مُبدعون يؤكّدون:مُثقّفون يرضخون لتدجين أقلامهم رُغم حُرية الصّحافة
أحمد طوسون: فكرة الضمير الثقافي التي كانت تحكم تصرفات كبار المثقفين بات مشكوكا فيها
عبدالله النصر: في هذا الزمن نرى الكثير ممن أصبح لا يمتلك الثقافة الحقيقيّة التنويرية
محمد خيري: يجب أن نصرخ في وجه الكبير المتكبر ليستفيق
زينب البحراني
هل اغتيل عنفوان الثّقافة وشجاعتها فأدركها العقم في صدر شبابها؟
أم بلغت حدّ الشيخوخة في وطننا العربي بدلاً من أن تدخل طور النّضج فاختار حاملو رسالتها الانزواء تحت ظلّ مُغازلة الصّمت أو مُجاملة الفساد طلبًا للسلامة؟!
يشتعل هذا السؤال مُعلنًا عن أهميّته حين نعود إلى أرشيف الأعمال الأدبيّة والفنيّة، فضلاً عن أرشيف الإعلام الثّقافي في فترة مابين ستّينات وثمانينات القرن العشرين، فنُلاحظ هزّة عُنفوانٍ دافئة وجُرأةٍ مُهذّبة ترفض التّدجين، وشجاعةٍ تجعل من القلم حنجرةً للحق والحقيقة.
وصوت الكاتب والأديب صورةً للثقة بالنّفس والإيمان بحريّة الكلمة الصّادقة فضلاً عن ضرورة وقوفها في صف العدل، بينما نُلاحظ اليوم دخولنا تاريخًا جديدًا صارت فيه أكثر الأقلام قابلة للتدجين.
وفقد الإعلام الثّقافيّ قدرًا هائلاً من جُرأته في طرح القضايا الثقافيّة الحسّاسة، كالسرقات الفكريّة والأدبيّة، مُعاناة المُبدعين مع أفراد ومؤسسات تُسيء إلى صورة الثّقافة، والأخطاء الكبيرة التي تنحدر بمستوى الإبداع والمستقبل الأدبي والفنّي والثّقافي عمومًا في المنطقة، ومُناقشتها بصدق وشفافية رُغم ارتفاع سقف حُريّة الصحافة – لا سيّما الثقافيّة منها- في العديد من بلدان الوطن العربي، الأمر الذي تسبب في تضاؤل مهابة القلم وحامله، والاستهتار بدور هذا النوع من الإعلام على اعتباره صار أضعف من أن يضرّ أو ينفع؛ مادام هُناك ما بوسعه إخراسه أو تخديره.. والسؤال هُنا أين يكمُن الخلل؟، لماذا فقدت أكثر تلك الأقلام جُرأتها وعُنفوانها الفائت؟..
"شبكة التوافُق الإخباريّة" بسطت تلك التساؤلات أمام عدد من مُثقّفي الوطن العربي لتسمع آراءهم بصدد تلك المُشكلة، وهكذا أجابوا..
ضعف الإيمان بالله
الرّوائي المصري محمد خيري رأى أنّ رأس المُشكلة يكمن في خوف النّاس من العبد خوفًا يفوق خشية المعبود، فاستهل ردّه بنبرةٍ ساخرة قائلاً:"بصدق وشفافيّة!" من الكلمات التي تثير ضحكاتي جداَ, أتذكر أيام "مبارك" عندما أعلنوا عن "اليوم العالمي لمكافحة الفساد" فمات (توفى) أحد الناس من الضحك عندما سمع عن هذا اليوم" .
و يستطرد مُكملاً: "أنا أسمع شيئًا غريبا عن وطننا العربي هذا الأيام... أن أغلبية سكانة يعتنقون دين اسمه "الإسلام" ظهر من حوالي 1400 عام. وهذا شيء غريب فعلا, لأنني أرى أن الوطن العربي ذهب لاعتناق دين آخر أنا أفهمه! هو دين الأصنام والأوثان, أصبح الناس في كل المجالات يخافون من الرموز والكبار والمديرين إلخ ولا يخافون الله! لقد عدنا جميعا إلى عصر الجاهلية من جديد... لقد صنعنا أصنامنا بأيدينا وقلنا رضينا بالإسلام دينا! كيف يكون هذا الكم من الناس يدعون أنهم أتباع دين أتى ليتمم مكارم الأخلاق ويزيل الفساد ويدمر الأصنام والأوثان, ويقومون بعكس كل ما يدعون (حتى بعد التغلب على خوفهم السياسي) إنه ضعف الإيمان بالله..
أو عدمه, وحل محله الإيمان بالمال والرغبات و.... !
نعم الخوف جزء من ضعف الإيمان, لأننا نخاف من أن يضرنا ولي الأمر أو الكبير وإن كان ظالم ولا نجرؤ على مناقشته, فكيف سنجرؤ على محاسبته؟ هذا يحدث في العمل والبيت وحتى في الدين! يخاف المسلم من كلام الشيخ أكثر من الإله أحيانا فنصنع منه إله آخر دون أن نعقل ونتفكر في الكلام ونستفتي القلب, وفي الكنيسة نخاف من الكاهن لأن بيده الغفران أو اللعنة, فنصنع منه هو أيضا إله وهو بشر... تماما كما في العمل نخاف من المدير لأن بيده الأمر وإليه الأمر!"
ويؤكّد خيري: "يجب أن نصرخ في وجه الكبير المتكبر ليستفيق, السيد هنا هو الناس البسطاء وليس العكس والكبار هم الخدم... عندما نتأكد من أن الله وحده هو الذي يدير هذا الكون ونؤمن بذلك, سنخاف منه هو فقط, وبالتالي سنخاف من الكذب و الخداع, وسنضطر أن نكون صادقين وشفافين في كل القضايا (ليست السياسية فقط) وعلى مرأى ومسمع من الجميع. وقال تعالى "إن تنصروا الله ينصركم"! فلماذا لا ننصر الله؟!"
تعصّب.. ومراتب عاجيّة!
القاص السعودي عبد الله النصر أكّد على أنّ ثمّة أكثر من بُعدٍ نفسي مُكوّن لتلك المُشكلة، فقال:
"في هذا الزمن نرى الكثير ممن أصبح لا يمتلك الثقافة الحقيقيّة التنويرية والرصينة المهذبة التي ترقى إلى مستوى النقد البناء، والرقي، والاحترام، واللباقة في مواجهة القضية أو الآخر.. كما لا يملك المعرفة العلمية المتميزة المتجددة والأسلوب الغني بالمعلومات وبالآراء الجيدة المقنعة أو المحققة للمطلوب مع المحافظة على قيمة القضية وإنسانية المنتقد. وقد حول البعض القضايا الثقافية العادية، إلى قضايا مصيرية.. أو تمس العمق الإنساني مباشرة.. بحيث لو ناقشت أحدهم في قضية ما ، فإنه يحولها بطرق شتى، وأقربها بالتشنج وبالتعصب لفكرة ما، يحولها إلى مساس بتلك القضية كأن يجعلها تافهة حقيرة، أو يحولها إلى مساس بكرامة واحترام الإنسان صاحبها.. بما يسميها الآخرين شخصنة الأمور"
ويُكمل: "الشعب العربي لكثرة ما تمر به من ضغوطات في شتى المستويات الحياتية، أصبح عصبياً ومزاجياً ومشتتاً.. فأمسى تعامله مع القضايا وتلقيه النقد والرأي ووجهات النظر بطريقة لا تتصف بالرقي والوعي وبسعة الصدر والمرونة والمثالية والتعاطي مع الآخر بتقبل للبناء والتقويم سواء في ذاته أو في أمر يقوم عليه.. فضلاً عمن يرى نفسه في مرتبة علياً عاجية، فإنه يفتقد احترام عقل ورأي الآخر، وتنظر إليه كروح وفكر وطموح أقل منه، وأنه عضو ليس بالمستوى الكبير الذي له دوره الفاعل في الحياة والمجتمع، مما نشأت المجاملات والوساطات والتحقير وغيرها من مواطن النفاق والتقليل"
ويُضيف: " كما أنّ البعض أصبح عندما يطرح قضيته أو يناقشها فوق أنه لا يحترم عقل ووعي الآخر وإنسانيته أيضاً ، يتصف بأسلوب العداء المطلق مع الآخر في الطرح، فلا يكون عادلاً ولا منصفاً، ولا خير من يقيس الأمور وسطاً، ولا يسعى إلى التهدئة والوحدة والتسامح، بل يثير الخصومة والبغضاء أكثر"
رأس المال والفساد المؤسسي
أمّا القاص والرّوائي المصري أحمد طوسون فقد رأى أنّ الفساد الثقافي المؤسسي وما وراءه من مصالح أدّت إلى تخدير الضمير الثقافي هو السبب، وأكّد على ذلك بقوله: "الفساد الثقافي المؤسسي هو أخطر ما نواجهه في وطننا العربي، وبدأت الدعائم الأولى له باستقطاب الحكومات للمثقفين الكبار الذين نجحوا بدورهم في استقطاب عدد كبير من الأتباع والتلاميذ، حتى فوجئنا بأن غالبية المثقفين أصبحوا مقيدين بسلاسل المصالح الناعمة مع هذه المؤسسات، وأصبح من الطبيعي أن يغضوا الطرف عن كثير مما يشوب عمل هذه المؤسسات وأصبح ما يعرف بالشللية حاكما في تصرف كثير من مثقفينا..
بخلاف أن فكرة الضمير الثقافي التي كانت تحكم تصرفات كبار المثقفين ربما حتى أوائل التسعينات بات مشكوكا فيها الآن وبخاصة مع ارتباط العمل الثقافي في المؤسسات العامة والخاصة بالمال الذي طغى على كل شيء بما فيه القيمة، وأصبح الدعم الذي تقدمه الحكومات والمؤسسات والأفراد مرتبطا بالتوجه الذي يفرضه رأس المال وأصبحت قدرة المثقف على التأثير في الرأي العام وفي المجتمعات لا تتناسب مع دوره النهضوي، وهكذا أصبح الفساد هو المنظومة؛ لكن هذا لا ينفي وجود مثقفين يدفعون ضريبة باهظة من النفي والتجاهل المؤسسي العام والخاص نتيجة مواقفهم الثابتة في مواجهة هذا الزيف وفضحه"
ويُكمل طوسون: " الإشكالية من وجهة نظري في ضرورة أن يظل المثقف حرًا إزاء المؤسسة، ولن نكفل له تلك الحرية طالما لم نجد الصيغة التي تكفل للمثقف الاستقلالية عن المؤسسة وتوفير الأمان المادي له وأن تشيع في المجتمعات قيمة احترام الثقافة والفكر والمثقفين، وأن يتجرد المثقفون من نظرية المصالح الصغيرة الحاكمة لصالح القيم العُليا التي يؤمنون بها ولصالح نهضة أممهم ومستقبل أوطانهم"
التخلّف.. وهيمنة القبح
وأفصح الدّكتور محمد صابر عبيد من العراق عن وُجهة نظره بقوله: " لعلّ تخلّف المجتمع وتراجع الثقافة إلى أكثر المناطق إهمالاً في حياة الفرد العربي والتكالب على السياسي بوصفه مشروعاً غير مشروع للكسب، هو من خلق هذه التوجّهات المريضة نحو الثقافي وجعلته يقبع في زاوية ميّتة بعيدة عن القدرة على اتخاذ القرار، فهيمنة القبح على كلّ شيء في حياة العربي جعلته ينسى تماماً ماهية الثقافة حيث يكمن الجمال"
بينما رأى الشاعر السوري محمد الحريري أنّ الجواب هو: " كثرة النفاق والمنافقين الانتهازيين والوصوليين في تلك الأوساط "
رعود خريف التّصادم
وأخيرًا ليس آخِرًا؛ شاركنا النّاقد العراقي الدّكتور مقداد رحيم عن رأيه مُعربًا: " إن السياسة فرع من الثقافة، وقد فرضها واقع يتصل بحياة الأفراد والجماعات في المجتمع الواحد، وما دامت كذلك فلا مناص منها، سواء أطُـرحتْ على طاولات النقاش بين الناس، أو حملتها إليهم لُجج الأخبار اليومية، فضلاً عن رياح الحريات المنعشة التي حملها الربيع العربي إلينا، أما فروع الثقافة الأخرى فقد أصبحت تتناهبها اتجاهات ونزعات وعقائد لا تجد بين طياتها ملامح للتسامح الحقيقي بين الناس في المجتمعات الإنسانية، بل هي نافذة على التصادم والكراهية، واستمتاعنا بهواء ربيع الحريات العربي خير لنا من مقارعة رعود خريف التصادم بسبب اختلاف العقائد"
http://www.altwafoq.net/index.php?/article/203878/