قصة الأنا والآخر: تأملات فى الهوية والخصوصية الثقافية
سيد الوكيل
لفهم التجربة التى تتعرض لها شعوب الشرق الأوسط تحت عنوان الحداثة ، نذكر أنفسنا بما حدث تاريخيا ًفى الغرب ، لأن تتابع الأحداث فى الشرق الأوسط ، يمكن أن نفهمه كانحراف ، وفى معيار ما تشويهاً للنموذج الغربى.
دانييل ليرنر*
1ـ حديقة الديناصورات
عندما عرض فيلم حديقة الديناصورات للمخرج الأمريكى "ستيفن سبيلبرج" ، التقط بعض المحللين "الأذكياء" مجموعة الإشارات السياسية المتضمنة ، وأولوها على نحو يتجاوز كونه مجرد فيلم من أفلام الكوارث ، إذ بدى لهم ـ على الأقل ـ أن الديناصورات هى تمثيل حيوى للكيانات الثقافية والحضارية البائدة ، والتى إذا امتلكت ولو عن طريق الخطأ ، بعض الأدوات والإمكانات التى يوفرها العلم الغربى ، يمكنها أن تحيا من جديد ، وفى تلك اللحظة سوف تتحول إلى وحش مدمر ، وتهدد الحضارة الغربية نفسها بالفناء .فى الفيلم ينجح أحد العلماء فى تخليق الديناصورات من جينات فى دم ناموسة محفوظة فى مادة بللورية منذ العصورالقديمة ، توضع الديناصورات فى حديقة للعرض كمشروع استثمارى ، غير أن بعضها يفلت من أسوار الحديقة ويهدد المدينة بالدمار .أما السبيل الأكثر أمناً الذى يطرحه الفيلم هو عزل هذه الكائنات المنقرضة فى جزيرة محاطة بالأسوار الصاعقة التى تشبه حائطاً من الصواريخ.لم يكن الاتحاد السوفيتى القديم الذى قد بدأ التداعى من تلقاء نفسه ، ضالعاً فى التفسير السياسى لحديقة الديناصورات ، فيما اتجهت الأنظار إلى التنين الصينى والخطر الكونفسيوشى الأصفر ، ولم يدر بخلد أكثر الناس تخييلاً وقتها ، أن الشرق الأوسط هو أخطر حديقة ديناصورات مزعجة ، وفى تلك الآونة ، إلتهم صدام حسين الكويت فى قضمة واحدة ، وأزعج الشارع الإسرائيلي ببعض الزئير ، مما اضطر الولايات المتحدة إلى إعادته داخل أسوار الحديقة وعزله عن العالم ، وفيما بعد ستعمل على نزع الإمكانات العلمية التى قد تمكن الديناصورات من إزعاجها مرة أخرى ،ومع ذلك ففى 11 سبتمر نجح بعض الديناصورات ـ وبإمكانيات أقل كثيراً ـ من تدمير مركز التجارة العالمى .هكذا يثار الموضوع من جديد فى صورة جدل داخل الغرب نفسه ، هل يتعين علينا التخلص من الديناصورات نهائياً ، أو قتل بعضها فى أفغانستان والعراق وخلافه؟أما النظرة الأكثر عمقاً وتاريخية فكانت ترى فى الحفاظ على حديقة الديناصورات ضرورة ، يأتى هذا الرأى فى سياق محاججات النظام العالمى الجديد ، فحدائق الديناصورات من وجهة نظر رأسمالية بحتة هى مصدر دخل ومشروع استثمارى كبير ، هذا من ناحية ، ومن الأخرى ، فإن وجود الديناصورات يحفز الشعور بالخطر داخل منظومة العمل السياسى والاجتماعى للغرب ، بل ويحفز الشعور الاستعمارى القديم ، ومن ثم ، فلا بأس من وجود بعض الديناصورات ، بل هو ضرورى .. فقط ، كيف يمكن السيطرة عليها والاستفادة منها فى نفس الوقت ؟وهكذا يحتاج الأمر إلى إعادة نظر فى سياقات العمل السياسى والاقتصادى والثقافى معاً ، بحيث تهدف إلى تحديد ماهيات جغرافية جديدة ، تبين حدود العلاقة بين الأنا والآخر / الديناصورات.أين بالضبط تبدأ حدود الأنا وتنتهى ؟ماهو الآخر ، وما هى احتمالات خطورته؟كيف يمكن التحكم والسيطرة على سلوك الديناصورات؟الإجابة عن السؤال الأول والثانى لاتتطلب ـ فقط ـ محددات جغرافية جديدة تقوم على توزيعات سياسية وثقافية لما يسمى بالشرق الأوسط الجديد ، بل تتضمن ـ أيضاً ـ تقسيم أوربا نفسها إلى قديمة وجديدة ، وهو أيضاً تقسيم سياسى وثقافى ، هنا علينا أن ننتبه ، أن العمل الثقافى سيصبح فى العالم الجديد أحد أهم الأدوات السياسية ، بحيث لم يعد من الممكن فصلهما ، لهذا فإن خريطة الشرق الأوسط الجديد ، تتضمن تنبيهات هامة عن التعليم وحقوق الإنسان ، وحرية التعبير وقضايا المرأة .أما الإجابة عن السؤال الأخير، فتقتضى تشغيل مفاهيم "السيبرنيطقيا " ونقلها من مجالات العلوم البحتة إلى فضاء سياسى وثقافى يمكن من خلاله وصفها بكونها: "1 منهج عملى للنظر فى آليات التحكم وانتقال المعلومات الديناميكية التى لها القدرة على تغييرالسلوك وتكييفه طبقاً لظروف بيئتها ونشأتها"، ويتم ذلك وفق محددات هى :1 ـ لابد وأن تتضمن بنية أى منظومة حاكمة آليات استشعار وأنشطة مقارنة وإجِراءات تصحيحية.2ـ لا يعدو التحكم عن كونه بثاً لرسائل تغير من سلوك متلقيها بفاعلية .2ـ يحدد الانحراف عن الهدف ومقداره متغيرات الحالة التى سيتم إخضاعها لعملية التحكم وقدر الإجراءات التصحيحية التى سيتم تنفيذها.ويبقى أن خريطة الشرق الأوسط الجديد هى ميدان التجربة الواضح فى مساعى التحكم التى تقوم على عمليات استخبارتية للاستشعار، وثقافية / إعلامية لبث الإشارات ، وربما عسكرية للإعادة تصحيح الهدف، إنه منهج عملى متكامل مستمد من "السيبرنيطيقيا" بوصفها أحد أهم علوم المستقبل التى تضمن التحكم فى سلوك الديناصورات الشوارد
2 ـ اكتشاف الآخر
يذهب" تزفتيان تودروف " فى كتابه " مسألة الآخر"2 ،إلى أن قصة اكتشاف الآخر بدأت متزامنة مع اكتشاف أمريكا .وليس ثمة خلاف على أن حركات الكشوف الجغرافية جسدت طموح أوربا " القديمة " لبسط هيمنة سياسية وحيازة جغرافية واسعة تدعم مشروعها الحضارى الذى كان قد بدأ للتو ، حتى يمكن القول أن حضارة أوربا مدينة فى صميمها للدول التى استعمرتها.يبدو هذا التصور راسخاً حتى فى الغرب ، لدرجة يصعب معها تخيل نهوض أوربا بدون احتلال الآخر ، وكان اكتشاف القارة الأمريكية التى نظر إليها بوصفها أرضاً بلا أصحاب ، هو أول طريق اكتشاف ألاخر ، ورمز يكرس لأن العالم خارج أوربا هو مجرد فراغ مستباح ، وهو ما يحفز الشعور بانطلاقات استعمارية أخرى لارتياد مناطق جديدة من العالم المجهول .يتضمن هذا التصور معنى بأن أمريكا هى العالم الجديد الذى يجسد الحلم الأوربى القديم بالفردوس المفقود .لكن ..هل كانت الكشوف الجغرافية ذات دوافع اقتصادية خالصة ؟ أم أن ثمة دوافع أخرى أكثر إلحاحاً وفاعلية ؟نلاحظ .. فى سياق سياسى واقتصادى انهمكت أوربا فى صراعات داخلية على حيازة الأرض الجديدة ، وفى السياق الثقافى ، كان ثمة اتفاق على شئ واحد .. إبادة كل مظهر ثقافى للسكان الأصليين فيها ، وفى ثنايا هذا الانهماك ، تعتمد أوربا تقسيم العالم إلى أنا وآخر .فى 26 ديسمبر 1492 ، يكتب " كريستوفر كولومبس " فى يومياته ما يثلج به قلب مليكيه ( فقد أعلنت لسموكما أن كل مغانم مشروعى هذا سوف تنفق على فتح القدس .. )3 .وفيما بعد فإن كل الكشوفات الجغرافية والاستعماريات ، لم تكن سوى مشاريع استثمارية لمراكمة رأس المال فى الغرب بهدف دعم المشروع الأوربى الممهور بفكرة الدين ، وما دمنا ننظر إلى الدين كمكون ثقافى عظيم ، فيمكن القول أن فكرة الحرب الثقافية كانت هاجساً ملحاً على العقلية الأوربية منذ البداية ، ولم يكن الكسب الاقتصادى سوى وسيلة لتنمية المهارات العدوانية ، وتحفيز الشعور الاستعمارى بدلاً من الحافز الدينى المباشر الذى أثبت فشله إبان الحروب الصليبية ، إن حروب أوربا الجديدة لم يعد يناسبها حشود الفلاحين والرعاه والحجاج الحفاة المغمورين بالهوس الدينى لفتح القدس .وهكذا نرى أن المشروع الحضارى الأوربى كان مفعماً منذ البداية بهلاوس دينية ، لها مقدماتها التى بلغت حد الهوس فى العصور الوسطى على نحو ما جسدته محاكم التفتيش ، ومن ثم فلا غرابة أن يتم تمثيل الآخر على نفس المستوى من الهوس الدينى ، وستعمل الاستعماريات فيما بعد على تثبيت هذه الصورة عن الآخر المهووس دينيا ، وهكذا فإن التأسيس الثقافى لثنائية الأنا والآخر هو تأسيس دينى فى صميمه ، يقول " كولمبس " فى مذكراته ( لقد قلت بالفعل أنه لايلزمنى لتنفيذ مشروع جزر الهند الغربية لاالعقل ولاعلم الرياضيات ولا خريطة العالم ، فالأمر ليس أكثر من تحقيق ما كان اشعيا يحلم به )4هكذا تتخلق منظومة التأسيس الدينى للهوية ، ويتم اختزال كل مظاهر العلم والثقافة فى معنى دينى ، وقد لاحظ " تودروف" أن كولومبس لايؤمن بالمسيحية وحسب ، بل يؤمن أيضا ـ بوجود السيكلوبات والحوريات والأمازونيات والبشر ذوى الذيول ، وإيمانه القوى إيمان القديس بطرس يسمح له من ثم أن يجدهم ، فالعالم خارج أوربا المسيحية ملئ بهم ، ونتيجة لذلك فأن " كولومبس" يعبر عن دهشته بوجود بشر فى البلاد التى اكتشفها ، لينظر إليهم كمجرد كائنالت من تلك التى خلق الله فى الطبيعة ، فعندما أرسل لـ "سانتا نجيل" يخبره عن سير العمليات قال :" حتى الآن سارت الأمور بالنسبة لنا من حسن إلى أحسن ، وذلك من حيث أنه اكتشف الكثير من الأراضى ، والغابات ، والنبات ، والثمار ، والأزهار ، وكذلك البشر .."5إن الصيغة تعكس رغبة كولومبس فى نفى الآخر ، لهذا اعتبرهم جزءً من المشهد الطبيعى للأرض ، فشأن البشر هنا شأن الشجر والثمار ، وعلى هذا الأساس من التكوين الدينى للذات لايستطيع " كولومبس " تصور وجود بشر خارجها ، ونتيجة لهذا فإن المجازرالأولى التى ارتكبها الأسبان لم يكن لها مبرر عسكرى على الإطلاق ، ولا تعبرعن شئ سوى عن صدمتهم بوجود بشر ومن ثم نفيهم بإحالتهم إلى جزء من المشهد الطبيعى ، فثمة واقعة مثبتة فى مذكرات "كولومبس" نفسه ، ففى الأيام الأولى ، جلس الجنود الأسبان يستريحون بجوارجدول ماء ، وتصادف أن صخوره كانت جرانيتية تصلح لشحذ السيوف فشحذ الجنود سيوفهم ، وبعد أن تحركوا مروا بمجموعة من السكان يجلسون أمام أكواخهم يتأملون الموكب فى دهشة ، عندما فكر أحد الجنود فى التأكد من أن سيفه قد شحذ جيداً فأطاح برأس أحد السكان ، وهكذا انهمك الجنود فى التأكد من أن سيوفهم قد شحذت جيداً .غير أن النظرة إلى الآخر كمفهوم ثقافى مؤسس على الدين مرت بعدة مراحل ، ففى عام "1537 "ولد "سان دييجو دوران" فى اسبانيا ثم انتقل إلى أمريكا صبياً مع أسرته ، وهناك تمكن من مراقبة السكان الأصليين عن كثب ، أنشتطهم واحتفالاتهم وأغانيهم وربما كل ما يتعلق بممارسات الحياة اليومية وضعه دوران تحت الملاحظة ، وخرج بنتيجة .. إن كل هذه المظاهر الثقافية ليست سوى طقوس دينية وثنية ، كان "دوران " مسيحياً راديكاليا من أصول يهودية ، فلم يتمكن من فصل الثقافة عن الدين ، ومن ثم انهمك فى تدمير كل مظهر ثقافى هندى ، فهدم الحمامات ونزع الريش من فوق الرؤوس وشوه ألأغانى وحظرها، وطمس النقوش والرسوم التى لها علاقة بالهنود الحمر..وهكذا كان الخلط الفادح بين مظاهر الثقافة اليومية والدين ضالعاً فى تحديد هوية الآخر ، التى هى فى نفس الوقت تمثيل لهوية الأنا ، وما من شك أن الاستعمار عمل على تصدير هذا الخلط وتأكيدة فى المجتمعات التى استعمرها ، فقد لاحظ " جان فرنسوا بايار "6 أنه فى بلدان أفريقيا وأسيا المستعمرة ، يتوافق تجميد الثقافة التقليدية فى ظل الاحتلال الأوربى لتتحول العادات إلى طقوس لها شكل الدين.كما يلاحظ " برهان غليون "7 أنه فى واقعنا العربى ، ثمة خلط بين المسائل الفكرية والتاريخية والثقافية والدينية ، ومطابقتها الواحدة بالأخرى ، حتى لايمكننا مناقشة أى مشكلة علمية بدون الكلام عن الدين .فعلى سبيل المثال ، يستهلك الخطاب الدينى جزءاً كبيراً من طاقتنا فى مواجهة مشكلة مرض انعدام المناعة " الإيدز " ، ويتوجه الخطاب الإعلامى للدولة إلى ترديد الآيات والأحاديث التى تحض على الفضيلة ، بدلاً من التركيز على برامج البحث العلمى فى مواجهة المشكلة ، ويصدر هذا إحساساً بأن الدين يقوم بدور بديل للعلم ، وهكذا يحدث نوع من الاقتناع الشعبى العام بأن الدين وحده كاف لحل كل مشكلة مهما كانت طبيعتها ، وفى المقابل ، فغياب الدين عن الآخرين " الكافرين " يذكى فينا رزيلة الاطمئنان بأننا الأفضل مادمنا نتمسك بالدين ، ومن ثم لاينزعج أحد من أن آخر تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن معدلات انتشار مرض الأيدز فى الشرق الأوسط تتزايد باطراد أكبر من الدول الأفريقية التى تحظى بأكبر نسبة من المصابين بالمرض
3ـ تهجين الثقافة
على أى حال كان "دوران" قد فتح باباً نحو أهمية معرفة الآخر عبر مظاهر ثقافته اليومية ، غير أن هذه النظرة الغنوصية التى رهنت جهود دوران فى فهم الآخر بالقياس إلى" الأنا" التى ترتكز بدورها على أساس دينى ، كانت محل مراجعة عند شاب أسبانى آخر هو " بيرناردينو دى ساهاجون "8 ، لم يكن رجل دين كسلفه "دوران" بل كان عالما لغويا ، يمتلك عقلية علمية شابة مع نهاية القرن الخامس عشر ومشارف عصر الأنوار الأوربى ، ، تعمق " ساهاجون " فى دراسة اللغة الناهوالتية ، وفى نفس الوقت حرص على تدريس اللغة اللاتينية لمجموعة من الشباب المكسيكيين الذين اصبحوا فيما بعد نخبة ثقافية فى مجتمعهم ، لقد راهن " ساهاجون " على تهجين ثقافى أساسه اللغة وترك للمبشرين مهمتهم الدينية وكأنما يفصل بينهما على نحو مباشر، واختار طريق الأمانة التامة والموضوعية فى ترجمة ثقافة المكسيكيين إلى اللاتينية ، وفيما بعد قامت هذه النخبة بحلحلة لايستهان بها فى ثقافة مجتمعاتهم ، وخلقت وضعاً مشابها لما خلقته النخبة المتعلمة فى مصر مع بداية التحديث التى تمثلت فى الأرساليات والبعثات التى أوفدها محمد على إلى أوربا وباركها الاستعمار .لقد بنى "ساهاجون" تصوره على أن الدين ليس عقبة فى سبيل تطور المجتمعات إذا ترك وشانه ، لهذا لم يطلب من المكسكيين التخلى عن ديانتهم أو ثقافتهم التقليدية ، وأدى هذا إلى تسارع فى عمليات التنمية الثقافية على أساس من خلق واقع ثقافى تداولى مهجن ، ولكنه فى نفس الوقت نقل مجموعة من المفاهيم الثقافية الكبرى إلى داخل هذه المجتمعات المستعمرة.إنها مركزية المعرفة التى قامت عليها أوربا الحديثة بامتياز، وجزء من مهمتها المقدسة هو تنوير الجزء المظلم من العالم ، ومن ثم فلا عجب ، أنه بعد كل جهود التحديث فى مصر، تبدأ النخبة المثقفة ألتى تأسست على المعرفة الغربية فى السعى وراء مفاهيم ثقافية كبرى تأتى على رأسها "الهوية " ، ومازالت فلول التنويريين ينظرون وراءهم بأسى على تلك الأيام التى كانت تثار فيها قضايا خلافية عظمى عن الأصالة والمعاصرة ، استهلكت قدراً كبيراً من طاقتنا الثقافية دون أن تحسم .والواقع أن القضية برمتها مستنسخة من التجربة الأوربية كرد فعل لها دون مراعاة لفروق التوقيت والمكان ، وهنا تكمن مفارقة ساخرة ، إننا كنا نبحث عن هويتنا التى تميزنا عن الغرب ، بنفس المنهج الذى ميز الغرب به نفسه ، وهكذا يوضع العلم ـ لأول مرة فى ثقافتنا العربية ـ فى مواجهة مع الدين فى وقت كانت فيه كلمة "عالم" تعنى فى الثقافة الشعبية" رجل دين" ، لكن ثقافة النخبة ارتأت أن جزءً من مهمتها المقدسة هو الفصل فى صيغ أيديولوجية واضحة بين الأصالة التى أخذت معنى دينيا ماضويا ، وبين المعاصرة التى زينت صدرها بشعارات علمانية وهكذا انطوت فكرة الهوية عندنا ـ منذ البداية ـ على إشكالية معضلة ، ونتيجة لهذا الصدام بدا أن عمليات التهجين الثقافى هى الحل الأنسب للحفاظ على وحدة الأمة ومن ثم تصور محدد للهوية ، غير أن التهجين لم يتم فى سياق تفاعل ثقافى طبيعى يعكس حاجات الشعوب على نحو ما كان يحدث دائما عبر التاريخ ، هكذا ظلت النار تضطرم تحت الرماد.وفى جميع الأحوال كانت تجربة " ساهاجون" فى تهجين الثقافة تصويراً أمينا لأوربا الحديثة ومشكلاتها الداخلية، حيث كانت رياح التغيير قد بدأت تجتاح أوربا من الداخل ، وتحولت فى اتجاهين ، اتجاه الإصلاح الدينى الذى انتهى بفصل الدين عن الدولة ، واتجاه أدى إلى بزوغ العقل العلمى، الذى تمثل فى استنباط مناهج بحثية جديدة تقوم على الموضوعية والتجريب ، وتسمح بعزل مجالات المعرفة بعضها عن بعض ، وأصبح استخدام العقل العلمى شرطاً ومعياراً جديداً لرسم هوية " الأنا " ومن ثم تحديد ماهية الآخر بدرجات الاقتراب والابتعاد منه على نحو ما يقول رينيه ديكارت نفسه " إن أنصاف الهمج بدءوا فى التصرف على نحو عقلانى عندما سنوا الشرائع والقوانين لتنظيم الجرائم والمشاحنات وأصبحوا عند هذا الحد "متحضرين " أو بعبارة أخرى ، فإن استخدام العقل عملية تحضر ، وأكد بعد ذلك أن المجتمعات المتحضرة أو الحديثة ، تميزت بأنها منظمة عقلانياً ومتفوقة على أسلافها ومعاصريها الأدنى عقلانية ، إذا استخدم أبناء المجتمعات المتحضرة العقل هاديا للتغيير والتقدم على عكس البرابرة والمتوحشين فى مجتمعاتهم السكونية المتخلفة "9
4ـ مركزية اللوجو
سيدشن كلام ديكارت لمعيار جديد يمكن من خلاله قياس المسافة بين الأنا والآخر ، وتهيئة لهوية أوربية بديلة عن الدين ألا وهى العقل ومرادفاته " المعرفة ـ العلم " وهذا ما لاحظة " إدوارد سعيد " فى الاستشراق عندما سعى إلى تحليل العلاقة بين القوة والمعرفة، لقد أصبح إنتاج المعرفة رهناً بالمركزية الأوربية التى كانت فى تلك الأثناء تمتلك القوة وتستعمر العالم بالفعل ، وتحول كل موارده إلى المشروع العلمى باهظ التكاليف .والحقيقة أن انتصار العقل العلمى على نحو ما دشنه ديكارت لم يسهم فى تطوير العلاقة بين الأنا والآخر على نحو تفاعلى وديناميكى ، بل على العكس كان تكريساً لسكونية واتساع فى المسافة الفاصلة بينهما ، فقد رفض الغرب الاعتراف بأى أنماط معرفية أخرى تختلف مع تصوراته ، ونظر إليها بوصفها جزءاً من الماضى الذى ينبغى تركه فى الوراء ، أو التحفظ عليه فى متاحف الأنثربولوجيا ، فعلى سبيل المثال نظر إلى الطب الشعبى الذى كان قد حقق إنجازاته فى تاريخ الشرق " الصين ـ الهند" بوصفه نوعاً من خرافات الماضى ، وقد عبر يحيى حقى فى روايته قنديل أم هاشم عن هذا الأمر ، عندما انتقل الصراع داخل المجتمعات المستعمرة ، وبدا فى صورة كراهة واحتقار لمعارفها القديمة .ومن الطريف أن القفز فوق منجز معارف الشرق وتجاهلها قام على قدم وساق ، فى حين انمهكت الحداثة الأوربية فى استكناه روحها من الكلاسيكيات اليونانية والرومانية التى اعتبرت نموذجاً ومقياساً لحضارات العالم القديم التى يمكن اعتمادها منطلقاً للحداثة ، ومن ثم فالنهضة الأوربية كانت فى صميمها تمثيلاً للكلاسيكيات المعرفية التى يمكن العثور فيها على جذور المشكلة الأولى فى العلاقة بين الأنا والآخر.تذكرنا كلمات ديكارت عن أنصاف الهمج والمتوحشين والمتخلفين بالأفكار القديمة عن الشعوب غير المتحضرة التى لا تمتلك المعرفة وفقاً للمواصفات الأوربية ، والتى تنسجم فى نفس الوقت مع أفكار الكتاب المقدس والكتّاب الكلاسيكيين من أمثال أرسطو الذين كتبوا عن الطبيعة والإنسان والمعرفة، وصاغوا استعارات مثل " البرابرة أو الفراديس أو الأطلال أو البرارى والتى لاتزال تستثير صوراً قوية للإيحاء حتى يومنا هذا ، وعندما استعاد المفكرون ( فى أوربا الحديثة ) هذه المصادر وبعثوا فيها الحياة اعترفوا بمكانتها المرجعية كسلطة فكرية وترجموها إلى اللغات الدارجة بين شعوب أوربا الغربية " ليسهل تداولها" ، وأكدوا أن الكتاب المقدس والكتّاب الكلاسيكيين سيواصلون دورهم المهيمن فى مجال الحوارات الفكرية والأخلاقية والاجتماعية عن السياسة الدائرة اليوم "10ويمكن ملاحظة أن مثل هذه الأفكار عن الآخر تبدو كميراث ثقافى يتناقل ، فكلمات كولومبس عن السيكلوبات والأمازونيات فى الأراضى الجديدة مستعارة من الأساطير اليونانية ومتداخلة فى سياق ثقافته الدينية ، وبنفس الطريقة تتداخل المعرفة اليونانية مع صورة العقل العلمى التى يقترحها ديكارت.وهكذا تبعث الأفكار القديمة ، وتستخدم كمرجعيات تندثر بالعلمية ، لتؤكد نفس المرجعيات / الأيديولوجية ، وأصبحت مثل هذه المرجعيات هى دعامة يرتكز عليها أنصار ونقاد الحضارة على السواء ، ومن ثم فأفكار الحداثة الغربية أسست مفهومها عن الآخر على مجموعة من الصورة والاستعارات التى وجدوها فى كتابات الرموز اليونانية والرومانية ، وقد وجدوا فى الأفكار التى قدمها "سيشيرون" الخطيب الرومانى الشهير ــ عن السكان الأصليين للبلاد التى أخضعتها الإمبراطورية الرومانية نموذجا رائعا لوصف الشعوب التى مازالت تحت طائلة الاستعمار الغربى ، يقول " توماس باترسون " عن "سيشيرون" ( ورأى أن هؤلاء البرابرة من السكان الأصليين يقودهم الغضب اللاعقلاني ، والنزوة وخداع النفس ، لقد كانوا إما عاجزين أو عازفين عن الخضوع للقانون المدني والطبيعي أو للأخلاقيات الحميدة أو لحكم العقل ) 11وما من شك أن الدراسات التاريخية التى قام بها باحثون غربيون عن الشرق احتشدت بمثل هذه الأفكار حتى الأكثر حداثة منها ، ومع ذلك فإن الملاحظات الأكثر اعتدالاً أشارت إلى سوابق حضارية تميز بها الشرق فى زمن ما ، غير أنها الآن باتت من قبيل الأطلال على نحو ما يلاحظ إدوارد سعيد فى (تعقيبات على الاستشراق) ، يقول :(( ومنذ نهاية القرن الثامن عشر ، حين اكتشفت أوربا الشرق فى سياق عصره ومسافته وتراثه ، تحول تاريخه إلى أمثولة عن القدم والأصالة ، وهما الوظيفتان اللتان شدتا مصالح أوربا فى أفعال الاعتراف والإقرار ، واللتان ابتعدت عنهما أوربا حين لاح أن تطورها الخاص الصناعى والاقتصادى والثقافى يستوجب إبقاء الشرق بعيداً وراء ظهرها ، وتاريخ الشرق ــ عند هيجل وعند ماركس ثم فيما بعد عند بوركارت ونيتشه وشبنجلر وسواهم من فلاسفة التاريخ الأساسيين ، كان مفيداً فى تصوير منطقة شهدت عصراً عظيما يقتضى الحال وضعه اليوم وراء الظهر) .12لقد راكمت الحداثة الغربية تصوراتها عن الشرق على نحو يفصل بين ماضيه وحاضره ، وأوجدت هذا الفصل الحاد والازدواجية التى مازالت تؤرقنا بين أصالة ماض مجيد ، وتهرؤ حاضر قدرى ، ومن ثم تخلق مسافة جديدة بين ( الآخر ــ الآخر ) ، وهى مسافة نفسية وتاريخية يصعب رتقها ، وتشغلنا عن المسافة التى فرضها علينا الغرب بيننا وبينه ، ومنذ تلك اللحظة فإن المشهد الثقافى العربى مازال منقسما بين نخبة ارتأت الماضى أطلالاً لم تعد صالحة لبناء حاضر جديد عليه ، وأخرى ارتأت الماضى عظيماً وأصيلا ينبعى استعادته ، وهكذا يتمحور خطابنا الثقافى حول الماضى رفضاً وقبولاً .والحقيقة أن كل من الموقفين يشوبه كثير من الارتباك التطبيقى ، وكلاهما ــ أيضا ــ يتأسس على مركزية دينية كتلك التى خاضتها أوربا ، فإنجاز الحضارة فى وجهتى النظر يقاس بدرجات الاقتراب والابتعاد عن الدين ، ففى حين يتأسس الموقف الأول على مفهوم علمانى يطالب بفصل الدين عن الدولة كشرط لأي تقدم مستفيدا من التجربة الأوربية الحديثة ، يتأسس الموقف الثانى ــ بالعكس ــ على مفهوم أصولي يرتد إلى الماضي بحثاً عن الجذور الثقافية العربية فى الدين .انه تمثيل مواز لرحلة النهضة الأوربية ( الإحياء والبعث )، وهنا يبرز موضوع الهوية لدعم الموقف الأصولي على أساس دينى ، فى حين يظل موضوع الهوية مرتبكا فى الموقف العلمانى لأنه يتأسس على قوالب أيديولوجية مضببة تجد إطارها المرجعى والاجتماعى والتاريخى فى واقع غير الواقع العربى ، وفى المقابل فان الموقف الأصولي لايمكنه هو ـ أيضاً ـ تحديد أفق مستقبلى لموضوع الهوية ، إذ تظل فكرة الهوية مرتبطة قسرا بالماضى ومن ثم يظل الخطاب العربى المعاصر هو خطاب الذاكرة لاخطاب العقل على نحو ما يرى محمد عبد الجابرى فى ( الخطاب العربى المعاصر ) .والحقيقة أن خطاب العقل ــ أيضاً ــ يتعرض لنقد بالغ القسوة ، توجه أساسا فى نقد الحداثة الغربية المجحفة ، وفشل قيم عصر الأنوار فى تسحين واقع الإنسان على نحو ما زعمت ، والتى انتهت ـ على العكس ـ إلى واقع مادى عنيف مطرز بقيم مريضة تعمل على تشيc الإنسان وتشظيه وتعميق اغترابه.ويرتكز نقد الحداثة على مجموعة المبالغات المنهجية التى جعلت من العقل مقياسا لكل شئ وانتهى بمركزية بديلة وجعلت منه سلطة لاتقل عسفاً عن سلطة الدين ، ولقد جسدت اتجاهات النقد الثقافى للأدب مشروع نقد الحداثة ، وهاجمت أصولياته حينما تكشف عن الأصداء الثقافية المتجاوبة والمتعددة فى نصوص الأدب ، وتحتفى ـ فى نفس الوقت ـ بالخصوصيات الثقافية ، ومن ناحية أخرى تخلخل مركزية المعرفة الأوربية .فعلى سبيل المثال ، نجحت بعض الناقدات النسويات فى الكشف عن أن جذور العنصرية فى العلاقة بين الرجل والمرأة نبتت فى تلافيف الصلف العقلى للحضارة اليونانية واعتبرتها حضارة ذكورية قلباً وقالباً ، واتخذت من أسطورة الأمازونيات" ـ اللاتى اعتبرهن كولومبس من جنس الآخر الهمجى ـ دليل إدانة لحضارة الغرب ، فالأمازونيات هن أول نساء ثائرات على مركزية اللوجوس الذكورى / القضيب ، وفى نفس الوقت عملت هذه الدراسات فى اتجاه الكشف عن بنى أكثر ديموقراطية فى العلاقة بين الرجل والمرأة فى الثقافات الشرقية التى قامت على الزراعة ـ وادى النيل و دجلة والفرات ـ التى أجهضهتا حروب الإسكندر وقياصرة روما فيما بعدوعموما ، فإن الدراسات الحديثة فى النقد الثقافى أعادت طرح موضوع العلاقة بين الأنا والآخر من وجهة نظر ثقافية تخلص ـ تقريباً من المؤثر الدينى الذى تأسس علية فى الفكر الأمبراطورى الأوربى ، وهكذا يتسع مفهوم الآخر فى الدراسات الثقافية الحديثة ليشمل جميع الفئات والطبقات المهمشة والأقليات ، ويصبح الموضوع النسوى أساسياً فيه حيث اتخذت العلاقة لنفسها مرادفات عديدة منها ( المركز والهامش ، العقل والحدس ، الرجل والمرأة ) . بحيث ينتهى الأنا إلى معادل لكل سلطة تمثلها الأيديولوجيات وسياسات الهيمنة.5ـ مابعد الهويةوتبرز هذه الدراسات على نحو أكثر تفاؤلاً فى اتجاهات ثقافية تراهن على نحو ما يقول عيد على بلبع ( على إمكانية قيام منهج تفاعلى قادر على إنتاج المعرفة عبر التلاقح مع الآخر بوصفه رافداً من روافد الأنا لا يلغيه ولا يلغى فيه إذ تحتفظ الذات بملامحها الخاصة ولا يكون ذلك بدافع قصدى للمحافظة على الهوية) 13، ومن ثم تصبح الهوية موضوعا خارج الخدمة إذا ما أردنا حل إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر .وفى جميع الأحوال ، فالهوية تظل أكثر المصطلحات العصرية ترددا فى أواسط المثقفين ، حيث تبدو فى تحليلها ليل غامض أو كائن خرافى ، فللهوية مقدمات متعددة ومعقدة منها العرقية واللغوية والتاريخية والدينية ، وهى مفردات لا يمكن الفصل بينها على نحو حاسم ، كما أن الجمع بينها يجسد ارتباكا فى مفهوم الهوية يظهر ـ مثلاً ـ فى اختبار حيازته ، فهل للهوية حيازة جغرافية أم ثقافية ؟ وأين تبدأ وأين تنتهى حدود الحيازة الجغرافية بالضبط ؟ فأى حيازة جغرافية تتضمن فى الواقع ثقافات صغرى ومتعددة داخل الإطار العام للهوية تطمح هى الأخرى لأن تكون هويتها ، ومن ثم فإن بدايات الاصطدام بالآخر كامنة على نحو موغل فى فكرة الهوية ، حتى فى النظم العلمانية التى تقوم على مفاهيم أكثر حداثة فى تشكيل مجتمعاتها وفق قيم التعددية كفرنسا ، فان رغبة الفتيات المسلمات فى ارتداء الحجاب داخل المدارس تتحول إلى أزمة ثقافية تجسد ارتباك العلاقة بين الأنا والآخر فى إطار فكرة الهوية .يحدث هذا ، فى حين يتم تمرير قيم ثقافية أخرى داخل المجتمعات الغربية من غير ن تصطدم بها ، فمن المعروف أن زنوج أمريكا أمكنهم تغيير الزائقة الموسيقية للمجتمع الأمريكى ، والواقع أن الزنوج لم يحصلوا على حريتهم بفضل حروب لنكولن ولا دفاعات مارتن لوثر القانونية وحدهما بقدر ما حصلوا عليها بهتافات البيض لهم فى ملاعب كرة السلة والبيسبول وفوق حلبات الملاكمة ، وليس من المبالغة أن الزنوج يقودون ــ الآن ــ ثورة ثقافية تجتاح العالم عبر موسيقى الراب وأغانى الفيديو كليب ولا داعى للانزعاج من استخدامl كلمة "ثقافية" هنا لأن الثقافة ليست بالضرورة هى المعارف الأصيلة التى طالما اعتبرناها سامية ، بمعنى أنه يمكن النظر إلى رقصات النجر وموسيقى الراب كتعبيرات إنسانية لاتقل قيمة من ناحية تأثيرها عن باليه بحيرة البجع الذى احتل مكانة متميزة فى التعبير الكلاسيكى الرفيع عن الثقافة .المعنى .. أن ماهو ثقافة وما هو رفيع يخضع الآن لتغيرات ومراجعات واسعة بفضل ميديا الاتصال ووسائط نقل المعلومات الجديدة ، وفى هذا الصدد يجب ألا نصاب ، نحن المثقفين الراديكاليين بالدهشة حين نشاهد أحد الشباب على شاشة التلفزيون يعلق على" الجيوكاندا" التى أقامت عدداً من حروب أوربا بأنها أسخف لوحة رآها فى حياته .سيقول بعضنا أن الشباب اليوم يفقدون القدرة على تذوق الثقافة الرفيعة دون أن يحددوا لنا بالضبط ماهو معيار الرفعة ؟، ومن أى ثقافة مستمد ؟إن تأييد مفهوم للثقافة هو سلوك غير ثقافى على الإطلاق وليس ثمة شئ أكثر رغبة فى تأبيد الثقافة من الهوية ، لأن الواقع الذى نحياه يؤكد على أن ثمة خيارات ثقافية جديدة يمكنها أن تتجاوز ببساطة حدود الهويات التقليدية، بمعنى أنها أكثر قابلية للتداول ، وهى فى مجملها ثقافات تتشكل فى مجالات غير تقليدية كالسينما والرياضة وعروض الأزياء والصناعات الترفهية والسياحة والإعلانات أو مانسميه إجمالاً ثقافة عصر الصورة ، بما يعنى أن الثقافة تشهد تحولاً مثيراً عن الأصول الفكرية والعقائدية وتفارق متون الكتب ، إن عصر الصورة ـ ليس فقط ـ يطرح علينا أنماطاً جديدة من الثقافة ، ولكنه ـ أيضاً ـ سيغير من مفهومنا لما هو ثقافة بحيث يحتل لاعب كرة القدم " زين الدين زيدان " أهمية فى ثقافة العالم أكبر مئات المرات من تلك التى احتلها جده " ابن خلدون " بمعنى أن العالم يبدأ تاريخاً جديداً للتعاطى الثقافى يقوم على قيم صغرى تنتج داخل الحياة اليومية وتستهلك فيها وتعبر عن استجابات مباشرة للمجتمعات وتجد نفسها فى مجالات الإبداع الحى والفاعل بين الأفراد على اختلاف مستوياتها ، إنها ثقافة مابعد الكوليونالية التى تعكس تفكك مركزية خطاب العقل الغربى والتقاليد العظمى للحداثة والتى تأسست بدورها على الاستعماريات وانتجت هويته من خلالها.وينظر كثير من الباحثين إلى أن عمليات خلخلة مركزية العقل والعلم الغربى وتعرية التراث السلطوى الأمبراطورى والذكورى للعالم على إنها معركة العالم ثالثيين التى يخوضها مثقفون عالميون ومن أصول غير أوربية من أمثال إدوارد سعيد وطارق على وآخرين ، وقد حققوا فيها نجاحات مدهشة فى سياقات مدنية وأكاديمية غير مؤسسية، غير أن هذا الوضع يتطلب ـ كما يطالب ـ بطرح موضوع الهوية برمته كتراث استعماري بغيض ينبغى التخلص منه.جزء كبير من جهود " العالم ثالثيون" موجهة فى نفس الوقت إلى الداخل ، حيث ينظرون إلى ثقافة العالم الثالث على أنها تنزع إلى النقل والنسخ والتواصل ، وتنظر بتخوف إلى القطع والتفكيك حتى صارت مثل هذه الكلمات ـ سيئة السمعة والحظ معاً ـ تصيبنا بالرعب والخوف من فقدان الهوية ، دون أن ننتبه إلى أن فكرة الهوية فى حد ذاتها هى اختراع ولد وتربى فى ظل قيم استعمارية ، ومن ثم فإن خطابهم لايلقى ترحيباً فى مجتمعاتهم الأصلية ويواجه بنقد كبير.6ـ من الاستشراق إلى الأنثريولوجياوالحقيقة أن كثيراً مما نعتبرة فى صميم الهوية جاء عبر تمثيلات راكمها الغرب فى المرحلة الاستعمارية ، وهنا تبرز جهود الاستشراق فى رسم صورة الشرق العظيم باعتباره أطلال العوالم القديمة والساحرة كألف ليلة وليلة ، وصورة الإسلام ـ نفسها ـ تختزل فى مجموعة التمثيلات الغربية ، وهذه هى الإشكالية الأكبر فى الاستشراق ـ كما يلاحظ إدوارد سعيد ـ إن غرور العقل الأوربى نظر إلى الشرقيين على أنهم " عاجزون عن تمثيل أنفسهم ، ويتوجب بالتالى تمثيلهم من قبل آخرين ، يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرف الإسلام عن نفسه" 14وفى هذا الاتجاه نلاحظ ـ مثلاً ـ أن كتاب " وصف مصر" بطبعته الفاخرة وسموقه العلمى الذى احتشد له المئات من العلماء والعسكريين ، يبدو كتمثيل للقوة الإمبريالية ، ولهذا فإن مؤرخى وعلماء الحملة يتجاهلون الإشارات المرجعية إلى تاريخ الجبرتى الذى يعجز عن تمثيل نفسه.مثل هذه التمثيلات الاستعمارية عن الشرق كانت سبباً فى هجوم وجه إلى الاستشراق الذى ظل يتمسك بخرافة كبرى حول الثقافة الشرقية باعتبارها ثقافة التطور الموقوف ، فى مقابل الغرب المهووس بكل جديد ، ويعنى هذا أن أفق المستقبل مفتوح فقط للغرب فقط.علينا ملاحظة، أن الاستشراق منذ وصف مصر سار مرادفاً للأنثربولوجيا، ففى حين يركز الاستشراق على الثقافة الرسمية المدونة ، فإن الأنثربولوجيين بذلوا جهوداً مشابهة فى مجالات الثقافة الشعبية والشفهية ، وإذا كان الاستشراق قد أسهم بشكل سافر فى رسم هوية ما ضوية ، فإن الأنثربولوجيين أسهموا بنفس القدر فى التأكيد على خصوصيات ثقافية قصد لها أن تكون تمثيلاً للماضى ، وتمتد للحاضر لتدعم من جديد فكرة التطور الموقوف ، غير أن الأنثربولوجيا تميز نفسها بطابع احتفالى جزل يحتفى بالآخر لا كذات مفردة وناضجة ولكن كتعبير عن طفولة ثقافية صارت نادرة وينبغى الحفاظ عليها ووضعها فى محميات ثقافية ، وهكذا يماثل موضوع الأنثربولوجيا فى قيمته زوجاً نادراً من حيوان الباندا .إن هذا الموقف الاحتفالى بالأنثروبولوجيا يبدو هينا بالقياس إلى موقف آخر له أهميته فى عصر المعلومات ، حيث تتسع رقعة المصالح الاستعمارية لتصبح كونية سواء فى تحديداتها المكانية والزمانية ، ومن ثم تنطلق جيوش من الباحثين والمحللين الناشطين سياسياً وعسكرياً وأيديولوجياً ، ولننظر إلى هذا التصريح الذى أورده إدوارد سعيد " واجهت دائرة الدفاع "dod” فى السنوات الأخيرة جملة مشاكل تتطلب دعم العلوم السلوكية والاجتماعية ..مضى زمن الاكتفاء بالقوات المسلحة لخوض الحروب ، مهامنا الآن تتضمن التهدئة ومد يد العون وخوض " معركة الأفكار " وما إلى ذلك ، جميع هذه المهام تقتضى فهم سكان المدن والأرياف الذين تحتك بهم قواتنا المسلحة ، سواء فى النشاطات السلمية الجديدة أم فى القتال ، ذلك لأننا فى العديد من البلدان وعلى امتداد العالم ، نحتاج إلى مزيد من المعرفة حول عقائدهم وقيمهم ودوافعهم وحول منظماتهم السياسية والدينية والاقتصادية، ومختلف التبدلات والتجديدات التى تطرأ على أنساقهم الاجتماعية والثقافية"15وبغض النظر عن الطرق التى يستفيد بها الغرب لتثبيت صورة الآخر عبر وضعه فى سياقات تقليدية لها صيغة الماضى لتحظى ببعض القداسة ، فإن أية مراجعة حقيقة لها تكشف ما تنطوى عليه ـ كثير مما نعتبره تقاليد ـ من خداع.يلاحظ جان فرنسوا بايار " فى أوهام الهوية " أن ما نسميه تقاليد ليس سوى اختراع للحداثة الأوربية ومجرد رد فعل لها بقصد إعادة الاستخدام العملى وغير الواعى لشذرات استيهامية من الماضى لصالح الحداثة السياسية " 16، فالتقاليد تبدو تقاليد بالنسبة لنخبة الحداثيين التى لاتمارسها وينظرون إليها باحتفاء شديد يؤكد هويتهم الحديثة ، أما بالنسبة للذين يمارسونها فهم لاينتبهون إلى كونها قيما متحفية ، أنهم يفعلون هكذا أشياء ليس لكونها تقاليد ، فقط لكونها استجابة لحاجات يومية تناسب ظروفهم الاقتصادية والثفافية والسياسية ، ومن ثم فهم مستعدون للتخلى عنها واستبدالها إذا ما تغيرت هذه الظروف ." إن ما نسميه تقاليد كانت عملية ثقافية متحركة ومتواصلة وقد جمدها الاستعمار ، وبوسعنا أن نوضح أن ما هو تقليدى ليس ذلك الذى نعتقده ، ففى أفريقيا الموغلة فى القدم ، كانت التقاليد عمليات تطورية تؤمن تواصلاً متحركاً وقد جمدها الاستعمار فى تقاليد وفولكلور بتأثيره الأيديولوجى ونصوصه القانونية ".17والحقيقة أن كثيراً مما نظنه تقاليد ليس موغلاً فى القدم على نحو ما نظن ، وهو وافد فى أحيان كثيرة على مجتمعات استطاعت استيعابه ودمجه فى ثقافتها بما يعنى أن هذه المجتمعات لم تكن جامدة ، وهناك وفرة من الكتب التالريخية تثبت أن المجتمعات السابقة على الاستعمار كانت ـ كلها تقريباً ـ متعددة الإثنيات وتضم تشكيلة كبيرة من المجموعات الثقافية .فحتى قبل الحملة الفرنسية على مصر ، كانت الإثنيات تتعايش فى مناخ ثقافى شديد التنوع ، لكن الاستعمار عمل على تقسيم المدن إلى أحياء ومقاطعات تقوم على أساس عرقى أو دينى ، وكذلك تثبيت الأهالى فى أماكنهم أو توجيه هجراتهم بما يتفق مع ثقافة الاستعمار الذى سن من القوانين والتقاليد الملزمة لتثبيت هذه التقسيمات ، وحرصت فى المقابل على تأكيد الخصوصيات الثقافية لها.فمن المعروف أن اللورد كرومر أصدر تعليمات للمصالح الحكومية أن تمايز بين المواطنين فى التعامل على أساس من الزى الذى يرتدونه ، فلم يكن مسموحاً لذى الجلباب أن يجلس فى مكان فيه من يرتدى البدلة الأفرنجية ، ومن المعروف أيضاً ، أن الاستعمار التركى كان يمايز بين النساء التركيات وغيرهن على أساس من ارتداء النقاب ، غير أن النقاب فيما بعد أصبح تقليداً دينيا بعد أن تحول إلى رمز على الحرائر من النساء.وهنا ينبغى ملاحظة أن عمليات اختراع التقاليد أو إزاحتها تنشأ عبر ظروف متعددة منها ماهو داخل الهوية الواحدة نفسها ولاتعكس بالضرورة إرادات ثقافية أعلى ، فمن ذلك مثلاً أن كثيراً من المصريين ، وبعد احتكاكهم المباشر بالثقافات الخليجية خلال فترة الانفتاح ولظروف الاحتياج الاقتصادى استحدثوا تقاليد جديدة وغيروا من تقاليد عاشت بينهم طويلاً ، منها مثلاً أن الكثيرين يستبدلون احتفالية سبوع المولود بسنة بالعقيقة ، والطريف أن هذا التقليد يتزايد داخل الطبقة التى تتعايش على دخول اقتصادية أعلى بما يعنى أن التقاليد ليست بالضرورة مرادفاً للخصوصية الثقافية وليست معادلاً للذات المجتمعية، كما أنها يمكن أن تنشأ فى سياقات اقتصادية أو سياسية مرحلية وربما عابرة ، فمثلاً يصبح شرب الشاى الأخضر تقليداً شعبياً فى المغرب ، مع أن المغرب لم يعرف الشاى إلاً مع الاستعمار الفرنسى .ويعنى هذا أن رهانات الخصوصية الثقافية من مجموعة القيم والعادات والتقاليد ليست بالضرورة تمثيلاً للهوية ، فربما كانت تمثيل لذاتها أكثر ، ولكننا نخلط كثيرأ بين الهوية والخصوصية الثقافية ، وهذا الخلط يؤدى إلى تجميد التطور الثقافى حتى ليصبح التخلى عن تقليد ما بمثابة التخلى عن الهوية نفسها ومن ثم فإن الانتصار غير الواعى للخصوصية الثقافية يعوق عمليات التنمية الثقافية .7ـ العيون المغلقة تحدق باتساعهذا العنوان استعرناه من فيلم شهير لـ " ستانلى كوبريك " لننهى به كلاماً فى موضوع على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية فى نفس الوقت ، وعلينا الاعتراف رغم كل ذلك بأن كل ما تقدم ليس توطئة لمقولة نهائية وعظمى فى قصة حياة الهوية البائسة ، فلا يعنى مثلاً أرجوكم تخلوا عن هويتكم ، بقدر ما يعكس رغبتنا فى اجتراح مفهوم ثقافى ضخم بات مقدسأ وعظيما إلى حد يعقونا عن فهمه رغم قوة إيماننا به ، إنها حقاً عيون مغلقة تحدق باتساع .غير أن هذا الاجتراح أو الاجتراء إن شئنا سوء النية ، هو ضرورة تفرض نفسها علينا لأسباب عديدة أهمها أننا لسنا فى مقعد القيادة ، فإذا أردنا أن ننتقل فى اتجاهه ، فإن علينا أن نتخلى عن مقعدنا القديم ، دون أن نشعر بمخاوف من أنه سيلقى بنا خارج العربة.هذا تمثيل استعارى مؤلم ، لأن تاريخاً جديداً سوف يبدأ الآن ، وسوف يضطرنا إلى إعادة النظر فى بعض المقولات الثقافية العريقة حتى تلك التى تتمتع بالقداسة والحصانة من قبيل الهوية ، والخصوصية الثقافية .إن عصر الصورة قد بدأ للتو ، عصر التحديق بعيون مفتوحة كما يسميه " بودريار" وبدأ ت معة سياقات ومفاهيم جد مختلفة لما هو ثقافى ، فالصورة تبدأ تاريخاً جديداً للغة ، وحينما تتغير اللغة ، فإن المعانى سوف تتغير بالتأكيد ، يقول شاكر عبد الحميد فى " عصر الصورة"." يتحرك المرء من خلال الصور عبر إطار زمنى ممتد ومنفتح ، كما يمكنه أن يتحرر كذلك من القيود المكانية ، وأن يفكر ويتفاعل مع أشخاص يوجدون فى أماكن بعيدة ، كما لو كانوا موجودين أمامه الآن ، إنه هكذا يتجاهل أو بالأحرى يتجاوز العوائق الطبيعية كالحوائط والجبال ... "18فإذا كنا نتصور أن الخصوصية الثقافية تتكون عبر امتداد الماضى / الزمنى فى المكان ، فإن هذا التحرر المخيف من الزمان والمكان معاً، سوف يغير بالضرورة من طبيعتها ، وربما يهددها بالانقراض ، وعلى أقل تقدير ، فلن تجد شعباً يتحدث عن الخصوصية الثقافية بنفس الثقة التى نتحدث بها الآن ، دعونا نتخيل أن الصورة لن تبقى على شئ اسمه الماضى ، بمعنى أن إدراكنا لما هو ماض سوف يرتبك تماماً ، لأن الصورة تثبت الزمن وتستحضر الحدث الماضى كما لو كان يقع الآن ، ومن ثم فإن الماضى نفسه لن يكون موجوداً ، كما أن برامج دمج الصور يمكنها ببساطة أن تدخل حدثاً يقع الآن فى آخر انتهى ، وهكذا ترتبك أى معرفة تراهن على الزمن ، وما يحدث فى الزمن يحدث مثله فى المكان ،المسألة ببساطة أن الواقع نفسه ، وعلى نحو مانفهمه الآن سوف يتغير ، لن يكون بوسع أحد أن يقول : هذا واقعى وهذا واقع الآخر ، لأن الواقع ليس واقعاً بالفعل ، أنه مجرد صورة ، أو كما يقول " بودريار" إنه عالم المحاكاة والصور المحاكية ، الصور التى تحاكى الصور ، وتحاكى نفسها إنها أمبراطورية العيون المحدقة.يقولون إن قوة الصورة بمليون كلمة ، وليس لدينا تصور لما سوف يحدث لمقومات المعرفة التى تقوم على فضاء لانهائى من الكلمات ، تعتمد فى نفس الوقت على النقل والاستنساخ والتداول الواسع الذى سوف تحدثه الصورة بما يهدد حقوق الملكية الثقافية لأى مجتمع ، هذا إذا ظلت كلمة مجتمع تعبر عن نفس معناها الآنى" راجع كتاب من الحداثة إلى العولمة ص181" ، فملايين الصور المستنسخة من الموناليزا سوف تجعلها تحت تصرف ملايين البشر ، ويمكن محاكاتها بما يهدد فرادتها وأصالتها ، بما يعنى أن كل ماهو أصيل مهدد بفقد فرادته وتميزه ، وهكذا فرهانات الأصالة والتميز باتت هى الأخرى مهددة فى ثقافة المستقبل.ـ ثقافات قديمة للبيعأما المظهر الذى يؤرقنا الآن فى صورة المستقبل الثقافى ، هى أن الثقافة تتحول إلى نمط استهلاكى على نحو سريع يهدد بخلوها من قيمة الأبدية ، فقد انتهى عصر الثقافة التى تخلق للخلود كما خلدت مآسى شيكسبير ، وأى منتج ثقافى جديد ، سوف يخرج منذ البداية وفق شروط العرض والطلب ، أما القديم فلن يفلت من نفس المصير وذلك بعرضه فى المتاحف وصالات المزادات ، إن ثقافة الصورة تعنى نظرة مختلفة تماماً لمعنى ماهو ثقافى ، ذلك لأن شروط إنتاجها اختلفت أيضاً ، فالإنسان القديم ، كان يحتاج إلى مصفوفة طويلة من الكلمات ليعبر عما تعبر عنه صورة أو لقطة واحدة ، ويعنى هذا أن إنسان عصر الصورة سيكون لدية فائض من المنتجات الثقافية تتجاوز الحاجات اليومية وحدود الإشباع لتصل إلى حد التخمة بسبب تسارع إنتاجها واستنساخها وانتشارها ، ونتيجة لهذا فإن الثقافة تأخذ مظهراً ترفياً واستهلاكياً ، ويترتب على ذلك أن تدخل الثقافة كطرف رئيس فى الصناعات الترفيهية التى تراكم رأس المال فى الدول المتقدمة تقنياً وتتمكن من أنتاج الصناعات غير التقليدية ، إلى درجة أن كثيراً من دول العالم الغنية ، تتخلص الآن من صناعاتها التقليدية كصناعات الحديد والصلب مثلاً ، بل وتشجع الدول الأقل ثراء على إنتاجها للتربح بنسب تسمح لها أن تمتلك قوة شرائية قادرة على شراء الصناعات الترفيهية التى تحتكرها الدول الغنية ، والشواهد على ذلك واضحة للعيان ، فى انفجار الفضائيات وغابات الأطباق الفضائية ، وشبكة الأنترنت التى بلاحدود ، وأجهزة المحمول وصناعة السينما وأفلام البرنو والمسابقات الرياضية التى تتنافس على استضافتها الدول الكبرى ، ولا يفوز بتنظيمها إلا الدول القادرة على حمل تكاليفها الباهظة وتحقيق عائد ربح يغطى هذه التكاليف ، وكذلك عروض الموضة والسياحة التى تتحول إلى مجال تنافس دولى لاستعراض الخصوصيات الثقافية وإحياء المهن والعادات القديمة بغرض عرضها وبيعها للسائحين ، فعندنا ـ مثلاً ـ تنشط رحلات السفارى ، وسباقات الهجن ، والطب الطبيعى أو التقليدى فى رمال الصحراء ومياهها الجوفية وما يصاحب ذلك من طقوس بدوية مصنوعة لتبدو تقليدية ومناسبة فى نفس الوقت للسائح الغربى ، وكذلك الرقصات الشرقية والأغانى الفولكلورية والفنون الشعبية التى تبذل بسخاء ـ فى فنادق الخمس نجوم ـ على السياح باختلاف ثقافاتها وحاجاتها ، فحاجة السائح العربى منها تختلف عن حاجة السائح الأوربى ، ويمثل شهر رمضان المبارك فى مصر فرصة لشركات تنظيم السياحة لاستعراض تقاليد استثنائية ومبالغ فيها لتدهش السائحين تبدأ ببائع العرقسوس بزيه التقلديى الذى لم يعد يلبسه أحد .ومن ناحية أخرى نحن أمام آلة ضخمة لجمع وتداول المعلمومات والمعارف والمواد الثقافية المتنوعة وإعادة إنتاجها ، بغض النظر عن قيمتها وهويتها وأصالتها وموضوعاتها ، فكل هذا لايهم فالسوق مفتوح والطلب متنوع ، حيث ينظر إليها كمواد خام ، وعمليات أولية يعاد إنتاجها على نحو واسع فى أسواق ثقافية مختلفة ومنتشرة فى كل بقاع العالم ، والأمثلة على ذلك عديدة وأقرب إلينا مما نتصور.1ـ تتحول المظاهر الثقافية القديمة من " عادات وتقاليد ، وملابس ، وأغان ، وأطمعة ، بل وطقوس الزواج والعلاقات الإنسانية والاجتماعية ..ألخ " إلى مواد شهية كغرائب وطرائف على الفضائيات. وفى هذا السياق ، فإن فيلماً تسجيلياً صغيراً عن ختان طفلة فى قرية مصرية ، يحظى بنسبة مشاهدة فى أمريكا تفوق كل تراث السينما المصرية2ـ يباع تراث السينما المصرية إلى مجمِِِِِِِوعة من القنوات الفضائية " العربية " التى تحتكر عرضها.3ـ تسارع دور النشر الأوربية إلى ترجمة المواد والنصوص الأدبية التى تصور الثقافات القديمة من عادات وطقوس بل وعلاقات وممارسات لم تعد موجودة حتى داخل مجتمعاتها على الأرجح ، ولكنها تغذى صورة الآخر الهمجى عند الغرب ، فعندنا مثلاًً يتنافس الكتاب على تصوير النساء كجوارى مملوكية ، والرجال كأنماط لـ "سى السيد " ، وتظهر الإنسان العربى وكأنما يقتات على الخرافة ويسكن الجبال ، وتحظى ممارسات الشذوذ الجنسى ، وإجهاض النساء ، واغتصابهن وختانهن بنصيب كبير من الاحتفاء الغربى بالأدب العربى ، ويلقى كتابها ترحيباً مثيراً فى الغرب ، ويحظون بحق اللجوء السياسى ، ويوضعون فى محميات طبيعية حتى داخل مجتمعاتهم كحدائق صغيرة للديناصورات ، بل ويمنحون الجوائز، ومن المؤسف أن بعض نقادنا ينزلقون فى الدفاع عن مثل هذه الكتابات بدعوى حريات التعبير والكشف عن الخصوصيات الثقافية للمجتمعات ، ويرددون براحة رخيصة إن الطريق إلى العالمية يبدأ من المحلية ، وهى مقولة تنطوى على كثير من ضلال .ومن المعروف أن بعض السفارات الأوربية تعمل بنشاط لافت للانتباه لتذكية هذه المجالات ، فلا أحد يفهم " لماذا تحظى رواية عادية عن النوبة ـ مثلا ـ بجائزة فى هولندا ـ مثلا أيضاً ـ قبل أن تقرأ فى مصر، وبعد ذلك يعاد تصديرها إلينا وكأنها فتح جديد فى عالم الأدب كمحفز للكتابة على نمطها.إن إسهام الأدب فى تكوين صورة الشرق لدى الغربى ظاهرة معروفة رصدها إدوارد سعيد فى الاستشراق ، وبين كيف أن نصوصا أدبية شهيرة مثلت الشرق من وجه نظر الغرب ، فيما يرصد " جميل شك " هذه الظاهرة على نحو مفصل فى كتابه " الاستشراق جنسياً " حيث يتم تصوير النساء الشرقيات بوصفهن منفلتات جنسياً ، ومهيئات بحكم الطبيعة والثقافة لمضاجعات ممتعة وشاذة تزداد نشوتها باغتصابهن ، وحيث تبدو صورة الاغتصاب تمثيلاً استعماريا قابعا فى الليبيدو الغربى عن اغتصاب الشرق عسكرياً ، ومن ثم يتم تحويل الجنسانية الى ثابت تاريخي يمكن استخدامه لتمييز الشرق والغرب والشمال والجنوب والذات والاخر ، ويرى " شك " أن النمط الانثروبولوجي في الأدب الصريح جنسيا ويستعرض الكم الهائل للكتابة عن الممارسات الجنسية للشعوب، يظهر ان لهذا النمط جذوراًَ في الهجوم القروسطي على الإسلام ".إن هذا النمط ينتقل بتراثه الكامل إلى عصر الصورة ، عندما تتنافس قنوات "البرنو" على عرض نساء عربيات ، أو بمعنى أصح صورة مستوحاة من ألف ليلة ورسومات المستشرقين فى " وصف مصر" لنساء ببشرات سمراء وعيون مكحولة لتبدين كعربيات ، يخلعن ملابسهن الشرقية وربما المملوكية ، ويتأوهن بكلمات مطعمة بالعربية ، فيما ترى على خلفية الشاشة عبارة مكتوبة بعربية ركيكة" فتات عربيات ساخنين فى انتظارك ..أتصل بـرقم ..."إن مفهوم القيم الثقافية يتآكل بسرعة فى عصر الصورة ، وتتفتت المعرفة نفسها إلى فضاء شاسع من المعلومات الصغيرة والجزئية ، تتعرض معه الخصوصيات الثقافية إلى الانقراض ، وتخلق صورة افتراضية بديلة للواقع ، وشيئاً فشيئاً تفرض الصورة نفسها ، وينسى الناس الأصل لأن ذاكرة البشرية تبدأ الآن مع عصر الصورة من جديد ، ومن ثم تتعرض الأصوليات للتشوش وترتبك مؤسسات الهوية ، فيما تستطيع الدول المتقدمة فى مجال تكنولوجيا الصورة والاتصال أن تقدم هويتها على نحو ماتحب بل وتفرضها على الآخرين ، وهكذا فإن حروب المستقبل سوف تقع فى الفضاء
.• مراجع
1. السيد نصرالدين السيد ـ إطلالات على الزمن الآتى ـ مكتبة الأسرة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب
2. تزفتيان تودروف ـ فتح أمريكا " مسألة الآخر " ـ ترجمة بشير السباعى ـ دار سينا للنشر
3. السابق
4. السابق
5. السابق
6. جان فرنسوا بايارـ أوهام الهوية ـ ترجمة حليم طوسون ـ كتاب العالم الثالث
7. برهان غليون ـ أغتيال العقل " محنة الثقافة العربية من السلفية إلى التبعية " ـ مكتبة مديولى
8. تزفتيان تودروف ـ السابق
9. توماس باترسون ـ الحضارة الغربية " الفكرة والتاريخ " ـ ترجمة شوقى جلال ـ مكتبة الأسرة ـ 2004
10. السابق
11. السابق
12. إدوارد سعيد ـ تعقيبات على الاستشراق ـ ترجمة صبحى الحديدى ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت
13. عيد على مهدى بلبع ـ مقدمة كتاب أبحاث المؤتمر الرابع لإقليم غرب ووسط الدلتا ـ الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ـ دمنهور ـ 2003
14. إدوارد سعيد ـ السابق
15. السابق
16. جان فرنسوا بايار ـ السابق
17. السابق
18. شاكر عبد الحميد ـ عصر الصورة " السلبيات والإيجابيات " عالم المعرفة ـ الكويت ـالعدد 311 يناير 2004
19 ـ ارفن جميل شك، الاستشراق جنسياً. ترجمة عدنان حسن. تقديم ممدوح عدوان. قدس للنشر والتوزيع، بيروت/ دمشق، .2003 مع صُوَر وفهارس وغلاف يردّ المُحبط إلي وعيه والشيخ إلى صباه.هوامش• دانييل لرنر ـ زوال المجتمع التقليدى ـ بحث متضمن كتاب "من الحداثة إلى العولمة ـ روئ ووجهات نظر فى قضية التطور والتغير الاجتماعى " ـ ترجمة سمير الشيشكلى ـ عالم المعرفة ـ ج 1 ـ الكويت ـ نوفمبر 2004 .• ستيفن سيبلبيرج ـ مخرج أمريكى اشتهر بإنتاج الأفلام ضخمة التكاليف واسعة التوزيع ، من أشهر أفلامه " قائمة شندلر " الذى يصور فى سياق متعاطف قصة " الهلوكويست " وقد أثار الفيلم مجموعة من الاحتجاجات فى ألمانيا ، ومنعت عرضه بعض الدول العربية منها مصر.• ستانلى كوبريك ـ مخرج أمريكى أهتم بتصوير سلبيات الحداثة على المجتمع الغربى من اغتراب وتشظى وتشيؤ واستلاب الوعى ، من أشهر أفلامه " العيون المغلقة تحدق باتساع ـ البرتقالة الألية ـ أوديسا الفضاء " .
نقلا عن منتدى القصة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق