2017/07/11

لحظات تأمل.. قصة بقلم: هدى مشالي

لحظات تأمل
 هدى مشالي

أغمض النهار عيونه وتمدد الليل فوق خيوط النهار وهو عيناه مازالت عالقة بالخضرة الممتدة كالبساط الاخضر وتظهر من بعيد البيوت مسنة هرمة داكنة وهناك موسيقة بدائية تنبعث من حقول الذرة كلما شخلل النسيم بالورق ,يتخللها وقع الحوافر على الارض أو شقشقة عصفور يتنقل من شجرة الى أخرى وهو يسبح مع شروده فى هذا الجمال الربانى البديع تجذبه الذكريات فيسند ظهره بأستسلام على تلك النخلة التى تمتد فى شموخ حاملة الطرح الجديد ,رفع عينيه اليها فى حنان وقال :كم من مرة أعطت هذه النخلة من طيباتها ؟وكم من مرة حصدت رطبها الشهى ؟ اننى أحب هذه النخلة الام التى كانت شاهدة على أجمل أيام العمر ,كنت أشعر أنها ترقبنى وتحتضننى وأنا أجلس تحت ظلالها كما كنت أحتضنها وأنا أتسلقها لجمع البلح لقد كان أبى يلقى على عاتقى كل المهام الصعبة التى تتطلب قوة فى البنيان ومنها تسلق النخل لجمع البلح ,وأخذ يتحسس ساعديه وصدره وكتفيه كان يربت على نفسه بحنان وكأنه يدلل طفلا يخاف عليه من البكاء ,أعتدل فى جلسته وجذب أنتباهه تلك الكلمات البريئه التى حفرها فى طفولته على جسد النخلة ,ضحك فى عفوية وتذكر جده عندما رأه وعنفه من هذا العبث ,وتذكر عندما كان يأتى هو وأصدقائه للعب تحتها وكيف كان يصنع أرجوحة من القماش يربط طرف الحبل فى جسد النخلة الصابرة والطرف الاخر فى الشجرة الصغيرة القريبة من النخلة وكانت تحملهم الارجوحة متطايرة فى الهواء وتعلو ضحكاتهم لتملا الكون فرحة وسعادة ثم يجلسوا ليستريحوا تحت ظلالها الوارفة وتستقبلهم بكل الحب ,تحتضنهم برفق لتحجب عنهم وهج الشمس,وكان هو والاصدقاء من شدة الحر يتخيلون كأن الاشجار حولهم تتنفس بعسر,وعندما رمق بعينيه أقفاص البلح الامهات التى جمعها الفلاحين منذ ساعات وهى مرصوصة كأن بها كهرمانا يخطف البصر ويحير الالباب وذكره بريق البلح الكهرمانى بالمصابيح التى علقها والده يوم نجاحه فى التوجيهيه,لقد أستقبل خبر نجاحه تحت هذه النخلة عندما هرولت أمه اليه فى مهرجان من الزغاريد المتتابعة ,أصطحبته الى البيت ليتلقى التهنئة وغسلت وجوه القرويات يومئذ بأكواب الشربات ,ثم راحت السكره وجاءت الفكرة وأنتبهنا جميعا بعد أن خف لغط المهنئين والجو الصناعى الذى غمسونا فيه الى أن نسبة درجات نجاحى لا تدخلالمسرة على قلب أحد ,ورفض أبى أن أعيد السنة للمرة الثالثة وقرر أن أساعده فى فلاحة الارض ,وضع يده خلف رقبته وشعر بمتعة الاسترسال وملاحقة الذكريات ,وهنا وقعت عيناه على الطريق الممتد المسفلت بجانب أرضه,رأها تخطو بخفة ورشاقة مثل بنات العشرين مع أنها تخطت الاربعين ,فرك عينيه ليتأكد مما رأه وأخذ يحملق جيدا أنها بالفعل هى ..رشيدة فتاة احلامه والتى حاول الاقتران بها ذات يوم,كانت أجمل فتاة فى القرية وتذكر حين أوقفها تحت ظل هذه النخلة الكتوم التى تحمل الكثير من الاسرار,يحاول الافصاح عن مشاعر خضراء بريئة تسكن قلبه,وعندما أحمرت وجنتيها خجلا ووضعت يدها على جسد النخلة وجدتنى فى تلقائية أضع يدى على يدها فى لمسة حانية,وشعرت النخلة بدفء المشاعر بيننا فتساقط رطبها الشهى وأرتعش جسدها من شدة الشوق الذى تحمله أيدينا,جلست أنا ورشيدة مستبشرين نأكل من كل هذا الخير،وتكررت اللقاءات بيننا وفى كل مرة كنا نجلس تحت هذه النخلة الكريمة نتبادل الاحلام ونرسم الخطوط الاولى لملامح المستقبل. وفى أحد الايام..أخبرت والدى عن رغبتى فى الزواج من رشيدة فهم واقفًا من مجلسه قائلا:أبدا لن يكون إنها أبنة أجير بسيط ونحن نمتلك أرضًا وعائلة كبيرة,ولا أعرف لماذا لم أدافع عن هذا الحب ونهش قلبى الاستسلام الذى أعتبرته طاعة لوالدى,ولكن هل مازلت رشيدة تتذكر هذه الأيام؟ ووجدها ترمق النخلة بنظرة غامضة,وبعد أن أكملت المسير تنهد وأرتسمت على ثغرة أبتسامة رقيقة وقال ياااه..يا رشيدة ,أشعر بأنك مازلت تتعلقين بخيوط السعادة التى كانت تربطنا فى ظل هذه النخلة ,وأمسك بعصا صغيرة وأخذ يرسم أشكالا على التراب ,وهنا تذكر والده عندما أراد بيع جزء من هذه الارض ليساعد أخيه الكبير فى مشروع قد بدأه فى البندر,وهنا رفع رأسه وتمتم وكأنه يحدث نفسه قائلا :لقد كانت لحظة قاسية أن أبيع ذكرياتى وأحلامى التى زرعتها مع كل نبته غرستها فى الارض,أنفجرت فى البكاء تحت النخلة وشعرت بأحزانها هى أيضا ,وجدتها تطلق جريدها الاخضر فى ثورة يعارك الهواء وكأنها تعبر عن غضبها وحزنها،أقترب أخى منى وسألنى لماذا أجلس هنا طوال النهار؟وعن سر حزنى،حكيت له عن قيمة هذه الارض بالنسبة لى وأمسكت حفنه من التراب وقلت له:شم هذه الرائحة أنها رائحة عرقى ،ربت أخى على كتفى فى حنان وقال: لن تباع هذه الارض،وهنا تدفقت الدماء فى جسدى من جديد ورحت أجرى بين زروعها متقافزا، ووجدتنى أحضن النخلة وكأنها أحدى أقاربى ،تنبه من رحلة شروده عندما داهمه الظلام وأجبره على الرحيل. وفى الصباح ..ذهب الى النخلة ليقطف كنوز إبطيها ،ووجد مكانه مشغول ،لقد أحتله أخرون ، أنه أبنه سعد وأصدقائه يلعبون ويتسامرون تحت النخلة ،ضحك وقال:أنهم يحفرون ذكريات جديده تحت هذه النخلة الجده.

ليست هناك تعليقات: