2013/02/09

"طابور طويل من الحلوى " قصة قصيرة لرحاب إبراهيم

طابور طويل من الحلوى 
رحاب إبراهيم 

كلما بعد الزمن تحددت ملامحه , تاهت الخطوط العائمة التي لا لون لها ولا طعم , ولم يبق سوى الخطوط الواضحة ..يزول الطلاء وتظل المسارات باقية . 
الأشياء القديمة ليست بالضرورة رائعة , ولكن الذاكرة تقوم بعملية المونتاج ببراعة , لتصنع تاريخا مقبولا نستطيع أن نفر إليه عند الضرورة .
 ,,يخيل إلي كثيرا أن كل الأحداث من حولي ما هي إلا مشاهد معادة لأفلام قديمة رأيتها مرارا, يتبدل الأشخاص وتظل الأدوار كما هي . تبقى حياتي في المقابل كحلقات منفصلة متصلة , لا تقود كل حلقة بالضرورة للتي تليها . كنت أصف الحالة دائما كما لو كنت نصفين : نصف يشاهد ونصف يعيش ..بمرور السنوات يزحف النصف الأول ليلتهم الثاني بدأب وإصرار.
 اليوم هو يوم المولد , تستدعيه الذاكرة بألوان رائقة وصافية ..خفوت الألوان الخشبية الباهتة , والتي أحببتها دائما أكثر من ألوان الفلوماستر الخطأ في ألوان الفلوماستر يظل نشاذا زاعقا للأبد , لا يمكن تجاهله أو احتواؤه . ألوان الشمع كانت مليئة بحبيبات أكرهها , مزعجة الملمس . كان موضوع ” ارسم عروسة المولد ” موضوعا ثابتا على مدى سنوات الدراسة الابتدائية . في كل عام , في الحصة التي تسبق المولد , نتفنن في ابتكار أزياء جديدة وتسريحات شعر مختلفة للعروسة المعجبة بنفسها والتي تضع يديها بثقة حول وسطها . خلف ظهرها مروحة واحدة كبيرة أو ثلاثة مراوح صغيرة متداخلة . تمتزج الألوان العفوية وتشع البهجة من الكراسات البيضاء والأصابع الصغيرة الملطخة بالألوان . كم المريلة يمسح مساحات لابأس بها من الطاولة الخشبية المستطيلة التي نكفئ فوقها .تتخلل الشمس الضفائر والشرائط الملونة والشعور المهوشة لترسم فوق الكراسات ظلالا لا تقل بهجة ولا روعة كان الاحتفال بالمولد يتم بعد النصف الأول من اليوم الدراسي ..تنتهي الثلاثة حصص الأولى ثم ننزل للفسحة , بعدها نصطف في الطوابير وبدلا من الصعود للفصول لاستكمال بقية الحصص يطلب منا المدرس أن نجلس على الأرض في أماكننا . يبدأ الحفل بتلاوة قرآنية من أحد التلاميذ الكبار , تليها كلمة حضرة الناظر والتي تدور حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وطفولته وأخلاقه ..ثم تبدأ الأغاني والاستعراضات التي تقوم بها مجموعة مختارة من الأولاد والبنات . أزياؤهم الجميلة غالبا ما تكون ملابس بيضاء زينت بشرائط عريضة من الساتان الملون ..لون لكل مجموعة . معلمة الموسيقا تبدأ في اختيار المجموعة المشاركة في العرض قبلها بفترة , بالتعاون مع معلمة التربية الرياضية .. أسبوع أو اثنان سيشعر فيهما كل فرد من المجموعة المختارة بتميزه واختلافه ..خاصة في تلك اللحظة السحرية حين تطرق معلمة الموسيقا باب الفصل أثناء إحدى الحصص وتشير إليه مستئذنة مدرس الفصل ليتجه مع باقي الفريق للتدريب في غرفة الموسيقا أو في فناء المدرسة ..يقف مزهوا ملقيا نظرة من أعلى على باقي التلاميذ المنكفئين على كتبهم في استسلام ويخرج . في عامي الدراسي الأول حدث شيء لم يتكرر بعدها في أي سنة من السنوات , بعد انتهاء العروض وقفت المدرسة كلها في طابور واحد طوييييل ليوزع علينا الناظر قطعا من حلاوة المولد ..كسرة صغيرة في كف كل طفل بلا استثناء أو تمييز . 
في السنوات التالية كانت معلمة الفصل هي من يتولى توزيع الحلوى ولكن بشكل آخر . كانت تسألنا أو تختار بنفسها طفلين أو ثلاثة في الفصل لتطلب منهم إحضار علب الحلوى من البيت . صباح يوم المولد تقوم بجمع العلب وتقسيمها بالتساوي بين الأطفال كلهم . إحساس طفيف بالفخر قد يشوب الطفل الذي أحضر العلبة وهو يقدمها للمعلمة , ولكن هذا الإحساس سرعان ما يتبخر حين يجلس مكانه ويتوزع المذاق الحلو على الجميع ..تلتصق الأيادي الصغيرة ببعضها وبالأقلام والكراسات بلا حذر .. ربما استمر هذا الطقس للسنوات الثلاثة أو الأربعة الأولى في المدرسة ..لم أستطع تحديد سنة اختفائه أو سببه ..ربما لأن اليوم نفسه أصبح عطلة رسمية ..وربما لأننا بمرور السنوات نقع في فخ الأفكار الكبيرة …والكلمات الكبيرة , تلك التي لا تخصنا في الواقع وليست معنية بحقيقة حياتنا.

ليست هناك تعليقات: