المتوازي النصي في مؤلَّف (تقاسيم الفلسطيني-مجموعة قصصية)
للأديبة سناء الشعلان
بقلم د. الغالي بنهشوم-المغرب
الأديبة
سناء الشعلان الشاعرة والكاتبة والباحثة، والإنسانة، اجتمع فيها من الخصال ما تفرق
في غيرها من الباحثات والمبدعات، وكأن حضور مجالات الشعر وهي تبدع، وكأن حضور الرواية وهي ترسم
بريشتها في الذاكرة الموشومة معالم الإبداع، وكأن حضور المسرح تأليفا وإخراجا، وكأن
معانقة الصحافة والإعلام وهي تبوح ببعض الأسرار...كلها تتكاثف وتتعاضد في ترجمة مجالات إبداعاتها المائزة.
كان
بودِّي أن أتناول شخصية الشاعرة والأديبة ولكنني عدلت عن ذلك لرغبة ملحة في التعرف
على منجزها الأكاديمي الموسوم ب(تقاسيم الفلسطينيّ) والذي سأحاول أن أقاربه من
خلال أربع عتبات:
العتبة الأولى: العنوان والغلاف:
إن
أول ما يصادفنا ونحن بصدد البحث في العناصر والوحدات المكونة للنص الموازي في عمل
الأستاذة سناء الشعلان هو العنوان الذي يحدد هوية النص وملامحه. ويشكل العنوان أول
تفاعل بين القارئ والنص على مستوى القراءة، وبناءً عليه يصبح العنوان من منظور ليوهوكLeohoek / "مجموع
العلامات اللسانية التي يمكن أن ترسم على رأس نصّ ما من أجل تعيينه، والإشارة إلى
المحتوى العام للنّص، ولتعرف الجمهور به وكذلك لجلب القارئ إليه". وإذا كانت
وحدة العنوان تحمل دلالة كبرى، تثير فضول المتلقي وتفتح شهيته لاكتشاف عوالم النص
وسبغ أغواره فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح
ونحن بصدد مقاربة أول عتبة في المؤلف هو إلى أي حد يتطابق العنوان مع عناصر
المتن؟
إن
ارتباط العنوان بالمتن يكشف عن علاقة تجاورية تكاملية يمتد بها العنوان في جسد المتن ويتناسل فيه ويرتد المتن إلى
العنوان ليتكثف فيه، وفي هذا الإطار فإن "تقاسيم الفلسطيني" ضلت ممتدة
في جميع تفاصيل الكتاب بدءا من العناوين السبعة الصغرى(تقاسيم الوطن-تقاسيم
المعتقل-تقاسيم المخيم-تقاسيم الشتات-تقاسيم العرب-تقاسيم العدو-تقاسيم البعث) مما
يفسر تطابق العنوان مع المتن .
فالعنوان
مختار بدقة وعناية، جاء جملة اسمية، والجملة الاسمية دالة على الثبوت وانعدام
الحركة، ولأن الباحثة اختارت دائما تضليل القارئ عبر لغة التعمية المصاحبة للصورة
فإن فعل الخفاء والتجلي لتقاسيم الوجه-في واجهتي الغلاف- أحال الجملة الاسمية إلى
حركة دائمة أشبه ما تكون بلمعان البرق الذي يبدد عتمة الليل الحالك.
وهذا
المعطى يتوافق مع الأبعاد السيميائية للصورة العامة للغلاف. الشيء الذي يفسر بحث
الأديبة سناء الشعلان عن بلاغة جديدة للكتابة تنسجم مع رؤيتها للأشياء وللعالم
ولمعانات الذات الإنسانية، كمحاولة منها إشراك المتلقي في هذه الرؤية.
فالقراءة
البصرية واللغوية، للعنوان " تقاسيم الفلسطيني" تشير أولا إلى أن
العنوان من الناحية البصرية، يكشف علاقة الإسناد والتعاضد بين اللغوي وغير اللغوي
(الخط-اللون-الشكل-الحروف والكلمات –جملة..).فالخط الذي كتب به العنوان يختلف عن
الخط الذي كتب به المتن تمييزا له، فهو شديد البياض، ثخين بارز، وهو من الخطوط
العربية المقروءة ذات جمالية خاصة، وظفته الكاتبة لتمارس فعل الإغراء والتأثير على
المتلقي. وبناء عليه فقد شهد العنوان تقاطع المستوى السيميائي الأيقوني المرتبط
بشكل الخط ولونه الأبيض الممتد في النصف الأعلى من الغلاف الموشح بالسواد، مما
يفسر أن الكاتبة قد لجأت منذ البداية إلى ممارسة لعبة البياض والسواد. والتي لها
علاقة بالدلالات الكبرى لصورة "تقاسيم الفلسطيني" في المخيال العربي. في
وطن تحول إلى معتقل لا تتعدد فيه الألوان، فقط هناك ثلاثة منها:
اللون الأسود: يغطي كل أنحاء الغلاف، يحيل على ليل دامس وظلام حالك؛ كما يحيل في الوقت عينه
على الحزن والأسى جراء سياسة "الذبح والتنكيل والاغتصاب والتهجير والنهب
والتدمير" الذي يمارسه المحتل على الفلسطيني الأبي.
-اللون الأبيض:
يقابل اللون الأسود، يتوسط السواد في النصف الأعلى
من الغلاف وينغمس فيه؛ إنه بريق الأمل الذي يطل من الأعلى مبشرا بانبلاج الصبح.
ولا شك أن الومضات التي تخللت واجهتي الغلاف خير دليل على انبعات الذات من تحت ركام الرماد.
-اللون الأصفر: محفز
نفسي يشحن الذات المبدعة بطاقة عالية ومثيرة؛ وفي الوقت نفسه يفسر لغة التوتر
الملازمة للذات المبدعة عبر إصدار مجموعة من التنبيهات والتحذيرات إزاء سياسة
المحتل، ولغة الإشراق التي تتطلع إليها هذه الذات. ولعل تواشج اللون الأبيض الذي
ينغمس في السواد ويتوسط في الآن ذاته اللون الأصفر يفسر لعبة التعمية التي تمارسها
الكاتبة منذ البداية؛ وكأنها لا تريد أن تفصح عن هذه التقاسيم جملة واحدة لتمنح
المتلقي فرصة تشغيل مخياله ومن ثمة مشاركته إياه الغوص في تفاصيل "تقاسيم
الفلسطيني"، هذه التقاسيم التي ستظهر فجأة في الجهة اليسرى من أسفل الغلاف
مجسدة في وجه تلفه طلاسم الكتابة ويتغشاه
السواد، لا يظهر منه سوى: عينين بريئتين يقظتين تترقبان أفعال المحتل، ومقدمة جبهة
أعلى الأنف/الناصية تجسد وشم الذاكرة التي تختزن التاريخ والجغرافيا وحكايات الوجع
اللامتناهي؛ حكاية الذبيح/مجزرة تل الزعتر، وصبرا وشتيلا..) فضلا عن امتداد خطوط
الكتابة العبثية لتشمل تضاعيف أسفل الوجه.
إن الوجه الذي يلفه
الظلام من كل جانب، وتلفه الخطوط العنكبوتية السوداء من الأعلى والأسفل ومن اليسار
واليمين ومن جميع الاتجاهات، هو وجه ذو
ملامح عربية وتقاسيم فلسطينية يحمل ذاكرته
وتاريخه على ظهره /وجهه /ذاكرته أينما حل وارتحل.
غير أن هذا الوجه
الموشح بالسواد في وجه الغلاف، سرعان ما بدا متوهجا وصبوحا في ظهر الغلاف مكتمل
التقاسيم؛ خال من طلاسم الكتابة
ومن أثر تجاعيد الظلام، لا تبدو عليه أثر الخطوط السوداء ولا يبدو عليه أثر الزمن.
ترى ما السبب؟
بكل بساطة إن الغرباء
الذين غيروا ملامح الوجه العربي لم يدركوا حقيقة سطوة المنجل الفلسطيني الذي عاد
من جديد ليستحيل الأرض المغتصبة عشقا وزرعا، ونورا وأملا، ووجها مشرقا.
لقد ضلت الباحثة سناء
مشدودة إلى الألوان الثلاثة (السواد-البياض والاصفرار)، مع هيمنة واضحة للسواد على
حساب اللونين الآخرين، وليست هذه الهيمنة اعتباطية بقدر ما تفسر واقع الحال؛ حيث
الوطن مغتصب، والفلسطينيّ معتقل في المخيمات وفي الشتات، والعرب يتفرجون على سياسة
التهجير والقتل التي ترتكب يوميا من طرف
العدو في انتظار يقظة الضمير الإنساني اللامبالي.
نستخلص من هذه العتبة:
أن الباحثة تقصّدت إضاءة النص باستغلال صفحتي الغلاف على نحو مخصوص وذلك
بتوظيف جملة من التنويعات الطباعية وتقنيات الإخراج لتشكيل الدال البصري المتطابق
مع معطيات العنوان والمتن معا. ولعل استثمار العنصر البصري في بناء النص يدل على
أن العناصر اللغوية وغير اللغوية الموظفة تنتظم داخل نسق سيميائي ينقلها من عالم
الإلقاء إلى فضاء القراءة البصرية، مادامت الصورة أكثر تعبير من الكلمة.
العتبة الثانية: اللغة
والأسلوب:
يتبدى من خلال قراءة
متأنية للمجموعة القصصية "تقاسيم الفلسطيني"، أن الأديبة سناء الشعلان
متمكنة من صناعة الكتابة وأدواتها، حاذقة بأسسها النموذجية، واعية بخصيصة فعل
التأليف، وكيف لا وهي الممتهنة لهذا المجال المتعدد الأجناس(شعر
ونثر-رواية-قصة-أقصوصة-مسرح..). يبدو ذلك واضحا من خلال أسلوبها الممتع المشحون
بالصور البلاغية الأخاذة التي تجعل القارئ يحلق بمخياله بعيدا للقبض على
المعنى بفضل الألفاظ المتخيرة المنتقاة من
عالم الشعر، وكأن القارئ يعانق نصا شعريا لا نثريا، تتماهى فيه القصص
السبع/التقاسيم، وتتناسق وتتجانس
وكأنها لوحة فنية أيقونية، ولأن الأسلوب الرفيع لا يلائم إلا الشخصية التي تنتمي
إلى مجال الفصاحة والبلاغة، كما يقول عبد الفتاح كيليطو فإن الأديبة سناء الشعلان
كانت كذلك، فقد اختارت بدقة وعناية الألفاظ الرائقة العذبة التي تأسر القلوب
وتنشرح لها الصدور، رغبة منها في ممارسة سلطتها الفنية على المتلقي الخبير، العالم
بأسرار اللغة المتحكم في شفراتها، وكأنها تهيئ القارئ ذهنيا لاستقبال خطاب ذي
طاقات جمالية عالية، تستدعي تفعيل آفاق
انتظاراته وأجهزة تلقيه[1]. ولقد أسعفتها اللغة في إقناع القارئ بقدرتها
البيانية، وسلامة أسلوبها سعيا منها لبسط سلطتها العلمية على المتلقي. آخذة بنصيحة
أبي هلال العسكري: "إذا أردت أن تصنع كلاما فاخطر معانيه ببالك وتنوق له
كرائم اللفظ واجعلها على ذكر منك ليقرب تناولها، ولا يتعبك تطلبها"[2]. ومن هذا المنطلق حاولت المؤلفة أن تمارس سلطتها
البيانية على سبيل التأثير والإقناع؛ من خلال المبالغة في تنميق العبارة، وتجويد
المعنى، وتعضيد النص بالتضمين والاقتباس من خلال تشغيل عمل الذاكرة المثخنة برواسب
تاريخية ودينية وفكرية وسياسية، سعيا لتهذيب ذوق القارئ، وإرهاف حسه، وتنشيط فكره
وسمعه، وإكسابه أدبا رفيعا.
العتبة الثالثة:الإهداء:
شكل
من أشكال النص الموازي الذي لا يقل أهمية عن العنوان، وعن اللغة. ونظرا للأهمية التي تحظى بها هذه العتبة، باعتبارها تقليدا فتيا فقد أولتها الأديبة سناء الشعلان اهتماما خاصا، وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين نوعين من
الإهداء في المجموعة القصصية:
-إهداء
خاص: وهو الذي توجهت به الأديبة إلى شخص عزيز لديها محبب إلى نفسها تربطه
بها علاقة خاصة، فهي تكن له كل معاني التقدير والاحترام عرفانا بجميله وحسن صنيعه؛
لإسهامه في إثارة مخيالها وتفجير موهبتها؛ ومن هذا المنطلق أهدت الدكتورة سناء
عملها إلى قرة عينها الأم الفلسطينية التي علّمتها فضيلة الصبر والعطاء والشجاعة، وإلى مدين
فضيلات وعطاء الله الحجايا رمزا الشجاعة والبطولة.
إهداء عام:
وهو الذي لم تبح به في صفحة الإهداء، لقناعتها بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصه،
فالأديبة لما فكرت في عملية التأليف اختارت قارئا كونيا تتوجه إليه بالخطاب، وتلك
قناعتها منذ اقتحامها مجال الكتابة بالنظر إلى حجم القضية التي تحملها على عاتقها
.
العتبة الرابعة الحاشية: ذيلت الأديبة مؤلفها
بحاشية تحدد مكان ولادة هذه النصوص "الشتات/المخيمات، "انتهت المجموعة
القصصية...كتبت في الشتات..." دون أن تؤرخ لزمن الولادة. وهذا التذييل لم يكن
اعتباطيا، إنما أرادت منه الروائية ربط منجزها بفضائه المكاني في إطار التفاعل بين
الواقع وفضاء الإبداع.
تلكم
كانت بعضٌ من ملامح "تقاسيم الفلسطيني" رسمتها ريشة أيقونة الإبداع
الفلسطيني-الأردني الأديبة المبدعة سناء الشعلان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق