قراءة في مجموعتها القصصية (حدث ذات جدار)
د. أسماء غريب/إيطاليا
نحن في زمن المقاومة؛ هذه حقيقة كبرى لا يمكنُ نفيُها
أبداً، وكلّ يقاوم بأسلوبه الخاصّ، ولكلّ كينونةٍ روحٌ شامخة وهدفٌ سامٍ يقاوم من أجلهِما.
نعم، نحنُ في زمن القضايا الكبرى: الهويّة والحريّة، السّلام والحرب، الأمنُ
والأمان، والعشقُ والحبّ. والأدباءُ الملتزمون والمتشبّتون بكلّ هذه القضايا لهم
طريقتهم الخاصّة في مقاومة مدّ الظُّلم الضّاربة جذوره من أقصى الأرض إلى أقصاها،
والأديبة سناء الشعلان لها هي الأخرى طريقتها الخاصّة جدّاً في النضال، والنّابعة
من جذور انتمائها إلى أرض قضيتُها أمُّ القضايا قاطبة، ما لمْ تُحَلّ هي فلا شيءَ
سيظلُّ على حاله، ولا سلامَ سترفرفُ يمائمه على سماوات الدّنيا: فلسطين؛ الوجع
المرير والجرح الإنسانيّ الكبير!
عرفتُها
عاشقةً منذ قراءاتِي الأولى لها، أيْ منذ أزيد من عشر سنوات حينما ترجمتُ لها إلى
اللغة الإيطالية نصّا قصصياً مطوّلاً كان بعنوان (نفس أمّارة بالعشق)، لها رسالة
سامية من الطّراز الرّفيع: تضميد جراح الإنسانيّة بحرف المحبّة، واليوم أقرأ لها
طريقةً جديدة في العشق: عشقُ الأرض والوطن. هكذا ظهرتْ لي في مجموعتها القصصية
هذه، (حدث ذات جدار) والصادرة سنة 2015 عن دار أمواج الأردنية، وهي بهذا العنوان
جمعت ما يزيد عن ثلاثة عشر أقصوصة تروي فيها مجموعةً من الأحداث التي وقعت عند
بناء الجدار العازل والفاصل بين الضفة الغربية الفلسطينية والأراضي المحتلة،
معتمدةً في ذلك على أسلوبها الموغل في السِّحر والدّهشة بياناً وبلاغةً وسرداً
وبناءً، ومتّبِعةً نظاماً خاصّاً في إعلاء صرحها القصصيّ بحيث اختارت مجموعة من
القضايا المعيّنة وتناولتها بعين الفحص والتدقيق لتشرحَ فيها حيثيات وملابسات حياة
المواطنِ الفلسطينيّ الرّازح تحت نير الاحتلال وما يعانيه من ظلم واضطهاد. وما
تركتْ شريحة اجتماعية إلّا وتحدّثت عنها بدءا من الأطفال وصولا إلى الأجداد، دون
أن يفوتها أيضاً أن تقول كلمتها الحقّة وتنصف بذلك حتى فئات معيّنة من ساكني
المستعمرات.
الأديبة د. سناء الشعلان تعي جيّداً معنى الجدار
وأبعادَه التاريخيّة والسياسيّة والاقتصادية والاجتماعية، وتعلمُ أيضا الخلفية
التي ينطلق منها رجال سلطات الاحتلال لتبرير بناء هذا الجدار، وهم المرتبطون أبدا
بالجدران عامة سواء من حيث مفهومها الديني المرتبط بنصوص التوراة، أو بمفهومها
الأمني والعسكري منذ عهد إسحاق رابين إلى اليوم وهو الذي عُرفَ بعبارته الشهيرة
التي قال فيها: ((أخرجوا غزّة من تل أبيب)). ووعيُها هذا قد ظهرَ في طريقة نسجِها
للنّصوص حيثُ رصدت الآثارَ السّلبية لبناء الجدار على كافّة الشرائح الاجتماعية
وبدأت بالأكثرها هشاشة وضعفا؛ الأطفال والنساء، وتشهدُ على هذا قصّتُها الأولى
(وبكى الجدار) التي رصدت فيها حكاية الطّفلين الفلسطينيَيْن اللّذين يحملان نفس
الاسم (نور) إكراماً لعمّهما الشّهيد، ولم يفترقا أبدا إلى أن مرضتْ نور الطفلة
الرقيقة وأخذتها جدّتُها إلى الطبيب واعدة ابن عمّها الصغير بالعودة بعد ساعات،
لكنّ الساعات أصبحت أياما، وشهورا ولم تعد الطفلة لابن عمّها نور بسبب ذاك الجدار
العازل الذي بُني في غيابها فحرمَها من العودة هي وجدّتها إلى قريتها الأثيرة،
وحَزنَ لفراقها ابن عمها حزناً جمّا لم تطفئ جذوتَه محاولاتُه العديدة في الهروب
من أهله والذهاب بالقرب من الجدار بحثا عنها، إلى أن داهمته في ليل بهيم عند
الجدار ليلة ماطرة ما إن انبلجت أولى خيوط الفجر حتى كان جثة هامدة مثل ابنة عمّه
نور التي كانت هي الأخرى في الضفة المقابلة تأتي بحثا عنه بالقرب من الطّرف الآخر
للجدار.
البديع في هذه القصّة المؤلمة هي تقنية شخصنة وأنسنة
الجدار التي اعتمدتها القاصّة لتوصل إلى القارئ مدى وحشية من فكّر في عزل
الفلسطينين عن أراضيهم التي استولى عليها الاحتلال لدرجة أن حتى الجدار نفسه بدأ
يعبّر عن إحساسهِ بالخجل بل بالخزي والعار من نفسه أمام عدد الجرائم التي تُرتكبُ
أمام ناظريه كما قالت القاصة في مجموعتها القصصية: ((لم يستطع الجدارُ أن يمدّ
كفّيه ليلتقط هذين الجسدين الهزيلين الصغيرين كي لا ينجسهما بخطيئته تجاههما، وفي
لحظة غضب شعواء منه شرع يهتزُّ في مكانه خالعا كل ما عليه من غرف ومكامن ومراقب
وجنود وبوابات مستسلما للدكّ والتهاوي تكفيراً عن ذنبه الأسود...)).
دائما في إطار ثيمة الطفولة تحاول سناء الشعلان أن تسلّط
الضوء على معاناة من نوع خاص؛ عزلة الطفل الفلسطيني صاحب الشفة الأرنوبية الذي كان
يتوق إلى معرفة طبيعة الحياة في الضفة الأخرى الموجودة خلف جدار الفصل العنصريّ،
ومن خلاله ترصدُ لنا الفرق المهول الذي يوجد بين الهنا والهناك؛ طفولة بئيسة
محرومة من أبسط الحقوق بما فيها الحق في التطبيب والعلاج، مقابل طفولة أخرى تتجسدُ
في أبناء المستعمرات المتنعّمين بكلّ شيء: التمدرس، اللعب، اللباس الدافئ والأكل
الجيّد وما إليه من مظاهر الحياة المرفّهة. وهو الرّصد الذي تفاجئنا فيه سناء
بتقنية الحبكة الملتوية عبرحدث غيّرَ
جذريا من اتجاه الأحداث وحرّك الضوءَ تجاه طفل من أبناء المستعمرات يحاولُ التقرب
من الطفل الفلسطيني، ليصبحا معا في النهاية صديقيْن يلعبان في حديقة البيت ويموتان
معا في مشهد مأساوي حينما اكتشف أحدهم وجود الطفل الأسمر الفلسطيني بينهم، فدبّ في
الجميع الذعر والهلع، وكانت النتيجة أن ارتمى الطفلُ الإسرائيلي على جسد صديقه
الصغير ليقيهُ من الرّصاص المتهاطل عليه كالمطر ويموتَ معه ضارباً بعرض الحائط
منطق وإيديولوجيات الكبار وأفكارهم الاستعمارية البئيسة.
التقنية ذاتُها تستخدمها سناء الشعلان في معظم أقصوصاتها
وهي ترصد كيف تقاوم المرأة في كلا الجهتين الاحتلال: المرأة الفلسطينية عبر
الأمومة وهو المثال الأسمى الذي قدمته سناء من خلال قصّة (حالة أمومة) و(من أطفأ
الشمعة الأخيرة)، وعبر الحبّ لدى المرأة الإسرائلية ذات الأصول الهنغارية من خلال
قصة (شمس ومطر على جدار واحد)، وهي الجندية التي وقعت في حبّ عامل فلسطيني يعبر
البوابة يومياً وتتكلّف هي بتفتيشه في كلّ مرّة، إلى أن أتى ذاك اليوم الذي قرّرت
فيه الاعتراف بحبّها له، فرأته قتيلا بين مجموعة من العمّال برصاص جنود صهاينة
آخرين.
هل سيكفي حبّ الجندية الهنغارية ليغسل كلّ العار الذي
وصمتْ به السياسةُ الصهيونية جبينَ الإنسانيّة؟ طبعا لا، لكن الأمل في فعل
المقاومة كبير جدّا وهو الفعل الذي تمارسُه هنا بامتياز الأديبة -الأردنيّة المولد
والفلسطينية الجذور- الدكتورة سناء الشعلان بأسلوب شيّق وجذّاب لتقول للعالم أجمع:
حاضرون نحن ها هنا، وباقون إلى أن تتهدّم كلّ الجدران ويُعادَ الوطنُ إلى أصحابه
طال الزّمنُ أم قصُر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق