بقلم: خالد جودة أحمد
عندما دون الكاتب الكبير توفيق الحكيم قصصه القصيرة للأطفال تحت عنوان "حكايات الحكيم"، قدم له بكلمته "لقد خاطبت بحكاياتي الكبار وأخاطب بها اليوم الصغار ... فهم لنا إذن أنداد"، فأدب الناشئة لا يشغل مساحته المناسبة لأهميته مقارنة بالمنتج الأدبي عامة شعراً ونثراً، ربما لصعوبة هذه الكتابة.
سئل الكاتب الإنجليزي صمويل بيكت: لماذا لا تكتب للأطفال؟ فقال: لأنني لم انضج بعد! حيث إن الإطار الحاكم لنشأة وتطور هذا اللون من الآداب كان وعظياً إرشادياً تهذيبياً لا شك في ذلك، لكنه يحتاج لتسويغه للطفل القارئ إلى ملح الفن الأدبي، من تلك الفكرة نبعت الدراسة الماثلة.
هناك مجموعة من المقولات العلمية حول أدب الطفل أصبحت من المسلمات في نطاق هذا النوع من الأدب، ننتقي منها أن القصص المنشورة للأطفال واحدة من الأساليب الفعالة في عملية التنشئة الاجتماعية فهي تعمل على إكساب الطفل القارئ مجموعة من القيم والاتجاهات والأفكار واللغة وعناصر الثقافة والمعرفة تسهم في تكوينه، كما تحتل القصة مكانة متميزة عن الطفل تفوق الأنواع الأدبية الأخرى بما تملكه من قوة تأثير ومتعة لا يملكها غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى الموجهة للطفل، حيث إنها تستجيب لطبيعة الطفولة في حبها للاستطلاع ومعرفة العالم المحيط بها.
ويشبه تلك المقولات مقولة العتبة الموازية في الغلاف الأخير للكتاب الإبداعي "أخلاق الفرسان" للكاتب صلاح شعير، من إصدارات دار الجندي للنشر والتوزيع، كونها حددت بشكل واضح للقيمة الأساسية التي تسعى القصص إلى غرسها في نفوس القراء الناشئة، وهي الحث على التفكير العلمي باعتباره الأسلوب الأمثل لحل مشكلات واقعنا العروبي المعاصر.
وظلال هذه القيمة تتشبع بها القصص العشرينية بالكتاب في تصنيف إلى مجموعتين من القصص تشتمل كل مجموعة على نصف العدد من القصص في الكتاب الإبداعي، والقصص تتمتع بطول مقارب وفنيات مستقرة، وعدد من القيم الوطنية والمعرفية والدينية، حيث تنوعت عطاءات القصص بين رفد الفتى القارئ / الفتاة القارئة بالزاد المعلوماتي، حيث وفرة المعلومات المدرسية والتي تقدم بأسلوب الحكي، مما يدل على أهمية مثل هذا الإنتاج الأدبي لتغذية سجايا الطفولة المتأخرة (من سن 9 أعوام حتى 12 عاماً) وميولهم القرائية، والقراءة هي سبيل الطريقة العلمية للاكتشاف والتدبر والفعل.
وللمعاونة على جلاء موضوعي للقصص نقدم نموذجين للقصص في أفق المجموعة:
قصة "النعامة الذكية" على سبيل المثال تسرد قصة سلمي التي تقضي الأجازة الصيفية في مزرعة أبيها د. رضا وتتعاطف مع النعامة، لكنها تحتج عندما تراها تدفن رأسها في التراب، وتردد المعلومة الشائعة عنها أنها بذلك رمز الغباء "إنهم يقولون للذي لا يعبأ بالأخطار أو الأحمق الذي لا يجيد التخطيط في مواجهة الكوارث إنه كالنعام يدفن رأسه وقت الخطر في التراب ويترك جسده في العراء" ص 39.
ومن خلال جودة الحبكة يكتشف القارئ معلومات حول النعامة وحقيقة هذه المعلومة الشائعة، وإن كان عنوان القصة يقول إنها ليست غبية كما يقال كما يقدم حقيقة علمية حول سريان الأصوات في الطبيعة أعتقد أنها ستظل مستقرة في فؤاد الطفل في إطار هذا الحكي العلمي.
أما قصة "قلب الأم" بالمجموعة الأولى فهي دائرة على لسان العصفور والحمامة وزوجها، لكنها قصة عصرية تعانق فضاء المدينة، وتشرح أدواء لها بانسحاب الطبيعة لتحل غابة متوحشة من أطباق البث التلفازي، بحيث يصعب على الحمامة الأرملة أن تبني عشها الجديد لولا إرشاد العصفور الصديق، والقصة تعمل على التوعية بأخطار تحيط بنا في الحياة والكفاح لمواجهتها.
من أفق النموذجين السابقين نشير لعدد من الثيمات المهمة، والفنيات المصاحبة بالمجموعتين:
• ضمت القصص عددا من القيم الوطنية والدينية والمعرفية والثورية والإدارية العامة، وحديث القيم جوهري في أدب الطفولة (علي سبيل المثال في تقسيم وايت المطور نجد 47 قيمة)، وفي القصص نجد موضوعات القصص تشير لمشكلات تعوق شخوصها وسبل الوصول إلى الحلول لحث الطفل القارئ لطريقة علمية تهدف لاكتشاف المشكلة بداية وتحديد عناصرها وخطورتها وأهمية التصدي لها، ثم جمع المعلومات عنها وتحديد البدائل المناسبة للحلول وإنتقاء الحل الأفضل المناسب لظروفه، وهذه منهجية الأسلوب العلمي عامة، ففي قصة "من يفكر ينجح" نجد قيمة الحل الإبتكاري للمشكلة.
وفي قصتي "الأوزة الثائرة"، و"الديك الحائر" نجد تنويعين حول مشكلة التلوث، سواء تلوث موارد وأحياء المياه (بحيرة قارون نموذجاً بقصة الأوزة)، أو التلوث السمعي بقصة الديك الحائر، والتي منحت مفردة (الحائر) بالعنوان دال الأزمة، ويصاحب ذلك تقديم الحل من خلال القيمة الثورية في قصة الأوزة، حيث الثورة هي فكرة الخروج عن القانون المشوه لإعادة القانون إلى مساره الصحيح، وهو الأمر الحادث في القصة.
ولا تخلو قصص أخرى في الكتاب من فكرة الثورة سبيلاً للإصلاح الإداري العام، ففي قصة "الطاووس الحزين" نجد فكرة الإضراب وسيلة لوضع المشكلة في بؤرة الإهتمام والتفعيل من الآخر، فقيمة الثورة إذن والفكر السياسي يجري تلقينهه للطفل في رفق، ففي قصة الأوزة الخضراء الثائرة عندما حدث الصراع بينها وبين الأوز المستسلم (الأوزة الكبيرة / الأوزة الرفيعة) كونها عارضت القيم السائدة ومقاومة الأخطاء، ذهبت بها جماعتها لمستشفي الأمراض العقلية، مما تقول معه القصة للطفل أن الثائر يلقي عنتاً ومقاومة، ثم يربح نتيجة صموده أن تنضم إليه جماعته، فانضم لها سائر الأوز في ثورتها على التلوث.
• وتنوعت الحلول في القصص لتشمل تنويعات ثرية، ففي قصة "سفينة الصحراء" نجد الحل العلمي المباشر والناجز بتهجين السلالات لكفاح معضلة إنقراض النوع، ونجد بث القيمة الدينية من خلال اللجوء إلى السماء، فالحل أتي قدرياً في قصة "الأرنب الطماع"، عندما تعثرت السبل أمام البلبل المظلوم الذي لم يتقاضَ أجر غنائه في حفل زفاف الأرنب الطماع "ثلاث قطع من السكر"، حيث عجز عن رفع قضية في محكمة الطيور بسبب غلو أجر الطاووس المحامي "عشر قطع من السكر"، وهي أعلى بكثير من موضوع التداعي ذاته، وإذا كان أجر المحامي ثابتا، فهذا يناقض الواقع حيث يجتني المحامي في مثل هذا النوع من القضايا نسبة من قيمة الدعوى، لكن التبرير كما آراه ان هذا ينسجم مع خيلاء الطاووس واعتزازه بعمله.
إن قصص المجموعة تكاد جميعها تدور في أفق الطريق العلمي من خلال التراتبية الذهبية (اكتشاف المشكلة وتحديد سماتها / جمع المعلومات والسعي للحل) البدائل والاختيار / مع إضفاء بعد إيماني مهم وهو اللجوء للسماء كقيمة محورية في الحياة تلقنها القصة للطفل مع الأخذ بالأسباب الممكنة المتاحة).
• ونجد ببعض القصص الملمح المشوق والساخر أيضاً، وهو أمر محبب للطفل القارئ المنصف فإذا لم تشوقه القصة أصدر حكمه فوراً بتركها، ففي قصة الأوز نجد تكرار هتافات الأوز وراء الأوزة البيضاء الهتيفة (كاكا كاك)، وماذا يكون غير ذلك! وفي قصة "الطاووس الحزين" عندما حاول الطاووس التقرب من الحمار الزائر يومياً ليستريح في ظل حائط بستان الطاووس ويأكل من فروع أشجارها التي تطل من السور، كان يقوم بالرفس والنهيق "وبعد عدة أيام فهم الحمار أن الطاوس يريد أن يتكلم معه" ص 72.
• وقصة الفتيان / الفتيات القصيرة لها فنياتها المعروفة، لكن أرى أن الشكل التقليدي للقصة الممثل في القوس أو نصف الدائرة هو الشكل الأكثر اتفاقاً مع استيعاب القارئ المستهدف والقيمة الموضوعية (التفكير العلمي) في إطار القصص، لكن وحدة الموضوع في قصة الطفل توجب أن يكون هناك بالقصة ذروة واحدة حيث تستحكم العقدة ثم تسير القصة في اتجاه الحل بلحظة التنوير المرجوة وسوق الخلاصة في الخواتيم، وهو الشأن المشهود بغالبية القصص العشرينية.
أمر آخر يتصل بنحت وتطوير المصطلحات السردية بقاموس السرديات ليناسب فنيات هذا اللون من القصص، فإذا كان الحدث هو الشخصية وهي تعمل وهذه الفكرة التي مزجت بين وجهتي النظر بشأن أيهما أكثر فاعلية في المبني القصصي الشخصية أو الحدث، أما في عالم قصة الطفل فيمكن تسمية الحدث القصصي بالسلوك، حيث تهدف القصص لغرس مجموعة من اتجاهات السلوك الحميد في ذات القارئ الصغير، كما أن الشخوص يجب تصنيفها إلى أبطال وهي نماذج الشخصيات (القدوة) ذات الجوانب الإيجابية دون غيرها في القصة، ونستعير من عالم القضاء (الخصوم) لتمثل الشخصيات السلبية، والخصم مفهوم سردي للشخصية ضد الإيجابية في البطل، وهذا التناظر يزيد الصورة وضوحاً أمام القارئ الصغير.
وبعض قصص المجموعتين تشمل الخصوم بهذا المفهوم من الحيوانات والبشر جميعاً، فالأرنب الأسود في قصة "الأرنب الطماع"، وريموند المتعصب في قصة "الحصان العربي"، وغيرهم يمثلوا خصوماً طبقاً للمفهوم السردي المباشر، وأعجبني في بعض القصص الخصوم المتحولين، مثال الطفل (محمود) في قصة "بر الوالدين"، وفي قصة "أخلاق الفرسان" الموسومة بها الكتاب نجد زوجة الأسد خصماً تدرك الخطأ الحادث من جانبها بالإعتداء على الطفولة عندما افترست غزالة حاملاً زوجة الغزال الرشيق مما يعني خرق قانون الغابة الصارم، ولكي تكفر عن ذنبها تضرب عن الطعام والشراب حتى الوفاة.
أما الخصم في قصة "الوفاء والغدر" وهو الذئب الأسود الذي يتسم بصفات سلبية من عدوانه على الآخر، يراوح مكانه كخصم ليكون بطلاً بصفات إيجابية يقتنيها: "عايش: الذئاب من الحيوانات الوفية لزوجها وشريك حياتها، فإذا مات أحدهما يظل الآخر حزيناً، ويعوي من ألم الفراق على خليله شهوراً أو حتى سنوات)، كما لا يأكل الجيف.
إن أهمية هذه القصة في بثها قيمة دقيقة وهي التوازن أو الوسطية وغرس ملكة الإنصاف في إصدار الأحكام، وهي من القيم الجيد تلقينها للطفل حيث إنها عاصمة من تمزيق المجتمعات والأمم والأفراد جميعاً.
• إن خريطة المفردات خادم لتعريف الطفل ومشاركة عناصر بيئته المنوعة، فهي معروفة عند الطفل القارئ حيث التساند من الطفل البطل في غالبية القصص والطيور المنزلية غالباً، مع تقديم تنويع لوني وحجمي لأبطال القصص من الطيور والحيوانات، وتنوع الأماكن بين محلية وإقليمية أرى أن موضوعات القصص ومعارف أراد القاص تقديمها أدت إلى الإنتقال في إفريقيا وغابات وطرق صحراوية وزراعية وغابات ... إلى آخره، وجميع تلك العناصر تساهم في تفعيل التنشئة الاجتماعية من خلال التفاعل مع البيئة المحيطة.
• كما نجد تنشيط خيال الطفل وهو أمر محبب ومشوق، فمحكمة الطيور والحيوانات في أكثر من قصة، وقصة عرس الأرانب وصداق الزواج، وعملة التداول في عالم الأرانب (الجزر)، وفنتازية قصة "الدجاجة الذهبية"، ومغامرة الفتى شريف مع الوطاويط بقصة "الكهف المهجور" جميعها يتفق مع سمات الطفولة المتأخرة من حيث الميل للسيطرة ومحبة القصص، وعشق عالم المغامرة والبطولة والخيال.
• وفي الخاتمة رغم أن قصة الفتيات / الفتيات القصيرة تعليمية وتربوية بالطبع في الأساس، لكنها تكون غير ملتبسة أو معقدة، لكن هذا لا يمنع من تنشيط ذائقة الطفل القارئ من خلال فنية القصص عبر قياس منطقي، وترك أشياء بين السطور في القصة يصل إليها بفطنته، ومثال من القصص نموذجاً لهذه الفكرة: الخصم (الأرنب الأسود) في قصة "الأرنب الطماع" سارق السكر كي يقدمه أجراً للبلبل الذي يحيي ليلة عرسه، لم يقلها القاص لكنها لن تفلت من ذهنية الطفولة الذكية، ولأنه طماع فقد سرق ما سبق أن قام بسرقته (بأكل الثلاث قطع من السكر) فكان المغزي الأخلاقي في الخاتمة حيث كان الجزاء من جنس العمل، فهم الأرنب السمين المرشح كي يتم طبخه مع الملوخية وهنا إلماح آخر بين السطور أنه كان أكثر الأرانب سمنة دليل الشر، وحبه للطعام فكان حتفه في هذا.
• لعل تقسيم القصص العشرينية في مجموعتين دال على أن كل مجموعة كان يجب صدورها في كتاب مستقل، لكنه جهد مشكور للكاتب في هذا الميدان المهم مع إخراج طباعي جيد وعناية واضحة في رسوم الغلاف والتنسيق عامة، مما يضفي لبنة في عالم هذا الأدب وهذا اللون القصصي لتلك المرحلة العمرية الوثابة بطموح المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق