليه «شعرية السرد»، وقد أصدرت كتابين حول هذا العنوان.
كيف تنظر إلى الشعر؟
الشعر حاجة إنسانية ضرورية متصلة بكينونة المرء ووجوده، ولا يعادل هذه الكينونة فلسفياً سوى الشعر لأنه الأقرب إلى تمثيل الهوية المرتبطة بحقيقة الوجود.
الشعر فن نقي، يمثّل حياة اللغة ويضمن تجديدها واستمرارها، ويؤكّد جمالها. مثلاً، هل نحفظ القواميس اللغوية؟ كلا، لكننا نحفظ الأشعار ونتناقلها، والشعر بهذا المعنى حامل اللغة، وهي حقيقة الإنسان. وأعتقد أن ازدهار السرد يزيد من قوة الشعر وانتشاره، لذلك أرفض مقولة «عصر الرواية»، فالعصر الراهن للشعر والرواية والصورة والإنترنت، وكل ما يبتكره الخيال الإنساني ويتغذّى به.
البعض يقول إن التجارب الشعرية الجديدة تطوّرت عبر غياب النقّاد عنها. ماذا تقول أنت؟
كيف يطوّر «الغياب» تجربة ما؟ إنه زعم ساذج للغاية. المقولة تشير إلى أن النقاد قرروا بأنفسهم مقاطعة التجارب الشعرية. ذلك لم يحدث. فنقاد كثر، وأنا منهم، يتغذون بنماذج شعرية جديدة، وقد خاضوا، وما زالوا، معارك ضارية دفاعاً عن مشروعية هذه النماذج.
يمكن لنا القول إن نقد الشعر لا يشتغل به نقاد كثر، فالنقد عموماً عملة نادرة، والنقاد الذين تنطبق عليهم صفة «النقاد الحقيقيين» قلة. أوضحت سابقاً أن أساتذة الآداب في الجامعات والمدارس يعدون بالآلاف، لكن في المراحل التاريخية كافة لا يتعدّى عدد النقاد أصابع اليد الواحدة.
ويعترف المبدعون بأن هؤلاء النقاد يمثلون السلطة النقدية كقضاة وخبراء، ولا يحصلون على هذه الثقة إلا إذا كانوا يعون تماماً أبعاد الخارطة الإبداعية العربية والأجنبية، القديمة والحديثة. ولا يستحق ناقد هذا اللقب إذا أغفل أو أهمل أو تجاوز تجارب إبداعية في الشعر وغيره.
وأشير هنا إلى أن المشتغلين بالصحافة مثلاً وأساتذة الجامعات ليسوا نقاداً، إنهم هواة.
ماذا عن مهمة الكاتب؟
مهمة الكاتب اكتشاف حيوية القبح وجمالياته، وتحويلهما إلى أمور أخرى تعبق برائحة الحياة، بتنوعاتها وجموحها ونزعاتها وفظاظتها وتقلباتها وثورتها ودموعها. وأشير هنا إلى أن التصوّف والعبادة، والشك أيضاً مواضيع للإبداع، ولا بد لقارئ الأدب أن يعي هذا الأمر وأن يتهيأ للاندهاش دوماً.
الصحافة الثقافية خالية من النقد الحقيقي والجاد. هل توافقني الرأي؟
أدين الصحافة الثقافية منذ فترة طويلة، لأنها لا تهتم إطلاقاً بالنقد الموضوعي والجاد لأسباب كثيرة، أبرزها أن المحررين الثقافيين سرعان ما تغريهم سلطتهم التحريرية، وبدلاً من التماس رأي أحد النقاد ليُطلق الأحكام بنفسه ويكتب مقالة حول رواية أو ديوان... يتوهمون بأنهم يمتلكون بياض الصفحات ليصيروا قضاة ويصدرون «الفتاوى» والأحكام.
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن تلك المقالات أقرب إلى أسلوب المجاملات والخضوع لضغوط مختلفة، وتتسم بأسلوب إخباري وعشوائي لا تقييمي. ذلك كله يحدّ من حركة الإبداع.
أين تقف من مقولة «المثقف يُزعج السياسي»؟
بالتأكيد لا يمكن للمثقف الحقيقي أن يكون قطة وديعة، لأنه سيفقد بذلك خصوصيته. المثقف لا بد أن يملك وعياً نقدياً، وإن لم يطلق العنان لأفكاره بغية توظيفها في إبداء رأيه في الأوضاع السياسية والاجتماعية الظالمة يفقد هويته. المثقف الحقيقي إذاً لا بد أن يكون مزعجاً.
هل تعتقد أننا فقدنا المثقف؟
لا يفقد مجتمع ما عقوله ومثقفيه بـ{جرة قلم». تتمتع بلادنا بمثقفين مناضلين كثر. عموماً، أميز بين ثلاثة أنواع من الثقافة: ثقافة العلوم الإنسانية ويحظى بها علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ثقافة الإبداع التي تتجلّى في الآداب والفنون بمختلف أنواعها، وأخيراً الإبداع العلمي. وفيما يزخر العالم العربي بالثقافتين الأوليين، نجد المثقف الذي يمارس الإبداع العلمي مقهوراً لأن البنية الاجتماعية لا تساعده على الإبداع.
الناقد صلاح فضل عضو في لجان جوائز عربية ودولية كثيرة، ورغم ذلك وجّه انتقادات حادة إلى هذه الجوائز، وقال إنها تخضع لأيديولوجيا القيّمين عليها، مؤكداً ألا جوائز «بريئة» في عالمنا العربي. كذلك وجّه عبر حديثه إلى «الجريدة» انتقادات حادّة إلى الواقع الأدبي والحركة النقدية، متهماً الأخيرة بالكسل، لكنه دافع في الوقت نفسه عن المبدعين، خصوصاً الشعراء.
فضل أحد أبرز النقاد الذين أدخلوا مناهج النقد الغربي إلى الثقافة العربية، وله مساهمات فاعلة في المجال عبر كتبه «مناهج النقد المعاصر، نبرات الخطاب الشعري، شعرية السرد، الإبداع شراكة حضارية».
التقيناه وكان الحوار التالي.
أعلنت أخيراً نتائج جوائز أُثيرت حولها خلافات كثيرة. لماذا لم يرض كثر بها؟
أولاً، لا بدّ من التأكيد على أن الموضوعية المطلقة منعدمة في مظاهر الحياة كافة. حتى إن الأديب لا يسعد إذا أطلقنا صفة «البراءة» عليه، فذلك يوضح أن كتاباته ساذجة وسطحية.
أمّا الجوائز فتتفاوت في ما بينها من ناحية الموضوعية. ثمة جوائز تتحكّم فيها الأيديولوجيا، مثلاً جائزة «فيصل للآداب»، لم يحصل عليها كاتب طليعي يساري أو حداثي طوال عقدين لأن عمله يُمنع أساساً، ولا يُرسل إلى المحكّمين. وتقترب جوائز أخرى من {البراءة} قليلاً، من بينها «العويس» التي حصل عليها مبدعون من مختلف التيارات. وثمة جوائز محدودة، لكن فاعلة، وأنا مستشار لأبرزها، وأحدثها جائزة «الشيخ زايد للكتاب» التي نتوخى في تحكيمها وفي خطواتها الموضوعية، وقد حصل عليها هذا العام جمال الغيطاني في الأدب، سعد مصلوح في الترجمة، الدكتور ماهر راضي في الفنون، ومحمد عصام عن «الدار المصرية اللبنانية في النشر»، وأظن أن هذه النتائج لا يُطعن إطلاقاً في جديتها وموضوعيتها.
النقاد متّهمون بالابتعاد عن الشعر والتحوّل إلى الرواية منذ إطلاق جابر عصفور مقولته «زمن الرواية». كيف تنظر إلى هذا الاتهام؟
المقولة مقتبسة عن كتاب تُرجم إلى العربية بعنوان «عصر الرواية». وتشير العبارة إلى ازدهار الرواية في الفترة الحديثة، وتلك حقيقة نلمسها من خلال ازدياد عدد المشتغلين في الإنتاج القصصي والروائي، الذي يفوق بأضعاف عدد الشعراء، إضافة إلى كثرة جمهور الرواية، رغم غياب إحصاءات دقيقة في هذا المجال. ووفق تصريحات الناشرين، الروايات تحتل الصدارة في المبيعات، ناهيك أنها ترتبط بفنون معاصرة تقتبس عنها الأعمال مثل السينما والتلفزيون، ما يجعل درجة انتشار مجالات السرد عموماً (القصة، الرواية، الدراما والسينما) أكثر جماهيرية.
ذلك كله لا يلغي حقائق أخرى مقابلة، أركز عليها دائماً، وهي أن الشعر جوهر الفنون اللغوية، والموسيقى جوهر الفنون التشكيلية. فالرواية ترقى إلى مستويات عالية في الإبداع كلما حضر الشعر فيها، لذلك أتحدث كثيراً، حتى في كتاباتي النقدية البسيطة، عمّا أُطلِق عليه «شعرية السرد»، وقد أصدرت كتابين حول هذا العنوان.
كيف تنظر إلى الشعر؟
الشعر حاجة إنسانية ضرورية متصلة بكينونة المرء ووجوده، ولا يعادل هذه الكينونة فلسفياً سوى الشعر لأنه الأقرب إلى تمثيل الهوية المرتبطة بحقيقة الوجود.
الشعر فن نقي، يمثّل حياة اللغة ويضمن تجديدها واستمرارها، ويؤكّد جمالها. مثلاً، هل نحفظ القواميس اللغوية؟ كلا، لكننا نحفظ الأشعار ونتناقلها، والشعر بهذا المعنى حامل اللغة، وهي حقيقة الإنسان. وأعتقد أن ازدهار السرد يزيد من قوة الشعر وانتشاره، لذلك أرفض مقولة «عصر الرواية»، فالعصر الراهن للشعر والرواية والصورة والإنترنت، وكل ما يبتكره الخيال الإنساني ويتغذّى به.
البعض يقول إن التجارب الشعرية الجديدة تطوّرت عبر غياب النقّاد عنها. ماذا تقول أنت؟
كيف يطوّر «الغياب» تجربة ما؟ إنه زعم ساذج للغاية. المقولة تشير إلى أن النقاد قرروا بأنفسهم مقاطعة التجارب الشعرية. ذلك لم يحدث. فنقاد كثر، وأنا منهم، يتغذون بنماذج شعرية جديدة، وقد خاضوا، وما زالوا، معارك ضارية دفاعاً عن مشروعية هذه النماذج.
يمكن لنا القول إن نقد الشعر لا يشتغل به نقاد كثر، فالنقد عموماً عملة نادرة، والنقاد الذين تنطبق عليهم صفة «النقاد الحقيقيين» قلة. أوضحت سابقاً أن أساتذة الآداب في الجامعات والمدارس يعدون بالآلاف، لكن في المراحل التاريخية كافة لا يتعدّى عدد النقاد أصابع اليد الواحدة.
ويعترف المبدعون بأن هؤلاء النقاد يمثلون السلطة النقدية كقضاة وخبراء، ولا يحصلون على هذه الثقة إلا إذا كانوا يعون تماماً أبعاد الخارطة الإبداعية العربية والأجنبية، القديمة والحديثة. ولا يستحق ناقد هذا اللقب إذا أغفل أو أهمل أو تجاوز تجارب إبداعية في الشعر وغيره.
وأشير هنا إلى أن المشتغلين بالصحافة مثلاً وأساتذة الجامعات ليسوا نقاداً، إنهم هواة.
ماذا عن مهمة الكاتب؟
مهمة الكاتب اكتشاف حيوية القبح وجمالياته، وتحويلهما إلى أمور أخرى تعبق برائحة الحياة، بتنوعاتها وجموحها ونزعاتها وفظاظتها وتقلباتها وثورتها ودموعها. وأشير هنا إلى أن التصوّف والعبادة، والشك أيضاً مواضيع للإبداع، ولا بد لقارئ الأدب أن يعي هذا الأمر وأن يتهيأ للاندهاش دوماً.
الصحافة الثقافية خالية من النقد الحقيقي والجاد. هل توافقني الرأي؟
أدين الصحافة الثقافية منذ فترة طويلة، لأنها لا تهتم إطلاقاً بالنقد الموضوعي والجاد لأسباب كثيرة، أبرزها أن المحررين الثقافيين سرعان ما تغريهم سلطتهم التحريرية، وبدلاً من التماس رأي أحد النقاد ليُطلق الأحكام بنفسه ويكتب مقالة حول رواية أو ديوان... يتوهمون بأنهم يمتلكون بياض الصفحات ليصيروا قضاة ويصدرون «الفتاوى» والأحكام.
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن تلك المقالات أقرب إلى أسلوب المجاملات والخضوع لضغوط مختلفة، وتتسم بأسلوب إخباري وعشوائي لا تقييمي. ذلك كله يحدّ من حركة الإبداع.
أين تقف من مقولة «المثقف يُزعج السياسي»؟
بالتأكيد لا يمكن للمثقف الحقيقي أن يكون قطة وديعة، لأنه سيفقد بذلك خصوصيته. المثقف لا بد أن يملك وعياً نقدياً، وإن لم يطلق العنان لأفكاره بغية توظيفها في إبداء رأيه في الأوضاع السياسية والاجتماعية الظالمة يفقد هويته. المثقف الحقيقي إذاً لا بد أن يكون مزعجاً.
هل تعتقد أننا فقدنا المثقف؟
لا يفقد مجتمع ما عقوله ومثقفيه بـ{جرة قلم». تتمتع بلادنا بمثقفين مناضلين كثر. عموماً، أميز بين ثلاثة أنواع من الثقافة: ثقافة العلوم الإنسانية ويحظى بها علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ثقافة الإبداع التي تتجلّى في الآداب والفنون بمختلف أنواعها، وأخيراً الإبداع العلمي. وفيما يزخر العالم العربي بالثقافتين الأوليين، نجد المثقف الذي يمارس الإبداع العلمي مقهوراً لأن البنية الاجتماعية لا تساعده على الإبداع.
نقلا عن جريدة الجريدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق