لا عزاء للأبرياء في (مراسم عزاء
العائلة) لأحمد طوسون
بقلم: أسامة الزيني
من ثقب إبرة يتسلل أحمد طوسون في روايته
(مراسم عزاء العائلة) من مشهد تخلي عائلة عن أحد أفرادها معدوم الأهمية بالنسبة
إلى الجميع، حتى بعد وفاته وحاجته إلى من يواري جثمانه الثرى، إلى مشهد التخلي
المجتمعي العام عن أولئك الذين حكمنا عليهم بالعيش على هامش حياتنا، فقط لأنهم
حلقات ضعيفة زاهدة في صراعات الحياة متطلعة إلى حميميتها وقواسمها الإنسانية
المشتركة.
لم تشفع لهم لدينا تضحياتهم من أجلنا، أو قلوبهم الطيبة التي تحمل الحب
للجميع، صغاراً وكباراً، في مشهد قسوة جماعية تنسحق تحت عجلاته شخصيات حالمة ألقت
بها أقدارها في مجتمع توحش وفقد مشاعره، على نحو يصيب القارئ بالدوار حين يكتشف أن
مسعد الفقير المنبوذ من جميع أفراد عائلته الذي تمن عليه أخته نجاة الثرية المقيمة
بين الخليج وشقتها الفارهة في القاهرة بالسكن في حجرة بالطابق الأرضي من بيتها في
قريتهم، هو في الأساس صاحب البيت، وأنها استولت عليه بعد أن غررت به بعدما آواها
وزوجها وأبناءها فيه أيام العوز والبؤس، ثم تكتمل المأساة ببيعها البيت وطرده منه،
مع أنها ليست في حاجة إلى ثمنه، ما اضطره إلى اللجوء للعيش ثم الموت في غرفة غائرة
في إحدى الحارات القصية المجهولة في أطراف القرية، في مشهد يجسد حالة سعار رأسمالي
لا ترحم جسداً ولا تراعي قيمة أخلاقية، سعار فرائسه من الأنقياء أمثال مسعد المصور
المتشبث بآلة تصوير شمسية عتيقة لم تعد تدر عليه ربحاً وسط آلات التصوير الحديثة
في زمن تجاوزه، لكنه ظل متشبثاً بذاكرته، يحاول الإمساك بلحظة قديمة تسكن ذاكرته،
ويعيش وفياً لها، الأمر الذي يرى فيه المحيطون به ضرباً من الفشل أو الجنون..
"لم يكن يهمه المكسب أو العائد الذي يدره التصوير عليه، كان يحب عمله إلى
درجة الجنون، يصور الناس لمجرد التصوير". ثم يوغل السارد في الكشف عن مدى
توحش المجتمع وقسوته متمثلاً في عائلة مسعد التي تخلت عنه وألقت به إلى هذا الختام
البائس حين يكشف عن مفارقة درامية تتجسد في حرص مسعد على تجميع صور جميع أفراد
عائلته في الماضي في برواز واحد مغطى بعناية لحمايته في الأتربة والزمن، أفراد
عائلته الذين أهملوه وظلموه ونبذوه وتنكروا له عمراً، لكن قلبه بقي عاجزاً عن
كراهيتهم، كأنه جبل على الحب والوفاء، تماماً كما جبلوا عل الكراهية والنكران.
الأمر نفسه تكرر مع أخيه محمد الذي دخل
المستشفى بعد عودته من حرب اليمن؛ فالحرب "قاسية ورهيبة ومحمد كان رهيفاً،
يحمل بين صدره قلب فنان، لم يتحمل يوماً رؤية رؤية طائر أو حيوان يموت أو يذبح
أمام عينيه، فكيف يطلبون منه أن يحمل سلاحاً ليقتل أحداً من بني آدم؟"، ولم
يعصم محمد حبه لعبدالناصر إلى درجة الاحتفاظ بصورته فوق سريره، من مصير مشابه
لمصير مسعد المحب لعائلته إلى حد الاحتفاظ بصورهم في غرفة منفاه الطوعي المصير
نفسه من النكران بالزج به في المعتقل بتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي معادٍ
لعبدالناصر، قبل أن يرحلوه إلى المستشفى لتدهور حالته الصحية حتى وفاته فيها، لم
يشفع له حبه لعبدالناصر عند دولته، تماماً كما لم يشفع لمسعد حبه لعائلته عندهم،
فكان عليه أن ينتظر طويلاً في ثلاجة المشرحة حتى يلين قلب أحد أفراد عائلته لتسلم
جثمانه ودفنه.
تنجح لغة سرد مراسم عزاء العائلة على
بساطتها وسلاستها في الإلقاء بالرسائل والإشارات على مدار صفحات العمل القليلة،
لغة عميقة عالية التكثيف متعددة المستويات الدلالية.
وتبقى براعة الصورة المكتنزة بالتفاصيل
الدالة في البناء الفني العالية لمراسم عزاء العائلة بطل العمل بلا منازع ومرتكزه
الأساسي الذي نجح أحمد طوسون من خلاله في رصد انعكاسات الداخل الإنساني للشخصيات
على حركاتها وتعبيراتها وخيالاتها وأيضاً على آثارها، بالإضافة إلى الإشارات
المركزة المبثوثة في لغة العمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق