هشام بن الشاوي
في كتابه "الدراماتورجيا ومابعد الدراماتورجيا" للباحث الفرنسي باتريس بافيس، الصادر عن المركز الدولي لدراسات الفرجة، والذي ترجمه سعيد كريمي وخالد أمين، ويتضمن دراستين، الأولى تحمل عنوان الكتاب، يتتبع فيها مفهوم الدراماتورجيا، كما كان متداولا منذ المرحلة البريشتية، ومابعد البريشتية على الخصوص، وإجمالا منذ الخمسينات بأوربا، حيث بلور التحليل الدراماتورجي منهجية متطورة في قراءة وتحليل النصوص المسرحية، مستفيدا من إواليات الاشتغال الناجعة للعلوم الإنسانية. فالقيام بتحليل نص مسرحي ما، يقتضي تهيئ اختيارات إخراج مسرحي مستقبلي، سواء تم إنجازه، أو لم يتم. وهذا يعني أنه كان من اللازم الاستفادة من علوم التاريخ، علم الاجتماع، التحليل النفسي، واللسانيات، أو من السميولوجيا. ولكن أيضا في بعض الأحيان، فرض شبكة قراءة على المخرج المسرحي، قد تبدو مقيدة جدا بالنسبة إليه. من هنا تظهر أزمة الدراماتورجيا، رغم أنها بدأت تتمأسس في مناح متعددة، باحثة لها باستمرار عن سبل جديدة.
ويتمثل السؤال الإشكالي بالنسبة إلى بافيس في هذه الدراسة في ماهية الدراماتورجيا، وهل هي شعرية /إنشائية العمل الدرامي والفرجوي؟ أم أنها تقنية وبراغماتية لتحليل نص، وإخراجه عمليا على الركح؟ وللإجابة عن هذا السؤال يجب التحليق في تاريخ المسرح لتقييم وظيفة الدراماتورجيا، ومنهج التحليل الدراماتورجي، ودراسة أنماط تمثل كل حقبة للمسرح، ولطرائق تحليله. وهذا يعني أن ننطلق من الشعرية الكلاسيكية الإغريقية، إلى الكلاسيكية الجديدة الأوربية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثم إلى الدراماتورجيا النصية، والعرضية لديدرو، أو ليسينغ، وبعد ذلك الدراماتورجيا السياسية لبريشت، أو بيسكاتور، لنصل إلى الدراماتورجيا المتشظية في وقتنا الحاضر. ويبقى علينا معرفة إذا كانت الأشكال ما بعد الحداثية، وما بعد الدرامية، لا تزال في الآن نفسه دراماتورجية، وقابلة للتحليل بأدوات دراماتورجية.
توقف باتريس عند أدوار الدراماتورجيا، ونسبية القراءة الدراماتورجية، والتأويل والدراماتورجيا، وتكمن الفائدة من الدراماتورجيا في نظره عموما في إيجاد أحسن الحلول السينوغرافية (أو أقلها سوءا) في اللحظة الراهنة، ليس في المطلق، ولكن حسب وضعية ومنطق الإخراج المسرحي المرتقب، أو الذي هو في طور الإنجاز، في الآن نفسه حسب الفنانين، أو الآفاق الانتظارية للجمهور.
وعرج باتريس على الدراماتورجيات الجديدة، ممثلة في "المسرح التوليفي"، و"الدراماتورجيا البيداغوجية"، و"دراماتورجيا الممثل"، و" الدراماتورجيا ما بعد السردية"، و"الدراماتورجيا البصرية"، و"دراماتورجيا الرقص"، علاوة على أنماط أخرى من الدراماتورجيا، حيث تضاف الموسيقى إلى الرقص، والمسرح الموسيقي، وكل الفنون غير التعبيرية، وغير المحاكاتية، والفن التشكيلي التجريدي، والإنجازات، والتجمعات البشرية، وكل الأنشطة الأدائية، والفرجوية المتخيلة. ويكفي لإضافتها إلى اللائحة المفتوحة للدراماتورجيا أن تكون هذه الفنون مصممة بطريقة دلالية، غير تصويرية، وغير سردية. ويبقى المبدأ هو نفسه، ذلك أنه لاستيعاب وظائف هذه الدراماتورجيات الجديدة، ليس من الضروري المرور عبر الحكاية، أو القصة أو السرد، بل يكفي فقط استيعاب وتجريب البنية الشكلية للعمل الفني، ولتنظيمه، ولمنطق الدلالة والإحساس.
وتوقف الباحث الفرنسي في نهاية الدراسة عند مستقبل الدراماتورجيا وتحدياتها، حيث يرى أنه إذا كانت طرق الدراماتورجيا التقليدية (المرتبطة بالإنتاج) معروفة، واختبرت بكفاية، فالأمر لا ينطبق على الدراماتورجيا الجديدة (تلك التي ترتكز بالأساس على تلقي الجمهور)، فالتأمل النظري يمتح من الممارسة التطبيقية، لذلك بات ضروريا التفكير في طرائق الاشتغال الأكثر تأقلما مع التجارب الجديدة. إذ بقدر ما نبتعد عن الدراماتورجيا المكتوبة من طرف المؤلف (وفقا للقواعد الكلاسيكية)، أو الدراماتورجيا المعدة والمنجزة من لدن الدراماتورج (في الحقبة الحديثة من ليسين إلى بريشت) بقدر ما نصبح مضطرين لإنجاز دراماتورجيا خاصة بنا (ما بعد حداثية، أو ما بعد درامية)، وذلك بناء على نتيجة غالبا ما تكون غير مقروءة، وبالتالي، نصبح إزاء دراماتورجيا المتفرج.
ويخلص باتريس إلى أن الدراماتورجيا الجديدة سواء كانت بصرية أو جسدية أو موسيقية أو إيقاعية ألغت الدراماتورجيا الكلاسيكية، والتي غالبا ما تختزل في نص ومعنى مسبق تقريبا، غير خاضع للمناقشة من لدن التحليل الدراماتورجي. ومع ذلك، تبدو وكأنها تعود إلى نقطة البدء : نظام مغلق على ذاته، مكتف، يحيل على ذاته؛ ولكنه غير قادر على الانفتاح على العالم الخارجي، وعالم المفسرين، والعلاقة بين النظام والعالم. "يبقى علينا نحن معشر القراء والمتفرجين، أن نختار العودة إلى دراماتورجيا غير مستعصية على مستوى التحليل، والتحليل الدراماتورجي بخاصة. فهل يجب علينا أن نأمل، أو بالأحرى، نترقب ظهور ليسينغ جديد بيننا كي نخرج من جبة الدراماتورجيا الوظيفية، المتقنة بكل تأكيد، ولكن أيضا المنغلقة على ذاتها؟ ماهو السبيل لمساعدة النصوص على الخروج من ذواتها كي تخلق تناسجا بين عالم التمثيل، وعالمنا نحن؟ هل بإمكاننا استعادة تلك اللحظة الإنسانية حيث بدأ المسرح يدرك قدراته فاخترع الدراماتورجيا؟"('ص.66-67).
أما الدراسة الثانية "المسرح المعاصر.. تحليل لمجموعة من النصوص من ساروت إلى فينافير"، وهي عبارة عن فصل من كتاب للباحث الفرنسي، ورغم غياب منهج دقيق في اختيار النصوص، حسب بافيس، فمؤلفوها ينقسمون إلى ثلاث أصناف من الكتابة الدرامية المعاصرة : "كلاسيكيو الحداثة"، وهم ساروت، فينافير، وكولتيس، ورثة الثلاثة المذكورين وهم : ريزا، مينيانا، لاغارس؛ والمخالفون للنماذج وهم : نوفارينا، بتهشيمها للغة، ودورانغير، وإعادة تشكيله للطبيعوية، وكورمان، والوجوه الاستيهامية في كتاباته. ويتمثل الهدف الأسمى بالنسبة لبافيس، في إسماع أصوات هؤلاء المؤلفين، بعيدا عن الخشبات، مع ثقته في الرؤية الداخلية للقارئ الذي سيعيش لحظاتها.
وتشكل هذه الدراسة محاولة ترميم منهجية قرائية يمكن تطبيقها على الكتابة الدرامية المعاصرة، والنموذج التحليلي الذي يقترحه، والناتج عن قراءاته "الحدسية"- التلقائية والبسيطة للنصوص، تأثر كثيرا بالقواعد الدراماتورجية الكلاسيكية الفرنسية، باعتبارها نقطة مرجعية للتجارب الجديدة التي تجعلها محط تساؤل أو تقعير، يقدم في الآن نفسه، نوعا من الكونية العابرة للتاريخ، إذ يتلاءم مع مختلف السياقات التاريخية التي أفرزت الأعمال المعاصرة. إنه نموذج مبني على تلقي القارئ في مواجهة النص. كما يشكل هذا التلقي جماع العمليات المعرفية المنجزة، بحيث يصبح نقيض المنهجية التوليدية التي تختص بتكون العمل، وأصوله، وطريقة اشتغال المؤلف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق