2013/02/20

"حبّ على حافّة الوشم " قصة قصيرة بقلم: فتحي العكرمي



حبّ على حافّة الوشم
فتحي العكرمي* 
التقينا ذات أصيل أطلّ على الدّنيا بألوان متداخلة فذهبنا نبحث عن أجوبة لأسئلة يحفل بها جَمالها وتئنّ بها روحها المصنوعة من شوك الألم ، كان جسدها منحوتا من رِقّة المنساب على الحياة ومن صلابة من تُرِك وحيدا يصارع يَمّ القَدر، شَعرها الحريريّ يغازل الرّيح وثغرها الورديّ يُكتّم ابتسامة توقد الفرح على تخوم الفَقد، رسمت وشما على يدها البيضاء مثل غيمة صيف.
وأنا  أتأمّل وجهها المصنوع من جمال طفوليّ والمنحوت كالقمر رجّتني عيناها الغارقتان في الحزن. سرنا  الى البحر وقبعنا على صخرة الغربة ننظر إلى الأمواج المتلاطمة . قامتها متمرّدة كواحة وارفة، تحتضن شفتاها الرّقيقتان شجنا، جبينها ناصع وعلى وجنتيها بياض ثلج ولون وردة تحت ندى الفجر،يشي قميصها بنهدين متمرّدين ،فخذاها ممتلئان كرخام مصقول ،يحتضن عنقها قلادة فيها صورة الوجه المرسوم على الوشم ، لم أطق صبرا فسألتها : من هذا المنحوت على جسد مقبل على الحسن؟
- هو من صنعت له مكانا قَصيّا في روحي ووضعته شامة عجزي وكتبته على جسد حروف بقائي.
- هل بلغت من الوَلع ما به أضحى هذا الرّجل مبعث حزنك؟
- يأتينا العشق دون موعد ويحلّ على القلب مثل فرح يغمرنا حين المأساة فتضحي المشاعر مزهرة نستظلّ بها من هاجرة الألم. لقد عرفته حين كانت روحي وارفة تبحث عن حبيب لتهبه ظلّها.
- هل أمسى حبّك حلولا فيه ؟
- نحن آلات بأجسادنا وبشر بأرواحنا التي تحيك مقاما للحبيب ترسمه على القلب وتكتبه على العين وتنسجه في الضلوع فيضحي فائضا على وجودنا فيهبنا الحياة.
- لماذا اصبح عشقك حزنا تقوله عيناك الجميلتان؟
قالت بصوت فيه طفولة شَجَن: كيف نؤلّف زمانا جميلا تحت خيمة هزائمنا المتراكمة وقد فقدت الرّوح توأمها ؟
أخرجت صورة وضمّتها كما يحتضن الغياب عشقا متوحّشا، هو ذات الوجه المرسوم على وشمها والمعلّق على جيدها. خرجت منها تنهيدة ترتّق جروحها وقالت: لقد علّمني كيف يكون الحبّ لحنا يُجمّع في جوقته الجسد والروح والذاكرة وتركني.
- قد يكون بُعدا مؤقّتا وستزهر سعادتك من جديد.
قالت بنبرة فيها كهولة حزن : بعد أن صنعنا عِقد الحياة ورصّعناه بروحينا أخذه الموت ذات أصيل موحش ،لقد تركني للمأساة تلوّح بي في صحراء الفجائع ، نزلت من عينيها دمعتان جرفتها ألمها الموغل في ضلوعها .
- هو القَدر يجرحنا عميقا ثمّ يجرّنا إلى لعبة النسيان فيعيد ذاكرتنا إلى طفولتها.
- للذّاكرة نزيفها الذي يسيل على الرّوح ويرسم أحبّتنا فيضحي حضورهم قِبلة توجّهنا أينما ولّينا قلوبنا.
جرفت قصّتها صمتها المدفون تحت ركام فجيعتها وظهر الفَقد الذي شقّ روحها فقلت لها متمرّدا على الحزن: هل يترمّل العشق برحيل أحبّتنا أم أنّ الكون يسيل دوما بمن يعوّضهم؟
- تمتلك الرّوح طقوسا لا نفقه سرّها فهي تنجب حبيبها وترضعه نحيبها.
- أليست رغبتنا في أجسادهم هي من يصنعهم فيحسنون في البصر ؟
- ماذا نفعل حين يرحلون ذات فجيعة هل نغرسهم في الذاكرة أم نلقي بهم في بيداء النّسيان ؟
- ألا ترين أنّ دماء الجسد والرّغبة في الحياة هي ما يجعل الفرح ممكنا ؟
- وماذا لو كان هذا الجسد دون روح ترقّع جروحها حينا وتنشد أملا حينا آخر ؟
- ها قد عادت إليك بعض الاغاني عوضا عن صفير النّعي .
- هل تعرف معنى أن تلقانا الحياة نحمل فَقدا لحبيب قريب كالرّوح وبعيد كالحلم؟
- الا يمكن لسماء الحزن أن تتلبّد بغيمة من فرح يؤنس مشاعرنا المترمّلة ؟
نظرت إليّ بمقلتين تبلّلتا بإثمد الحزن وبفم كشف عن بداية أمل : هل يمكن للزّمان أن يعالج تجاعيد ذاكرتنا ؟
- كما تهطل الرّوح بفجائعها فهي تصنع طقوس البقاء بعيدا عن مدينة الحزن، أليست السّعادة تمرّدا على قبائل الشّقاء التي تسجننا ؟
أطلّ على روحينا وميض فرحٍ فتقارب وجهانا يتقاسمان ضحكة أطلّت علينا من ضباب فجيعتها فمددت يدي للوشم أمسح عنه قطرات المطر.
* كاتب تونسي






ليست هناك تعليقات: