2017/07/07

لماذا تكمّم فم الكاتب يا عبد الله لالي ؟ وقفة مع ق ق ج (العسل و السكر) للقاص عبد الله لالي بقلم: عبدالقادر صيد

لماذا تكمّم فم الكاتب يا عبد الله لالي ؟
وقفة مع ق ق ج (العسل و السكر) للقاص عبد الله لالي
بقلم: عبدالقادر صيد
ملاحظة : القصة في آخر المقال .
  على الرغم من تواضع كاتبنا أخلاقيا إلا أن حرفه يتربع على عرش الصفحة بزهو ، يتجذر في أعماق بياضها برقصة موغلة في الإعجاب بنفسها،لا يعاجلك في طرح فكرته ، و لكنه واثق و بهدوء أسطوري من أنك لن تتمكن من معرفة الكلمة الموالية إن لم يطلق سراحها .
  يتأرجح بك معناه في أبهة ،و يتلطف بك في ذبذباته لكي لا يجرحك بنشاز مهما كان خفيفا ، إنه خير سفير لشخصية الكاتب .و مع ذلك فالكلمة عنده داخل الجملة لا تلتزم حيزها ، بل تطفح في مدّ و جزر ، تزاحم أخواتها ليتمدد مدلولها حسب المزاج و المستوى ، و تماشيا مع الانفعالات الخفيفة للقلم الذي يراعي إلى أبعد حدود آداب اللياقة السماعية.
  هل للحرف رائحة ؟ مع كتابات عبد الله لالي تستشعر ذلك فعلا ، إنها رائحة زكية حقيقة لا مجازا، و سيصل العلم يوما ما إلى  تأثر منطقة الرائحة في المخ ببعض الأساليب ، إنه حرف يتنفس الأريحية في كل انحناءة من انحناءاته المغرية.
  كلماته   لا تترجم ما يجول في خاطره، و إنما هي ذاتها ما يجول بخاطره، تخرج بسلاسة يحس بها كل قارئ ، إنك أمام مصنع للأجواء الأدبية الراقية ،    و إذا أردت أن تتجنى عليه ،فدون دبلوماسية يمكن أن تتهمه بالبرجوازية الفكرية،  و يمكن أن تدعي أن الرسالة قد جنت عليه، لكنك في كلتا الحالتين تجد نفسك قد تسرعت في الحكم ، فالفخامة في كثير من الأحيان قشرة رقيقة مزيفة تعاند التواضع ،و الرسالة لم تكن في يوم من الأيام ضد المتعة ،لذلك من الأفضل أن تترك له قياد خيالك حين يحلق  بك بجناحين هما المتعة و الرسالة، و حين يغرس فيك بذورا تنمو كلما أوغلت في القراءة .
  إذا كان لأدب الالتزام عنوان فهو عبد الله لالي ، و إذا كنا مرغمين على تشبيهه بأحد الأدباء ، فهو أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة و الرسالة .
عنوان قصته (العسل و السكر)  يتركك تتساءل عن العلاقة التي تجمعهما و هي الحلاوة  ، أتراه سيتحدث بين الأصيل و الزائف ؟أم عن الصحي و المضر ؟أم سيقارن بين شيئين لذيذين ؟ أم تراه سيفتح حوارا بين شيئين رائعين ؟ تتحيّر في أن تكون الشخوص واقعية أو رمزية ، هذا العنوان حمّال أوجه ليعزز الشهية للمغامرة في قراءة هذه القصة .
  العنوان في ق ق ج هو العتبة ،و ما بعده يفترض أن يكون لب الموضوع،فلماذا آثر أن يعرّف عتبته  ؟ ليقول لك أنك ستجد العسل و السكر اللذين تعرفهما، إنه يخاطب شيئا داخلك ، إنه يجلبك إلى نصه بطُعم ناجع .
   و لعل العنوان يفضح ميلا باطنيا مع البطل ، ترى هل البطل هو الذات الثانية للسارد ؟ أم أن القصة  حدثت معه  ، أو مع أحد أصدقائه ؟ لا مجال للحيادية إذا تحدث شخص عن حرفته .
 الحدث الرئيس في هذه القصة وقع خارج القصة ، و هو بيع الجريدة التي نشر فيها إبداعه و صورته ، و ما حدث أمام عيني البطل سوى تجلّ لهذا الحدث، و قد ترك الكاتب هذه الفجوة للقارئ ،أما دخول البطل السوق مستعجلا و غيرها ، فهي أحداث ثانوية لا تغير شيئا في منحنى القصة و مآلها .
  لنشير أن عنوانه لا يحمل عامل تفسير ، و لكنه يحمل عامل نتيجة ، و هذه النتيجة رغم أنها واضحة ، إلا أنها محمولة على عدة احتمالات ، قد تكون السخرية أحلاها .
  وعلى الرغم من أن العنوان له علاقة بُنوة مع المتن، و ليس موازيا له ،إلا أنه غير موح ، لا يشي بالمضمون ، و هو جملة مقول القول غير متوقعة تماما ، و قد تركتنا في حيرة هادئة ، لا صدمة فيها ، و هو أسلوب الكاتب في جل كتاباته .
   تبرز لنا القصة شخصين ، شخصا مستعجلا ، و مصابا بدوار ، ليس له الوقت الكاف للتمتع بحياته ، و شخصا هادئا ، بل و يبدع في تسويق منتوجه بالعبارات الرائقة ، و مع ذلك فهما ليسا عدوين ، و ليس لأحدهما أجندة معينة اتجاه الآخر.
  و مع أن القصة تبدو نمطية لأول وهلة ، إلا  أنك ما تكاد تتوسطها حتى تغير نظرتك إليها ، تقنعك قفلتها بدون مفاجأة أنك أمام سرد غير نمطي ، ممتع صحيح ، و متناسق ، و لكنه يراهن على المفارقة ،يتريث في الخلوص إليها ، ثم يلامسها بكل لطف .
  وعندما أتلمس موطن الجودة و التألق في هذه القصة ، فإن الجمل تتملص من بين يدي ، لأنها منتشرة في كامل القصة ، الجودة هنا زئبقية ، روح نابضة في الحروف لا يمكن القبض عليها متلبسة بأبهة الجمال و تبرج الإبداع .
  لعل العبارة التي صرخ بها البائع ستزيل عنه صداعه و ستخفف عنا جميعا منغصات النشر .
  الفاجعة التي نتهرب من تقبلها هو مآل إبداعنا إلى البيع وزنا، و سيكون المحظوظ من يلف على الفاكهة ، و أرجو أن يكون هذا المقال بمثل حظ قصة البطل .
   هل  يقصد الكاتب الجانب الإيجابي ، فنسمح لأنفسنا بأن نقول أن قصص البطل أحلى من العسل و السكر ، أم يقصد الجانب السلبي ؟ بدون منازعة أنه يقصد الجانب السلبي ،و هو هذا المصير لمنتوجاتنا الفكرية نحو تغليف المبيعات، لكنه من تهذيبه غلفه بثوب فاخر أي نهاية مهذبة..شخصية الكاتب تلعب دورا كبيرا في اصطفاء الكلمات ، فالسخرية المرة للخاتمة حقيقة تأدب الكاتب كثيرا في كشفها .
   و لكن ألا يعزي البطل و لو ظاهريا تداول قصصه في الأسواق ؟ ألا تذكره بعكاظية العرب في الاحتفاء بالشعر ؟ يمكن أن يكون الكاتب قد استهدفها .
    عبقرية الكاتب تبرز في أن يطوع ما يبدو لأول وهلة أنه لا يصلح لأن يكون ق ق ج ،ليصير رغما عنه ق ق ج ،باختزال أحداث ، و إظهار ما يرغب في بثّه إلينا عبر صفحة شاشته، و بانزياح الحوار ، وبتكوير قفلة مناسبة تُطهى على نار هادئة .
  أحجم السارد عن إظهار انفعال الكاتب ، ربما لينزع عنه البطولة ، و يسلمها لبائع الفواكه ، لا يدق القاص عبد الله لالي طبول الحرب في عنوانه ، و لا يرسل نداء للانتباه ، بل يتعمد المفارقة فيه ،ليقدم لنا العسل و السكر لحالة بائسة ، يصف حالته هذا الشطر:كن جميلا تر الوجود جميلا ، ولكن لماذا تكمّم فم الكاتب يا عبد الله لالي ؟
القصة
عسل وسكر.. !
دخل السوق مستعجلا ..كان الصخب سيّد المكان ، شعر بدوّار يلف رأسه ..استام بعض الخضر والفواكه ..طلب أن يوزن له منها..
أمسك البائع بصفحة جريدة وجعل يلفها على الفاكهة...
استرق النظر إلى المكتوب ..رأى صورته وجزءا من إحدى قصصه..اشتدّ الصخب في أذنيه..لفّ الدّوار رأسه بشكل أعنف ..
صرخ البائع بأعلى صوته:
-        أحلى من العسل يا سكر .. !

ليست هناك تعليقات: