ابراهيم غراب .. فارس من الزمن النبيل
عبده الزرّاع
كان الشاعر الراحل ابراهيم غراب ، حينما يهل عليك لأول مرة بعوده الفارع الشامخ كالنخيل ، ونظرته الجريئة التى تطل من خلف زجاج نظارته الكبيرة ، تحسبه ضابطا للشرطة ، بوجه أبيض طويل مشرئب بحمرة ربما تعود جذوره الى الأتراك ، ولكن عندما تدقق في قسمات وجهه تشعر بطيبة الفلاح الذى ارتدى لتوه تلك الملابس الافرنجية ، ويعلو رأسه شعر أبيض فضى لامع ، وعنق مستدير تزينه رابطة أنيقة ، مستندة على كتفين عريضين ، وبنيان قوى أشبه بمصارع قديم ، وكان – رحمه الله – يحمل قلب طفل وعقل متقد وذاكرة حاضرة ، ويتسم بشهامة أبناء البلد التى ندر وجودها فى هذا الزمان .
رحل شاعر العامية الكبير ابراهيم غراب – الذى تحل علينا هذه الأيام ذكراه - فى هدوء شديد عن عمر يناهز الثلاثة والستين فى حادثة سيارة ، وهو فى طريقه من دسوق - مسقط رأسه – الى القاهرة لانجاز بعض المهام ، بعد رحلة طويلة وشاقة قطعها فى الابداع ، والاخلاص للثقافة والمثقفين ، فظل طيلة حياته يعمل بدأب ودون توقف ، وأثناء رحلة عمره الطويلة نسبيا – 27 عاما – فى بيوت وقصور الثقافة المختلفة ، يبحث وينقب بجدية وبحب منقطع النظير عن الأصوات الأدبية المتميزة والمبشرة فى المدن والقرى ، وخصوصا أبناء محافظته كفر الشيخ ، التى أخلص لها وأعطها كل مايملك من وقت وجهد ، يسدى لأبنائها النصيحة ، ويوجههم بل ويعدل لهم فى القصائد والقصص ، لم يبخل على أحد بنصيحة أو فكر ، حينما كان يجد نبتة يرعاها بحب كالفلاح الأصيل الذى يبذل أقصى ماعنده فى أرضه ، يسقيها ويحرث تربتها حتى تأتى بأطيب الثمار ، هكذا كان يفعل الراحل مع أبنائه ومحبيه فى كفر الشيخ ، ولا أنسى يوم أن زارت قريتنا برنبال ، قافلة الثقافة لاقامة أمسية شعرية بها ، قريتنا الصغيرة النائية التى تقع بالقرب من شاطىء البحر المتوسط ، وتحدها من الشرق بحيرة البرلس ، تلك القرية ذات الطبيعة الخاصة ، والتى تعج بالمثقفين والمهتمين بالأدب والفكر ، كنت صبيا وقتئذ لا أتعدى التاسعة عشرة من العمر ، أكتب الشعر على استحياء شديد ولا يراه الا أصدقائى المقربين ، كانت فرحة غامرة تلك التى شعرت بها ، وشعرت بها القرية كلها فى ذلك اليوم البعيد من صيف عام 1987 ، حيث كانت تضم القافلة عددا كبيرا من شعراء المحافظة وهم : الراحل ابراهيم غراب ، ومحمد الشهاوى ، الراحل عبد الدايم الشاذلى ، والراحل فاروق الأفندى ، على عفيفى ، ممدوح المتولى ، الراحل محمد محسن ، السيد غازى ، وغيرهم ، قدمنى يومها الراحل ابراهيم غراب تقديما أعطانى الثقة بنفسى ، وجعلنى ألقى قصيدتى بجرأة حسدنى عليها الكثيرون ، كانت قصيدتى عن الانتفاضة الأولى للشعب الفلسطينى ، لم أكن قبلها قد صعدت منصة الشعر ، ولكنها كانت بدايتى الحقيقية ، بعدها تحدث الراحل عن موهبتى المبكرة ، وظل يشجعنى بل ويصطحبنى معه فى كل مكان يذهب اليه داخل المحافظة أو خارجها ، وأخرها عام 1992 ، رشحنى للذهاب معه لمؤتمر أدباء الأقاليم - قبل أن يتحول لمؤتمر أدباء مصر - الذى عقد وقتها بمدينة الاسماعلية ، كان الراحل صاحب أياد بيضاء على جيلى والأجيال السابقة ، فى ظنى أنه ظلم نفسه ظلما فادحا ، لأنه انصرف الى الحياة الوظيفية التى ظلمته هى الأخرى ظلما فادحا ، ولم يلتفت الى مشروعه الشعرى ، الذى لو أنه أخلص له لصار من كبار شعراء العامية المصرية ، لكنه لم يعكف على مشروعه ولم يطوره ، فظل يدور فى فلكه الى أن رحل ولظلمه الشديد فى الحياة الوظيفية والتجاهل والغبن الذى لاقاه فى أواخر حياته ، كان له التأثير الكبير على نفسيته ، انزوى بعيدا عن الحياة الثقافية شاعرا بالمرارة ، أصبح لايشارك الا فيما ندر فى المنتديات الأدبية التى كان يدعى اليها نادرا ، وظلم الراحل ابراهيم غراب ظلما آخر ، لأنه لم يطبع له ولا ديوان على نفقة الدولة ، بل طبع خمس دواوين شعرية على نفقته الخاصة وهى " الحب شمس مضللة ، الجرى فى أحضان بهية ، مسحراتى ، أغنيات أكتوبر ، حبة كلام " وصدر له ديوان بعد رحيله ، وهو القائل : " يا مداحين / اوعوا الغنا الطيب يتوه / دقوه على النار .. والنايات / وحفضوه لولاد بنات / يطرح على وشوشهم حكاوى .. وأغنيات / ويعيش ياسين رغم انه مات "
هكذا ظل الراحل ابراهيم غراب طيلة حياته ينشد شعرا رائقا تشعر حينما تسمعه وهو يلقى قصائده بأنه ينبوع متدفق من الشاعرية ، يجلجل صوته فى القاعة ، وهو واقف بعوده الفارع الطويل كفارس من الزمن النبيل وعلى الرغم من أن معظم حياة ابراهيم غراب قضاها فى العمل فى الثقافة الجماهيرية – هيئة قصور الثقافة- متنقلا بين قصورها المختلفة حاملا لهموم المثقفين منذ أن عين عام 1966 بالثقافة الجماهيرية بالقاهرة ، وفى عام 67 .. نقل أخصائيا ثقافيا بقصر ثقافة الحرية بالاسكندرية عام 71 عمل مديرا لقصر ثقافة دمنهور ، ثم نقل الى الاسكندرية مرة أخرى عام 72 ليعمل وكيلا لقصر ثقافة الحرية ، ثم مديرا عاما لفرع ثقافة كفر الشيخ من عام 92 حت 94 ، الى أن حدث خلاف بينه وبين محافظ كفر الشيخ السابق صبرى القاضى ، ليضغط على الهيئة ليصدر رئيسها السابق حسين مهران قراره المتعسف بتعيين الراحل مستشارا ثقافيا له باقليم غرب الدلتا الثقافى بداية من عام 94 حتى وافته المنية ، بعد أن شعر أن حياته انتهت بصدور هذا القرار وهو فى عز عطائه ، ورغم كل هذا لم تفكر الهيئة فى اصدار أحد دواوينه المكدسة فى الأدراج ، ولاحساسى بالظلم الفادح الواقع على الراحل ، و الذى أدين له بالكثير قمت باعداد مختارات من ستة دواوين له ، كان قد أعدها الراحل قبل رحيله ليصدرها تباعا ، وقمت بعمل دراسة وتقديم لها ، وأبحث الآن عن ناشر يتحمس لها ، لأريح ضميرى الابداعى وأزيح الستار - ولو قليلا - عن شاعر كبير لم يحظ بشهرة واسعة ، ولأنه ابن مخلص من أبناء هذا الوطن من الذين عملوا فى صمت وتفان ، رحم الله الشاعر الكبير ابراهيم غراب ، فقد كان أبا لكل شعرء وأدباء كفر الشيخ .